الجليلات من البيت الرفيع ، بيت النبوة والوحي والإلهام .
نشأت « زينب » ترافق أخويها « الحسن ـ والحسين » ريحانتي رسول الله ، فنمت أفضل نمو ... وأورقت أيما إيراق .
رضعت من ثدي الإيمان ... وتغذت بعصارة الدين واقتبست المعرفة عن جدها الرسول صاحب الرسالة المقدسة .
انتهلت العلم والفهم من أبيها « علي » البحر الزاخر الذي تتلاطم أمواجه ، سيد البلغاء ... وأمير البيان .
وجدت أمامها أعظم من أنجبتهم الجزيرة ، من المسلمين والعلماء ، وصفوة الفقهاء ، والأبطال الكرام .
ترعرعت عليها السلام ... طاهرة السريرة ، عريقة الإيمان ، كريمة الخلق ، ذات عقل راجح وعقيدة ثابتة مع علم وأدب ، وفطنة وذكاء ... وصبر على البلاء وكما قيل :
حاكيت شمس الضحى والبدر مكتملاًأبـوك حـيــدرة والأم فاطمــة
أباً وأماً وكان الفضل للحاكيوالجد أحمد والسبطان صنواكِ
المصاب الأليم ... والنبأ العظيم :
استيقظت عقيلة بني هاشم على النبأ المروّع الذي اهتزت له أرجاء الجزيرة من أقصاها الى أقصاها ، ألا وهو موت جدها العظيم والرسول الكريم « محمد » صاحب الرسالة .
(262)
ارتاعت الطفلة عندما سمعت صراخ المفجوعين ، واستقيظت على عويل الباكيات ، والباكين .
ثم هي ترى جدها الأعظم ، صامتاً لا يتكلم ، ساكناً لا يتحرك ، والدنيا من حوله في ضجيج وصخب وهياج ، وكأنما زلزلت الأرض أو اجتاحها إعصار رهيب .
ارتاعت الحوراء زينب الطفلة الذكية وهي ترى هذه المشاهد المؤلمة وترى جدها العزيز الجليل يحمل على آلة حدباء ويرحل الرحلة المحتومة على كل إنسان من بني البشر .
كم روع قلبها الخلي هذا الموقف وهي تسمع لحن الموت الحزين وترى موكب الرحيل الأليم .
وتعود الطفلة لتجد امها الزهراء عليها السلام حزينة القلب ، باكية العين ، فاقدة الصبر ، مصدعة الكيان ، كسيرة الفؤاد .
وتتوالى الأحداث والهموم والكوارث على البيت العلوي الشريف .
وتدور الأيام ثقيلة حزينة والحوادث تتلو بعضها بعضاً ... والحوراء « زينب » وإن كانت صغيرة السن ولكنها سلام الله عليها كبيرة العقل ، راجحة الإدراك .
تفهم وتعي جميع ما يدور حولها من أحداث ... ومفاجآت ومؤامرات نفثت سمومها وكادت نيرانها تحرق البيت الذي طهَّره الله من الرجس ورفعه عالي الأركان بالدين مبجَّلاً بالعالمين .
تأخذني الأفكار لأتمثل الحوراء « زينب » وهي طفلة لم تودّع عامها السادس ، لتشهد موت جدها الرسول وتعي مشاهد الذهول والحزن والجزع ، من هذه المصيبة التي ألمت بالمسلمين ، تجرُّ وراءها قافلة الهموم والأحداث والوقائع .
(263)
فمن سقيفة بني ساعدة وكيف مثَّلت أدوارها إلى احداث الخلافة وشحناءها ، الى الميراث و « فدك » ثم تلا هذا كله الوقائع ... والحروب الى جميع الأمور التي يتفطر القلب لها حزناً وتمزقِّ الأفكار جزعاً وتودع النفوس رعباً وتترك الحسرات والألم الدفين .
أجل أتمثل « زينب » في خضم المأساة المروعة تلوذ بأمها الزهراء فتجدها ذاهلة حزينة يغشى عليها من حين لآخر ، فتنعطف مذعورة لتحتمي بأبيها الإمام فتراه حزيناً كئيباً .
أي طائف من الحزن اجتاح قلب الطفلة المدللة ؟ .
وأي خوف غامض غزا قلبها الخلي وروع روحها السَّاذجة البريئة ؟
عادت مع أخويها السِّبطين إلى البيت بيت أبيها أمير المؤمنين الذي تراكمت عليه الأحداث المفجعة ، وتوالت عليه المصائب المؤلمة فأحالت زهوه وضياءه الى ليل موحش مظلم .
لزمت « زينب » فراش امها الثكلى ، التي اعتلت بعد وفاة أبيها النبي ... تنظر اليها بإشفاق ، بادية اللهفة والخوف على حياة والدتها بضعة الرسول .
يحق للحوراء « زينب » إن فقد الام جدير بأن يجرع الطفلة مرارة الكأس .
لم يمض على وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أشهر او ستة أشهر على أبعد الرّوايات ، حتى رحلت الزهراء عن هذه الدنيا الفانية .
وتمضي الى جوار ربِّها راضية مرضية ... وتترك تلك الصبية التي روِّعت بماساة الموت مرتين ، وفي أعز الناس لديها وأحبهما إليها جدها ووالدتها .
ما أروع الشبه بين الأم والبنت إذا أردنا المقارنة وخصوصاً في الصمود أمام الكوارث في المواقف الحرجة والظروف الصعبة حيث يتحكم العقل ، تأمر الإرادة ، ويملي الدين .
بالأمس وقفت الزهراء عليها السلام تنظر الى موكب الموت وهو يحدو بعمها « أبي طالب » كفيل رسول الله ، وتلحقه امها « خديجة » الكبرى أم المؤمنين زوجة الرسول وساعده القوي .
ويبقى رسول الله يعاني مرارة الوحشة والفراق واضطهاد قريش ينوء تحت أعباء الرسالة المقدسة .
وتتوالي الأيام وتكر الأعوام ويعيد الماضي نفسه ، فتقف زينب بنت أمير المؤمنين كأنها الزهراء .
تمثل نفس الدور على مسرح الحياة ، وهي تعيش المأساة بكل مرارتها عندما فقدت جدها وأمها في عام واحد .
أجل وقفت زينب تنظر بلوعة وأسى الى أبيها أمير المؤمنين عليه السلام وهو يرزح تحت كابوس من الحزن والألم ، بعد أن فقد عزيزين غاليين عليه محمد وفاطمة .
(265)
كانا له الملجأ والمفزع ، كما يكون المطر للزرع غيثاً وعطاءً .
افتقد « علي » صاحب الرسالة الذي كان له الأخ والعم والمعلم ، وبعدها تتبعه ابنته « الزهراء » الزوجة الوفية المخلصة . ويبقى وحيداً حزيناً قد تنكر له الجميع .
وليس بمستغرب أن تتحمل زينب مسؤولية الأم في بيت أبيها وتحتل مكانة عالية فقد انضجتها الأحداث ، وهيأتها لأن تشغل مكان الراحلة الكريمة فتكون للحسن والحسين وباقي إخوتها اماً حنوناً ، لا تعوزها عاطفة الامومة بكل ما تحتويه من إيثار وإن كانت صغيرة السن يعوزها الاختبار .
لقد حفظت وصية امها ، وهي على فراش الموت ( بأن تصحب أخويها ، وترعاهما وتكون أماً لهما ) .
تحملت السيدة زينب مسؤولية عظيمة وقامت بها خير قيام ، ولا عجب فهي ليس كباقي الفتيات ، تسرح مع لداتها ، وتقضي وقتها باللعب والسمر الذي يتطلبه عمرها الصغير .
كانت تربية « زينب » عالية فهي فرع من تلك الدوحة المقدسة ، وكلما تقدم بها الزمن ، انضجتها الأحداث ، وعلمتها النوائب كيف تستقبلها بقلب ثابت ملؤه البطولة والإيمان .
تقول الدكتورة بنت الشاطئ : « ولم تظفر صبية من لداتها فيما نحسب ، بمثل ما ظفرت به في تلك البيئة الرفيعة ، من تربية عالية .
وكان هذا كله بحيث يرضي « زينب » في صباها ، ويتيح لنا أن نراها مرحة مزهوة . ولكنها لا تكاد تشب عن الطوق حتى يقال انها عرفت النبوءة الأليمة .
(266)
وقيل انها كانت تتلو شيئاً من القرآن الكريم ، يمسمع من ابيها ، فبدا لها ان تسأله ، عن تفسير الآيات ففعل ، ثم استطرد ، متأثراً بذكائها اللامع يلمح الى ما ينتظرها في مستقبل أيامها ، من دور ذي خطر .
ولشد ما كانت دهشته حين قالت له « زينب » في جد رصين : « اعرف ذلك يا ابي ... أخبرتني به امي ... كيما تهيئني لغدي » .
ولم يجد الأب ما يقول ، فأطرق صامتاً وقلبه يخفق رحمة وحناناً .
تفتحت زهرة آل البيت ، وبلغت « زينب » سن الزواج ، وذاع صيتها في المجتمعات ، فتوافد الطلاب من كل حدب وصوب ... من ذوي الشرف والجاه والمال .
لكن الامام علي عليه السلام : لا يخدعه المال او متاع الدنيا أليس هو قائل : « يا صفراء ويا بيضاء غرِّي غيري » .
ولا بحاجة الى ذوي الجاه ، فهو ذو الشرف الرفيع الذي لا يجارى .
وإنما يريد الكفؤ الكريم .
تقدم إليه ابن أخيه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وعبد الله هو الفتى الهاشمي الكفؤ ... والزوج المختار .
أليس هو ابن جعفر الطيار ؟ ذو الجناحين ... وأبو المساكين وحبيب رسول الله ، وأمير المهاجرين الى الحبشة ؟؟
تقول المرويات : انه صادف وصول جعفر من الحبشة الى المدينة يوم فتح خيبر . فاعتنق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعفراً وأخذ يقبله بين عينيه وهو يقول :
« لا أدري بأيهما أنا أشد فرحاً ، بقدوم جعفر أم فتح خيبر ؟ » (1) .
(1) تاريخ الطبري ـ طبقات ابن سعد الكبرى .
(268)
وفي موقعة ( مؤتة ) كان أمير القوم ، وقطعت يداه في تلك المعركة ، وأخيراً احتضن الراية وظل يقاتل حتى استشهد (1) .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآل جعفر راعياً ، وأباً ، يرعاهم بعطفه ، ويفيض عليهم بحنانه .
وفي رواية : ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في عبد الله بن جعفر : « وأما عبد الله فيشبه خلقي وخلقي » ثم أخذ بيمينه فقال :
« اللهم اخلف جعفراً في أهله ، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه ـ قالها ثلاثاً ـ وأنا وليهم في الدنيا والآخرة » .
كان عبد الله فتى في مقتبل شبابه ، قد لاحت شمائل سؤدده ، وتميزت مخايل شخصيته التي لفتت أنظار المؤرخين ، وتغنت بها الشعراء ...
قال عبد الله بن قيس الرقيات :
وما كنت إلا كالأغرّ ابن جعفر
رأى المال لا يبقى فأبقى له ذكرا
وقال الشماخ معقل بن ضرار :
إنك يا ابن جعفـر نعم الفتـىورُبّ ضيفٍ طرق الحي سُري
ونعم مأوى طـارق إذا أتـىصادف زاداً وحديثاً ما اشتهى
وام عبد الله بن جعفر هي « أسماء بنت عميس » من المهاجرات الى الحبشة ،
(1) الكامل في التاريخ لابن الاثير .
(269)
واحدى الأخوات المؤمنات اللواتي سماهن الرسول عندما قال : الأخوات المؤمنات هن : أسماء بنت عميس وميمونة ام المؤمنين ، وسلمى زوج حمزة بن عبد المطلب ، ولبابة زوج العباس بن عبد المطلب .
اقترن سليل دوحة الشرف عبد الله بن جعفر ، بحفيدة الرسول (ص) عقيلة الهاشميين « زينب » .
ضم عش الزوجية تحت جناحيه أنبل شخصين هما ...
عبد الله بن جعفر بمروئته ... ونبله ... وكرمه ... وسماحة خلقه ... وسخائه ، حتى لقب « ببحر الجود ـ أو قطب السخاء » .
و « زينب » ابنة علي التي كانت تشبه امها الزهراء لطفاً ورقة ، وانوثة ، وتشبه أباها « علياً » علماً ، وتقى ، وفصاحة ، وبلاغة .
انتقلت « زينب » إلى بيت ابن عمها لتضيء فيه شموعاً تنير الدنيا من حولها ... وتنجب البنين والبنات .
وتقول أكثر المرويات : أن السيدة « زينب » مكثت في خدرها محجبة تقية ، عالمة ورعة ، كان لها مجلس حافل تقصده جماعة من النساء اللواتي يردن التفقه في الدين .
انتقلت الحوراء « زينب » الى بيت ابن عمها عبد الله بن جعفر ولكنها عليها السلام لم تتخل عن تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقها من إدارة بيت أبيها والاهتمام بشؤون أخويها ، اولاً ... وآخراً ... ( وصية امها الزهراء ) .
وشاءت الأقدار أن تعيش « زينب » فصول الأحداث والمصاعب ، فما كانت تطبق جفنها على مأساة أو حادثة تلّم بالبيت العلوي الطاهر ، حتى تلوح لها حادثة جديدة ، ومأساة اخرى ، فتقف بكل شجاعة صامدة بقلبها الكبير وصبر وإيمان على تقلبات الزمان رغم انها امرأة .
وألف رجل لا يعادل امرأة مثل « زينب » حملت البطولة على كتفها تجسدها بأجلى مظاهرها ، وتتحمل الكوارث ، وتصمد للنوائب بأفضل ما يصمد له الأبطال ، في معامع الحروب وساحات الوغى .
نراها واقفة تراقب ما رافق خلافة أبيها أمير المؤمنين بعد أن خذله الناس فيما مضى ، رغم النص على خلافته من الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وكان ما كان ... من الأحداث .
وبعد مقتل ( عثمان بن عفان ) ألقت الخلافة بمقاليدها اليه رغم انه كان يحاول تجنب المشاكل ، التي يعلم حق العلم انها ستحدث حتماً .