(151)
حزن الرسول (ص) على فراق خديجة :
    بعد أن ألقينا نظرة خاطفة على حياة أم المؤمنين السيدة خديجة (رض) زوجة الرسول الكريم (ص) لا بد لنا من أن نتكلم عن مدى حزن النبي (ص) لفراقه الزوجة الوفية ...
    أجل ... لقد خمدت تلك الجذوة المشتعلة التي أضاءت طريق الجهاد مدة من الزمن .
    رحلت خديجة الى جوار ربها آمنة مطمئنة ، وبقي الرسول الكريم (ص) بعدها في كآبة وحزن ، وهم بالغ ..
    فاليالي تمضي كالحات ، مشحونة بالذكريات الأليمة ، ذكريات الزوجة الوفية ، ربة البيت ، وأم الأولاد ، وساعده القوي ، وشريكته في الجهاد .
    كان عليه الصلاة والسلام يرجع الى البيت ، وهو مرهق ينؤ بأعباء الرسالة العظيمة ، وقد أتعبه ما يلقى من المشركين ، من تعنت وأذى .
    لقد فرح المشركون بموت خديجة ... وأبي طالب المحامي والكفيل لمحمد (ص) وظنوا أن الظلمات تكاثفت حوله ، فلن يبدو على الافق شعاع أو ضياء .
    كان صلى الله عليه وآله وسلم يخلو الى نفسه ليستعيد ذكرى الراحلة التي ملأت عليه دنياه ، وقد تراكمت عليه الهموم والأحزان .
    دخلت عليه خولة بنت حكيم السلمية ، وقالت له : يا رسول الله كأني


(152)
أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة ؟!
    فأجاب عليه الصلاة والسلام : ( أجل كانت أم العيال وربة البيت ) .
    فاقترحت عليه خولة بعد حديث طويل أن يتزوج . فأجابها بنبرة عتاب ... « من بعد خديجة ؟ »
    فقالت : هون عليك ، إن أردت ثيباً فهذه سودة بنت زمعة ... أو أردت بكراً .. فعليك بعائشة بنت أبي بكر ، فقال لها : لكنها لا تزال صغيرة يا خولة .
    وكان رد خولة حاضراً : تخطبها اليوم الى أبيها ، ثم تنتظر حتى تنضج .
    فأجابها النبي باستغراب : حتى تنضج ؟! ثم أردف بلوعة ...
    لكن من للبيت يرعى شؤونه ؟ ومن لبنات الرسول يخدمهن ؟
    واخيراً أذن لها الرسول في خطبتهما . فمرت أولاً ببيت ( أبي بكر ) ثم جاءت بيت ( زمعة ) فدخلت على ابنته ( سودة ) وهي تقول : ـ ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة يا سودة ؟
    فسألت ( سودة ) وهي لا تدري مراها : وماذا يا خولة ؟
    قالت : أرسلني رسول الله أخطبك عليه ...
    وكانت الهجرة الى يثرب ( المدينة المنورة ) بوحي من السماء أتى به جبريل .
    هناك في المدينة أنصار للرسول الأعظم ، يحيطون به ويفتدونه بأرواحهم مستبسلين ، يرون الاستشهاد في سبيل الدعوة الاسلامية مجداً وانتصاراً ، وغاية أمانيهم نشر الإسلام وتعاليمه ، وتركيز دعائمه .


(153)
هجرة الرسول ( ص) الى يثرب :
    تعالى الهتاف في أنحاء يثرب ، وخرج أهلها مسرعين ليروا الرسول الكريم (ص) . وأقبلت أفواج الناس ساعية في شوق ولهفة ، الى حيث تلقى المهاجر العظيم .
    خرج أهالي يثرب رجالاً ونساء ، مرحبين ... داعين بصوت واحد : « هلم إلينا يا رسول الله ـ الى العدد ـ والعدة ـ والمنعة » خرجوا وهم يهتفون :
طلع البدر علينا وجب الشكر علينا أيها المبعوث فينا من ثنيات الوداع ما دعى لله داع جئت بالأمر المطاع
    وكان النبي الأعظم (ص) يحيي المستقبلين مبتسماً ثم يقول : « خلوا سبيل ناقتي » .
    ولما بركت ناقة الرسول ، اختار عليه الصلاة والسلام ذلك الموضع الذي بركت فيه ، فبنى عليه مسجداً « المسجد النبوي الشريف » .
    وبنى الرسول (ص) حول المسجد بيوتاً من الطين والجريد ، ... أقام بهذه البيوت بعض المهاجرين ينعمون بسماع أصوات المصلين والمتعبدين ، التي هي أعظم نغم وأعذب ترتيل ينعش قلوب المؤمنين .
    وفي بعض هذه البيوت ، أقامت السيدة سودة بنت زمعة أم المؤمنين ، ترعى شؤون بيت الرسول الاعظم (ص) وتسهر على راحة بناته .


(154)
    ولما استقر المسلمون في دار الهجرة ، حيث العدد ـ والعدة ـ والمنعة ـ وعبدوا الله بدون خوف من اضطهاد عدوهم وأذيته .
    قام الرسول (ص) وخطب بالمسلمين ، وآخى بينهم ، المهاجرين منهم والأنصار . فقال (ص) تآخوا في الله أخوين ... أخوين ...
    « آخى بين أبي بكر وبين خارجة بن زهير الخزرجي ، وآخى بين عمر بن الخطاب وبين عتبان بن مالك العوفي ، وآخى بين أبي عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ ... الخ ...
    ثم أخذ النبي (ص) بيد علي بن أبي طالب (ع) وهو يقول : هذا أخي ... وابن عمي ... ووزيري ...
    وتفرق الجمع ، وخرج كل مهاجر بأخ له ، وذهب علي بن أبي طالب (ع) بالربح الوفير ... مؤاخاة سيد البشر وخاتم الأنبياء ، فكان له الأخ والوصي ... والساعد القوي .
    عاد الرسول (ص) الى بيته وقد ارتاحت نفسه الشريفة الى مؤاخاة المسلمين ، واتحادهم وتضامنهم في سبيل الدعوة الى الإسلام ونصرة الداعي .
    وجاء أبو بكر يتحدث الى النبي (ص) باتمام زواج ابنته عائشة التي عقد عليها الرسول الكريم (ص) بمكة ، وهي لا تزال يومئذ بنت ست سنوات على ما يروى ـ ومنهم من قال سبع سنوات ـ .
    وأصغى النبي (ص) الى حديث أبي بكر ـ ثم سأله مستفسراً كم أصبح عمرها ؟ فقال أبو بكر : تسع سنين .
    « وأجاب النبي ... وأتى مع بعض الأنصار ونسائهم الى منزل أبي بكر


(155)
الصديق حيث كان يقيم في بيت الحارث بن الخزرج ... » (2) .

عائشة أم المؤمنين :
    هي بنت أبي بكر ، وإحدى زوجات النبي (ص) المحظوظات عاشت في كنف الإسلام ، وأخذت عن الرسول الأعظم (ص) الكثير من التعاليم ، وروت عنه الروايات الكثيرة في شتى المسائل .
    كانت ذات نفوذ قوي بعد وفاة النبي (ص) ساعدها على ذلك أنها زوجة صاحب الرسالة ... وابنة أبي بكر ..
    وبذكائها وفطنتها اغتنمت هذين الأمرين ، فأبرزت شخصيتها وخصوصاً في مطلع خلافة أمير المؤمنين علي (ع) .
    نظرت عائشة فوجدت أن علي بن أبي طالب أصبح خليفة للمسلمين ، وأن طلحة والزبير بايعا علياً (2) وهي لم ترضى بذلك ، ولم يوافق هواها .
    وكيف ترضى أن يلي الخلافة بنو هاشم ، وخصوصاً علي بن أبي طالب زوج الزهراء ابنة ضرتها أم المؤمنين خديجة .
    كانت مقومات الشخصية القوية مكتملة لدى ابنة أبي بكر ، فهي تعيش في
(1) تاريخ الطبري .
(2) إن طلحة والزبير بعدما بايعا علياً (ع) نكثا البيعة عندما علما أنهما لن يحققا رغبتهما في الامرة والسلطان لأن علياً سيساوي بين افراد الامة ، ويعطي كل ذي حق حقه بلا تفاضل أو تمييز .



(156)
ظل بيت رفيع ، بيت صاحبة الرسالة . ـ منذ تزوجها الرسول الأعظم (ص) ـ وتستقي من لدنه علماً وأدباً ، يعينها على ذلك ، ذكاء حاد ، وفطنة وقادة ، مما جعلها موئلاً ، وملجأ لطالبي الحديث عن الرسول الأعظم (ص) .
    فروى عنها كبار مشايخ المسلمين الكثير مما حفظته من زوجها النبي (ص) والكثير مما استفادته هي من تجارب الحياة كقولها : كما في بلاغات النساء .
    «مكارم الأخلاق عشرة ـ صدق الحديث ـ وصدق البأس ـ وأداء الأمانة ـ وصلة الرحم ـ والمكافئة بالصنيع ـ وبذل المعروف ـ والتذمم للصاحب ـ وقرى الضيف ـ ورأسهن الحياء » (1) .
    كانت السيدة عائشة تتمتع بشباب ناضر ، وجمال فتان ، بالإضافة الى صفات لها الأثر الكبير في زرع الثقة في النفس لدى الانثى ، هذه الثقة التي جرأت أم المؤمنين أن تخوض غمار الحرب ، وتسحر بعض المسلمين بطلاوة حديثها ، وعذوبة ألفاظها ، فتأخذ بأعنة النفوس ، وتصنع ما يصنع الرجال العظام .
    إن شخصيتها ، وقوة إدراكها ، وتعقلها للامور وسعة افقها ... كل هذه الخصائص هي التي جعلتها تتفوق على صواحبها ، وتتغلب على كل ما يحيطها من مشاكل ، وتذلل أمام أهدافها الصعاب .
    لكن السيدة عائشة انهزمت عند الصراع مع هواها وعواطفها ، وفشلت في تجريد نفسها من الغرائز الانثوية وبقيت الانثى ... انثى تشعر بالغيرة من غيرها .
    صحيح ان لها مكان الصدارة بين زوجات النبي اللواتي كن يتوافدن الواحدة تلو الأخرى ، بعد موت خديجة التي أكرمها الباري سبحانه فلم تتجرع مرارة الضرائر ، ولم تكتوي بنار الغيرة التي تشعل صدورهن .
(1) بلاغات النساء لابن طيفور ... هكذا وردت في الأصل .


(157)
    وهنا لعبت الطبيعة دورها ، فالسيدة عائشة لا تتمكن من اخماد نار الغيرة التي تتأجج في صدرها ، وهي ذات الشعور القوي... أليست الغيرة من صفات الأنثى ... من البشر !
    ومن طريف ما يروى عن السيدة عائشة ، أن النبي (ص) قال لها مداعباً : « ما ضرك لو متِ قبلي ، فقمت عليكٍ ... وكفنتك ... وصليت عليك ... ودفنتك ؟؟ »
    فأجابت وقد التهب صدرها بنار الغيرة : « ليكن ذلك حظ غيري . والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك ، لقد رجعت الى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك » (1) .
    لقد ضم بيت النبي (ص) عدداً من النساء ، من ذوات الجمال والذكاء ، علاوة على النسب الرفيع .
    عاشت السيدة عائشة بين ضرائر من بينهنَّ السيدة الحسناء الأبية المترفعة أم سلمة بنت أبي أمية ـ زاد الركب ـ والسيدة ذات الشرف والحسب زينب بنت جحش ، وهي ابنة عمة الرسول التي كانت تفاخر ضرائرها بأن الله سبحانه زوجها في السماء ، إشارة إلى قوله تعالى : ( فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها ) (2) وأم حبيبة بنت أبي سفيان زعيم مشركي مكة ، وقائد جيشها لحرب النبي (ص) .
(1) تاريخ الطبري ـ ابن جرير .
(2) سورة الاحزاب ـ آية 38 .
   وفي مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي : نزلت هذه الآية في زينب بنت جحش الاسدية ، بنت اميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله (ص) فخطبها على مولاه زيد بن حارثة . وفي الحديث ان زينب كانت تفتخر على سائر نساء النبي وتقول : ( زوجني الله من النبي وأنتن إنما زوجكن اولياؤكــن .



(158)
    ناهيك عن جويرية بنت الحارث التي تبهر الأنظار لروعة جمالها . وحفصة بنت عمر بن الخطاب . وصفية بنت حيي بن أحطب الناعمة ... الساحرة .
    ولكن السيدة عائشة كانت تقول : ما غرت من امرأة قط كغيرتي من خديجة ... ولم أرها .
    لقد حاولت السيدة عائشة أم المؤمنين الاستيلاء على قلب الرسول الزوج العظيم ، بشتى الطرق ، وجعلت سلاحها من أنوثتها ـ وذكائها ـ وصباها ـ وجمالها ـ .
    ولكن المرارة ... مرارة الغيرة لم تقدر أن تستسيغها ، فالحب العميق الذي يكنه الرسول الأعظم (ص) لزوجته الراحلة خديجة (رض) كان شغلها الشاغل .
    لقد بقيت خديجة (رض) تشارك عائشة عواطف الزوج وحنانه ، وهي بين الأموات ، وتحت الثرى ، ولكن طيفها ما زال ماثلاً أمام عيني الرسول ، ولسانه الشريف يلهج بذكرها يردد اسمها في كل حين ، ولم يسأم من الثناء عليها حتى تأججت نار الغيرة في قلب عائشة (رض) فلم تتمالك أم المؤمنين أن قالت مرة للرسول (ص) : لقد عوضك الله من كبيرة السن ... فغضب رسول الله (ص) من كلامها غضباً عظيماً حتى أسقطت من جلدها . فقالت في نفسها : اللهمَّ إن ذهب غضب رسول الله عني لم أعد أذكرها بسوء .
    وقالت عائشة : كان النبي يكثر من ذكر خديجة وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ، ثم يبعثها في صدائق خديجة ، فربما قلت له : كأنه لم يكن في الدنيا إلا خديجة ؟ فيقول : إنها كانت وكان لي منها ولد .
    فلا غرابة أن تزداد نار الغيرة في قلب السيدة عائشة (رض) وهي تسمع النبي يردد في كل حين ( كان لي منها ولد ) وعائشة تلك الشابة الحلوة ـ ذات الذكاء


(159)
والفطنة لم تنجب لزوجها ولداً ، في حين أن خديجة وهي العجوز قد انجبت له البنين والبنات .
    ولا يمكن للسيدة عائشة أن تتجاهل ذلك الحب الشديد للأبناء ، والحرص على الانجاب الذي كان يكمن في قلب الرسول الأعظم (ص) ورجال ذلك العهد أجمع .
    إن مرارة العقم ـ وحرارة عواطف الامومة ... المحرومة ... والكبت ... كل هذه الأشياء التي هي من صنع الطبيعة البشرية وقدرة الخالق الجبار ، كانت تثير في نفس السيدة عائشة دائماً شعوراً بوطأة الحرمان التي تجثم على صدرها . وتنظر الى بنات ضرتها ( خديجة ) متحسرة تشعر كأن حواجز منيعة تقوم بينها وبينهن . بل ترى أن كل واحدة منهن هي صورة عن ضرتها التي استأثرت بقلب الزوج الرسول وما بلغته من ايثار لم يبلغه احد من قبل ... ولا من بعد .
    وهذا ما جعل السيدة عائشة تخرج الى حرب علي بن ابي طالب زوج فاطمة بنت محمد (ص) ابنة ضرتها التي احتلت مكان امها خديجة من قلب الرسول (ص) .
    وكانت وقعة الجمل الشهيرة في البصرة التي ذكرها جميع أهل التاريخ وأصحاب السير وليس هذا المجال مجال لذكرها .
    ذكرت الدكتورة بنت الشاطئ : « لما تزوج النبي اسماء بنت النعمان التي أحست عائشة خطر جمالها منذ وقعت عيناها عليها ، وقدرت انها اذا لم تحل بينها وبين زوجها الرسول فسوف تكلفها من أمرها عسراً .
    ومن ثم قررت أن تفرغ منها قبل أن يتم الزواج . وبدأت تعمل على الفور مستعينة بصواحبها ...
    دعت إليها حفصة واخرى ممن يحرصن من إرضائها ، فقالت لهما :


(160)
    « قد وضع يده في الغرائب يوشكن أن يصرفن وجهه عنّا » و...
    واتفقن على خطة موحدة ... أقبلن على العروس مهنئات ، يجلونها للزفاف ، ويوصينها بما تفعل ، وما تقول استجلاباً لرضا الزوج العظيم ... ومحبته ...
    فكان مما نصحهن لها به ، أن تستعيذ بالله إذا ما دخل عليها ... !
    وفعلت المسكينة ....
    لم تكد ترى الرسول مقبلاً عليها ، حتى استعاذت بالله وفي حسابها أنها تستجلب محبته ورضاه ...
    فصرف رسول الله وجهه عنها وقال : « لقد عذتِ بمعاذ » .
    وغادرها من لحظته ، وأمرها أن تلحق بأهلها ...
    فبعثت إليه ـ أو بعث أبوها ـ من يتوسط لردها ويتحدث عما كان من نسائه معها ، فلم يملك عليه الصلاة والسلام ، إلا أن يبتسم ويقول :
    « إنهن صواحب يوسف ... وإن كيدهن عظيم » .
    وبقي (ص) عند كلمته ، فلم يمسك تلك التي ( عاذت بمعاذ ) .
    وتخلصت عائشة من منافسة خطرة (1) .
    ومما روى ابن طيفور : أن عائشة (رض) لما احتضرت جزعت ، فقيل لها :
    « أتجزعين يا أم المؤمنين وأنت زوجة رسول الله (ص) وأم المؤمنين ـ وابنة أبي بكر الصديق ؟!
(1) تراجم سيدات بيت النبوة ـ الدكتورة بنت الشاطئ .