(291)
قلوبا ملتاعة ونفوسا متحسرة وأولئك الذين أشاروا عليه بالبقاء في الحجاز يأسفون والآسى يعتصر قلوبهم ، خوفا عليه من المصير المحتوم على أيدي الطغاة .
    وجد السير وكانت العقيلة زينب مع النساء تلتفت من حين لآخر تلقي نظرة على ربوع الأهل والاحباب ولسان حالها يقول :
وتلفتت عيني فمذ خفيت تلك الطلول تلفت القلب
    ثم اخذتها الذكريات ورجعت بها الى الماضي لقد هاجرت الى العراق اول مرة يوم كان والدها امير المؤمنين خليفة المسلمين حيث جعل من الكوفة مقراً لدار الخلافة .
    هاجرت الى العراق مع والدها العظيم الذي كان يملأ عليها دنياها .
    وها هي تسير الى العراق مرة ثانية ولكن شتان بين الامس واليوم .
    لقد مرت الاعوام التي زادت على العشرين مثقلة كئيبة مشحونة بالمصاعب والآلام فقدت فيها والدها العظيم واخاها الحسن الامام الشفوق وفقدت بفقدهما المرح والعيش الهنيء .
    وتسيل الدموع من مقلتيها غزيرة وهي تلقي نظرة ملؤها العطف والحنان على هذا الركب العظيم الذي يلغه الليل بسكونه .
    هؤلاء احبابها ... اخوها الامام ... وبنوها ... وبنو اخيها ... وبنو عمها ... زهرة شباب بني هاشم الصفوة من آل الرسول الكرام .


(292)
السيدة زينب في يوم الطف
    وصل الركب الى العراق ، وحط رحاله في كربلاء ، وقف الحسين عليه السلام : يسأل : ما اسم هذه الارض ؟ فقيل له نينوى ... قال : هل لها اسم آخر ؟ قيل له : الغاضرية ... قال : او لها اسم غير ذلك ؟ قيل له : كربلاء ... فقال : ارض كرب وبلاء هنا محط رحالنا ... ومقتل رجالنا .
    نزل الامام عليه السلام وضرب فسطاطه ، ونصب اصحابه الخيام ...
    وكان في الجهة الثانية جيش عمر بن سعد عليه لعنة الله .
    وهنا يظهر التفاوت بين الجيشين !!..
    الامام الحسين بن علي (ع) ، مع آل الرسول الاطهار واصحابه العلماء الابرار .
    وعمر بن سعد لعنة الله عليه مع رعاع أهل الكوفة وطلاب المال .
    جمع الحسين اصحابه وقال لهم : (2) .
    « أما بعد فاني لا أعلم اصحابا اوفى ولا أخير من اصحابي « ولا أهل بيت ابر ولا اوصل ، من اهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً عني خيراً الا واني لا اظن
(1) الكامل في التاريخ لابن الاثير . ج ـ 3 ـ ص 285 .


(293)
يومنا من هؤلاء الاعداء غداً ، واني قد اذنت لكم جميعاً ، فانطلقوا في حل ليس عليكم من ذمام ، هذا الليل قد غشيكم ، فاتخذوه جملاً ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي فجزاكم الله جميعاً ، ثم تفرقوا في البلاد في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله فان القوم يطلبوني ، ولو اصابوني لهوا عن طلب غيري .
    فقال له أخوته وأبناؤه ، وابناء اخوته ، وابناء عبد الله بن جعفر :
    لم نفعل هذا ؟
    لنبقى بعدك !! لا ارانا الله ذلك ابداً .
    فقال الحسين : يا بني عقيل ، حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا فقد اذنت لكم .
    قالوا : وما نقول للناس ؟؟
    نقول : تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الاعمام ، ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا .
    لا والله ... لا نفعل ، ولكنَّا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ، ونقاتل معك حتى نرد موردك . فقبح الله العيش بعدك .
    وقام اليه مسلم بن عوسجة الاسدي فقال :
    انحن نتخلى عنك ؟ ولم نعذر الى الله في اداء حقك ، اما والله لا افارقك ، حتى اكسر في صدورهم رمحي ، واضربهم بسيفي ، ما ثبت قائمه بيدي ، والله لو لم يكن معي سلاحي لقذفتهم بالحجارة دونك حتى اموت معك .
    وتكلم اصحابه بنحو ذلك فجزاهم الله خيراً .
    وسمعته اخته زينب تلك العشية ، وهو في خباء له يقول وعنده مولى ابي


(294)
ذر الغفاري يعالج سيفه :
يـا دهر اف لك من خليل من صاحب او طالب قتيل وانما الأمر الـى الجليـل كم لك بالاشراق والاصيل والدهر لا يقنع بالبـديـل وكل حـي سالك السبيـل
    فاعادها مرتين او ثلاثة ، فلما سمعته لم تملك نفسها ان وثبت تجر ثوبها حتى انتهت اليه ونادت : واثكلاه ، ليت الموت اعدمني الحياة . اليوم ماتت فاطمة أمي ، وعلي ابي وحسن اخي ، يا خليفة الماضي ، وثمال الباقي .
    فذهب اليها وقال : يا اخية : لا يذهبن حلمك الشيطان . قالت : بابي انت وامي ... استقتلت ؟ نفسي لنفسك الغداء فردد غصته ، وترقرقت عيناه ثم قال : ( لو ترك القطا ليلاً لغفا ونام ) .
    عندها لطمت وجهها وشقت جيبها ، وخرت مغشياً عليها . فقام اليها الحسين ، فصب الماء على وجهها ، وقال : اتقي الله يا اختاه ، وتعزي بعزاء الله ، واعلمي ان أهل الارض يموتون ، واهل السماء لا يبقون ، و ان كل شيء هالك إلا وجه الله .
    ابي خير مني ... وامي خير مني ... واخي خير مني ، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله . اسوة .
    فعزاها بهذا العزاء ونحوه ، ثم قال لها .
    يا اخية اني اقسم عليك ( فابري قسمي ) لا تشقي عليّ جيباً ، ولا تخمشي عليّ وجها ، ولاتدعي عليَّ بالويل والثبور ان انا هلكت .
    ثم خرج الى اصحابه ، فلما امسوا قضوا الليل كله يصلّون ويستغفرون ،


(295)
ويتضرعون ، ويدعون .
سمة العبيد من الخشوع عليهم فاذا ترجلت الضحى شهدت لهم للّه إن ضمتهم الاسحار بيض القواضب انهم احرار
    وقف الحسين (ع) ونادى بأعلى صوته : « يا عمرو بن سعد ، ويا اصحابه ، تباً لكم ايتها الجماعة وترحا ، يا عبيد الأمة وشذاذ الاحزاب ، ونبذة الكتاب ، ونفثة الشيطان وعصبة الآثام ، ومحرفي الكتاب ، ومصطفي السنن ، وقتلة الانبياء ... الخ في كلام يضيق المجال عن ذكره .
    ثم قال (ع) : إلا واني زاحف بهذه الأسرة ، مع قلة العدد وكثرة العدو ، وخذلان الناصر .
    ثم وصل (ع) كلامه بأبيات فروة بن مسيك المرادي فقال :
فان نهزم فهزامون قدمـا وما ان طبنا جبـن ولكن فأفنى ذلكم سروات قومي فلو خلد الملوك اذن خلدنا فقل للشامتيـن بنا افيقوا وان نغلب فغير مغلبينا منايانا ودولـة آخرينـا كما افنى القرون الأولينا ولو بقي الكرام اذن بقينا سيلقى الشامتون كما لقينا
زينب في خضم المعركة :
    عقيلة بني هاشم وحدها دون النساء والبنات تدور من خباء الى خباء ، تتفقد العليل تارة والصغير اخرى .


(296)
    يتعلقن بها بين صبي يئن من العطش ، ووالهة أذهلها المصاب ، وطفلة مذعورة خائفة تطلب الأمن ، وأخرى تنشد الماء .
    حرائر بيت العصمة ، وودائع الرسالة ، اللواتي لا يعرفن إلا سجف العز والمجد والسؤدد ... ورداء الجلال والدلال . حائرات ذاهلات .
    وزينب واقفة بوسط هذا الخضم الهائج ، حائرة قلقة تراقب المعركة التي دارت رحاها في جنون لا مثيل له ... ومنجل الموت يحصد في أحبابها ، بني هاشم الصفوة الأبرار ...
    يقول السيد المقرم « أما عقيلة بني هاشم زينب الكبرى » فإنها تبصر هذا وذاك ، فتجد عروة الدين الوثقى عرضة للانفصام وحبل النبوة آيلاً الى الانصرام ، ومنار الشريعة الى الخمود ، وشجرة الإمامة الى الذبول (1) .
تنعي ليوث البأس من فتيانها تبكيهم بدم فقل بالمهجة الحرا حنت ولكن الحنيـن بكاً وقد وغيوثها إن عمت البأسـاء تسيـل العبـرة الحمـراء ناحت ، ولكن نوحها ايماء (2)
    وبعد مقتل الحسين (ع) حملت النساء اسارى على الأقتاب ، وبلغت بهم القسوة والجفاء ، فمروا بهن على جثث القتلى زيادة في التنكيل .
(1) مقتل الحسين عليه السلام : عبد الرزاق المقرم ـ ص ـ 338 .
(2) الابيات من قصيدة للشيخ كاشف الغطاء .



(297)
    وما حال ام المصائب زينب ؟ عندما رأت هذا المشهد الفظيع ...
    بكل صبر وتجلد وإيمان ، رفعت كلتا يديها الى السماء وقالت : « اللهم تقبل منا هذا القربان » .
    وجاء في كتاب مقتل الحسين (ع) عن أمالي الصدوق (1) :
    « روى أبو عبد الله الصادق عليه السلام أن الحسين (ع) دخل على أخيه الحسن (ع) في مرضه الذي استشهد فيه فلما رأى مابه بكى ، فقال له الحسن : مايبكيك يا أباعبد الله ؟ قال : أبكي لما صنع بك ...
    قال الحسن عليه السلام : إن الذي اوتي إلي سم اقتل به ، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله . وقد ازدلف إليك ثلاثون ألفاً يدَّعون أنهم من امة جدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وينتحلون دين الإسلام ، فيجتمعون على قتلك ، وسفك دمك ، وانتهاك حرمتك ، وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك .
    فعندها تحل ببني امية اللعنة ، وتمطر السماء دماً ورماداً ، ويبكي عليك كل شيء حتى الوحوش في الفلوات ، والحيتان في البحار .
    ورحم الله السيد حيدر الحلي حيث يقول :
حشدت كتائبها على ابـن محمد اللّه اكبـر يا رواسـي هذه الا يلقى ابن منتجع الصلاح كتائبا ما كـان اوقحها صبيحة قابلت بالطف حيث تذكرت آباءهـا رض البسيطة زايلي ارجاءها عقد ابن منتجع السفاح لواءها بالبيض جبهته تريق دماءها

(1) مقتل الحسين عليه السلام عبد الرزاق المقرم .


(298)
مـن أين تخجل أوجـه أمويـة قهرت بني الزهراء في سلطانها ملكت عليها الأمر حتى حرمت ضاقت بها الدنيا فحيث توجهت سكبت بلذات الفجـور حيـاءهـا واستأصلت بصفاحها امـراءهـا في الارض مطرح جنبها وثوائها رأت الحتوف أمامها ووراءهـا
    إلى أن يقول :
وقلوب أبنـاء النبـي تفطـرت هتك الطغـاة على بنـات محمد فتنازعت أحشاءها حرق الجوى ما كـان أوجعها لمهجة (أحمد) عطشا بقفـر أرمضت أشلاءهـا حجب النبوة خدرها وخبـاءهـا وتجاذبت أيدي العـدو رداءهـا وأمض في كبد ( البتولة ) داءها
عقيلة بني هاشم بالكوفة :
    سار موكب الاسرى يحث السير نحو الكوفة ، وكان أبشع موكب ، وأفظع حدث شهده التاريخ .
    رؤوس الصفوة الأطهار من بني هاشم ، يتبعهم النساء المفجوعات والأيامى والأيتام ...
    وصل الموكب الكوفة ، وسط الجموع المحتشدة لمشاهدة اسارى بيت الرسول


(299)
العظيم في طريقهم الى عبيد الله بن زياد .
    صاحت نساء الكوفة باكيات على حال حرائر الرسول الذليلات .
    لكن زينب ابنة علي مثال الإباء صاحت بهم زاجرة ثم قالت : كما ذكر الرواة (1) .
    « أما بعد يا أهل الكوفة ، أتبكون ؟ فلا سكنت العبرة ولا هدأت الرنة ... إنما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ألا ساء ما تزرون .
    أي والله فابكوا كثيراً ، واضحكوا قليلاً ، فقد ذهبتم بعارها وشنارها ، فلن ترحضوها بغسل ابداً . وكيف ترحضون قتل سبط خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومدار حجتكم ومنار محجتكم ، وهو سيد شباب أهل الجنة ؟..
    لقد أتيتم بها خرقاء شوهاء ..!
    أتعجبون لو أمطرت السماء دماً ؟! ألا ساء ما سولت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم ، وفي العذاب أنتم خالدون .
    أتدرون أي كبد فريتم ، وأي دم سفكتم ، وأي كريمة أبرزتم ؟!
    لقد جئتم شيئاً إدّاً ، تكاد السموات يتفطرن منه ، وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً » .
    وصل الموكب الرهيب الى دار الإمارة ، فأمسكت « زينب » قلبها المتصدع وهي ترى الدعي « عبيد الله بن زياد » جالساً حيث كان أبوها الإمام « علي »
(1) ذكر هذه الخطبة اكثر الرواة : منهم الشيخ الطوسي في اماليه ـ وابن شهر اشوب ، واحتجاج الطبرسي ، ومقتل الحسين .


(300)
وأخوها الإمام « الحسن » (ع) أكثر من عشرين سنة في الكوفة .
    ذكر الطبري في تاريخه قال : (1) « فلما دخل برأس الحسين وصبيانه ، وأخواته ، ونسائه ، على عبيد الله بن زياد ، لبست « زينب » ابنة فاطمة أرذل ثيابها ، وتنكرت وحفت بها اماؤها .
    فلما دخلت جلست فقال عبيد الله بن زياد : من هذه الجالسة ؟ فلم تكلمه . قال ذلك ثلاثاً ، وكل ذلك لا تكلمه . فقال بعض امائها : هذه زينب ابنة فاطمة .
    فقال لها عبيد الله : الحمد لله الذي فضحكم ، وقتلكم ، وأكذب احدوثتكم .
    فقالت : الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وطهرنا تطهيراً لا كما تقول أنت : إنما يفتضح الفاسق ، ويكذب الفاجر .
    قال : فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك ؟ قالت : كتب عليهم القتل ، فبرزوا الى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجُّون إليه ، وتخاصمون عنده .
    قال : فغضب ابن زياد واستشاط ، قال : فقال له عمرو بن حريث : أصلح الله الامير إنما هي امرأة ، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها ! إنها لا تؤاخذ بقول ، ولا تلام على خطل ، فقال لها ابن زياد : قد أشفى الله نفسي من طاغيتك ، والعصاة المردة من أهل بيتك ، قال : فبكت ثم قالت : لعمري لقد قتلت كهلي ، وأبرت أهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن يشفك هذا فقد أشتفيت ، فقال لها عبيد الله :
(1) تاريخ الطبري : ج ـ 5 ـ ص ـ 457 .