فرجعت امتثالاً لأمر الحسين عليه السلام .
وهذه هي حال المرأة الصالحة المسلمة ، التي لم تتوقف عن خوض المعارك والدفاع عن الدين والعقيدة ، ولم تعوزها الشجاعة والأقدام لو سمح لها الامام الحسين عليه السلام بالجهاد .
من ربات الفصاحة والبلاغة والبيان وقوة الحجة وحرية الرأي ، دخلت على معاوية فسلمت فقال لها :
يا عكرشة الآن صرت امير المؤمنين ؟ ... قالت : نعم اذ لا علي حي ... قال الست صاحبة الكور المسدول والوسيط المشدود ، والمتقلدة بحمائل السيف ، وانت واقفة بين الصفين يوم ( صفين ) تقولين :
يا ايها الناس عليكم بأنفاسكم لا يضركم من ضل اذ اهتديتم ، ان الجنة دار لا يرحل عنها من قطنها ، ولا يحزن من سكنها فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها ولا تنصرم همومها . كونوا قوماً متبصرين . ان معاوية دلف اليكم بعجم العرب غلف القلوب لا يفقهون الايمان ، ولا يدرون ما الحكمة ، دعاهم بالدنيا فاجابوه واستدعاهم الى الباطل فلبوه .
فالله الله عباد الله في دين الله ، وإياكم والتواكل فان في ذلك نقض عروة الاسلام ، واطفاء نور الإيمان ، وذهاب السنة ... واظهار الباطل ، هذه بدر الصغرى والعقبة الأخرى .
قاتلوا يا معشر الانصار والمهاجرين على بصيرة من دينكم واصبروا على عزيمتكم ، فكأني بكم غداً وقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة والبغال الشحاجة تضفع ضغع البقر ، وتروث روث العتاق ... الخ .
لا يخفى ان قوة العقيدة ، وعزة النفس ، يسجلان للانسان اسمى الفضائل ، ويجعلان منه مثلاً ساميا وقدوة صالحة ، فلا تزيده مر الليالي والأيام الا رفعة واعظاماً .
لقد سجل التاريخ على صفحاته موقف درامية الحجونية ، فسجل الصراع بين الحق والباطل وبين قوة السلاح وقوة العقيدة .
حج معاوية بن ابي سفيان ، فسأل عن امرأة من بني كنانة ، كانت تنزل بالحجون ، يقال لها درامية الحجونية ، وكانت سوداء كثيرة اللحم فأخبر بسلامتها ، فبعث اليها فجيء بها .
فقال : ما حالك يا بنة حام ؟ فقالت : لست لحام ان عبتني ، انا امرأة من كنانة . قال صدقت ، اتدرين لم بعثت اليك .
قالت لا يعلم الغيب الا الله . قال : بعثت اليك لأسألك علام احببت علياً وابغضتني وواليته وعاديتني ؟
قالت : او تعفيني يا امير . قال : لا اعفيك . قالت : اما اذا أبيت فاني احببت علياً على عدله في الرعية ، وقسمه بالسوية وابغضتك على قتالك من هو أولي منك بالأمر ، وطلبتك ما ليس لك بحق ، وواليت علياً على ما عقد له
(344)
رسول الله (ص) من الولاء وحبه للمساكين واعظامه لأهل الدين.
وعاديتك على سفك الدماء ، وجورك في القضاء ، وحكمك بالهوى .
قال : فلذلك انتفخ بطنك وعظم ثدياك ، وربت عجيزتك .
قالت : يا هذا بهند والله كان يضرب المثل في ذلك ـ لا ـ بي .
قال معاوية : يا هذه اربعي ، فانا لم نقل الا خيرا ، انه اذا انتفخ بطن المرأة ثم خلق ولدها ، واذا عظم ثدياها تروي رضيعها ، واذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها ، فرجعت وسكنت .
قال لها : يا هذه هل رأيت علياً ؟ قالت : أي والله .
قال : كيف رأيته ! قالت : رأيته والله لم يغتنه الملك الذي فتنك ، ولم تشغله النعمة التي شغلتك ، قال : فهل سمعت كلامه ؟
قالت : نعم : والله كان يجلو القلب من العمى ، كما يجلو الزيت صدأ الطست . قال : صدقت . فهل لك من حاجة ؟
قالت : او تفعل اذا سألتك ؟ قال : نعم . قالت : تعطيني مائة ناقة حمراء ، فيها فحلها وراعيها . قال : تصنعين بها ماذا ؟
قالت : اغذوا بالبانها الصغار ، واستحيي بها الكبار واكتسب بها المكارم ، واصلح بها بين العشائر ، قال : فان اعطيتك ذلك ، فهل احل محل علي بن ابي طالب ؟
قالت : ( ماء لا كصداء ، و مرعى ولا كالسعدان وفتى ولا
(345)
كمالك (1)
ثم قال : أما والله لو كان علي حياً ، ما اعطاك منها شيئاً .
قالت : لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين (2) .
(1) صداء : عين لم يكن عندهم ماء اعذب من مائها ـ والسعدان ، نبت ذو شوك ، وهو افضل مراعي الابل ولا تحسن على نبت حسنها عليه ـ ومالك : هو ابن نويرة ، وقد قال اخوه متمم هذا فيه لما قتله خالد بن الوليد .
(2) العقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي .
ما اعظم الاسلام ، وما أجل قدره ، لقد بعث في قلوب المسلمين الجرأة والاقدام ، والتفاني في سبيل الله وعدم الاكتراث بأي تهديد او وعيد ، حتى لترى المرأة المسلمة الصالحة ليثاً هصوراً ، اتخذت من الايمان والعقيدة سلاحاً ماضياً ينحط عنده كل سلاح .
« وأم البراء ، شاعرة ذات لسان فصيح ، ومنطق مبين ، وهي ممن دخلن على معاوية بن ابي سفيان ، فأستأذنت عليه فاذن لها ، فدخلت في ثلاثة دروع ، تسحبها ، قد كارت على رأسها كوراً ، كهئية المنسف فسلمت ثم جلست . فقال : كيف حالك يا بنت صفوان ؟
قالت : بخير يا امير ، ضعفت بعد جلد ، وكسلت بعد نشاط .
قال : سيان بينك اليوم وحين تقولين :
يا عمرو دونك صارماً ذا رونقاسرج جوادك مسرعـاً ومشمراًاجب الامـام ودب تحت لوائـهيا ليتني اصبحت ليـس بعورة
عضب المهزة ليس بالخوارللحرب غيـر معـرد لفراروافر العدو بصـارم بتـارفاذب عنه عساكر الفجـار
قالت : قد كان ذلك يا امير ، ومثلك عفا والله تعالي يقول عفا الله عما سلف .
(347)
قال : هيهات اما انه لو عاد لعدت ، ولكن اخترم دونك ، فكيف قولك حين قتل ؟ قالت ، نسيته يا امير . فقال بعض جلسائه هو والله حين تقول :
يا للرجال لعظـم هـول مصيبـةالشمـس كاسف لفقـد امـامـنـايا خير من ركب المطي ومن مشىحاشا النبـي لقد هددت قـواءنـا
فقال معاوية : قاتلك الله يا بنت صفوان ، ما تركت لقائل مقالاً ، اذكري حاجتك .
قالت : هيهات بعد هذا والله لا سألتك شيئاً ثم قامت فعثرت ، فقالت : تعس شأنيء علي (1) ...
رحمك الله يا ام البراء ، هيهات ان تباع الضمائر الحرة ... ويسيطر القوي الغاشم على الاحرار الاوفياء اصحاب العقيدة والإيمان .
لا تخضعن لمخلوق على طمعواسترزق الله مما في خزائنـه
فان ذلك وهن منك فـي الديـنفانما الأمر بين الكاف والنون (2)
(1) بلاغات النساء لابن طيفور ـ اعلام النساء عمر رضا كحالة وغيرهما .
(2) هذان البيتان من الديوان منسوب للامام علي عليه السلام .
هي زوجة عمرو بن الحمق الخزاعي ، امرأة شجاعة ذات عقل ودين عزيزة الجانب فصيحة اللسان عظيمة الشأن ، ومن ذوات الشرف والمروءة .
لقد جاهدت عن عقيدتها ورأيها ما استطاعت ، ولا فرق بالجهاد بين اللسان والسنان .
قتل معاوية بن ابي سفيان زوجها عمرو بن الحمق ، لأنه كان من أصحاب علي بن ابي طالب عليه السلام وذلك حينما ظفر به بواسطة واليه عبد الرحمن بن الحكم . ولما قتله بعث براسه الى معاوية ( وهو اول راس حمل في الاسلام ) . وكان معاوية قد أخذ بالتنكيل من اصحاب علي عليه السلام : امثال : ( حجر بن عدي الكندي وأصحابه (رض) .
« فلما اتى معاوية الرسول بالرأس ، بعث به الى آمنة بالسجن وقال للحرسي : احفظ ما تتكلم به حتى تؤديه الي ، واطرح الرأس في حجرها .
ففعل هذا ، فارتاعت له ساعة . ثم وضعت يدها على رأسها وقالت : واحزنا لصغره في دار هوان ، وضيق من ضيمه سلطان ، نغيتموه عني طويلاً ، واهديتموه الي قتيلاً ، فاهلاً وسهلاً ، بمن كنت له غير قالية ، وانا اليوم له غير ناسية ، ارجع به ايها الرسول الى معاوية وقل له ولا تطوه دونه .
« ايتم الله ولدك ، واوحش منك اهلك ، ولا غفر الله ذنبك » فرجع الرسول الى معاوية فأخبره بما قالت : فارسل اليها ، فاتته وعنده نفر فيهم
(349)
اياس بن حسل اخو مالك بن حسل وكان في شدقيه نتؤعن فيه لعظم كان في لسانه ، وثقل اذا تكلم . فقال لها معاوية :
أأنت يا عدوة الله صاحبة الكلام الذي بلغني به ؟
قالت : نعم غير نازعة عنه ولا معتذرة منه ولا منكرة له ، فلعمري اجتهدت في الدعاء ان نفع الاجتهاد ، وان الحق لمن وراء العباد ، وما بلغت شيئاً من جزائك ، وان الله بالنقمة من ورائك .
فاعرض عنها معاوية ، فقال اياس : اقتل هذه يا امير المؤمنين ؟ فوالله ما كان زوجها احق بالقتل منها ، فالتفت اليه ، فلما رأته ناتئ الشدقين ، ثقيل اللسان ، قالت : تباً لك ويلك ، بين لحيتيك كجثمان الضفدع ثم انت تدعوه الى قتلي ، كما قتل زوجي بالأمس ، ان تريد إلّا ان تكون جباراً في الأرض وما تريد ان تكون من المصلحين ؟
فضحك معاوية ثم قال : لله درك اخرجي ثم لا اسمع بك في شيء من الشام .
قالت : وأبي لاخرجن ، ثم لا تسمع لي في شيء من الشام فما الشام لي بحبيب ولا أعرج فيها على حميم وما هي لي بوطن ، ولا احن فيها إلى سكن ، ولقد عظم فيها ديني ، وما قرت بها عيني ، وما أنا فيها إليك بعائدة ، ولا حيث كنت بحامدة .
فاشار اليها ببنانه اخرجي ... فخرجت وهي تقول : واعجبي لمعاوية يكف عني لسانه ، ويشير إلى الخروج ببنانه ، أما والله ليعارضنه عمرو بكلام مؤيد شديد أوجع من نوافذ الحديد أو ما أنا بابنة الشريد من
(350)
كلام طويل (1) .
خرجت آمنة بنت الشريد من الشام ، بعد ما لاقت من الذل والهوان ما يعجز عنه البيان ، في زنزانة معاوية بن أبي سفيان وجلاوزته ، وذلك طيلة عامين كاملين ، وليس لها من ذنب إلا العقيدة الراسخة والإيمان القوي وحرية الرأي الذي بعثه فيها الدين الإسلامي العظيم .
(1) بلاغات النساء لابن طيفور ـ اعلام النساء عمر رضا كحالة .