(251)
    عند ذلك نزل النساء من التل ، بعمد الحديد يضربن وجوه الرجال .
    وقادت ام حبيب الناس قائلة : قبح الله رجلاً يفر عن حليلته ... وقبح الله رجلاً يفر عن كريمته ... فتراد المسلمون ، فزحف عمرو واصحابه حتى عادوا الى قريب مواقفهم (1) .

    بركة بنت ثعلة ام ايمن :
    هذه المهاجرة ، هي مولاة النبي (ص) ، وحاضنته ، وكانت من المهاجرات الاول :
    هاجرت الهجرتين الى ارض الحبشة ـ والى المدينة ، وقد شهدت أم ايمن حنيناً ... واحداً ... وخيبراً ... وكانت في أحد تسقي الماء (2) .
    بما انني ما زلت في في صدد ذكر بعض المسلمات المجاهدات اللواتي رافقن الرسالة النبوية الشريفة ، وما قمن به من خدمات جليلة ، وما اديّن من واجبات نحو الاسلام والمسلمين وهن كثيرات منهن :

حمنة بنت جحش :
    مهاجرة جليلة ، جاهدت مع رسول الله (ص) وشهدت أحداً ، فكانت تسقي العطاش .
    وقد اطعمها رسول الله (ص) في خيبر ثلاثين وسقاً ... مثل الرجل (3) .
(1) الاستيعاب لابن عبد البر ـ اعلام النساء لعمر رضا كحالة .
(2) طبقات ابن اسعد ـ تاريخ الطبري .
(3) طبقات ابن اسعد ـ تاريخ الطبري .



(252)
ليلى الغفارية :
    مجاهدة وغازية ، كانت تخرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مغازيه ، وكان يسهم لها .
    ولما خرج علي بن ابي طالب الى البصرة ، خرجت معه ، وأتت عائشة ام المؤمنين فقالت لها : هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضيلة في علي ؟
    قالت : نعم ... دخل علي على رسول الله وهو معي ، وعليه جرد قطيفة ، فجلس بيننا ، فقلت : أما وجدت مكاناً هو أوسع لك من هذا ؟..
    قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا عائشة ...دعي لي اخي فإِنه أول الناس اسلاماً ، وآخر الناس بي عهداً ، وأول الناس لي لقياً يوم القيامة (1) .

ام ذر الغفاري :
    هي زوجة ابي ذر الغفاري رضي الله عنه ، الصحابي الجليل الذي ذكره الرسول الكريم بقوله : « ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر » .
    كانت شاعرة من شواعر العرب ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يبتسم قال لأبي ذر : يا أبا ذر ... حدثني عن بدء إسلامك ؟
    قال أبو ذر : كان لنا صنم يقال له « نهم » فأتيته فصببت له لبناً ، ووليت فحانت مني التفاته ، فإذا كلب يشرب ذلك اللبن فلما فرغ ، رفع رجله فبال على الصنم ، فأنشأت أقول :
(1) الاستيعاب لابن عبد البر ـ أعلام النساء لعمر رضا كحالة .


(253)
ألا يأنهم اني قد بدا لي رأيت الكلب سامك حط خسف مدى شرف يبعد منك قربا فلم يمنع قفاك اليوم كلبا
    فسمعتني أم ذر فقالت :
    لقد اتيت جرماً ، وأبت عظماً ، حين هجرت نهماً ؟!
    فلما أخبرتها الخبر ... فقالت :
ألا فابغنا رباً كريما فما من سامه كلب حقير فما عبد الحجارة غير غاو جواداً في الفضائل يا وهب فلم يمنع يداه لنا برب ركيك العقل ليس بذي لب
    فقال صلى الله عليه وآله وسلم : صدقت ام ذر ... « فما عبد الحجارة غير غاوٍ » (1) .

(1) اعلام النساء : عمر رضا كحالة .


(254)
انتعاش المرأة اجتماعياً في صدر الاسلام
    تتطور أخلاق الناس بتطور أفكارهم ومقاييسهم وتتأثر بالبيئة ... والمجتمع .
    وفي صدر الإسلام ، لما اتيح للمرأة الحرية ... وشعرت بمكانتها وشخصيتها ، وما انعم عليها الباري سبحانه وتعالى من الخير ، وما اوجب لها الإسلام من الحقوق ، أصابها ما يصيب الناس الذين ينتقلون فجأة من حال إلى حال .
    لقد انتقلت المرأة بفضل تعاليم الاسلام وتشريعاته من الذل والهوان ... الى العزة والكرامة ... من الحرمان والاضطهاد ... الى الحرية والنور واحترام الشخصية والعطاء ... من الجهل والانزواء ، والجهالة العمياء ... الى الدين والتقى والورع والانطلاق ، والتحرر من العادات والتقاليد الظالمة والطقوس المشينة .
    انتعشت المرأة ، وانطلق كل من الرجال والنساء على قدم المساواة كل فرد بحسب طبيعته وعلى قدر استطاعته ، وفق القوانين الإسلامية والتعاليم النبوية الشريفة .
    ولقد كان الحافز إلى النهضة والتفاني بالجهاد ، الايمان بالله العظيم ورسالة النبي الكريم بالإضافة الى حلاوة الإسلام ، وزهو النصر المؤيد من الله رب العالمين . وكان من بين النساء التقيات الورعات ، المجاهدات ذوات العقل والدين المتحدثات بكل جرأة وأدب وانطلاق يبدين الرأي ، ويتحدثن بتفهم وروية ...


(255)
جزلات بأجوبتهن ، المسكتة ، وأحاديثهن الممتعة وعلى سبيل المثال نذكر قصة قيلة بنت مخرمة مع حريث بن حسان وافد بكر بن وائل الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

    قيلة بنت مخرمة
    ذكر ابن طيفور في كتاب بلاغات النساء « قيلة بن مخرمة » من ربات الفصاحة والبلاغة ، أسلمت قديماً ولها صحبة ، قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وسمعت منه وصلت معه ، ولها حديث طريف قالت (1) .
    « لقد انطلقت الى اخت لي في بني شيبان ، أبتغي الصحابة الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبينما أنا عندها ذات ليلة تحسب اني نائمة إذ جاء زوجها من السامر فقال : وأبيك لقد اصبت لقيلة صاحب صدق ، قالت : من هو ؟ قال : هو حريث ابن حسان ، غادياً ذات صباح وافد بكر بن وائل الى رسول الله (ص) .
    قالت : يا ويلها ، لا تخبر بهذا اختي ، فتتبع أخا بكر بن وائل بين سمع الأرض وبصرها ، ليس معها من قومها رجل . قال : لاتذكريه ، فإني لست ذاكره لها .
    فلما أصبحت ، وقد سمعت ما قالا : شددت على جملي فانطلقت إلى حريث ابن حسان ، فسألت عنه فإذا به وركابه مناخة فسألته الصحابة الى رسول الله (ص) فقال : فقال : نعم ... وكرامة .
    فخرجت معه ، صاحب صدق ، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فدخلنا المسجد حين شق الفجر ، وقد اقيمت الصلاة فصلى والنجوم شابكه ، والرجال
(1) بلاغات النساء لابن طيفور ـ أعلام النساء لعمر رضا كحالة وغيرهم .


(256)
لا تكاد تعارف من ظلمة الليل ، فصففت مع الرجال وكنت امرأة وحديثة عهد بالجاهلية فقال لي رجل جنبي : امرأة أنت أم رجل ؟
    قلت : امرأة : قال : « كدت تفتنيني ، عليك بالنساء وراءك » . فإذا صف من النساء قد حدث عند الحجرات ، لم أكن رأيته حين دخلت ، فصففت معهن .
    فلما صلينا جعلت أرمي ببصري الرجل ذا الرداء والفثرد لأرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، حتى دنا رجل فقال : السلام عليك يا رسول الله .
    فإذا هو جالس القرفصاء ، ضام ركبتيه الى صدره ، عليه اسمال ملسين ، كانتا مصبوغتين بزعفران فنعصا ، وبيده عسيب مقشور غير خوصتين من أعلاه فقال : وعليك السلام ورحمة الله .
    فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتخشع في مجلسه أرعدت من الفرق ، فقال له جليسه : يا رسول الله ... أرعدت المسكينة (1) .
    فقال بيده : « يا مسكينة عليك السكينة » فذهب عني ما كنت اجد من الرعب .
    قالت : فتقدم صاحبي أول من تقدم ، فبايعه على الإسلام ... وعلى قومه ، ثم قال :
    يا رسول الله ، اكتب لنا بالدهناء ، لا يجاوزها من تميم إلينا إلا مسافر ... او مجاور ...
    فقال : يا غلام اكتب له الدهناء .
(1) أرعد الرجل من الخوف : أنزل به الرعدة ـ صيره يرتعد ! ارتعد : اضطرب واهتر ـ ترجرج ـ المنجد في اللغة .


(257)
    قالت : فلما رأيت ذلك شخص بي وهي داري ... ووطني .
    فقلت : يا رسول الله إنه لم يسلك السوية من الأمر ، هذه الدهناء عندك مقيد الجمل ، ومرعى الغنم ، ونساء تميم وأبناؤها وراء ذلك .
    قال : صدقتِ ... امسك ياغلام ... المسلم أخو المسلم يسعهم الماء والشجر يتعاونان على الفتان كذا ...
    قالت : فلما رأى حريث وقد حيل دون كتابه ، صفق بإحدى يديه على الاخرى ثم قال :
    كنت أنا وأنتِ كما قال الأول : « حتفها حملت ضان بأظلافها » .
    قالت : فقلت أما والله لقد كنت دليلاً في الليلة الظلماء ، جواداً لدى الرحل ، عفيفاً عن الرفيقة ، صاحب صدق ، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . عليَّ أسأل حظي ... إذا سألت حظك .
    قال : وما حظك من الدهناء لا أباً لك ؟ قالت : قلت مقيد جملي ... سله لجمل امرأتك .
    قالت : فقال : اما اني اشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اني لكِ أخ ما حييت إذ أثنيت هذا عليَّ عنده » .
    هذه قيلة بنت مخرمة وغيرها كثيرات من النساء ، ذوات الفهم والتعقل ، قد أمدها الإسلام بالجرأة والإقدام .
    وقفت في بادئ الأمر ترتعد خوفاً ... ورهبة من هيبة الرسول حتى طمأنها عليه الصلاة والسلام بقوله ( يا مسكينة ... عليك السكينة ) .
    سكنت ... واطمأنت عندما شاهدت النبي العظيم بتواضعه وأخلاقه
المرأة في ظل الإسلام (17)


(258)
السامية وحلمه وسعة صدره وشريعته السمحاء .
    أقدمت على المطالبة بحقها وحق قومها ، غير هيابة ولا وجلة ، فلا مداهنة ولا تدجيل ، ولا رياء ... أليس حرية الرأي والصدق والصراحة والديمقراطية من بنود شريعة محمد ؟
    ثم نراها تثني على صاحبها ودليلها « حريث بن حسان وافد بكر بن وائل » مع وقوفها قبل برهة أمامه موقف الخصم ( ولكن الحق يعلو ولا يعلو عليه شيء ) .
    ومما لا شك فيه من أن المرأة المسلمة عندما استنشقت روح الحرية ، وتذوقت معنى الكرامة وسمعت قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وهو يوصي بالنساء خيراً ، سارعت الى مساعدة الرجل المسلم الصحيح ، وأخذت بعضده ، وسارت معه بكل إخلاص وإيمان لسلوك الصراط المستقيم .
    فيا ليت فتيات العصر الحاضر ... يلتفتن قليلاً الى الماضي حيث جداتهن القدامي المجاهدات اللواتي لا يزال أريج ذكرهن عابقاً يعطر اجواء التاريخ على مرِّ الليالي والعصور .
    ويا ليت فتيات العصر الحاضر ينصفن انفسهن وينظرن بمنظار الحق والعدل ، لتتضح لهن الحقائق . ويرجعن إلى رشدهن ، ويتركن كل ما أزرى بهن من عادات مخلة بالأدب ، وتقاليد مشينة بالأخلاق .


(259)
عقيلة الهاشميين زينب بنت علي (ع)
    من المنبت الزاكي والشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء .
    في بيت تجمعت فيه صفات الإنسانية ، وخصال الرحمة والوفاء .
    في المنزل الذي تتهادي في جنباته شمائل الشرف والبطولة والكرم والحياء .
    في السنة الخامسة للهجرة ولدت لسيدة النساء فاطمة الزهراء ابنتها عقيلة الهاشميين « زينب » .
    في هذا الجو العابق بالتقى والورع والإيمان ، تفتحت هذه الوردة الزكية المنبت ، الكريمة المحتد ، فرأت النور مشرقاً في وجه جدها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وتفتحت عيناها على بسمة أبيها علي (ع) وحنان امها فاطمة سيدة نساء الأنام .
    استقبل بيت الرسول الوليدة المباركة ، يفوح عبيرها في المهد ، عبير المنبت الطيب ، سلالة الأشراف ، ويرتسم في قسمات وجهها المضيء ملامح الأجداد الكرام ، والآباء العظام . وتلوح في طلعتها المشرقة هيبة امها الزهراء ، التي حباها الباري سبحانه بمنزلة عالية ... فكانت أحب الناس الى قلب أبيها الرسول ، وأشبههن به خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً ، « فاطمة منى » وميزها سبحانه فكانت الوعاء الطاهر للسلالة الطاهرة ، الأئمة الأطهار .
    وقد ذكر المؤرخون وأهل الأخبار : أن ظلالاً حزينة ارتسمت على مهد


(260)
الوليدة تشير الى ما ستلاقيه من المصائب والويلات في حياتها المشحونة بالأحداث .
    وتنقل المرويات : عن جدها الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وكيف انحنى على الوليدة ، حفيدته الغالية ، يقبلها بقلب حزين وعينين دامعتين ، لأنه كان عالماً بتلك الأيام السوداء التي تنتظر الطفلة في المستقبل القريب .
    ويقول أحد الكتاب : (1) « ترى إلى أي مدى كان حزنه صلى الله عليه وآله وسلم حين رأى بظهر الغيب ، تلك المذبحة الشنعاء التي تنتظر سبطه الغالي !!
    وكم اهتز قلبه الرقيق الحاني وهو يطالع في وجه الوليدة الحلوة ، صورة المصير الفاجع ؟ »
    ويذكر المؤرخون أيضاً : أن سلمان الفارسي أقبل على « علي بن أبي طالب » يهنئه بمولد الطفلة الجديدة ، فوجده واجماً قد ارتسم الحزن على جبينه ، ثم أخذ يتحدث بكل مرارة عما سوف تلقى ابنته من الفواجع في كربلاء .
    لقد أخبره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : فبكى ولم يتمالك ...
    أجل لقد بكى « علي » الفارس الشجاع ، والمقدام الهمام ، وخائض غمرات الحروب ، والملقب بأسد الإسلام الهصور .
    وتمر الأيام تطوي الليالي ... بالنهار ، والطفلة المباركة تنمو كالزنبقة العطرة ، مغمورة بالحنان والعطف والدلال تدب في رحاب البيت العلوي الشريف متنقلة كالفراشة من حضن جدها العظيم الى ذراعي أبيها الكريم لترجع وتلوذ بصدر والدتها الحنون .
    وتنتقل الحوراء زينب في مدارج صباها ، تحوطها رعاية الإم والسيدات
(1) الكاتب الهندي ( محمد الحاج سالمين ) في كتابه سيدة زينب Sayydah Zeinab .