(281)
    وقفت عليها السلام تذرف العبرات بصمت كئيب ، فدورها لم يحن بعد ... ينتظرها في كربلاء .
    امسكت قلبها تعتصره في ذعر وهلع ، واصغت في وجوم إلى الضجة ، وإلى صيحات الألم واللوعة ، المنبعثة من حناجر المؤمنين تعلن ... مات أمير المؤمنين .
    نرى عقيلة بني هاشم ترعى الإمام الحسن وقد وقف بين الجمع يقول :
    « لقد قبض هي هذهِ الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ، ولا يدركه الآخرون بعمل . ولقد كان يجاهد مع رسول الله (ص) فيقيه بنفسه ، ولقد كان يوجهه برايته فيكتنفه جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، فلا يرجع حتى يفتح عليه ، وما خلف صفراء ولا بيضاء ... ثم خنقته العبرة فبكى ، وبكى الناس معه (1) .
    وقال أبو الأسود الدؤلي :
الا ابلغ معاوية بن حرب أفي شهر الصيام فجعتمونا قتلتم خير من ركب المطايا ومن لبس النعال ومن حذاها إذا استقبلت وجه أبي حسين لقد علمت قريش حيث كانت فلا قرت عيون الشامتينا بخير الناس طراً اجمعينا ورحلها ومن ركب السفينا ومن قرأ المثاني والمبينا رأيت البدر راع الناظرينا بانك خيرها حسباً ودينا

(1) تاريخ الطبري .


(282)
    عقيلة بني هاشم مع اخيها الامام الحسن (ع) :
    رحل الامام امير المؤمنين الى جوار ربه مشيعاً بالحسرات وترك العقيلة « زينب » تطوى احزانها بين اضلاعها وتحتسب عند الله كل ما تلاقيه .
    لكن سلسلة الاحداث لم تفرغ حلقاتها ، والاحزان لم تنته ، والبيت الهاشمي لا تهدأ له زفرة ولا تجف له دمعة .
    لأن حقد الامويين متغلغل في الأعماق ، ونفوسهم المنطبعة على الكراهية لآل بيت الرسول مشرئبة ، تتحين الفرص لأخذ الثأر من آل النبي المختار .
    بويع الامام الحسن عليه السلام بالخلافة ، ( وهو الخليفة الحق ) والبيعة له تؤثر على معاوية المشرئبة نفسه للخلافة .
    « معاوية » الداهية يوآزره عمرو بن العاص ومروان بن الحكم وامثالهما من طلاب الدنيا الذين شيمتهم الخداع والمكر والغدر .
    يجيدون حبك المؤامرات ، ويشترون ضمائر الناس بالاموال تارة وبالوعود والاماني طوراً .
    والحسن عليه السلام : الامام المعصوم كأبيه علي لا يحيد عن الحق ، ولا يسعه ان يشتري الناس بالاموال ، كما يفعل معاوية .
    ان بيت المال للمسلمين فلا يجوز ان يصرف منه شيء الا في سبيل مصلحة الاسلام والمسلمين .


(283)
    والناس عبيد الدنيا ، الا فئة قليلة هداهم الباري الى طريق الرشاد يقول الطبري (1) :
    « بايع الناس الحسن بن علي عليه السلام بالخلافة ، ثم خرج بالناس حتى نزل المدائن ، وبعث قيس بن سعد على مقدمته في اثني عشر الفاً .
    واقبل معاوية في أهل الشام حتى نزل مسكن ، فبينما الحسن في المدائن ، اذ نادى منادٍ في العسكر : « الا ان قيس بن سعد قد قتل ، فانفروا ، فنفروا ونهبوا سرادق الحسن عليه السلام حتى نازعوه بساطاً كان تحته .
    تخدر الناس بمال معاوية ، فتخاذلوا عن الامام الحسن عليه السلام واضطر الى الصلح الذي عقده مع معاوية .
    وبعدها رجع الى مدينة جده الرسول ، بصحبة أخيه الامام الحسين واخته العقيلة زينب وزوجها عبد الله بن جعفر .
    كل هذه المواقف والمشاهد ، عاشتها عقيلة بني هاشم وفي قلبها الف غصة ، وفي عينيها تترقرق الدمعة .
    تتابع تطورات الموقف بأهتمام ، وتحسب للمستقبل الف حساب وترى اخويها السبطين بلهفة وشفقة .
    معاوية يخشى الحسن ومهما خدر أعصاب الناس بالاموال فالحق دائماً هو الأعلى ، اذن لماذا لا يرتاح من هذا الخصم العظيم ؟
    ووجد المخرج ، لقد دس السم للامام الحسن عليه السلام بواسطة زوجته
(1) تاريخ الطبري ـ ج 5 ـ ص 159 ـ حوادث سنة 40 .


(284)
« جعدة بنت الاشعث » لعنها الله .
    ارتاعت الحوراء زينب عندما سمعت بخبر سم اخيها الحسن فوقفت ترمق السبط الكريم وهو يلفظ كبده قطعاً من شدة السم .
    تجلدت عليها السلام ، وكتمت الحسرات ، واخفت الزفرات زينب البطلة لم تخلق للبكاء والنحيب .
    انها رمز الصمود ، الانسانية النبيلة ، والمؤمنة الصابرة انها بنت علي ، ومن بني هاشم الذين « القتل لهم عادة وكرامتهم من الله الشهادة » .
    ولكن فراق الأحبة صعب ومرير .
    شيع المسلمون ، الامام الحسن الى مثواه الأخير مصحوباً باللوعة والأسف .
    ورجعت زينب الى البيت الحزين ، بعد ان وُسِّد شقيقها الغالي في ملحودة قبره ، ورقد الفقيد الراحل الى جوار امه الزهراء « بالبقيع » عام 49 هجرية وهو في الثامنة والاربعين من عمره كما جاء في مقاتل الطالبين .

    في خضم الاحداث :
    لم تنته المصاعب ، والحوادث المؤلمة ، بموت الامام الحسن عليه السلام ، وما رافق دفنه من الحزازات والآلام بل أخذت التيارات السياسية العاتية ، تلوح بالافق ، وتنذر بمأساة لها خطرها الجسيم .
    والسيدة زينب تعيش في دوامة التيارات بكل مآسيها وتقف الى جانب


(285)
اخيها الحسين القائم بأمر الرسالة المقدسة ، التي انتقلت اليه ، بعد وفاة أخيه الحسن عليه السلام .
    جاء دور الحسين سلام الله عليه ، فوقف في وجه معاوية السلطان الداهية الذي افرغ جعبة دهائه ... وخداعه ، ومكره ليأخذ البيعة لولده يزيد ، ويجعل من الخلافة الإسلامية ، ملكاً عضوداً وارثاً موروثاً .
    فوجئ المجتمع الاسلامي بهذا التدبير .
    يزيد حفيد « هند » يتولى خلافة المسلمين ... يرثها من الأجداد ... كلما مات هرقل قام هرقل ...
    شمًّر زعيم بني أمية « معاوية » عن ساعديه ليصرف الخلافة عن الحسين حفيد « خديجة » أم المؤمنين والمسلمة الأولى ، الطاهرة الزكية ... وسبط الرسول الأعظم (ص) .
    ليجعلها في ولده يزيد حفيد « هند » آكلة الأكباد .
    لكن معاوية فكر ودبر ، وعزم على أخذ البيعة ليزيد مهما كان الثمن ... لقد قرر تذليل جميع العقبات التي تعترضه ، ودفع بكل اساليبه الجهنمية الى تمهيد السبيل .
    وتحت وطأة الأرهاب تارة والرشوة وبذل المال والحيلة والدهاء تارة أخرى ، تمت المؤامرات ، وبايع أهل الشام .
    وكتب معاوية الى عماله في الأمصار ، يأمرهم بأخذ البيعة بالخلافة لولي عهده يزيد المتهتك .


(286)
    ويأمرهم ايضاً باستعمال الشدة والعنف ممن لم يبايع أو لم يقبل الرشوة ثمن البيعة .
    وتقول بعض المرويات : ان معاوية جلس ليأخذ البيعة ليزيد ، وعندما خطب بالناس وعرّفهم بما يريد ...
    هناك كثر اللغط ... وتعالت الهمسات بين الرفض والانكار ... أو السكوت على مضض .
    عندها قام أحد المقربين من معاوية فقال : يا معاوية انا لا نطيق ألسنة مضر ... وخطبها ؟! انت امير المؤمنين ، فان هلكت فان يزيد من بعدك ، فمن ابى ... فهذا وسل سيفه .
    ومهما كانت السبل الملتوية التي سلكها معاوية بن ابي سفيان في تحقيق مآربه ، واستعملها في بلوغ اطماعه ، فقد استطاع في النهاية ان يجعل من يزيد المستهتر حاكماً للمسلمين .
    أجل لقد افرغ معاوية حقده ، ونال ابن ابي سفيان مأربه من بني هاشم ، وتمادى في غيه غير مبالٍ لاوامر الباري سبحانه وسنة الرسول الأعظم (ص) .
    بعد مقتل ( علي ) نقض معاوية شروط الصلح التي عقدها وابرمها مع الأمام الحسن (ع) وأمر بسب « علي » بن أبي طالب ( اخي رسول الله ـ وابن عمه ـ وزوج الزهراء ـ واول القوم اسلاماً ) على منابر المسلمين .
    وقتل الكثير من الصلحاء ، والمؤمنين الابرياء امثال « حجر بن عدي الكندي » واصحابه ، ثم بعد هذا دس السمًّ للامام الحسن (ع) .
    واخيراً ألحق زياد بن ابيه بابي سفيان ، مخالفاً حكم القرآن وسنة الرسول ، واجماع المسلمين على ذلك .


(287)
    ولنستمع الى أحدهم يخاطب معاوية بعد الحاقه زياداً قال :
ألا ابلـغ معاوية ابن حـرب أتغضب ان يقال ابوك عف مغلغة عن الرجل اليمـانـي وترضى ان يقال ابوك زاني
    ولم يكفه كل هذا ! بل أخذ يبدد اموال بيت المسلمين يهبها لأنصاره وأعوانه ، امثال الماكر الداهية « عمرو بن العاص » وطريد رسول الله « مروان بن الحكم » والدعي الفاسق « زياد بن ابيه » .
    ولم يخرج معاوية من الدنيا إلا بعد ان سلط ولده يزيداً على رقاب المسلمين .


(288)
نذر المأساة
    انكر أهالي مدينة الرسول ، وبقية الصحابة الاخيار والمؤمنون حكومة يزيد ، وامتنع الكثير من البيعة .
    ارسل « يزيد » الى ابن عمه « الوليد بن عتبة بن ابي سفيان » والى مدينة ، يأمره ان يأخذ البيعة من الحسين بأي اسلوب كان ، او حيلة .
    وذكر صاحب اعيان الشيعة : (1)
    « فصار الحسين (ع) الى الوليد فوجد عنده مروان بن الحكم ، فنعى اليه الوليد معاوية ، فاسترجع الحسين (ع) ثم قرأ عليه كتاب يزيد ، وما امره فيه من اخذ البيعة منه ليزيد .
    فلم يرد الحسين (ع) ان يصارحه بالامتناع من البيعة ، واراد التخلص منه بوجه سلمي ، فورى عن مراده وقال :
    «أني اراك لا تقنع ببيعتي سراً حتى أبايعه جهراً فيعرف ذلك الناس »
    فقال له الوليد : اجل ، فقال الحسين (ع) تصبح وترى رأيك في ذلك .
    فقال له الوليد : انصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس .
    فقال له مروان بن الحكم : والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها ابداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ، ولكن احبس الرجل ، فلا يخرج من عندك حتى يبايع او تضرب عنقه .
(1) اعيان الشيعة ـ السيد محسن الامين ـ ج ـ 4 ـ ص ـ 73 .


(289)
    فلما سمع الحسين (ع) هذه المجابهة القاسية من مروان صارحهما حينئذ بالامتناع من البيعة ، وانه لا يمكن ان يبايع ليزيد أبداً .
    وثب الحسين (ع) عند ذلك وقال لمروان : ويلي عليك يا ابن الزرقاء ... انت تأمر بضرب عنقي ؟! كذبت والله ولؤمت ...
    ثم أقبل على الوليد فقال : ايها الامير إنا اهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا ختم ...
    ويزيد فاسق ، وشارب الخمر ، قاتل للنفس المحرمة ، معلن بالفسق . ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون اينا احق بالخلافة والبيعة . »
    ثم خرج عليه السلام يتهادى بين مواليه ، وهو يتمثل بقول يزيد بن المقرع :
لا ذعرت السوام في غسق الصبـ يوم اعطي مخـافة الموت ضيماً ـح فقيراً ولا دعيت يزيدا والمنايا يرصدنني ان احيدا
    رجع الحسين (ع) الى منزله ، فوجد شقيقته « زينباً » ساهرة قلقة تنتظر عودته ، لتعرف منه موقفه مع الوليد ، وإن كانت عليها السلام تعلم حق العلم ان الحسين لايلين ، نفس ابيه بين جنبيه ، لا يعطي بيده اعطاء الذليل ، ولا يقر لاحد اقرار العبيد .
    وصل الامام الحسين الى البيت فتلقته اخته الحوراء « زينب » متلهفة ، وكانت جلسة طويلة ، اطلعها على كل شيء ، وصارحها بعزمه على المسير الى العراق ،
المرأة في ظل الإسلام (19)


(290)
واعرب لها عن قراره الاخير وقد اختارها لتصحبه وتتحمل المسؤولية الجسيمة التي تنتظرها في غدها المظلم .
    وكانت العقيلة زينب في وسط هذه العاصفة الهوجاء ، تقف على مسرح الاحداث صامدة بقلب ابيها « علي » ، ومعنويات امها « الزهراء » وصبر اخيها « الحسن » وبطولة وشجاعة سيد الشهداء « الحسين » .
    وارتاع بنو هاشم لقرار الحسين المفاجئ ، وعزمه الاكيد على المسير الى العراق . فاجتمعوا اليه يطلبون منه البقاء في حرم جده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، والعدول عن السفر الى الكوفة مع نسائه واطفاله وجميع اهل بيته .
    وخاطبه في ذلك « محمد بن الحنفية » وعبد الله بن عباس ـ وعبد الله بن جعفر ـ وعبد الله بن مطيع ـ وعبد الله بن عمر ... وغيرهم لكن الحسين (ع) قد عزم ولايرده عن عزمه شيء ، وقرر فلا يعدله عن قراره احد . لقد قال : « ما قضي كائن لا محالة » .
    وردد قول الشاعر :
سأمضي وما بالموت عار على الفتى وواسـي رجـالاً صـالحيـن بنفسه فـان عشـت لم اندم وان مت لم ألـم اذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما وخالف مثبوراً وفـارق مجرما كفى بك ذلاً ان تعيش وترغمـا
    ومضت قافلة الحسين عليه السلام في طريقها الى العراق ، تاركة وراءها