(341)
    فرجعت امتثالاً لأمر الحسين عليه السلام .
    وهذه هي حال المرأة الصالحة المسلمة ، التي لم تتوقف عن خوض المعارك والدفاع عن الدين والعقيدة ، ولم تعوزها الشجاعة والأقدام لو سمح لها الامام الحسين عليه السلام بالجهاد .


(342)
عكرشة بنت الاطرش
    من ربات الفصاحة والبلاغة والبيان وقوة الحجة وحرية الرأي ، دخلت على معاوية فسلمت فقال لها :
    يا عكرشة الآن صرت امير المؤمنين ؟ ... قالت : نعم اذ لا علي حي ... قال الست صاحبة الكور المسدول والوسيط المشدود ، والمتقلدة بحمائل السيف ، وانت واقفة بين الصفين يوم ( صفين ) تقولين :
    يا ايها الناس عليكم بأنفاسكم لا يضركم من ضل اذ اهتديتم ، ان الجنة دار لا يرحل عنها من قطنها ، ولا يحزن من سكنها فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها ولا تنصرم همومها . كونوا قوماً متبصرين . ان معاوية دلف اليكم بعجم العرب غلف القلوب لا يفقهون الايمان ، ولا يدرون ما الحكمة ، دعاهم بالدنيا فاجابوه واستدعاهم الى الباطل فلبوه .
    فالله الله عباد الله في دين الله ، وإياكم والتواكل فان في ذلك نقض عروة الاسلام ، واطفاء نور الإيمان ، وذهاب السنة ... واظهار الباطل ، هذه بدر الصغرى والعقبة الأخرى .
    قاتلوا يا معشر الانصار والمهاجرين على بصيرة من دينكم واصبروا على عزيمتكم ، فكأني بكم غداً وقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة والبغال الشحاجة تضفع ضغع البقر ، وتروث روث العتاق ... الخ .


(343)
دارمية الحجونية
    لا يخفى ان قوة العقيدة ، وعزة النفس ، يسجلان للانسان اسمى الفضائل ، ويجعلان منه مثلاً ساميا وقدوة صالحة ، فلا تزيده مر الليالي والأيام الا رفعة واعظاماً .
    لقد سجل التاريخ على صفحاته موقف درامية الحجونية ، فسجل الصراع بين الحق والباطل وبين قوة السلاح وقوة العقيدة .
    حج معاوية بن ابي سفيان ، فسأل عن امرأة من بني كنانة ، كانت تنزل بالحجون ، يقال لها درامية الحجونية ، وكانت سوداء كثيرة اللحم فأخبر بسلامتها ، فبعث اليها فجيء بها .
    فقال : ما حالك يا بنة حام ؟ فقالت : لست لحام ان عبتني ، انا امرأة من كنانة . قال صدقت ، اتدرين لم بعثت اليك .
    قالت لا يعلم الغيب الا الله . قال : بعثت اليك لأسألك علام احببت علياً وابغضتني وواليته وعاديتني ؟
    قالت : او تعفيني يا امير . قال : لا اعفيك . قالت : اما اذا أبيت فاني احببت علياً على عدله في الرعية ، وقسمه بالسوية وابغضتك على قتالك من هو أولي منك بالأمر ، وطلبتك ما ليس لك بحق ، وواليت علياً على ما عقد له


(344)
رسول الله (ص) من الولاء وحبه للمساكين واعظامه لأهل الدين.
    وعاديتك على سفك الدماء ، وجورك في القضاء ، وحكمك بالهوى .
    قال : فلذلك انتفخ بطنك وعظم ثدياك ، وربت عجيزتك .
    قالت : يا هذا بهند والله كان يضرب المثل في ذلك ـ لا ـ بي .
    قال معاوية : يا هذه اربعي ، فانا لم نقل الا خيرا ، انه اذا انتفخ بطن المرأة ثم خلق ولدها ، واذا عظم ثدياها تروي رضيعها ، واذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها ، فرجعت وسكنت .
    قال لها : يا هذه هل رأيت علياً ؟ قالت : أي والله .
    قال : كيف رأيته ! قالت : رأيته والله لم يغتنه الملك الذي فتنك ، ولم تشغله النعمة التي شغلتك ، قال : فهل سمعت كلامه ؟
    قالت : نعم : والله كان يجلو القلب من العمى ، كما يجلو الزيت صدأ الطست . قال : صدقت . فهل لك من حاجة ؟
    قالت : او تفعل اذا سألتك ؟ قال : نعم . قالت : تعطيني مائة ناقة حمراء ، فيها فحلها وراعيها . قال : تصنعين بها ماذا ؟
    قالت : اغذوا بالبانها الصغار ، واستحيي بها الكبار واكتسب بها المكارم ، واصلح بها بين العشائر ، قال : فان اعطيتك ذلك ، فهل احل محل علي بن ابي طالب ؟
    قالت : ( ماء لا كصداء ، و مرعى ولا كالسعدان وفتى ولا


(345)
كمالك (1)
    ثم قال : أما والله لو كان علي حياً ، ما اعطاك منها شيئاً .
    قالت : لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين (2) .
(1) صداء : عين لم يكن عندهم ماء اعذب من مائها ـ والسعدان ، نبت ذو شوك ، وهو افضل مراعي الابل ولا تحسن على نبت حسنها عليه ـ ومالك : هو ابن نويرة ، وقد قال اخوه متمم هذا فيه لما قتله خالد بن الوليد .
(2) العقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي .



(346)
ام البراء بنت صفوان بن هلال
    ما اعظم الاسلام ، وما أجل قدره ، لقد بعث في قلوب المسلمين الجرأة والاقدام ، والتفاني في سبيل الله وعدم الاكتراث بأي تهديد او وعيد ، حتى لترى المرأة المسلمة الصالحة ليثاً هصوراً ، اتخذت من الايمان والعقيدة سلاحاً ماضياً ينحط عنده كل سلاح .
    « وأم البراء ، شاعرة ذات لسان فصيح ، ومنطق مبين ، وهي ممن دخلن على معاوية بن ابي سفيان ، فأستأذنت عليه فاذن لها ، فدخلت في ثلاثة دروع ، تسحبها ، قد كارت على رأسها كوراً ، كهئية المنسف فسلمت ثم جلست . فقال : كيف حالك يا بنت صفوان ؟
    قالت : بخير يا امير ، ضعفت بعد جلد ، وكسلت بعد نشاط .
    قال : سيان بينك اليوم وحين تقولين :
يا عمرو دونك صارماً ذا رونق اسرج جوادك مسرعـاً ومشمراً اجب الامـام ودب تحت لوائـه يا ليتني اصبحت ليـس بعورة عضب المهزة ليس بالخوار للحرب غيـر معـرد لفرار وافر العدو بصـارم بتـار فاذب عنه عساكر الفجـار
    قالت : قد كان ذلك يا امير ، ومثلك عفا والله تعالي يقول عفا الله عما سلف .


(347)
    قال : هيهات اما انه لو عاد لعدت ، ولكن اخترم دونك ، فكيف قولك حين قتل ؟ قالت ، نسيته يا امير . فقال بعض جلسائه هو والله حين تقول :
يا للرجال لعظـم هـول مصيبـة الشمـس كاسف لفقـد امـامـنـا يا خير من ركب المطي ومن مشى حاشا النبـي لقد هددت قـواءنـا فدحت فليس مصابها بالهازل خير الخلائق والامام العادل فوق التراب لمحتف او ناعل فالحق اصبح خاضعاً للباطل
    فقال معاوية : قاتلك الله يا بنت صفوان ، ما تركت لقائل مقالاً ، اذكري حاجتك .
    قالت : هيهات بعد هذا والله لا سألتك شيئاً ثم قامت فعثرت ، فقالت : تعس شأنيء علي (1) ...
    رحمك الله يا ام البراء ، هيهات ان تباع الضمائر الحرة ... ويسيطر القوي الغاشم على الاحرار الاوفياء اصحاب العقيدة والإيمان .
لا تخضعن لمخلوق على طمع واسترزق الله مما في خزائنـه فان ذلك وهن منك فـي الديـن فانما الأمر بين الكاف والنون (2)

(1) بلاغات النساء لابن طيفور ـ اعلام النساء عمر رضا كحالة وغيرهما .
(2) هذان البيتان من الديوان منسوب للامام علي عليه السلام .



(348)
آمنة بنت الشريد
    هي زوجة عمرو بن الحمق الخزاعي ، امرأة شجاعة ذات عقل ودين عزيزة الجانب فصيحة اللسان عظيمة الشأن ، ومن ذوات الشرف والمروءة .
    لقد جاهدت عن عقيدتها ورأيها ما استطاعت ، ولا فرق بالجهاد بين اللسان والسنان .
    قتل معاوية بن ابي سفيان زوجها عمرو بن الحمق ، لأنه كان من أصحاب علي بن ابي طالب عليه السلام وذلك حينما ظفر به بواسطة واليه عبد الرحمن بن الحكم . ولما قتله بعث براسه الى معاوية ( وهو اول راس حمل في الاسلام ) . وكان معاوية قد أخذ بالتنكيل من اصحاب علي عليه السلام : امثال : ( حجر بن عدي الكندي وأصحابه (رض) .
    « فلما اتى معاوية الرسول بالرأس ، بعث به الى آمنة بالسجن وقال للحرسي : احفظ ما تتكلم به حتى تؤديه الي ، واطرح الرأس في حجرها .
    ففعل هذا ، فارتاعت له ساعة . ثم وضعت يدها على رأسها وقالت : واحزنا لصغره في دار هوان ، وضيق من ضيمه سلطان ، نغيتموه عني طويلاً ، واهديتموه الي قتيلاً ، فاهلاً وسهلاً ، بمن كنت له غير قالية ، وانا اليوم له غير ناسية ، ارجع به ايها الرسول الى معاوية وقل له ولا تطوه دونه .
    « ايتم الله ولدك ، واوحش منك اهلك ، ولا غفر الله ذنبك » فرجع الرسول الى معاوية فأخبره بما قالت : فارسل اليها ، فاتته وعنده نفر فيهم


(349)
اياس بن حسل اخو مالك بن حسل وكان في شدقيه نتؤعن فيه لعظم كان في لسانه ، وثقل اذا تكلم . فقال لها معاوية :
    أأنت يا عدوة الله صاحبة الكلام الذي بلغني به ؟
    قالت : نعم غير نازعة عنه ولا معتذرة منه ولا منكرة له ، فلعمري اجتهدت في الدعاء ان نفع الاجتهاد ، وان الحق لمن وراء العباد ، وما بلغت شيئاً من جزائك ، وان الله بالنقمة من ورائك .
    فاعرض عنها معاوية ، فقال اياس : اقتل هذه يا امير المؤمنين ؟ فوالله ما كان زوجها احق بالقتل منها ، فالتفت اليه ، فلما رأته ناتئ الشدقين ، ثقيل اللسان ، قالت : تباً لك ويلك ، بين لحيتيك كجثمان الضفدع ثم انت تدعوه الى قتلي ، كما قتل زوجي بالأمس ، ان تريد إلّا ان تكون جباراً في الأرض وما تريد ان تكون من المصلحين ؟
    فضحك معاوية ثم قال : لله درك اخرجي ثم لا اسمع بك في شيء من الشام .
    قالت : وأبي لاخرجن ، ثم لا تسمع لي في شيء من الشام فما الشام لي بحبيب ولا أعرج فيها على حميم وما هي لي بوطن ، ولا احن فيها إلى سكن ، ولقد عظم فيها ديني ، وما قرت بها عيني ، وما أنا فيها إليك بعائدة ، ولا حيث كنت بحامدة . فاشار اليها ببنانه اخرجي ... فخرجت وهي تقول : واعجبي لمعاوية يكف عني لسانه ، ويشير إلى الخروج ببنانه ، أما والله ليعارضنه عمرو بكلام مؤيد شديد أوجع من نوافذ الحديد أو ما أنا بابنة الشريد من


(350)
كلام طويل (1) .
    خرجت آمنة بنت الشريد من الشام ، بعد ما لاقت من الذل والهوان ما يعجز عنه البيان ، في زنزانة معاوية بن أبي سفيان وجلاوزته ، وذلك طيلة عامين كاملين ، وليس لها من ذنب إلا العقيدة الراسخة والإيمان القوي وحرية الرأي الذي بعثه فيها الدين الإسلامي العظيم .
(1) بلاغات النساء لابن طيفور ـ اعلام النساء عمر رضا كحالة .