(311)
مشاعر الناس ببلاغتها وصمودها وجهادها ، فهيجت فيهم شعوراً لاذعاً ممضاً بالحسرة والندم تارة ،و بالخزي والعار طوراً .
    توافد الناس على عقيلة بني هاشم ، فكانت تتكلم لتجلي الضباب عن البصائر ، ويبقى كلامها يدوي في آذانهم ليخترق الضمائر مذكراً بالجريمة النكراء ، والفعلة الشنعاء قتل الحسين وأهل بيته وأصحابه الأبرياء .
    يتكهرب جو المدينة ... ويلتهب ... تلهبة الثائرة المطالبة بدم الشهداء الأبرار .
    تلهبه شعلة الثائر وعنوان البطولة ، التي كانت المعول الأول في هدم عرش بني امية وأمثالهم من الطغاة المستبدين .
    « زينب » تلك التي أعطت البشرية درساً في الصمود ، والإباء والشرف ، والوقوف بوجه الجور والتعسف والطغيان تتناقله الأجيال .
    يمضي الوالي عمرو بن سعيد الأموي ، فيرسل الى يزيد أن أهل المدينة في هياج . ثم يقول : « إن كان لك بالمدينة شغل فأخرج بنت علي منها فإنها ألّبت الناس عليك » .
    ويأتي الفصل الأخير من حياة المجاهدة البطلة ، عندما يطلب منها الوالي عمرو بن سعيد الأموي ، مغادرة المدينة ، بل الحجاز .
    فتجيب عليها السلام قائلة : ويلكم أمن حرم جدنا تخرجوني ؟ ... لك الويل يا ابن سعيد ... الله أعلم بما صارت إليه حالنا بعد سيد الشهداء ...
    صبرنا على قتل خيرنا ... وحملنا على الأقتاب ، وساقونا كما تساق الأنعام ، فلست بخارجة من مدينة جدي ... فافعل ما أنت فاعل .


(312)
    واشتد الموقف بين الوالي ... وبين عقيلة بني هاشم « زينب » وهي لا تبالي ، ماضية في أداء رسالتها التي كلفها بها سيد الشهداء الحسين (ع) بالنهوض والمحافظة على رسالة جدها الرسول الأعظم (ص) .
    والوالي عمرو بن سعيد ماض في تركيز دعائم ملك بني أمية ، وتنفيذ أوامر الطاغية يزيد .
    ويأتي الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) ليقنع عمته « زينب » بالخروج كي لا تتجد المأساة على أهل بيت الرسول .
    إن الأمويين لا يتورعون عن ارتكاب أفظع الجرائم في سبيل توطيد حكمهم .
    وينساب صوت الإمام زين العابدين (ع) :
    « عمتي يا زينب ... لقد صدقنا الله وعده ، وسيجزي الله الظالمين ... إرحلي الى بلد آخر ... والله حسبنا ونعم الوكيل » .
    ولم تتمكن السيدة زينب إلا الأخذ برأي الإمام زين العابدين فقررت السفر لعل خوف الأمويين من وجودها بالمدينة يهدأ قليلاً .
    وقف موكب السيدة زينب عند مسجد الرسول الأعظم (ص) . ومن حوله بنو هاشم ، الرجال والنساء والبقية الصالحة من أهل المدينة المؤمنين .
    وكان المشهد مؤثراً ، والوداع حاراً ، فقد صاحت زينب (ع) بصوت ملتاع يتصدع له الصخر الأصم :
    يا جداه ... يا رسول الله ... ها أنا تاركة المدينة منفية ، كأني قد أتيت أمراً نكرا ، ثم تأوهت متحسرة ... وكما يقول الشاعر :


(313)
مشردون نفوا عن عقر دارهم كأنهم قد جنوا ما ليس يغتفر
    وسجل التاريخ على صفحاته ، موقف السيدة زينب الرائع المؤثر ، الذي تتجلى فيه العزة والإباء مع الاحزان ، والشجن الدامي والأسي العميق .
    ومن ذا الذي لا يهزه موقف زينب ، وقد تذكرت امها الزهراء (ع) وما لاقته من المتاعب والمصاعب ، وكما قيل :
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا أحن الى الكأس الذي شربت به فلما دهتني لم تزدني بهـا علمـا وأهوى لمثواها التراب وما ضما
    وقد اختلف أهل التاريخ والسير ، فمنهم من قال : انها ذهبت الى مصر ، ولها مقام مقدس وعظيم يؤمه الناس .
    ومنهم من قال : انها في الشام ومقامها ايضاً معروف هناك يقصده الزوار ، من جميع الأقطار . وهو القول المشهور .
    وعلى كل حال سواء كان مثوى السيدة زينب عليها السلام في الشام ... أم في مصر ... فقد هيجت الاحساس ، وأوقدت نيران الثورة على أنظمة الظلم والطغيان وشلت عرش الأمويين المستبدين في وقت قصير .
    لم تخب تلك الشعلة الملتهبة ، بل ظل كلامها يتجاوب صداه في ابواق التاريخ ، يرن في الآذان وهي تخاطب الطاغية يزيد بقولها :
    « فو الله لا تمحو ذكرنا ... ولا تميت وحينا ... ولا تدرك أمدنا ... »


(314)
    لقد عجز الطغاة عن طمس ذكر أبطال الحق ، وشهداء العدل ، ذكر زينب وآلها الكرام ... المشعل الذي يضيء الطريق أمام الهداة ، وأصحاب الضمائر الحرة . والنبراس الذي يهتدي به كل من ثار من أجل العقيدة ، والدين والكرامة ، والانسانية ، والإباء .


(315)
السيدة سكينة بنت الحسين (ع)
    ما عساني أن أكتب عن حفيدة الزهراء السيدة سكينة بنت الحسين (ع) بعد أن جال ابطال اهل التاريخ وأصحاب السير في أفكارهم وأقلامهم ، كلُّ في مجاله ، وحسب ميله وهواه .
    وما عساني أن أقول فيمن ولدت في حجر الإيمان ، وترعرعت في كنف معدن القداسة ، وعجنت طينتها بالعفة والنزاهة . فنشأت متأثرة بحسن التربية ، وكرم الأخلاق ، وعنوان المجد والسؤدد .
    جللها كرم الأصل بجلباب الشرف ، وألبسها مطارف الحياء والمعرفة والأدب .
    ومما لا ريب فيه فقد بلغت حفيدة الزهراء ، وسليلة البيت النبوي الشريف ، الذروة العليا في الجمال والكمال ، والتقى والورع ، وسلكت السبيل الواضح في مجاهدة النفس ، والطريق الذي لا يشوبه أي انحراف أو ميل نحو ملذات الدنيا .
    لقد كانت السيدة سكينة سابحة بين امواج العبادة والزهد والقداسة ، ترشف العلم من معينه ،و تجني الأدب من مستقاه ، حتى انعكست في مرآة نفسها ملامح الجلال والمهابة ، وفازت بشهادة الإمام الحسين (ع) حيث قال :
    « الغالب عليها الاستغراق مع الله » .


(316)
    ذكر السيد عبد الرزاق الموسوي : أن الحسن المثنى بن الحسن بن أمير المؤمنين (ع) أتى عمه ابا عبد الله الحسين (ع) يخطب إحدى ابنتيه « فاطمة ـ او سكينة » فقال له أبو عبد الله (ع) :
    اختار لك فاطمة ، فهي أكثرهما شبهاً بامي فاطمة بنت رسول الله (ص) أما في الدين ، فتقوم الليل كله ، وتصوم النهار ، وفي الجمال ... تشبه الحور العين .
    وأما سكينة : فغالب عليها الاستغراق مع الله تعالى فلا تصلح للرجل (1) .
    اجل لقد ذهبت السيدة سكينة بحب أبيها واعزازه لها ، وفازت بتلك المكانة العالية ، والعطف الفياض ، لذلك نراه عليه السلام يردد قائلاً :
لعمرك انني لاحب داراً احبهما وابذل جل مالي تحل بها سكينـة والرباب وليس لعاتب عندي عتاب
    إلى ان يقول :
ولست لهم وان عتبوا مطيعا حياتي أو يغيبني التراب
    يمضي الزمن وتدور الأيام ، والسيدة سكينة تبز نساء عصرها علماً وتقى وورعاً وزهادة .
    صحبت والدها الإمام (ع) إلى كربلاء ، وشاهدت تلك المجزرة العظيمة ، ومصرع أهلها الميامين .
(1) السيدة سكينة ـ للسيد عبد الرزاق الموسوي المقرم ص ـ 33 .


(317)
    وقفت بجانب عمتها العقيلة زينب ، تتلقى المصائب صابرة محتسبة . وتكويها الأحزان بنار ملتهبة . وتذوق مرارة فقد الاحبة ، فلا تزيدها كل هذه الآلام إلا عزوفاً عن ملذات الدنيا ، ويصفها والدها الحسين (ع) « خيرة النسوان » .
    في ساعة الوداع يوم « طف كربلاء » افتقد الحسين ابنته الحبيبة سكينة فوجدها منحازة عن النساء ، باكية العين ، كسيرة الفؤاد .
    اكب عليها يقبلها في لهفة وحنان ، ثم رفع رأسه وقال في شجاعة واشفاق :
    « هلا ادخرت البكاء ليوم غد ؟ تجلدي يا حبيبتي واصبري ان الله مع الصابرين » .
سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة فإذا قتـلت فانت أولـى بالذي منك البكاء إذا الحمام دهـاني ما دام مني الروح في جثماني تأتينـه يا خيـرة النسـوان
    ها هي السيدة سكينة ، واقفه على أرض كربلاء ، بجانب جثة ابيها الإمام (ع) مهيضة الجناح ، حزينة القلب ، تتزاحم الدموع في مقلتيها في حين تطوي الألم والحسرات بين أضلعها وتردد :
ان الحسيـن غـداة الطف يرشقه بكـف شـر عبـاد اللّـه كلـهم أأمة السوء هـاتوا ما احتجاجكم الويـل حـل بكم إلا بمن لحقـه يا عين فاحتفلي طول الحياة دماً ريب المنون فما ان يخطئ الحدقة نسل البغايا وجيش المرق الفسقة غداً وجلكـم بالسيف قد صفقـه صيرتموه لا رماح العدى درقه لا تبك ولداً ولا أهلاً ولا رفقـه


(318)
لكن على ابن رسول الله فانسكبي قيحاً ودماً وفي اثريهما العلقة
    ويختلط صوت سكينة مع صوت أمها الرباب ، الثكلى الوالهة . تلك التي صغرت الدنيا في عينيها ، وكبرت المصيبة عليها ، فلم تقو على حملها لا تعرف غير البكاء والعويل . ونسمعها تردد وتقول :
واحسيناً فلا نسيت حسيناً غادروه بكربلاء صريعاً اقصدتـه اسنـة الأعـداء لا سقى اللّه جانبي كربلاء (1)
    اجل : الرباب الزوجة الوفية المخلصة التي ترعى العهد والذمام فقد ذكرت الأخبار انها استغرقت في حزنها على الحسين ، نادبة حزينة ، لا يظللها سقف . وقد خطبها الكثير من الوجهاء والأشراف ، ولكنها رفضت باصرار وقالت :
    ما كنت لا تخذ حماً بعد رسول الله (ص) .
    ثم تشرق بدمعها وتقول نادبة :
ان الذي كان نـوراً يستضاء به سبط النبـي جزاك اللًّه صالحة قد كنت لي جبلاً صعباً ألوذ به من لليتامى ومن للسائلين ومن واللّه لا ابتغي صهراً بصهركم بكربلاء قتيل غيـر مدفـون عنا وجنبت خسران الموازين وكنت تصحبنا بالرحم والدين يغني وياوي اليه كل مسكيـن حتى اغيب بين الرمل والطين

(1) والرباب هي زوجة الحسين (ع) ووالدة سكينة ، وهي التي طلبت رأس الحسين من ابن زياد ، فلما رأته أخذته ووضعته في حجرها وقالت هذه الأبيات .


(319)
    شخصية السيدة سكينة الاجتماعية :
    لقد استطاعت السيدة سكينة ان تنفرد بمكانة اجتماعية مرموقة ، لم ترق اليها سيدة سواها في ذلك العصر ، فكانت الشخصية الاولى في المجتمع الحجازي ... بل الاسلامي من حيث التقى والزهد والورع والمعرفة والأدب .
    على أن السيدة سكينة كانت مشغولة البال ، تراعي حركات الوالد الشفوق في معركته الجبارة ضد الظلم .
    إن الأحداث العنيفة التي جذبت سكينة الى دوامة الاعصار ، وشغلتها عن كل ملذات الحياة وبهارجها . هي التي صنعت منها الزهد والاستغراق في العبادة ، كما فعلت الأحداث بعمتها العقيلة زينب التي عاشت في صميم المعركة وألهتها الفجيعة بأخيها الحسين عليه السلام عن ولديها اللذين استشهدا في الدفاع عن الحق .
    وكذلك كان حال الرباب والدة سكينة لم نسمع من المؤرخين أنها كانت تذكر ولدها عبد الله بل كانت تبكي الحسين وترثيه ، حتى ماتت حزناً وكمداً ... بعد وقعة كربلاء بعام واحد .
    وبعدما ذكرنا لمحة موجزة من سيرة السيدة سكينة لا بد لنا من ذكر بعض من كتب عنها وأغرق في كتابته ، ونسب إليها اموراً لم تكن بها ، كأبي الفرج الأصبهاني مثلاً قال :
    « اجتمع نسوة من أهل المدينة ، من أهل الشرف ، فتذاكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن حديثه ، فتشوقن إليه وتمنينه ، فقالت سكينة بنت الحسين (ع) أنا لكنَّ به .


(320)
    فأرسلت إليه رسولاً وواعدته « الصورين » وسمت له الليلة والوقت ، وواعدت صواحباتها فوافاههن عمر على راحلته ، فحدثهن حتى أضاء الفجر وحان انصرافهن فقال لهن : والله إني لمحتاج لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة في مسجده ، ولكن لا أخلط بزيارتكن شيئاً .
    ثم انصرف الى مكة وقال :
قالت سكينة والدموع ذوارف ليت المغيري الذي لم أجـزه كانت ترد لنا المنى أيامنـا خبرت ما قالت فبت كأنمـا أسكين ما ماء الفرات وطيبه بالذِّ منك وإن نأيت وقلمـا منها على الخديـن والجلبـاب فيما أطال تصيدي وطلابـي إذ لا نلام على هوى وتصابي ترمي الحشا بنوافـذ النشـاب مني على ظمأ وطيب شـراب ترعى النساء امانـة الغيـاب (1)
    وما رواه صاحب الأغاني ، البارع في وضع القصص والكثير من المفتريات وخصوصاً على البيت الهاشمي ، فشأنه معروف لأنه أموي النسب « والعداء بين البيت الهاشمي النبيل والبيت الأموي متغلغل في النفوس » .
    إن كل عاقل ومنصف يكاد يقطع أن المراد من سكينة في الأبيات التي قالها عمر بن ابي ربيعة ... هي في سكينة بنت خالد بن مصعب .
    والظاهر أن صاحب الأغاني الأموي ، أراد أن يبرئ ساحة سكينة بنت
(1) الاغاني لأبي الفرج الاصبهاني .