(301)
هذه السجاعة ، لقد لعمري كان أبوك شاعراً سجاعاً .
    قالت : ما للمرأة والشجاعة إن لي عن السجاعة لشغلاً ... » .
    ثم التفت ابن زياد عليه لعنة الله فرأى علي بن الحسين عليه السلام وكان مريضاً قد أنهكته العلة فأراد قتله ، عندها تعلقت به عمته زينب سلام الله عليها ، وقالت له : يا ابن زياد حسبك من دمائنا ما سفكت ، فإذا أردت قتله فاقتلني دونه ، فقال : عجبت للرحم ودت لو أنها تقتل دونه .
    وهكذا دافعت بطلة بني هاشم عن سليل النبوة بمنطقها البليغ ، وشجاعتها وإقدامها على المخاطر ، وجرأتها العظيمة التي ورثتها عن جدها وأبيها و امها وأخيها ، فكان الله معها في كل مكان حلت به ، وصارت إليه .

زينب عقيلة بني هاشم في الشام :
    خرج موكب الاسارى من الكوفة ، بقيادة شمر بن ذي الجوشن عليه لعائن الله ، يجد السير نحو الشام عاصمة بني امية ، مقر الطاغية يزيد لعنه الله .
    ولما أشرف الركب على الشام ترنح يزيد في مقصورته طرباً فقال :
لما بدت تلك الحمـول وأشـرقـت نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح تلك الرؤوس على شفا جيرون فلقد قضيت من الرسول ديوني
    وأدخلت الرؤوس والسبايا ، على يزيد وهو في مجلسه يحف به أعوانه ورجال بلاطه .
    ووضع رأس الحسين الشريف (ع) بين يدي يزيد لعنه الله فالتفت الى أصحابه وقال لهم : هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام:


(302)
أبى قومنا أن ينصفونا فانصفت يفلقن هاماً من رجـال أعـزة قواضب في أيماننا تقطر الدما علينا وهم كانوا أعق وأظلمـا
    تقول المرويات : « نظر رجل شامي الى فاطمة بنت علي (1) فطلب من يزيد أن يهبها له لتخدمه ، ففزعت ابنة امير المؤمنين وتعلقت باختها العقيلة زينب وقالت لها : كيف أخدم ؟
    قالت زينب : لا عليك إنه لن يكون هذا ابداً .
    فقال يزيد : لو أردت لفعلت ...
    فقالت له : إلا أن تخرج عن ديننا ، فرد عليها بتهكم :
    إنما خرج عن الدين أبوك وأخوك ...
    قالت زينب : بدين الله ودين جدي وأبي وأخي اهتديت أنت وأبوك إن كنت مسلماً .
    قال : كذبت يا عدوة الله !
    فرقت عليها السلام وقالت : أنت أمير مسلط ، تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك » (2) .
    لقد توقعت الناس يومئذٍ ، أن تحني الكارثة المؤلمة جبهة زينب سلام الله عليها وتصدع أركانها . وتنقاد لعاطفتها فتطأطئ رأسها .
(1) وفي بعض الروايات .. انها فاطمة بنت الحسين (ع) وليست فاطمة بنت علي ...
(2) مقتل الحسين ـ للسيد عبد الرزاق المقرم ـ تاريخ الطبري ـ تاريخ ابن الأثير .



(303)
    ولكنها حفيدة الرسول ... وابنة علي ... وسليلة بيت المجد والكرامة والإباء والأنفة فلا مجال للعاطفة ، والانكسار والذل .
    إنها البطلة الصامدة ، والمؤمنة الصابرة ، لم تخلق للنياحة ، ولم تتهيأ للبكاء والعويل .
    إنها تحمل وصية امها الزهراء ، وأخيها الحسين سيد الشهداء ، فهي صاحبة رسالة ، يجب عليها أن تتحمل في سبيلها المتاعب والمصاعب .
    وعن ابن طيفور في بلاغات النساء قال :
    « لما كان من أمر أبي عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام الذي كان ، وانصرف عمر بن سعد لعنه الله بالنسوة ، والبقية من آل محمد (ص) ووجههن الى ابن زياد لعنه الله فوجههن هذا الى يزيد لعنه الله وغضب عليه .
    فلما مثلوا بين يديه ، أمر برأس الحسين عليه السلام فأبرز في طست ، فجعل ينكث ثناياه بقضيب في يده وهو يقول :
يا غراب البين أسمعت فقل ليت أشيـاخي ببدر شهدوا حين حكت بقباء بركهـا لأهلوا واستهلـوا فرحـا فجزينـاهم ببـدر مثلهـا لست من خندف إن لم أنتقم إنما تذكر شيئـاً قد حصـل جزع الخزرج من وقع الأسل واستمـر القتـل في عبد الأشـل ثم قالـوا يـا يزيداً لا تشـل وأقمنا ميـل بـدر فاعتـدل من بنـي أحمـد ما كان فعل (1)

(1) بلاغات النساء ـ لابن طيفور .


(304)
خطبة السيدة زينب (ع) في مجلس يزيد في الشام :
    يذكر المؤرخون وجميع أهل السير أن السيدة زينب وقفت في مجلس يزيد والإباء والأنفة يملآن نفسها ، ثم توجهت (ع) إليه تسمعه من التقريع والتوبيخ بل تعدت للتهديد والتنديد غير هيابة ولا وجلة ، مستصغرة قدره وسلطانه ، ومستعظمه ومستنكره لفعلته النكراء وجريمته الشنعاء .
    قالت عليها السلام : (1)
    « صدق الله ورسوله يا يزيد ـ « ثم كان عاقبة الذين أساوا السوأى (2) أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن » (3) .
    أظننت يا يزيد أنه حين أخذ علينا بأطراف الأرض ، وأكناف السماء ، فأصبحنا نساق كما يساق الأسارى ، ان بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة .
    وان هذا العظيم خطرك ! افشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك جذلاناً فرحاً حين رأيت الدنية مستوسقة لك ، والامور متسقة عليك ، وقد امهلت ونفست ، وهو قول الله تبارك وتعالى :
    « ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيراً لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين » .
    أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك نسائك وإمائك ؛ وسوقك بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد هتكت ستورهن وأصحلت أصواتهن ، مكتئبات تجري بهن الأباعر ،
(1) عن بلاغات النساء لابن طيفور .
(2) السوآى : تأنيث ـ او مصدر وصف به ـ تفسير القرآن للسيد عبد الله شبر .
(3) سورة الروم ـ آية ـ 10 .



(305)
ويحدو بهن الاعادي من بلد الى بلد ، لا يراقبن ولا يؤوين ، يتشوفهن القريب والبعيد ، ليس معهن ولي من رجالهن ! وكيف يستبطأ في بغضنا من نظر الينا بالشنف والشنآن والاحن والاضغان ...؟
    أتقول « ليت أشياخي ببدر شهدوا » ؟ اغير متأثم ولا مستعظم وانت تنكث ثنايا أبي عبد الله بمخصرتك !!
    ولم لا تكون كذلك ، وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة ، باهراقك دماء ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونجوم الأرض من آل عبد المطلب ، ولتردن على الله وشيكاً موردهم ، ولتودن انك عميت وبكمت وانك لم تقل : « فاهلوا واستهلوا فرحاً »
    ... اللهم خذ لنا بحقنا وانتقم لنا ممن ظلمنا . ثم قالت :
    والله ما فريت إلا في جلدك ، ولا حززت إلا في لحمك وسترد على رسول الله (ص) برغمك ، وعترته ولحمته في حظيرة القدس ، يوم يجمع الله شملهم ملمومين من الشعث ، وهو قول الله تبارك وتعالى :
    « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون »
    وسيعلم من بوأك ، ومكنك من رقاب المؤمنين ، إذا كان الحكم الله ... والخصم محمد (ص) ، وجوارحك شاهدة عليك .
    فبئس للظالمين بدلاً ايكم شر مكاناً واضعف جنداً .
    مع اني والله يا عدو الله وابن عدوه استصغر قدرك واستعظم تقريعك ، غير
المرأة في ظل الإسلام م (20)

(306)
ان العيون عبرى والصدور حرى وما يجزى ذلك او يغني وقد قتل الحسين عليه السلام ، وحزب الشيطان يقربنا الى حزب السفهاء ليعطوهم اموال الله ، على انتهاك محارم الله .
    فهذي الأيدي تنطف من دمائنا ، وهذه الأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الزواكي يعتامها عسلان الفلوات .
    فلئن اتخذتنا مغنماً ، لتجدنا مغرماً حين لا تجد إلا ما قدمت يداك .
    تستصرخ يا ابن مرجانة !!.. ويستصرخ بك ، وتتعاوى وأتباعك عند الميزان ، وقد وجدت أفضل زاد زودك معاوية قتلك ذرية محمد (ص) .
    فوالله ما اتقيت غير الله ... ولا شكواي إلا إلى الله ... فكد كيدك ، واسعى سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا يرحض عنك عار ما اتيت الينا أبداً .
    والحمد لله الذي ختم بالسعادة والمغفرة ، لسادات شبان الجنان فأوجب لهم الجنة ، اسأل الله أن يرفع لهم الدرجات ، وان يوجب لهم المزيد من فضله فإنه ولي قدير . »
    وسكتت زينب بعد ان اضرمت النار في القلوب ، وهزت المشاعر وايقظت النفوس المتخدرة ، فأفاقت على الحقيقة التي اوضحتها العقلية في خطبتها التي اعجزت البلغاء ، ودقت أجراس الثورة والفداء ضد الظلم والفساد .
    وحسبنا اقتناعاً ان خطبة زينب كانت البداية في إيقاظ المشاعر فإن الشام برغم انها كانت عاصمة الامويين ومقر خلافة يزيد لعنه الله . فقد سرت البلبلة بين الناس وكثر اللغط وساد الهرج .


(307)
    ففي بعض المرويات : قيل ان « هند ابنة عبد الله بن عامر زوجة يزيد » سمعت ما يدور في مجلس زوجها ، وخطاب السيدة زينب ـ فتقنعت بثوبها وخرجت اليه فقالت :
    يا يزيد أرأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله ؟
    قال : نعم ، فاعولي عليه ... لقد عجل عليه ابن زياد فقتله ...
    فقالت : ابنات رسول الله سبايا فاطرق برأسه لان صوت زينب لا يزال يدوي في اذنيه .
    فقالت له زوجته : غداً يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ... ويجيء الحسين وجده رسول الله شفيعه !. » .
    زينب وحدها التي لم تغب لحظة عن مسرح المأساة والفاجعة الأليمة ، وهي التي سجلها التاريخ على صفحاته .
    وهي وحدها التي سمعت الصيحة الاولى ، ولم تفارق الحسين لحظة واحدة منذ بدأ القتال حتى انتهى .
    وهي وحدها كانت الى جانب المريض العليل « زين العابدين » (ع) تمرضه وتحافظ عليه ـ ومع المحتضر تواسيه والشهيد تبكيه .
    وقال بعض الشعراء عندما مر على أرض المعركة قبل دفن الجثث :
وقفت علـى أجـداثـهم ومـجالهـم لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغي فكاد الحشا ينفض والعين ساجمة سراعاً الى الهيجا حماة خضارمة


(308)
تأسسوا على نصر ابن بنت نبيهم وما أن رأى الراؤون أفضل منهم بأسيافهم آساد غيـل ضراغمـه لدى الموت سادات وزهر قماقمه
عقيلة بني هاشم في مدينة جدها الرسول (ص) :
    عاد موكب السبايا الى مدينة جدهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، تحدوهم الحسرات ، ويلفهم رداء الحزن والكآبة .
    وكان منظرهم مؤلماً يتصدع له الصخر الأصم .
    فقد هرع الناس لاستقبال الركب الحزين بمآتم مفجعة تبللها دموع البواكي ونوح الثكالي .
    لكن العقيلة زينب لم تلتفت لشيء او تفوه بكلمة ، ولم تتوقف عن السير رغم تهافت الناس عليها . بل مضت في طريقها صامتة ، حتى وصلت المسجد النبوي الشريف فأخذت بعضادتى الباب وصاحت من قلب جريح :
    يا جداه يا رسول الله ... جئت ناعية اليك أخي الحسين والاقمار من أهل بيته ... وخنقتها العبرة وماتت الكلمات على شفتيها ...
    ثم كانت المآتم في بيوت بني هاشم ولم تبقى مخدرة في المدينة إلا خرجت نائحة تبكي .
    وخرجت زينب بنت عقيل « اخت مسلم » ومعها نساؤها نادبة تلوي بثوبها وهي تقول :


(309)
ماذا تقولون إن قال النبـي لكـم بعترتـي وبأهلـي بعد مفتقـدي ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ماذا فعلتم ، وأنتـم آخـر الأمـم منهم اسـارى ومنهم ضرجوا بدم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
    وتقول بعض المرويات : وسمع صوت من بعيد يقول :
أيها القاتلون جهلاً حسيناً أبشروا بالعذاب والتنكيل
    رجعت زينب عليها السلام الى بيتها ومرت بديار أهلها فرأتها موحشة باكية تنعي أهلها وتندب سكانها . كما قال الشاعر :
مررت على أبيات آل محمد فلا يبعد اللّه الديـار وأهلها فلـم أرهـا أمثـالها يـوم حلت وإن أصبحت منهم برغمي تخلت
    وكان عمرو بن سعيد الاموي (1) والياً على المدينة ، وتذكر الأخبار أنه لما
(1) لقد لاقى عمرو بن سعيد الاموي جزاء شماتته بقتلى بني هاشم ، إذ قتله عبد الملك بن مروان الاموي بالشام .
    تقول بعض المرويات ، انه حينما دخل عمرو بن سعيد على عبد الملك بن مروان بالشام تنازعا



(310)
سمع واعية بني هاشم وبكائهن على الحسين ضحك وابتهج وقال : يوم بيوم يا عثمان ... وناعية بناعية عثمان ... ثم تمثل بقول عمرو بن معد يكرب :
عجت نساء بني زياد عجة كعجيج نسوتنا غداة الأرنب
شخصية السيدة زينب وأثرها على المجتمع :
    يمضي التاريخ ليسجل بطولة سيدة عظيمة ، هي السيدة زينب بنت علي ، عقيلة بني هاشم الثائرة على الظلم ، المتمردة على الطغيان .
    تلك السيدة الأبية ، التي أتمت مسيرة نهضة أخيها الحسين (ع) . وإيقظت
و كان نزاعهما حول الملك ـ او الخلافة بالشام ، فأمر عبد الملك صاحب حرسه ( أبا الزيزعة ) بضرب عنق عمرو بن سعيد الاموي .
    وجاء في كتاب مروج الذهب للمسعودي ... ما ملخصه ، قال : ان عمرو بن سعيد خرج من منزله يريد عبد الملك ، فعثر بالبساط ، فقالت له امرأته نائلة : انشدك الله لا تأتيه .
    فقال لها : دعيني عنك فوالله لو كنت نائماً ما أيقظني .
    ودخل على عبد الملك وهو مكفر بالدرع ، فقال له : يا أبا امية أجئت للقتال ؟ وبعد كلام طويل بينهما قال له : اني كنت قد حلفت إن ملكتك لأشدنك في الجامعة ( أي القيد ) . فلما وضع الجامعة في عنق عمرو بن سعيد أيقن عمرو بالهلاك . قال لعبد الملك : تخرجني الى الناس وأنا في جامعة ؟ فقال له عبد الملك : أتريد أن اخرجك الى الناس فيمنعوك ويستنقذوك من يدي ؟ ... ( أتماكرني وأنا أمكر منك ؟) ثم أضجعه وذبحه ولم يراع له عهداً ولا حرمة .
    لقد أظهر عمرو بن سعيد الشماتة حين مقتل بني هاشم بعد موقعة كربلاء ... وما أحسن قول الشاعر :
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا