(221)
النهج وغيره ، بما مضمونه ومعناه :
    أن الزهراء عليها السلام عندما رجعت من المسجد الشريف الى منزلها ، مهضومة الحق ... كسيرة القلب ، حزينة ، وذلك بعدما خاطبت المهاجرين والأنصار ولم تجد تجاوباً منهم ، لم تتمالك من أن توجه اللوم الى زوجها ابي الحسن علي عليه السلام ، بكلام تبدو عليه ... القسوة ... والشدة ... والملامة .
    وفيما هي تحدثه وتخاطبه لائمة إِياه على تقاعده وسكوته عن حقه الشرعي والمطالبة به وإِذا بصوت المؤذن يتعالى :
    « الله أكبر ... أشهد أن لا إله إلا الله ... وأشهد أن محمداً رسول الله » .
    عندها قام علي الى السيف ... واستله من غمده ، والتفت الى الزهراء قائلاً : ما معناه ...
    يا بنت رسول الله ؟ لو نازعت القوم في طلب حقي .. وحاربتهم عليه وطالبتهم بحقك من الأرث ، لثارت ثائرتهم ، وذهبوا أشتاتاً ، ولم يبق للإسلام إسم ... ولا رسم . واختفى هذا الصوت الذي يتعالى في الأجواء مردداً :
    «الله اكبر ... أشهد أن لا إله إلا الله ... أشهد أن محمداً رسول الله » .
    عندها هدأت ثورة الزهراء وسكنت ، وتعلًّقت بالإمام عليه السلام ، ودموعها تنساب على خديها وهي تقول : بل اصبر يا ابن عم ... حسبي ... وغايتي ... بقاء هذا الصوت والحفاظ على بقاء رسالة ابي ... وتركيز دعائم الاسلام ونشره .


(222)
وفاة الزهراء (ع)
    يذكر المؤرخون ان الزهراء «ع» استسلمت للحزن فلم ترى قط منذ وفاة والدها النبي «ص» إلا باكية العين كسيرة الفؤآد .
    الزهراء رافقت دعوة أبيها منذ بدايتها ، وتأصلت في نفسها أركان الرسالة حتى أصبحت وكأنها جزء من حياتها وقاعدة عظيمة من كيانها ، تمدها بالثبات على الحق ، والدفاع عن المظلومين والضعفاء والمحرومين والمعذبين .
    تضحي بكل ما لديها لإسعاد البشر ، وإقامة العدل ولا تتواني مها كان الثمن غالياً .
    وكانت عليها السلام تتمثل دائماً بابيات من الشعر تتذكر بها أيام أبيها فتقول :
صبت علي مصـائب لو أنها قد كنت أرتع تحت ظل محمد واليوم اخضع للذليـل واتقي صبت على الأيام عدن لياليا لا اختشي ضيماً وكان جماليا ضيمي وادفع ظالمي بردائيا
    واخيراً مرضت الزهراء (ع) ، وساء حالها ، فبادرت نساء المسلمين لعيادتها ...
    نظرت اليهن ثم أشاحت بوجهها عنهن قائلة :


(223)
    اجدني كارهة لدنياكن مسرورة بفراقكم ، وسأشكوا إلى الله ورسوله ما لقيت من بعده ... فما حفظ لي حق ، فخرجن من عندها كسيرات ، يتلاومن .. وقد ادهشن ما سمعن ورأين .

    وصية الزهراء (ع) :
    ذكر أصحاب التاريخ وأهل السير وصية الزهراء (ع) على عدة أوجه ، ففي رواية : انها لما احست عليها السلام بدنو أجلها ، استدعت اليها زوجها « عليا » امير المؤمنين (ع) فاوصته وصيتها ، وطلبت منه ... وألحت عليه ان يواري جثمانها في غسق الليل ، حتى لا يحضر جنازتها أحد من الذين ظلموها ، وجحدوا حقها ، وان يعفى موضع قبرها .
    واوصته أيضاً أن يتزوج ابنة اختها « امامة » لتقوم على رعاية ابنائها ، قالت له :
    «يا ابن عم لا بد للرجال من النساء ، فإذا أنا مت ، فعليك بابنة اختي « امامة » فانها تكون لأولادي .. مثلي ..
    يقول ابن سعد في طبقاته : « ان فاطمة احبت ان يصنع لها نعشاً يواري جثمانها ، لأن الناس كانوا يومذاك يضعون الميت على سرير مكشوف لا يستر . فكرهت ذلك ، واحبت ان لا ينظر جثمانها أحد وهي محمولة على أكتاف الرجال .
    فاستدعت « أسماء بنت عميس » وشكت اليها نحول جسمها وقالت لها : اتستطيعين ان تواريني بشيء ؟
    قالت اسماء اني رأيت الحبشة يعملون السرير للمرأة ، ويشدون النعش


(224)
بقوائم السرير ، فأمرتهم بذلك وعمل لها نعش قبل وفاتها ، ولما نظرت اليه قالت :
    « سترتموني ستركم الله » .
    وفي رواية : لما نظرت اليه ابتسمت ، وكانت هذه أول ابتسامة لها بعد وفاة ابيها » .
    والذي وعاه التاريخ ، ان الزهراء (ع) ، كان يبدو عليها الارتياح في اليوم الاخير من حياتها ، فقامت من فراشها ونادت أولادها ، فعانقتهم طويلاً وقبلتهم ثم أمرتهم بالخروج إلى زيارة قبر جدهم رسول الله (ص) .
    وكانت أسماء بنت عميس تتولى خدمتها وتمريضها (1) فطلبت منها بصوت واه ضعيف ، ان تهيء لها ماء لتغتسل .
    وبكل ارتياح ، بادرت أسماء إلى احضار طلبها ، فاغتسلت (ع) ولبست أحسن ثيابها وبدا عليها الحبور ، فظنت أسماء انها تماثلت للشفاء .
    ولكن تبددت ظنونها عندما طلبت منها ان تنقل لها الفراش إلى وسط البيت . وقفت أسماء والدهشة بادية على وجهها ، وقد ساورها قلق شديد عندما رأت الزهراء قد اضطجعت على الفراش واستقبلت القبلة ، ثم التفتت اليها قائلة :
    « اني مقبوضة الآن وراحلة عن هذه الدنيا ، إلى جوار رب رحيم ، لاحقة بأبي الرسول الكريم .. »
(1) وفي رواية ثانية أن أم رافع مولاة الرسول صلى الله عليه وسلم هي التي كانت تسهر عليها ، وتتولي تمريضها .


(225)
    وتسمرت أسماء في مكانها وقد عقدت الدهشة لسانها لما رأت وسمعت ...
    لقد اذهلها الخطب العظيم ، واستبد بها القلق والجزع والخوف على الزهراء وما هي إلا دقائق معدودات حتى حم القضاء وعلت صفرة الموت وجه سيدة النساء .
    صاحت أسماء وناحت ، و علا الصراخ، فاسرعت زينب والحسنان لاستفسار الخبر ، فوجدوا أمهم قد فارقت الحياة ...
    واجتمع الناس على صوت البكاء والعويل ، واحاطوا بدار علي بن أبي طالب وهم بين باك وباكية ، ومتفجع ومتفجعة وقد اشتد بهم الحزن والاسى على بضعة الرسول فاطمة الزهراء (ع) .
    وعن ينابيع المودة عن أم سلمة (رض) قالت :
    اشتكت فاطمة في وجعها ، فخرج « علي » لبعض حاجته فقالت لي فاطمة :
    يا اماه اسكبي لي ماء ، فسكبت لها ماء ، فاغتسلت أحسن غسل ، ثم قالت : يا اماه ناوليني ثيابي الجدد ، فناولتها ثم قالت : قدمي فراشي وسط البيت ، فاضطجعت ووضعت يدها اليمنى تحت نحرها ، واستقبلت القبلة ثم قالت : يا اماه اني مقبوضة الآن ، فلا يكشفني أحد ، ولا يغسلني أحد .
    قالت أم سلمة : فقبضت مكانها صلوات الله وسلامه عليها .
    قالت: ودخل « علي » فاخبرته بالذي قالت ، فقال علي : والله لا يكشفها
المرأة في ظل الإسلام (15)


(226)
أحد . فدفنها بغسلها ولم يكشفها أحد . ولم يغسلها أحد (1) .
    واختلفت الروايات ، فقيل : « لما توفيت غسلتها أسماء بنت عميس وعلي (رضي الله عن الجميع ) ودفنها ليلاً (2) .
    ورحم الله القائل :
ولأي الأمور تدفن ليلاً بضعة المصطفى ويعفى ثراها
    ضاقت الدنيا على علي بن أبي طالب (ع) ، واشتد به الحزن على أم الحسنين زوجته فاطمة بنت الرسول (ص) .
    وبعد دفنها هاج به الألم ، فوقف على القبر يتحسر ، وقلبه يعتصر اسى ولوعة ثم قال : (3)
    « السلام عليك يا رسول الله ،عني وعن ابنتك النازلة في جوارك والسريعة اللحاق بك ، قل يا رسول الله عن صفيتك صبري ، ورق عنها تجلدي ، إلا ان لي في التأسي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعز ، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحري وصدري نفسك فإنا لله وانا اليه راجعون .
    فلقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ، أما حزني فسرمد ، وأما ليلي فمسهد ، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم .
    وستنبئك ابنتك بتضافر امتك على هضمها ، فاحفها السؤال ، واستخبرها
(1) ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ...
(2) مرآة الجنان ـ لليافعي المكي ـ ج ـ 1 ـ ص ـ 60 .
(3) اعلام النساء للاستاذ عمر رضا كحالة .



(227)
الحال ، هذا ولم يطل العهد ولم يخلق منك الذكر . والسلام عليكما سلام مودع لا قال ، ولا سئم ، فإن انصرف فلا عن ملالة ، وإن اقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين .
    ثم تمثل علي (ع) عند قبرها فقال :
ارى علل الدنيا علي كثيرة لكل اجتماع من خليلين فرقة وان افتقادي فاطماً بعد احمد وصاحبها حتى الممات عليل وكل الذي دون الممات قليل دليل على ان لا يدوم خليل
    وخشع الإمام عليه السلام ، ولم يتمالك من البكاء وهو يسوي التراب ، ففاضت عبراته ، وأخذ ينفض يديه بحركة يائسة ، وكأنه قد فرغ من الدنيا بعد ما وارى تحت الثرى ، زوجته الحبيبة ، وشريكة حياته التي ملأت عليه دنياه ووقفت بجانبه تشده وتوآزره في السراء والضراء . كما كانت أمها « خديجة » تناضل وتكافح وتضحي في كل غال ورخيص مجاهدة مع الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم .


(228)
الذكريات
    وطافت الذكريات بالإمام علي (ع) واستولى عليه الحزن واستسلم لذكريات الماضي الحبيب ، وأخذت تمر هذه الصور في مخيلته متلاحقة تذكره بالراحلة الطاهرة الزكية التي كانت أشبه الناس بأبيها .
    تذكرها يوم وقفت تلك الوقفة العظيمة ، تُذكِّر المسلمين ما أنساهم إياه الدهر ... أو تناسوه كما جاء في كتاب الغدير (1) . حيث قالت : نسيتم قول رسول الله (ص) يوم غدير خم : « من كنت مولاه فعلي مولاه » وقوله أيضاً (ص) : يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى .
    وكانت من أقرب الناس الى أبيها في الجود والسخاء والكرم ؛ ألم تسمعه يقول :
    « السخاء شجرة من أشجار الجنة ، أغصانها متدلية الى الأرض ، فمن أخذ منها غصناً قاده ذلك الغصن إلى الجنة » .
    وقالت أيضاً : السخي قريب من الله ، قريب من الناس ، قريب من الجنة ، بعيد عن النار ، وإن الله جواد يحب كل جواد .
(1) الغدير ـ للشيخ الاميني ـ ج ـ 1 ص ـ 197 .


(229)
    و بلغ من جودها (ع) وسخائها العظيم ، انها كانت تؤثر المحتاجين على نفسها ، وتعطي الفقراء قوتها الذي لا تملك سواه كما كان يفعل أبوها النبي وزوجها علي وبهم نزلت الآية الكريمة : « والذين تبوؤا الدّار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما اوتوا ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون » (1) .
    وبدا الإمام (ع) في حزنه كسير القلب، متصدع الأركان مع أنه ذلك الأسد الهصور، و البطل الهمام.
    و تذكر الزهراء (ع) ، والحسرة تعصر قلبه ... لما لاقته في حياتها من أتعاب ، وآلام وأفراح وأحزان ، صاحبة النفس الرحيمة والقلب الكبير التي قضت حياتها وأفنت عمرها القصير في الجهاد والتضحية لخدمة الإسلام و المسلمين .
    فكيف ينسى الإمام (ع) زوجته ، هذه الإنسانة الحورية ... وينسى مواقفها البطولية ، وشجاعتها وبلاغتها وعلمها وفصاحتها ، مع ثباتها على الحق .
    وإذا اشتد به الأسى والألم نجده عائداً إلى بيته وألم الحزن يحز في نفسه .
    وكيف لا يكون ذلك وقد فقد شخصين عظيمين من أعز الناس عليه وهما « محمد ... وفاطمة » تلك الشجرة الطيبة والغمامة ذات الظل الوارف ، والعلم الزاخر والغضل الذي لا يدرك مداه .
(1) سورة الحشر ـ آية ـ 9 .


(230)
    لقد ظلت الزهراء عليها السلام ، بعد وفاة ابيها (ص) ، تكافح من أجل احقاق الحق ، وارجاعه لاهله ، وتثبيت ، دعائم العدل ، ودفع الظلم الذي أحيط بها وبزوجها « علي » ، وبقيت تناضل الى ان فارقت الدنيا ، تاركة احسن صورة للانوثة الكاملة ... المقدسة .
    ما اجمل تعبير الاستاذ العقاد حيث يقول :
    ( ان في كل دين صورة للانوثة الكاملة المقدسة ، يتخشع بتقديسها المؤمنون ، كأنما هي آية الله من ذكر وانثى .
    فاذا تقدست في المسيحية صورة « مريم العذراء . » ففي الاسلام لا جرم أن تتقدس صورة « فاطمة الزهراء ... البتول » .
    وسيظل ذكر الزهراء على لسان المؤمنين ، يخلدونه ، ومركزها ومكانتها وجلال قدرها الرفيع بين اعلام النساء ، وعباد الله المكرمين ) .
    واختلف في تاريخ وفاتها ، فقد ذكر ابن سعد في طبقاته ، انها توفيت بعد ابيها بثلاثة أشهر ، وعمرها عشرون عاماً ، وقيل بستة أشهر ، وقيل لحقت بأبيها بعد خمسة وسبعين يوماً ، وذلك في اليوم الثالث من شهر رمضان الى غير ذلك من الروايات .
    وضم ثرى المدينة المنورة ، جثمان الصديقة الطاهرة ، فاطمة الزهراء كما احتوى من قبل على جثمان ابيها الرسول (ص) .
    وأوحشت ديار بني هاشم بعد النبي وابنته وافتقد اهلها النور الذي كانوا يهتدون به والركن القويم الذي اليه يستندون ويلجأون .