خالد مما كانت عليه من الاستهتار والمجون ، فوجد من اسم سكينة بنت الحسين (ع) باباً واسعاً للتورية وتضليل البسطاء .
عند ذلك نسب أفعال سكينة بنت خالد بن مصعب الى سكينة بنت الحسين .
جاء بعد ذلك بعض المؤرخين والكتاب ، فأخذوا عن ابي الفرج الأصبهاني من دون أي انتباه ... أو روية ... الى الأسباب التي حملت الأصبهاني على المواربة والتحريف والتورية .
على أن قول عمر بن ابي ربيعة في شعره : « أسكين ماماء فرات » الخ .
ليس من الضروري أن يكون المراد سكينة بنت الحسين . بالاضافة الى ذلك نرى أغلب الرواة يروون الشعر على النحو التالي :
قالت « سعيدة » والدموع ذوارف
منها على الخدين والجلباب
إلى أن يقول :
« أسعيد » ما ماء الفرات وطيبه
مني على ظمأ وفقد شباب
تقول الدكتورة بنت الشاطئ :
« قال ابو الفرج : وسعيدة ... هي سعدي بنت عبد الرحمن بن عوف ، كان عمر قد تعرض لها بعد طوافه فقالت له :
ويحك يا ابن أبي ربيعة ، ما تزال سادراً في حرم الله متهتكاً ! تتناول بلسانك ربات الجمال من قريش ! ...
المرأة في ظل الإسلام (21)
(322)
آمرك بتقوى الله وترك ما أنت عليه ؟
قال أبو الفرج : وإنما غيَّره المغنون ، فقالوا : « سكينة » .
وقال أبو إسحاق الحصري ( ت413 هـ ) بعد أن أورد هذه الأبيات كرواية القالي : ( كذب من روى هذا الشعر في سكينة رضي الله عنها ) (1) .
(1) تراجم سيدات بيت النبوة ـ الدكتورة بنت الشاطئ .
إن السيدة سكينة سليلة بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ومهبط الوحي والتنزيل ، من الاسرة الهاشمية العريقة التي ضربت المثل الأعلى بالإباء والشمم والعزة والكرامة ، حتى صارت مناراً لكل من أراد أن يدفع الضيم عن نفسه ويموت عزيزاً كريماً .
والدليل على ذلك ما فعله مصعب بن الزبير حينما أراد الخروج لحرب عبد الملك ابن مروان بعدما انفضَّ عنه أصحابه .
جاء مودعاً زوجته السيدة سكينة فقالت له :
لا تفجعني بك ... واحزناه عليك يا مصعب ...
فالتفت إليها وقال لها : أو كل هذا لي في قلبك !؟
ثم قال : لو كنت اعلم ان هذا كله لي عندك ، لكانت لي ولك حال ، ولكن أباك لم يترك لحر عذراً ، وأنشد :
وإن الاولى بالطف من آل هاشم
تأسوا فسنوا للكرام ، التأسيا
لا أجافي الحق إذا قلت أن بني هاشم الكرام ، الذين وصفهم الفرزدق
(324)
بقصيدته المشهورة التي منها :
ولكن إلى أهل الفضائل والنهى
وخير بني حواء والخير يطلب
أقول : كيف يروق لبني هاشم ، أهل الفضائل والنهى ترك كريمتهم وابنة سيدهم الإمام الحسين (ع) تسرح وتمرح وتعقد مجالس اللهو والسمر ، وتساجل الشعراء ، وفي بني هاشم الغيرة والحمية والأنفة ؟
على أن السيدة سكينة عاشت جل حياتها في بيت أخيها علي بن الحسين زين العابدين (ع) .
أجل زين العابدين الذي كان يواصل الليل بالنهار باكي العين حزناً على والده الحسين (ع) سيد شباب أهل الجنة .
كان يقول لمن يطلب منه تخفيف البكاء والتصبر :
« إني ما نظرت إلى عماتي وأخواتي إلا تذكرت فرارهن من خيمة الى خيمة ... » .
في هذا الجو المفعم بالحزن والبكاء كانت السيدة سكينة مع اخيها السجاد وأهل بيتها الثكالي ، فكيف والحالة هذه أن يصدر منها ما يشين كرامتها وينافي الامور المتبعة في البيت الهاشمي الشريف .
علاوة على ذلك ، كيف يترك الإمام زين العابدين (ع) وهو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، شقيقته سكينة التي رافقته في مراحل المحنة القاسية ، من المدينة ... إلى كربلاء ... وإلى الشام سبايا ... ثم إلى المدينة .
ألم يكن بإمكانه (ع) وعظها ؟ ... وإرشادها إلى جادة الصواب ، وحملها على العمل بسيرة السلف الصالح من الامهات ... والجدات .
(325)
حاشا الإمام زين العابدين أن يرضى بذلك ... وحاشا السيدة سكينة من مقالة السوء ... ومن كل افتراء .
جاء في كتاب الأغاني : « ان إسحاق الموصلي غنى الرشيد بشعر عمر بن أبي ربيعة :
قالت سكينة والدموع ذوارف
منها على الخدين والجلباب
فغضب الرشيد حتى سقط القدح من يده ... ونهره وقال :
لعن الله الفاسق ، ولعنك معه !.. فسقط في يد إسحاق ، فعرف الرشيد ما به .
فسكن الرشيد ثم قال : ويحك أتغني بأحاديث الفاسق ابن أبي ربيعة في بنت عمي ، وبنت رسول الله ؟..
إلا تتحفظ في غنائك ؟.. أو تدري ما يخرج من رأسك ؟ »
ألا ترى معي أيها القارئ ، كيف غضب الرشيد على إسحاق الموصلي وأخذته حمية النسب لأنه هاشمي ؟.. مع العلم أن، العباسيين كانوا أعداء العلويين ، آل ابي طالب في زمانهم .
فكيف يسكت ... أو يرضى آل علي الكرام بما نسب للسيدة سكينة ؟..
وعلى الأخص الإمام المعصوم زين العابدين (ع) ؟
وحاشا السيدة سكينة بنت الإمام من هذه المفتريات . فهي أجل ... وأنقى ... وأطهر ... سليلة المقدسين الأطهار .
مطهرون نقيات ثيابهم
تجري الصلاة عليهم اينما ذكروا
(326)
وقبل ان ننتهي من حديث السيدة سكينة ، لا بد لنا من الاشارة إلى بعض الأقوال من كتّاب سامحهم الله وهداهم .
يقول الدكتور زكي مبارك في كتابه « حب ابن أبي ربيعة ، وشعره ـ ص ـ 181 .. » (1) .
« لا يغضب قوم إن ذكرنا انها كانت ( يعني سكينة ) في عفافها نزقة طائشة ، تؤثر الخفة على الوقار ، وتهوى ان يخلد حسنها في قصائد الشعراء ...
وما اظن هذه السيدة سلمت في صلتها بابن ابي ربيعة من متورع يرميها على طهرها بالخلاعة والمجون » .
إلى آخر ما هنالك من المفتريات التي لم يعفّ قلم الدكتور زكي مبارك عنها .
اقول وبمنتهى الأسف ، لم يكن من المنتظر ان يأتي ( في الزمن الأخير ) بعد الأصبهاني ، امثال الدكتور زكي مبارك فيجعل من السيدة الجليلة ، حفيدة الرسول ، الزاهدة الورعة جليسة للشاعر الماجن المستهتر عمر بن ابي ربيعة .
ثم يجرد قلمه فيصف السيدة سكينة بأوصاف لا تتصف بها امثالها من جليلات القدر ، والمكانة المرموقة .
وبعدها يجعل من دار سكينة بنت الحسين مرتعاً للمجون وملاذاً للشعراء .
إن الدكتور زكي مبارك لم يستند لدليل على أقواله ، بل راح يكتب عن خيال ، وكأنه في حفلة ساهرة ...
لعله يظن أنه حين يكتب تصدًّق اقواله ... لماذا ؟ ... لأنه دكتور ، وعلى
(1) حب ابن ربيعة وشعره ـ الدكتور زكي المبارك .
(327)
هذا سقطت كتابته وأقواله عن الموضوعية ـ وكان من جراء أقواله السخيفة ، نرى أن كل من قرأ كتابته وتخيلاته بخصوص السيدة سكينة قد انتقده ، لأن الكاتب قبل أن يكتب يجب عليه أن يعي ما يقول ، ويعرضه على عقله ، ويتثبت من صحة الرواية وثقة الراوي .
وتقول الدكتورة بنت الشاطئ ، أيضاً :
« لكن المأساة أن اكثرنا قد صدقوا كل ما قال عمر ، وصدقوا اولئك القصاصين الذين راحوا ينسجون الحكايات حول هذه القصيدة او تلك من غزلياته . وهي قصص لا شك في أنها اخترعت بأجرة ، كما قال الدكتور طه حسين بحق » .
ثم تقول :
« على حين اخذ الدكتور زكي مبارك كل هاتيك الأخبار والقصص والمغامرات اخذاً لمَّا ، وصدقها غير مرتاب فيها ولا متظنن » (1) .
(1) تراجم بيت النبوة ـ الدكتورة بنت الشاطئ ـ ص ـ 929 .
لقد انتزعت المرأة المسلمة المؤمنة ، المزيد من المنزلة الاجتماعية بمساهمتها في جميع المجالات السياسية والثقافية ونافست الرجال في شتى الميادين .
شقت طريقها بفضل الاسلام وتعاليمه ، وأنارت حياتها بنور العلم والإيمان ، فأصبحت داعية للقرآن ، راوية للحديث ، سابقة إلى الإجادة في ضروب الشعر ، خطيبة تأخذ بأعنه النفوس ، محافظة على نشاطها الاجتماعي الذي بعثه فيها الدين الإسلامي العظيم .
ففي الصراع الدامي بين امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) ومعاوية بن ابي سفيان في صفين ، ظهرت كثيرات من النساء اللواتي أبلين بلاء حسناً في نصرة الحق ... أهل بيت الرسول .
وأكثر من ذلك كله فإنهن على جانب من الشجاعة وحرية الرأي ، لا يعرفن المواربة ولا التملق ، ولا يخفن إلا الله سبحانه . وتتجلى جرأة المرأة الأدبية عندما تحضر المعارك الحربية وتلقي الخطب المثيرة ، تنشد الأشعار الحماسية التي تدفع المقاتلين على الاستبسال .
وعلى سبيل المثال لا بد من ذكر بعض النساء اللواتي جاهدن في سبيل الحق منهن سودة بنت عمارة رحمها الله . لقد كان ثاقبة الرأي في السياسة . نافذة البصيرة في الزعامة ، تمثل قومها في الخطوب ، وتنوب عنهم في المحافل على الرغم
(329)
مما عرف عن قومها ( بني همدان ) من نبل السلوك وبأس عند اللقاء . حتى قال فيهم الإمام علي عليه السلام :
ولو كنت بواباً على باب جنة
لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
سودة بنت عمارة بن الاشتر الهمدانية :
جاء في بلاغات النساء : استأذنت سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان ، فأذن لها ، فلما دخلت عليه قال :
هيه يا بنت الأشتر ؟ ألست القائلة يوم صفين :
شمَّر كفعل ابيك يا ابن عمارةوانصر علياً والحسين ورهطهإن الإمام أخـو النبـي محمدفقد الجيوش وسر أمام لوائـه
قالت : اي فوالله ما مثلي من رغب عن الحق ، او اعتذر بالكذب .
قال لها : فما حملك على ذلك ؟
قالت : حب علي عليه السلام ، واتباع الحق . قال : والله ما أرى عليك من أثر علي شيئاً .
قالت : انشدك الله يا أمير ، وإعادة ما مضى ، وتذكار ما قد نسي . قال : هيهات ما مثل مقام أخيك ينسى ، وما لقيت من أحد ما لقيت من قومك وأخيك .
(330)
قالت : صدق فوك ، لم يكن اخي ذميم المقام ، ولا خفي المكان كان والله كقول الخنساء :
وان صخراً لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
قالت : صدقت لقد كان كذلك . فقالت : مات الرأس ، وبتر الذنب وبالله اسألك يا أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيت منه . قال : قد فعلت فما حاجتك ؟
قال : إنك أصبحت للناس سيداً ، ولأمرهم متقلداً ، والله سائلك من أمرنا ، وما افترض عليك من حقنا ، ولا يزال يقدم علينا من ينوه بعزك ، ويبطش بسلطانك ، فيحصدنا حصد السنبل ويدوسنا دوس البقر ، ويسومنا الخسيسة ، ويسلبنا الجليلة ، هذا بسر بن ارطاة ، قدم علينا من قبلك فقتل رجالي وأخذ مالي ، ولو لا الطاعة لكان فينا عز ومنعة ، فإما عزلته عنا فشكرناك ، وإما لا فعرفناك .
فقال معاوية : أتهدديني بقومك ؟ لقد هممت أن احملك على قتب أشرس ، فأردك إليه ، ينفذ فيك حكمه . فأطرقت تبكي ثم أنشأت تقول :
صلى الإله على جسم تضمنهقد حالف الحق لا يبغي به بدلاً
قبر فأصبح فيه العدل مدفونـافصار بالحق والإيمان مقرونا
قال لها : ومن ذلك ؟ قالت : علي بن ابي طالب عليه السلام . قال : وما صنع حتى صار عندك كذلك ؟ قالت : قدمت عليه في رجل ولاه صدقاتنا ، فكان بيني وبينه وما بين الغث والسمين ؛ فأتيت علياً عليه السلام ، لأشكوا إليه ما صنع ، فوجدته قائماً يصلي . فلما نظر إلي انفتل من صلاته ، ثم قال برقة وتعطف : إلك حاجة ؟ فأخبرته الخبر . فبكى ثم قال : اللهم إنك أنت الشاهد