(321)
خالد مما كانت عليه من الاستهتار والمجون ، فوجد من اسم سكينة بنت الحسين (ع) باباً واسعاً للتورية وتضليل البسطاء .
    عند ذلك نسب أفعال سكينة بنت خالد بن مصعب الى سكينة بنت الحسين .
    جاء بعد ذلك بعض المؤرخين والكتاب ، فأخذوا عن ابي الفرج الأصبهاني من دون أي انتباه ... أو روية ... الى الأسباب التي حملت الأصبهاني على المواربة والتحريف والتورية .
    على أن قول عمر بن ابي ربيعة في شعره : « أسكين ماماء فرات » الخ .
    ليس من الضروري أن يكون المراد سكينة بنت الحسين . بالاضافة الى ذلك نرى أغلب الرواة يروون الشعر على النحو التالي :
قالت « سعيدة » والدموع ذوارف منها على الخدين والجلباب
    إلى أن يقول :
« أسعيد » ما ماء الفرات وطيبه مني على ظمأ وفقد شباب
    تقول الدكتورة بنت الشاطئ :
    « قال ابو الفرج : وسعيدة ... هي سعدي بنت عبد الرحمن بن عوف ، كان عمر قد تعرض لها بعد طوافه فقالت له :
    ويحك يا ابن أبي ربيعة ، ما تزال سادراً في حرم الله متهتكاً ! تتناول بلسانك ربات الجمال من قريش ! ...
المرأة في ظل الإسلام (21)


(322)
    آمرك بتقوى الله وترك ما أنت عليه ؟
    قال أبو الفرج : وإنما غيَّره المغنون ، فقالوا : « سكينة » .
    وقال أبو إسحاق الحصري ( ت413 هـ ) بعد أن أورد هذه الأبيات كرواية القالي : ( كذب من روى هذا الشعر في سكينة رضي الله عنها ) (1) .
(1) تراجم سيدات بيت النبوة ـ الدكتورة بنت الشاطئ .


(323)
عرض وتحليل
    إن السيدة سكينة سليلة بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ومهبط الوحي والتنزيل ، من الاسرة الهاشمية العريقة التي ضربت المثل الأعلى بالإباء والشمم والعزة والكرامة ، حتى صارت مناراً لكل من أراد أن يدفع الضيم عن نفسه ويموت عزيزاً كريماً .
    والدليل على ذلك ما فعله مصعب بن الزبير حينما أراد الخروج لحرب عبد الملك ابن مروان بعدما انفضَّ عنه أصحابه .
    جاء مودعاً زوجته السيدة سكينة فقالت له :
    لا تفجعني بك ... واحزناه عليك يا مصعب ...
    فالتفت إليها وقال لها : أو كل هذا لي في قلبك !؟
    ثم قال : لو كنت اعلم ان هذا كله لي عندك ، لكانت لي ولك حال ، ولكن أباك لم يترك لحر عذراً ، وأنشد :
وإن الاولى بالطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للكرام ، التأسيا
    لا أجافي الحق إذا قلت أن بني هاشم الكرام ، الذين وصفهم الفرزدق


(324)
بقصيدته المشهورة التي منها :
ولكن إلى أهل الفضائل والنهى وخير بني حواء والخير يطلب
    أقول : كيف يروق لبني هاشم ، أهل الفضائل والنهى ترك كريمتهم وابنة سيدهم الإمام الحسين (ع) تسرح وتمرح وتعقد مجالس اللهو والسمر ، وتساجل الشعراء ، وفي بني هاشم الغيرة والحمية والأنفة ؟
    على أن السيدة سكينة عاشت جل حياتها في بيت أخيها علي بن الحسين زين العابدين (ع) .
    أجل زين العابدين الذي كان يواصل الليل بالنهار باكي العين حزناً على والده الحسين (ع) سيد شباب أهل الجنة .
    كان يقول لمن يطلب منه تخفيف البكاء والتصبر :
    « إني ما نظرت إلى عماتي وأخواتي إلا تذكرت فرارهن من خيمة الى خيمة ... » .
    في هذا الجو المفعم بالحزن والبكاء كانت السيدة سكينة مع اخيها السجاد وأهل بيتها الثكالي ، فكيف والحالة هذه أن يصدر منها ما يشين كرامتها وينافي الامور المتبعة في البيت الهاشمي الشريف .
    علاوة على ذلك ، كيف يترك الإمام زين العابدين (ع) وهو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، شقيقته سكينة التي رافقته في مراحل المحنة القاسية ، من المدينة ... إلى كربلاء ... وإلى الشام سبايا ... ثم إلى المدينة .
    ألم يكن بإمكانه (ع) وعظها ؟ ... وإرشادها إلى جادة الصواب ، وحملها على العمل بسيرة السلف الصالح من الامهات ... والجدات .


(325)
    حاشا الإمام زين العابدين أن يرضى بذلك ... وحاشا السيدة سكينة من مقالة السوء ... ومن كل افتراء .
    جاء في كتاب الأغاني : « ان إسحاق الموصلي غنى الرشيد بشعر عمر بن أبي ربيعة :
قالت سكينة والدموع ذوارف منها على الخدين والجلباب
    فغضب الرشيد حتى سقط القدح من يده ... ونهره وقال :
    لعن الله الفاسق ، ولعنك معه !.. فسقط في يد إسحاق ، فعرف الرشيد ما به .
    فسكن الرشيد ثم قال : ويحك أتغني بأحاديث الفاسق ابن أبي ربيعة في بنت عمي ، وبنت رسول الله ؟..
    إلا تتحفظ في غنائك ؟.. أو تدري ما يخرج من رأسك ؟ »
    ألا ترى معي أيها القارئ ، كيف غضب الرشيد على إسحاق الموصلي وأخذته حمية النسب لأنه هاشمي ؟.. مع العلم أن، العباسيين كانوا أعداء العلويين ، آل ابي طالب في زمانهم .
    فكيف يسكت ... أو يرضى آل علي الكرام بما نسب للسيدة سكينة ؟..
    وعلى الأخص الإمام المعصوم زين العابدين (ع) ؟
    وحاشا السيدة سكينة بنت الإمام من هذه المفتريات . فهي أجل ... وأنقى ... وأطهر ... سليلة المقدسين الأطهار .
مطهرون نقيات ثيابهم تجري الصلاة عليهم اينما ذكروا


(326)
    وقبل ان ننتهي من حديث السيدة سكينة ، لا بد لنا من الاشارة إلى بعض الأقوال من كتّاب سامحهم الله وهداهم .
    يقول الدكتور زكي مبارك في كتابه « حب ابن أبي ربيعة ، وشعره ـ ص ـ 181 .. » (1) .
    « لا يغضب قوم إن ذكرنا انها كانت ( يعني سكينة ) في عفافها نزقة طائشة ، تؤثر الخفة على الوقار ، وتهوى ان يخلد حسنها في قصائد الشعراء ...
    وما اظن هذه السيدة سلمت في صلتها بابن ابي ربيعة من متورع يرميها على طهرها بالخلاعة والمجون » .
    إلى آخر ما هنالك من المفتريات التي لم يعفّ قلم الدكتور زكي مبارك عنها .
    اقول وبمنتهى الأسف ، لم يكن من المنتظر ان يأتي ( في الزمن الأخير ) بعد الأصبهاني ، امثال الدكتور زكي مبارك فيجعل من السيدة الجليلة ، حفيدة الرسول ، الزاهدة الورعة جليسة للشاعر الماجن المستهتر عمر بن ابي ربيعة .
    ثم يجرد قلمه فيصف السيدة سكينة بأوصاف لا تتصف بها امثالها من جليلات القدر ، والمكانة المرموقة .
    وبعدها يجعل من دار سكينة بنت الحسين مرتعاً للمجون وملاذاً للشعراء .
    إن الدكتور زكي مبارك لم يستند لدليل على أقواله ، بل راح يكتب عن خيال ، وكأنه في حفلة ساهرة ...
    لعله يظن أنه حين يكتب تصدًّق اقواله ... لماذا ؟ ... لأنه دكتور ، وعلى
(1) حب ابن ربيعة وشعره ـ الدكتور زكي المبارك .


(327)
هذا سقطت كتابته وأقواله عن الموضوعية ـ وكان من جراء أقواله السخيفة ، نرى أن كل من قرأ كتابته وتخيلاته بخصوص السيدة سكينة قد انتقده ، لأن الكاتب قبل أن يكتب يجب عليه أن يعي ما يقول ، ويعرضه على عقله ، ويتثبت من صحة الرواية وثقة الراوي .
    وتقول الدكتورة بنت الشاطئ ، أيضاً :
    « لكن المأساة أن اكثرنا قد صدقوا كل ما قال عمر ، وصدقوا اولئك القصاصين الذين راحوا ينسجون الحكايات حول هذه القصيدة او تلك من غزلياته . وهي قصص لا شك في أنها اخترعت بأجرة ، كما قال الدكتور طه حسين بحق » .
    ثم تقول :
    « على حين اخذ الدكتور زكي مبارك كل هاتيك الأخبار والقصص والمغامرات اخذاً لمَّا ، وصدقها غير مرتاب فيها ولا متظنن » (1) .
(1) تراجم بيت النبوة ـ الدكتورة بنت الشاطئ ـ ص ـ 929 .


(328)
جهاد المرأة المسلمة ووضعها الاجتماعي
    لقد انتزعت المرأة المسلمة المؤمنة ، المزيد من المنزلة الاجتماعية بمساهمتها في جميع المجالات السياسية والثقافية ونافست الرجال في شتى الميادين .
    شقت طريقها بفضل الاسلام وتعاليمه ، وأنارت حياتها بنور العلم والإيمان ، فأصبحت داعية للقرآن ، راوية للحديث ، سابقة إلى الإجادة في ضروب الشعر ، خطيبة تأخذ بأعنه النفوس ، محافظة على نشاطها الاجتماعي الذي بعثه فيها الدين الإسلامي العظيم .
    ففي الصراع الدامي بين امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) ومعاوية بن ابي سفيان في صفين ، ظهرت كثيرات من النساء اللواتي أبلين بلاء حسناً في نصرة الحق ... أهل بيت الرسول .
    وأكثر من ذلك كله فإنهن على جانب من الشجاعة وحرية الرأي ، لا يعرفن المواربة ولا التملق ، ولا يخفن إلا الله سبحانه . وتتجلى جرأة المرأة الأدبية عندما تحضر المعارك الحربية وتلقي الخطب المثيرة ، تنشد الأشعار الحماسية التي تدفع المقاتلين على الاستبسال .
    وعلى سبيل المثال لا بد من ذكر بعض النساء اللواتي جاهدن في سبيل الحق منهن سودة بنت عمارة رحمها الله . لقد كان ثاقبة الرأي في السياسة . نافذة البصيرة في الزعامة ، تمثل قومها في الخطوب ، وتنوب عنهم في المحافل على الرغم


(329)
مما عرف عن قومها ( بني همدان ) من نبل السلوك وبأس عند اللقاء . حتى قال فيهم الإمام علي عليه السلام :
ولو كنت بواباً على باب جنة لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
سودة بنت عمارة بن الاشتر الهمدانية :
    جاء في بلاغات النساء : استأذنت سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان ، فأذن لها ، فلما دخلت عليه قال :
    هيه يا بنت الأشتر ؟ ألست القائلة يوم صفين :
شمَّر كفعل ابيك يا ابن عمارة وانصر علياً والحسين ورهطه إن الإمام أخـو النبـي محمد فقد الجيوش وسر أمام لوائـه يوم الطعان وملتقى الأقران واقصد لهند وابنها بهـوان علم الهدى ومنارة الإيمان قدماً بأبيض صارم وسنان
    قالت : اي فوالله ما مثلي من رغب عن الحق ، او اعتذر بالكذب .
    قال لها : فما حملك على ذلك ؟
    قالت : حب علي عليه السلام ، واتباع الحق . قال : والله ما أرى عليك من أثر علي شيئاً .
    قالت : انشدك الله يا أمير ، وإعادة ما مضى ، وتذكار ما قد نسي . قال : هيهات ما مثل مقام أخيك ينسى ، وما لقيت من أحد ما لقيت من قومك وأخيك .


(330)
    قالت : صدق فوك ، لم يكن اخي ذميم المقام ، ولا خفي المكان كان والله كقول الخنساء :
وان صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
    قالت : صدقت لقد كان كذلك . فقالت : مات الرأس ، وبتر الذنب وبالله اسألك يا أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيت منه . قال : قد فعلت فما حاجتك ؟
    قال : إنك أصبحت للناس سيداً ، ولأمرهم متقلداً ، والله سائلك من أمرنا ، وما افترض عليك من حقنا ، ولا يزال يقدم علينا من ينوه بعزك ، ويبطش بسلطانك ، فيحصدنا حصد السنبل ويدوسنا دوس البقر ، ويسومنا الخسيسة ، ويسلبنا الجليلة ، هذا بسر بن ارطاة ، قدم علينا من قبلك فقتل رجالي وأخذ مالي ، ولو لا الطاعة لكان فينا عز ومنعة ، فإما عزلته عنا فشكرناك ، وإما لا فعرفناك .
    فقال معاوية : أتهدديني بقومك ؟ لقد هممت أن احملك على قتب أشرس ، فأردك إليه ، ينفذ فيك حكمه . فأطرقت تبكي ثم أنشأت تقول :
صلى الإله على جسم تضمنه قد حالف الحق لا يبغي به بدلاً قبر فأصبح فيه العدل مدفونـا فصار بالحق والإيمان مقرونا
    قال لها : ومن ذلك ؟ قالت : علي بن ابي طالب عليه السلام . قال : وما صنع حتى صار عندك كذلك ؟ قالت : قدمت عليه في رجل ولاه صدقاتنا ، فكان بيني وبينه وما بين الغث والسمين ؛ فأتيت علياً عليه السلام ، لأشكوا إليه ما صنع ، فوجدته قائماً يصلي . فلما نظر إلي انفتل من صلاته ، ثم قال برقة وتعطف : إلك حاجة ؟ فأخبرته الخبر . فبكى ثم قال : اللهم إنك أنت الشاهد