(271)
    فالإمام علي سيسير بالناس على غير ما يشتهون وسيحملهم على جادة الحق ( والحق مرّ ) لا يرضاه القوم .
    قبض عليه السلام على بيت المال ، والناس عنده سواء لا محل للعواطف ... ولا مجال للأهواء ، أو الجاه ، أو القربى ...
    ولا لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى .
    وكانت البداية المؤلمة ، إن أبا الحسن لا يعطي من دينه لدنياه ، ولا تأخذه في الله لومة لائم .
    لم يوافق هذا العمل الكثير من الناس ، أمثال طلحة والزبير وهما اللذان نكثا بيعة « علي » على أنهما على معرفة تامة بالإمام وسيرته ... وبلائه .
    وكانت الفتنة الكبرى ، والنكسة العظمى التي ابتلي الإسلام بها إنها وقعة « الجمل » تلك التي جرت وراءها الأحداث والويلات ، ورمت المسلمين ببلاء عظيم .
    وترتفع راية الحق « وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً » (1) .
    ويرجع المسلمون بالندامة والملامة ، وقلوبهم دامية على اقتتال المسلمين وتمزيق شملهم .
    ولست بصدد إعادة حوادث التاريخ المؤلمة ، فالحديث شجون ... فهناك الكثير من الناس ممن اتخذ الإسلام له ذريعة للوصول إلى السلطة أمثال معاوية بن
(1) سورة الاسراء آية 81 .


(272)
أبي سفيان الذي لم تعجبه نتيجة وقعة « الجمل » بل آلمه انتصار « علي » .
    أليس معاوية بن أبي سفيان سليل البيت الاموي المعروف بعدائه للبيت الهاشمي من قديم الزمان .
    أليست العداوة والبغضاء متأصلة يتوارثها الأبناء عن الآباء ؟
    ولقد صدق من قال :
عبد شمس قد أضمرت لبني هاشم فابن حرب للمصطفى ، وابن هند حربـاً يشيب منـها الـوليـد لعلـي ، وللحسـيـن يزيـد
    أجل لم يتمكن « معاوية » من كبح جماح أطماعه التوسعية ورأى بدهائه أن الفرصة مؤاتية لمحاربة « علي » إذن ليتخذ من مقتل الخليفة « عثمان » ذريعة للوقوف بوجه ( الإمام الحق ) .
    لم يتواني عميد بني أمية عن اغتنام الفرصة ، فقام بالاتفاق مع عمرو بن العاص « الداهية الماكر » الذي باع دينه بدنياه كما هو معروف عند أكثر أهل التاريخ والسير .
    جاء في كتاب ظلال الوحي (1) . قال : إن الكثير من سلاطين المسلمين ساروا على جادة الانصاف ، بخلاف معاوية الذي أفرغ وسعه وعمل جهده في صنع الخديعة حتى يسلب الحق من أهله ، وهذا يعرف من إرساله خلف عمرو بن العاص ، وقد كان عمرو انحرف عن عثمان ، لانحرافه عنه وتوليته مصر غيره ،
(1) في ظلال الوحي : السيد علي فضل الله الحسني .


(273)
فلما اتصل به أمر عثمان وما كان من بيعة علي ، كتب الى معاوية يهزه ويشير عليه بالمطالبة بدم عثمان .
    وكان فيما كتب به إليه :
    « ما كنت صانعاً إذا قشرت من كل شيء تملكه ؟ فاصنع ما أنت صانع » .
    فبعث إليه معاوية : فسار إليه .
    فقال له معاوية : بايعني ... قال : لا والله ، لا اعطيك من ديني حتى أنال من دنياك .
    قال : سل ؟ قال : مصر طعمة .
    فأجابه الى ذلك ، وكتب له به كتاباً .
    وقال عمرو بن العاص في ذلك : كما رواه المسعودي في « مروج الذهب » .
معاوية لا اعطيك ديني ، ولم أنـل فإن تعطني مصراً ، فاربح بصفقة به منك دنيا ، فانظرن كيف تصنع أخـذت بها شيخـاً يضـر وينفع
    أجل لقد استغل معاوية وعمرو بن العاص « سذاجة الشاميين » فقد انطلت الحيلة على أهل الشام ، الحيلة والمكر والخديعة وهي « المطالبة بدم عثمان . »
    ولو سأل أهل الشام أنفسهم : ترى لو لم يتبوأ « علي » منصب الخلافة ، أكان معاوية سيحمله على دم عثمان ؟
    كلا ... إنها خديعة ... وغايته محاربة علي فقط .
المرأة في ظل الإسلام (18)


(274)
    وكانت وقفة « صفين » التي شتتت أمر المسلمين ، وفتكت بهم ، ولم تزل نيرانها تكوي جباههم .
    دارت رحى الحرب في « صفين » وأبطال المسلمين يجندل بعضهم بعضاً ؛ وكان ممن قتل يوم ذاك الصحابي الجليل « عمار بن ياسر » الذي قال الرسول له : يا عمار تقتلك الفئة الباغية .
    وعندما مني معاوية بالهزيمة . لجأ إلى الخديعة والمكر مرة ثانية ، فاحتال « برفع المصاحف » حتى اضطر الإمام عليه السلام قبول التحكيم ، رغم أنه يعلم أنها خدعة ، كما صرَّح بذلك .
    وانتهت المأساة ، وقتل ما ينوف على مئة وعشرين ألفاً من المسلمين ، وأدرك زعيم بني أمية بعض ثأره من الهاشميين .
    تمر الأيام بـ « زينب » وهي بالكوفة « مقر الخلافة » تراقب بعين ساهرة أبيها الإمام وأخويها السبطين عليهم السلام فلا يغمض لها جفن ، ولا يهدأ لها بال ، حتى تراهم .
    وعلى توالي خمسة أعوام و « عقيلة الهاشميين » تتألم وهي ترى الإمام عليه السلام يخوض المعارك ، وقد ذرف على الستين ، وهو الذي حمل سيف الجهاد ، ولما يبلغ الحلم كما ورد في خطبة الجهاد وعند قوله عليه السلام مخاطباً أصحابه :
    « لله أبوهم ؛ وهل أحد منهم أشد مراساً ، وأقدم فيها مقاماً مني ؟ لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، وها أنا قد ذرَّفت على الستين ، ولكن لا رأي لمن لا يطاع » (1) .
(1) نهج البلاغة ـ شرح ابن ابي الحديد .

(275)
العاصفة الهوجاء والاحداث المؤلمة
    لا أريد أن القي بنفسي في غمار الأحداث التأريخية ، والتحدث عن الوقائع التي خاضها المسلمون ، لو أن السيدة « زينب » كانت بعيدة قابعة في مدينة جدها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، شأن غيرها من النساء لا تهتم إلا بشؤونها الخاصة .
    ولكن عقيلة بني هاشم تختلف عن غيرها ، فهي دائماً في صميم الدوامة التي تلف الدولة الإسلامية بالعاصفة الهوجاء .
    نراها عليها السلام قد رحلت إلى الكوفة ( مقر خلافة علي (ع) مع زوجها عبد الله بن جعفر ، الذي كان أميراً من أمراء جيش صفين . ثم تعود إلى المدينة بعد مقتل الإمام علي ـ وصلح الحسن لترافق أخيها الحسين عليه السلام إلى العراق فتساهم في موقعة الطف وتكون « بطلة كربلاء » .
    صحيح ان السيدة « زينب » لم تكن من حملة السيوف ، ولا نراها في ساحة الوغى حيث الضجة والدوي الذي يصم الآذان .
    لكن نجدها هناك ... في ميدان السياسة وقد ظهرت على مسرح الأحداث . بطلة من الأبطال .
    ان صلتها بالقادة والأبطال وثيقة ، ومكانتها من البيت الهاشمي رفيعة ، ومواقفها شهيرة علاوة عن اصالة الرأي وسلامة التفكير .


(276)
    ومن هنا أقدم عذري ، إذا تكلمت عن بعض المعارك بايجاز لأنه لا مندوحة من ذلك .
    لقد شاءت الأقدار للسيدة زينب ان ترافق الأحداث فترى الأمر الذي كان مقرراً لأبيها ينتقل إلى « أبي بكر » ثم إلى « عمر » ثم إلى « عثمان » ثم إلى « علي » وتشتعل نار الفتن التي لم تخب حتى مدة طويلة من الزمن .
    خمس سنوات قضتها السيدة زينب بالكوفة ترافق الإمام « علي » الذي لم يهدأ له بال ، ولم يستقر له قرار فمن وقعة « الجمل » الى حرب « صفين » الى محاربة الخوارج في « النهروان » يجاهد في سبيل الرسالة المقدسة لعله يتمكن من هداية الناس إلى طريق الصواب ، وحملهم على المحجة البيضاء ... والصراط المستقيم .
    يشاء القدر ان يجرع السيدة زينب مرارة اليتم ويروع قلبها الكبير ، بفقد الأب العطوف .
    ففي اليوم التاسع عشر من شهر رمضان المبارك ، عام اربعين للهجرة ، توجه الإمام عليه السلام نحو المسجد بالكوفة للصلاة ، وآذان الفجر يشق عنان السماء ، ويتعالى في الاجواء .
    وهناك في ناحية المسجد ، كمن عدو الله « ابن ملجم » الخارجي ليضرب الإمام بسيفه المسموم ، ويصرعه وهو ساجد في محرابه منقطع إلى خالقه .
    وتتجلى حكمة الباري عز وجل ... ومشيئته حيث التشابه بولادة الإمام واستشهاده .


(277)
    ولد الإمام علي عليه السلام « بالكعبة المشرفة » بيت الله بمكة وقتل في مسجد الكوفة « بيت الله » .
    تقف عقيلة الهاشميين وقلبها يتفطر اسى ولوعة ، حين ترى اباها الحبيب ، الإمام العظيم محمولاً على الأعناق .
    جمعت عليها السلام كيانها المتداعي من هول الصدمة ، وتحاملت على نفسها ، واكبت على أبيها تغسل جرحه بدموعها المنسابة .
    ونراها واقفة تسمع أباها أمير المؤمنين ، وقد جمع اولاده وأوصاهم وصيته التي ذكرها التاريخ المملؤة بالحكم والمواعظ الصادرة عن سيد البلغاء .

    وصية الامام علي بن ابي طالب (ع) :
    ذكر الطبري في تاريخه : لما حضرت علي بن أبي طالب الوفاة ، أوصى فكانت وصيته :
    بسم الله الرحمن الرحيم :
    هذا ما أوصى به علي بن ابي طالب اوصى انه يشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ، ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون .
    ثم ان صلاتي ، ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك امرت وأنا من المسلمين :
    ثم اوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهلي بتقوى الله ربكم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون .


(278)
    واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول : ( ان صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام ) .
    انظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوهم ، يهون الله عليكم الحساب .
    الله الله : في الأيتام فلا تُغبّوا أفواههم ولا يضيعن بحضرتكم .
    والله الله : في جيرانكم فانهم وصية نبيكم (ص) ما زال يوصي به حتى ظننا انه سيورثه .
    والله الله : في الجهاد في سبيل الله باموالكم وانفسكم .
    والله الله : في الزكاة فإنها تطفئ غضب الرب .
    والله الله : في ذمة نبيكم ، فلا يظلمن بين أظهركم .
    والله الله : في أصحاب نبيكم ، فإن رسول الله اوصى بهم .
    والله الله : في الفقراء والمساكين فاشركوهم في معايشكم .
    والله الله : فيما ملكت ايمانكم .
    الصلاة الصلاة : لا تخافن في الله لومة لائم يكفيكم من ارادكم ، وبغى عليكم ، وقولوا للناس حسناً كما أمركم الله ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيولي الأمر شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم وعليكم بالتواصل والتباذل وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان ان الله شديد العقاب .
    حفظكم الله من أهل بيت ، وحفظ فيكم نبيكم .
    استودعكم الله ، واقرأ عليكم السلام ، ورحمة الله وبركاته .


(279)
    ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض رضي الله عنه . وذلك في شهر رمضان سنة أربعين ، وغسله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر (1) .
    سمعت زينب وصية أبيها ، ووعتها بكل جوارحها لتقوم بتنفيذها لأن سلسلة الأحداث لم تزل في البداية .
    وعن محمد بن عمر قال :
    ضرب علي عليه السلام ليلة الجمعة فمكث يوم الجمعة وليلة السبت وتوفى ليلة الأحد لاحدى عشرة ليلة بقين من شهر رمضان سنة أربعين للهجرة ، وهو ابن ثلاث وستين سنة (2) .
    وفي رواية ثانية : انه عليه السلام دعا الحسن والحسين فقال : اوصيكما بتقوى الله ، وألا تبغيان الدنيا وان بغتكما ، ولا تبكيا على شيء زوي عنكما وقولا الحق ، وارحما اليتيم وأغيثا الملهوف ، واصنعا للآخرة ، وكونا للظالم خصماً ، وللمظلوم ناصراً ، واعملا بما في كتاب الله .
    و لا تأخذ كما في الله لومة لائم . ثم نظر إلى محمد بن الحنيفة فقال : هل حفظت ما أوصيت به أخويك ؟ قال نعم ، قال : فإني اوصيك بمثله ، وأوصيك بتوقير اخويك ، لعظم حقهما عليك فاتبع أمرهما ولا تقطع أمراً دونهما .
    ثم قال أوصيكما به فإنه شقيقكما ، وابن ابيكما وقد علمتما ان اباكما كان يحبه .
    وقال للحسن : اوصيك أي بني بتقوى الله ، وأقام الصلاة لوقتها ، وإيتاء
(1) تاريخ الطبري ـ ج ـ 5 ـ ص 147 ـ 148 .
(2) تاريخ الطبري ـ ج ـ 5 ـ ص 153 .



(280)
الزكاة عند محلها ، وحسن الوضوء ، فإنه لا صلاة إلا بطهور .
    ولا تقبل صلاة ، من مانع زكاة ، واوصيك بغفر الذنب وكظم الغيظ ، وصلة الرحم ، والحلم عند الجهل ، والتفقه في الدين ، والتثبت في الأمر ، والتعاهد للقرآن وحسن الجوار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واجتناب الفواحش (1) .
    هذا بعض ما ذكره المؤرخون من وصية الإمام علي عليه السلام لأولاده أو لولديه الحسن والحسين عليهما السلام .
    ان أمير المؤمنين الإمام علي يعلم حق العلم ان الحسن والحسين هما سيدا شباب أهل الجنة كما مر معنا مراراً عن لسان الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم وعلى هذا فلا يعقل أن يصدر من سيدي شباب أهل الجنة أي ذنب يخل بالسيادة ولكن أمير المؤمنين اراد من هذه الوصية وأمثالها ارساء قواعد الدين ومكارم الاخلاق للعالم اجمع وليسير على طبقها الخلف بعد السلف ليس غير ذلك وان ابناء علي عليه السلام كما قال فيهم الشاعر :
مطهرون نقيات ثيابهم تجري الصلاة عليهم اينما ذكروا
    وفاة أمير المؤمنين عليه السلام :
    جلجل الخطب ، ولبى الإمام عليه السلام نداء ربه ، فارتجت الكوفة لهذا النبأ المروع ، نبأ وفاة امام الهدى « علي بن ابي طالب » .
    رحل الإمام إلى جوار ربه ، وترك زينب تندب أباها البطل الهمام ، باكية متفجعة ، تتجرع الحسرات .
(1) تاريخ الطبري ـ ج ـ 5 ـ ص 147 .