(351)
عمرة بنت النعمان الانصارية
    ان التاريخ يحدثنا عن مسلمات صالحات ، كمن مرَّ ذكرهن ، اذ أن المرأة المسلمة العربية المؤمنة ، الصادقة بعقيدتها قد قامت بدور عظيم في مجال التوجيه الاجتماعي والديني والأخلاقي والسياسي .
    ان حادثة عمرة بنت النعمان بن بشير الأنصارية من أروع الحوادث التي تدلنا على تمسك المرأة المؤمنة بالعقيدة والوقوف بجانب الحق مما جعلها تسير في صف أعاظم الرجال .
    كانت عمرة بنت النعمان زوجة المختار الثقفي (1) الذي قتله مصعب بن الزبير بعد انتصاره عليه في الحرب التي دارت بينهما .
    وبعد مقتل المختار أرسل مصعب وأحضر عمرة بنت النعمان زوجة المختار وطلب منها أن تتبرأ من زوجها أمام الناس وتطعن في دينه .
(1) المختار الثقفي هو الذي قام بأخذ ثأر الحسين عليه السلام . ممن قتله ، او أشرك بدمه وكان شعاره : يا لثارات الحسين : ولما قتل المختار عبيد الله بن زياد واتباعه لعنهم الله ... استتب الامر للمختار . وبعث عبد الله بن الزبير اخاه مصعباً الى العراق واليا . فدارت بين المختار وبين مصعب معارك كثيرة كانت الغلبة فيها لمصعب على المختار فقتله وقتل زوجته عمرة . فرحم الله المختار وزوجته شهداء العقيدة والمبدأ .


(352)
    ولكن عمرة وقفت مواقف الاشراف الأباة ، وهيهات أن تذل الحرة ، وتبيع عقيدتها ، أمر مصعب بقتلها لعلها تنهار أمام التهديد والخوف . واستعمل جميع وسائل الإغراء من بذل المال وأطماعها بالجاه ، وغير ذلك .
    لكنه وقف أمام عقيدتها الراسخة ووفائها وصمودها الجبار عاجزاً مقهوراً . فباء بالفشل والخيبة ، و لم تنفعه الحيل .
    بعد ذلك أمر أن توضع ( عمرة بنت النعمان ) في حفرة وأمر السياف أن يقف على رأسها ووقف مصعب بجانبها يتوعدها تارة ويتهددها اخرى .
    لكن عمرة لم تكترث بالموت ، ولم تبالي بما يحيط بها من دواعي الشربل انطلقت تقول بصوت ملؤه الإيمان بالله ، تصرخ في وجوه الظالمين : كيف اتبرأ من رجل يقول ربي الله !؟ اني اعهده صائماً نهاره ، قائماً ليله ، وقد بذل دمه في سبيل الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم « شهادة أرزقها ثم اتركها ! الله اشهد اني متبعة لنبيك وابن بنته ... وأهل بيته .. وشيعته .
    وحينما ابت عمرة الانصياع لمصعب وراعه صمودها أمام السياف فضربها ثلاث ضربات على رأسها حتى ماتت ، وهي باقية على عقيدتها .
    وفي مقتل عمرة بنت النعمان الانصارية ، قال عمر بن ابي ربيعة :
ان من أعجب الاعاجيب عندي قتلوها ظلماً ومن غير جـرم كتب القتـل والقتـال علينـا قتل بيضاء حرة عطبول ان للّـه درها من قتيـل وعلى الغانيات جر الذيول (1)

(1) حادثة عمرة بنت النعمان الانصارية . ذكرت بعدة اوجه :
ذكرها الطبري في تاريخه ، وابن عبد ربه الاندلسي في العقد الفريد ـ والسيد علي فضل الله الحسني في الاخلاق الاسلامية وغيرهم .



(353)
    ولا ننسى ان نذكر ( اروى بنت عبد المطلب ) تلك المرأة الجليلة صاحبة المراثي من الشعر الجيد .
    وكذلك أم هاني بنت ابي طالب التي اجارت من استجار بها يوم فتح مكة فقال لها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ( لقد اجرنا من اجرت وامنا من امنت ) .
    وعندما مات زوجها هبيرة المخزومي خطبها رسول الله (ص) فقالت له : يا رسول الله لأنت أحب إلي من سمعي وبصري ، وحق الزوج عظيم ، فاخشى ان اقبلت على زوجي ، ان اضيع بعض شأني وولدي ، وان اقبلت على ولدي ان اضيع حق الزوج ...
    فقال رسول الله (ص) : ان خير نساء ركبن الإبل نساء قريش ، احناهن على ولد في صغره ، وارعاهن على بعل في ذات يده .
    وكانت رواية من راويات الحديث .
    وكذلك اسماء بنت عميس التي اسلمت قبل دخول رسول الله (ص) دار الأرقم بمكة ، وهاجرت مع زوجها عبد الله بن جعفر إلى الحبشة ، وروت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروى عنها الكثير من اجلاء الصحابة كعبد الله بن العباس ، وعمر بن خطاب ، وحفيدها القاسم بن محمد بن ابي بكر وابناها عبدالله وعون ابناء جعفر بن ابي طالب وحفيدتها أم عون بنت محمد بن جعفر وعروة بن الزبير وغيرهم .
    وعائشة أم الدرداء التي برعت في الفقه والدراية وهي القائلة « لقد طلبت العبادة في كل شيء فما أصبت لنفسي أشفى من مجالسة العلماء ومذاكرتهم » .
    ولو سلكن المسلمات اليوم طريق المسلمات الأول وانتهجن المنهج الصحيح الذي كانت تسيطر عليه المبادئ الاسلامية العظيمة من قوة العزيمة ، وطهارة
المرأة في ظل الإسلام م ـ (23)


(354)
القلوب ، وبراءة النفوس ، وصدق النية والأخلاص في العمل في سبيل العقيدة والشرف ، لأصبحت المرأة المسلمة في عصرنا الحاضر القدوة الصالحة لجميع نساء العالم .
    ولكن هيهات ... ان يسجل التاريخ أمثال المسلمات الاوائل ، إلا اذا رجعن نساء اليوم الى حظيرة الدين والايمان .
    لأن الدين هو النور الذي يرينا خفايا أسرار الوجود ، والأمل الوضاء الذي ينعش انفسنا ويضيء أمامنا الطريق نحو الحرية والكرامة .


(355)
بعض نوابغ النساء المسلمات
في القرن الثاني والثالث وما بعدهما
    أما في العهد العباسي وذلك عندما أصبحت بغداد مقر الأمبراطورية الإسلامية ، وازدهرت دور العلم ، وتوافد اليها العلماء والأدباء .
    لقد كان الخليفة العباسي « المأمون » عالماً فيلسوفاً يعقد مجالس العلم ويناظر فيها ، ويبذل الأموال الطائلة في سبيل الترجمة والتأليف .
    أما وقد أصبح الناس في ذلك العهد يقدرون الأشخاص بمقدار نصيبهم من العلم والآدب فمن الطبيعي ان تلتمس المرأة طريقها في هذا المضمار ، وتأخذ منه مقداراً يحمل القوم على حبها واحترامها .
    منهن السيدة زبيدة زوجة الرشيد ، لم تقتصر على مشاريعها الخيرية التي لا تزال باقية حتى الان ، فإنها كانت على جانب من الأدب .
    قالت تخاطب ابنها الأمين في قصيدة طويلة منها :
نفسي فداؤك لا يذهب بك التلف ففي بقاءك ممن قد مضى خلف
    ولها أشعار كثيرة في رثاء ولدها الأمين ، ومدح المأمون والشكاية من طاهر بن الحسين قاتل ولدها .
    وكان لبعض النساء في العهد العباسي مساهمة فعالة ، فشاركن في العلوم


(356)
الدينية ، واللسانية ، والأدبية ، وفي التأليف والترجمة .
    وتصدر بعضهن للدرس والتدريس ، ومنح بعضهن اجازات من علماء أماثل .
    ومن النساء المشتغلات في حقل العلم بنت الشريف المرتضى ، كانت عالمة فاضلة روت كتاب « نهج البلاغة » عن عمها السيد الشريف الرضي رحمة الله عليه . وروى عنها الكثير من العلماء (1) .
(1) اعلام النساء ـ عمر رضا كحالة .


(357)
السيدة نفيسة بنت الحسن
    ومن النساء المجاهدات اللواتي يأمرن بالمعروف وينهين عن المنكر السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن ابي طالب (ع) .
    عالمة جليلة ، وعابدة ورعة ، وتقية زاهدة ، حفظت القرآن وتفسيره ، وقد حضر اليها الامام الشافعي ، وسمع عليها الحديث .
    وكان بشر بن الحارث يعودها لشؤون علمه ، و استجار بها لتقواها الامام احمد بن حنبل في ان تدعو له بالمغفرة ، وقد سألها الامام الشافعي يوماً من وراء حجاب لتدعو له ، وصلت على جنازته يوم وفاته .
    ذهبت الى مصر مع زوجها اسحاق بن جعفر الصادق « المؤتمن » وقيل انه لما ظلم احمد بن طولون ، استغاث الناس من ظلمه ، وتوجهوا الى السيدة نفيسة يشكونه اليها . فقالت لهم : متى يركب ؟ قالوا : في غدٍ .
    فكتبت رقعة : ووقفت بها في طريقه وقالت : يا احمد بن طولون ... فلما رآها عرفها فترجل عن فرسه ، وأخذ منها الرقعة وقرأها فاذا فيها :
    ملكتم فأسرتم ، وقدرتم فقهرتم ، وخولتم فعسفتم ، وردت اليكم الارزاق فقطعتم هذا وقد علمتم ان سهام الاسحار نافذة ، غير مخطئة لا سيما من قلوب اوجعتموها ، واكباد جوعتموها ، واجساد عريتموها فمحال ان يموت المظلوم ويبقى الظالم .


(358)
    اعملوا ما شئتم فانا صابرون وجوروا فانا بالله مستجيرون ، واظلموا فانا الى الله متظلمون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .

قصة امرأة تطلب الانصاف عند المأمون
    « جلس المأمون يوماً للمظالم ، فكان آخر من تقدم إليه ... وقد همَّ بالقيام ، امرأة عليها هيئة السفر ، وعليها ثياب رثة ، فوقفت بين يديه فقالت : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته .
    فنظر المأمون الى يحيى بن اكثم ، فقال لها يحيى : وعليك السلام يا أمة الله تكلمي بحاجتك ، قالت :
يا خير منتصف يهدى له الرشد تشكو اليك عميد القوم ارملـة وابتز مني ضياعي بعد منعتها ويا اماماً به قد اشرق البلـد عدَّ عليها فلم يترك لها سبـد (1) لما تفرَّق عنها الأهل والولد
    فأطرق المأمون حيناً ثم رفع رأسه إليها وهو يقول :
فـي دون ما قلت زال الصبـر والجلد هذا اذان صلاة العصـر فانصرفـي فالمجلس السبت ان يقضى الجلوس لنا عنـي واقـرح منـي القلب والكبـد واحضري الخصم في اليوم الذي أعد ننصفك منـه وإلا المجلـس الأحـد

(1) السبد : الشعر ، ويكنى به عن الابل ، كما يكني بالوبر عن الغنم ، فيقال : ماله سبد ولا لبد ، اي ذو وبر ، ولا صوف متلبد ؛ يريد ابلا ، وغنماً .


(359)
    فلما كان يوم الأحد جلس ، فكان اول من تقدم اليه تلك المرأة .
    فقالت : السلام عليك يا امير المؤمنين ورحمة الله وبركاته .
    فقال : عليك السلام ، ثم قال : اين الخصم ؟
    فقالت : الواقف على رأسك يا امير المؤمنين ... واومأت الى ابنه العباس ...
    فقال : يا احمد بن ابي خالد ، خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم .
    فجعل كلامها يعلو كلام العباس . فقال لها احمد بن ابي خالد : يا أمة الله انك بين يدي امير المؤمنين ، وانك تكلمين الأمير فاخفضي من صوتك .
    فقال المأمون : دعها يا احمد فان الحق انطقها ، والباطل اخرسه ثم قضى لها برد ضيعتها اليها ( وظلم العباس بظلمه لها ) وأمر بالكتاب لها الى العامل الذي ببلدها ، ان يوغر لها ضيعتها (1) ويحسن معونتها ، وأمر لها بنفقة » (2) .

    بوران زوجة المأمون
    كانت النساء المسلمات يعقدن مجالس العلم والأدب للمناظرة والمساجلة .
    فمن النساء اللواتي برزن في ميدان العلم السيدة بوران زوجة المأمون ( الخليفة العباسي ) كانت فارسية الأصل جمعت بين الكرامة الاسلامية
(1) يوغر لها ضيعتها ـ اي يسقط عنها خراجها .
(2) عن كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي ... والاخلاق الاسلامية للسيد علي فضل الله الحسني .



(360)
والكياسة الفارسية .
    عرفت بالذكاء والفطنة والفهم والأدب وحسن التصرف ، وأقامت في بغداد المدارس والمستشفيات .

قطر الندى زوجة المعتضد بالله
    ومن النساء الشهيرات المعروفات بالذكاء والفطنة والمقدرة قطر الندى زوجة المعتضد بالله العباسي وأم المكتفي ، كانت عالمة فذة ، خبيرة بالشريعة الإسلامية والقضاء .
    قامت بالوصاية على ابنها قبل ان يبلغ سن الرشد ، وادارت الأحكام ، وقضت بنفسها بين الناس .
    أحاط بها كثيرون ، وكثيرات من الشعراء والشاعرات ، والأدباء والأديبات ، وأهل الرأي والحزم .
    ولا ننسى شهدة الملقبة بفخر النساء في القرن الخامس الهجري كانت تلقي دروساً في الأدب والتاريخ في جامع بغداد على الجمهور .
    وكان لها منزلة علمية كبيرة في التاريخ الاسلامي ، ولهذا كان يحضر دروسها كثير من العلماء والفضلاء .
    ولبنى وهي الكاتبة في ديوان الخليفة الحكم بن عبد الرحمان ، المجيدة للكتابة ، الشاعرة العالمة في النحو ، المتينة في الحساب وفنونه وقد توفيت سنة (392) هجرية (1) .
(1) عظمة الرسول ـ محمد عطية الابراشي .