(331)
عليَّ وعليهم ، إني لم آمرهم بظلم خلقك ، ولا بترك حقك ، ثم أخرج من جيبه قطعة كهيئة طرف الجراب . فكتب فيها : بسم الله الرحمن الرحيم « قد جاءتكم بيّنة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان بالقسط ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ».
    إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام .
    فأخذته منه والله ما ختمه بطين ، ولا خزمه بخزام .
    فقال معاوية : اكتبوا لها بالإنصاف والعدل عليها ، فقالت : إليَّ خاصة أم لقومي ؟ قال : وما أنت وغيرك ؟
    قالت : هي والله الفحشاء واللؤم ... إن لم يكن عدلاً شاملاً وإلا فأنا كسائر قومي . قال : هيهات لمظكم ابن أبي طالب الجرأة وغركم قوله :(1)
فلو كنت بواباً على باب جنة لقلت لهمدان أدخلي بسلام
    لقد كانت السيدة سودة تتمتع بمزايا عظيمة من قوة الحجة على الدعوى وعمق الاحساس بالقضية الملقاة إليها . مع قدر كاف من حسن التعبير ودقة التصوير .
    ومن أبرز الصفات للوعي الاجتماعي عند المرأة في صدر الإسلام هو ذلك الصمود الذي لا تفلّه الغلبة وذلك الثبات الذي لا تزعزعه الحوادث والكوارث . والصبر مع الإيمان الذي لا ينفذ عند استبطاء النصر . ولا يتلاشى عند مجابهة الأعداء .
(1) اعلام النساء لعمر رضا كحالة ـ بلاغات النساء لابن طيفور ـ والعقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي .


(332)
الزرقاء بنت عدي
    هذه المرأة من المسلمات الأول اللواتي لا يعرفن التملق والحيل والخداع ، كانت من ربات الفصاحة والبلاغة والعقل والرأي ، ناصرت علي بن ابي طالب (ع) يوم صفين (1) ولما تم الأمر لمعاوية قال لأصحابه : ايكم يحفظ كلام الزرقاء ؟
    فقال القوم : كلنا نحفظه يا امير المؤمنين . قال : فما تشيرون عليَّ فيها ؟ قالوا : نشير عليك بقتلها . قال بئس ما اشرتم عليَّ به ... ايحسن بمثلي ان يتحدث الناس اني قتلت امرأة بعدما ملكت ، ثم دعا كاتبه ، فكتب الى عامله بالكوفة ان اوفد اليَّ الزرقاء بنت عدي .
    فلما قدمت على معاوية قال لها : مرحباً واهلاً ، هل تعلمين لما بعثت اليك ؟ قالت : سبحان الله أنى لي بعلم ما لم أعلم ، وهل يعلم ما في القلوب إلا الله . قال : بعثت اليك ان اسألك ؟
    « الست راكبة الجمل الأحمر يوم ( صفين ) بين الصفين ، توقدين الحرب
(1) صفين : موضع بقرب الرقة على شاطئ الفرات من الجانب الغربي بين الرقة وبالس .


(333)
وتحرضين على القتال ، فما حملك على ذلك ؟ » .
    قالت : يا أمير المؤمنين انه قد مات الرأس ، وبتر الذنب ، والدهر ذو غير ومن تفكر أبصر والأمر يحدث بعده الأمر .
    قال لها : صدقت ، فهل تحفظين كلامك يوم صفين ؟ فقالت : ما أحفظه . قال : ولكنني أحفظه لله أبوك لقد سمعتك تقولين : « أيها الناس أنكم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم وجارت بكم عن المحجة فيالها من فتنة عمياء صماء تسمع لنا عقها ، ولا تسلس لقائدها ، ان المصباح لا يضيء في الشمس ، وأن الكواكب لا تنير مع القمر ، وأن البغل لا يسبق الفرس ، وأن الزف لا يوازن الحجر ولا يقطع الحديد إلا الحديد .
    إلا من استرشدنا أرشدناه ، ومن استخبرنا أخبرناه ، إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها .
    فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار ، فكأن قد اندمل شعب الشتات ، والتأمت كلمة العدل ، وغلب الحق باطله ، فلا يعجلن أحد فيقول كيف العدل وأنّى ؟ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً .
    « إلا أن خضاب النساء الحناء ، وخضاب الرجال الدماء والصبر خير عواقب الأمور . أيهاً إلى الحرب قدماً غير ناكصين ولا متشاكسين فهذا يوم له ما بعده .
    ثم قال معاوية : والله يا زرقاء لقد شركت علياً في كل دم سفكه فقالت : أحسن الله بشارتك يا أمير ، وأدام سلامتك مثلك من بشر بخير وسر جليسه .


(334)
    قال لها : وقد سرك ذلك ؟ قالت : نعم . والله لقد سرني قولك فأني لي بتصديق الفعل .
    فقال معاوية : والله لوفاؤكم له بعد موته ، أعجب الي من حبكم له في حياته ، أذكري حاجتك ، قالت : يا أمير أني قد آليت على نفسي ان لا أسأل أميراً أعنت عليه شيئاً (1) .
(1) بلاغات النساء لابن طيفور ـ العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي ـ اعلام النساء .


(335)
بكارة الهلالية
    لنقف أيها القارئ الكريم ، ونلقي نظرة خاطفة على بكارة الهلالية تلك المرأة المؤمنة ، التي كانت تحمل بين جنبيها قلباً حافظاً ، وإيماناً راسخاً وعقيدة ثابتة .
    كانت من النساء المسلمات المؤمنات ، الموصوفات بالشجاعة والاقدام والفصاحة ، والشعر والنثر والخطابة .
    حضرت حرب صفين وكان من أنصار الحق وبجانب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
    دخلت على معاوية بن أبي سفيان بعد ان كبرت سنها ودق عظمها ، ومعها خادمان لها وهي متكئة عليهما وبيدها عكاز ، وكان عنده مروان بن الحكم ، وعمرو بن العاص ، فابتدأ مروان فقال :
    أما تعرف هذه يا أمير المؤمنين ؟ فقال : ومن هي ؟
    قال : هي التي كانت تعين علينا يوم صفين ، وهي القائلة :
يا زيد دونك فاستثر من دارنا قد كنت أدخره ليـوم كريهـة سيفاً حساماً في التراب دفينا فاليوم أبرزه الزمان مصونا
    فقال عمرو بن العاص ، وهي القائلة :
أترى ابن هند للخلافة مالكاً هيهات ذاك وما أراد بعيد


(336)
منتك نفسك في الخلاء ضلالة فارجع بانكد طائر بنحوسهـا اغراك عمرو للشقاء وسعيد لاقت عليـاً أسعد وسعـود
    فقال سعيد : يا أمير المؤمنين وهي القائلة :
قد كنت آمل ان أموت ولا أرى فالله أخـر مـدَّتـي فتطـاولت في كل يـوم لا يـزال خطيبهم فوق المنابر من أمية خاطبـا حتى رأيت من الزمان عجائبا وسط الجموع لآل أحمد عائبا
    ثم سكت القوم فقالت بكارة :
    نبحتني كلابك يا معاوية ... واعتورتني ،فقصر محجتي وكثر عجبي ، وعشي بصري !
    أنا والله قائلة ماقالوا : لا أدفع ذلك بتكذيب ، فامض لشأنك ، فلا خير في العيش بعد أمير المؤمنين علي .
    فقال معاوية : لا يضعك شيء ، فاذكري حاجتك ؟ قالت : الآن ... فلا ... (1) .
(1) العقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي ـ بلاغات النساء لابن طيفور ـ اعلام النساء لعمر رضا كحالة .


(337)
أم الخير بنت الحريش البارقية
    سيدة جليلة ، لا تقل شجاعة واقداماً عن اللواتي ناصرن الحق ، وحرية الرأي هي أم الخير بنت الحريش ، مثال المرأة المسلمة المؤمنة الصالحة ، وهي من ربات الفصاحة والبلاغة .
    وقد ذكر أهل التاريخ ان معاوية بن أبي سفيان كتب الى واليه بالكوفة : ان أوفد عليّ أم الخير بنت الحريش .
    فلما ورد الكتاب ركب الوالي اليها وأبلغها . فقالت له : أما أنا فغير راغبة عن طاعة ولا معتلة بكذب :
    ولما قدمت على معاوية ، انزلها مع الحرم ثلاثة أيام ، ثم أذن لها في اليوم الرابع وجمع الناس .
    فدخلت عليه فقال : بحسن نيتي ظفرت بكم وأعنت عليكم .
    قالت : مه ... يا هذا لك والله من دحض المقال ما تردى عاقبته .
    قال : ليس لهذا أردناك .
    قالت : إنما أجري في ميدانك ، إذا أجريت شيئاً فاسأل عما بدا لك .
    قال : كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر ؟
المرأة في ظل الإسلام (22)


(338)
    قالت : لم أكن والله رويته من قبل ، ولا زورته بعد ، وإنما كانت كلمات نفثهن لساني حين الصدمة ، فإن شئت ان أحدث لك مقالاً غير ذلك فعلت .
    قال : لا أشاء ذلك ، ثم التفت الى اصحابه فقال : أيكم يحفظ كلام أم الخير ؟
    قال رجل من القوم : أنا أحفظه يا أمير .
    كأني بها وعليها برد زبيدي كثيف الحاشية ، وهي على جمل أرمك ، وقد أحيط حولها ، وبيدها سوط منتشر الضفر وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول :
    أيها الناس اتقوا ربكم ان زلزلة الساعة شيء عظيم . ان الله قد أوضح الحق ، وأبان الدليل ، ونور السبيل ، ورفع العلم ، فلم يدعكم في عمياء مبهمة ، ولا سوداء مدلهمة ، فالى اين تريدون رحمكم الله ؟ أفراراً من الزحف ، أم رغبة عن الإسلام ، أم ارتداداً عن الحق ؟ أما سمعتم الله عز وجل يقول : ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ) .
    ثم رفعت رأسها الى السماء وهي تقول : اللهم قد عيل الصبر وضعف اليقين ، وانتشر الرعب ، وبيدك يا رب أزمة القلوب . فاجمع الكلمة على التقوى ، وألّف القلوب على الهدى ، ورد الحق الى أهله .
    هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل ، والوصي الوفي والصديق الأكبر .
    انها والله إحن بدرية ، وأحقاد جاهلية ، وضغائن أحدية ، وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك بها ثارات بني عبد شمس .
    ثم قالت : ( قاتلوا أئمة الكفر انهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون ) صبراً معاشر


(339)
المهاجرين والأنصار ، قاتلوا على بصيرة من ربكم وثبات من دينكم ، وكأني بكم غداً قد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة ، فرت من قسورة لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض ، باعوا الآخرة بالدنيا واشتروا الضلالة بالهدى وباعوا البصيرة بالعمى وعما قليل يصبحن نادمين حتى تحل بهم الندامة ، فيطلبون الإقالة ! انه والله من ضل عن الحق وقع في الباطل ومن لم يسكن الجنة نزل النار .
    أيها الناس : ان الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها ، واستبطأوا مدة الآخرة ، فسعوا لها . والله أيها الناس : لو لا ان تبطل الحقوق وتعطل الحدود ويظهر الظالمون ، وتقوى كلمة الشيطان ، لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه ، فإلى أين تريدون رحمكم الله ؟ عن ابن عم رسول الله (ص) وزوج ابنته وأبي ابنيه ، خلق من طينته ، وتفرع من نبعته وخصه بسره ، وجعله باب مدينته ، وأعلم بحبه المسلمين ، وأبان ببغضه المنافقين ، فلم يزل كذلك يؤيده الله عز وجل بمعونته ، ويمضي على سنن استقامته ، لا يعرج لراحة اللذات ، وهو مفلق الهام ومكسر الأصنام إذ صلى والناس مشركون وأطاع والناس مرتابون ، فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر ، وأفنى أهل أحد ، وفرق جمع هوازن ، فيا لها من وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقاً وردة وشقاقاً ، وقد اجتهدت في القول وبالغت في النصيحة وبالله التوفيق وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته فقال معاوية : يا أم الخير ما اردت بهذا إلا قتلي ؛ والله لو قتلتك ما حرجت في ذلك ؟ قالت : والله ما يسوءني يا ابن هند ان يجري الله ذلك على يد من يسعدني الله بشقائه .


(340)
أم وهب زوجة عبد الله بن عمر الكلبي
    ان الكثيرات من النساء الصالحات ، هن افضل من الكثير من الرجال ، بعقلهن وإيمانهن وتدينهن وشجاعتهن ، وكانت الدنيا في اعينهن لا تعادل شيئاً في سبيل الله سبحانه ، والدفاع عن الكرامة والدين .
    ذكر السيد عبد الرزاق المقرم في كتابه ( حديث كربلاء ) ، قال : حينما قتل عبد الله بن عمر الكلبي في واقعة كربلاء الشهيرة وكان من اصحاب الحسين عليه السلام ، مشت اليه زوجته أم وهب ، وجلست عند رأسه تمسح الدم عنه وتقول :
    « هنيئاً لك الجنة ، اسأل الله الذي رزقك الجنة ان يصحبني معك » ، فقال الشمر لغلامه رستم : اضرب رأسها بالعمود فشدخه وماتت مكانها ، وهي أول أمرأة قتلت من اصحاب الحسين (ع) .
    وقطع رستم رأسه ورمى به الى جهة اصحاب الحسين ، فأخذته امه ومسحت الدم عنه ، ثم أخذت عمود خيمة وبرزت الى الاعداء ، فردها الحسين وقال : ارجعي رحمك الله فقد وضع عنك الجهاد (1) .
(1) حديث كربلاء او مقتل الحسين ذكره السيد عبد الرزاق المقرم وغيره كثير امثال الطبري ـ وابن شهر اشوب ـ وابن الأثير وغيرهم .