مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 351 ـ 360
(351)
بِإِذْنِاللّهِ ). (1)
    يقال : خلقت الأديم للسقاء ، إذا قدرته ، ويقال أيضاً : خلق العود : سوّاه. (2)
    وأمّا إذا تعلّق الخلق بالشيء ونسب إليه من دون أن تقترن بمادة خاصة ، فيراد منه الإبداع والإيجاد من كتم العدم ، كقوله سبحانه : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ). (3)
    نعم دلت البراهين الفلسفية على أنّ « الخلق » لا ينفك عن الإيجاد والإبداع حتى في القسم الأوّل ، فإنّ المادة وإن كانت موجودة لكن الصورة ـ لا شك ـ إنّها أبداعية قطعاً ، كقوله سبحانه : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَاب ثُمَّ مِنْ نُطْفَة ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ). (4)
    ولعلّه لذلك اكتفى ابن فارس في مقاييسه في توضيح معنى الخلق بالمورد الأوّل أي التقدير ولم يذكر المورد الثاني اعتماداً بأنّ التقدير لا ينفك عن الإيجاد والإبداع كما أنّ الإيجاد لا ينفك عن التقدير ، كما صرح بقوله : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ). (5)
    1 ـ آل عمران : 49.
    2 ـ المقاييس لابن فارس : 2/214 ، والقاموس المحيط : مادة خلق.
    3 ـ الفرقان : 2.
    4 ـ غافر : 67.
    5 ـ الفرقان : 2.


(352)
    ثم إنّه وقع النزاع في صحة استعمال لفظ الخلق في الأفعال ، لغة ، وانّه هل يتعلّق الخلق بالأفعال كتعلّقه بالذوات ، أو أنّه لا يتعلّق إلاّ بالذوات ، وأمّا الأفعال والأحداث فيتعلّق بها الإيجاد ، والإنسان موجد لفعله لا خالق له ، فيقال : أوجد فعله ولا يقال : خلقه.
    وربما يستدل على صحة تعلّقه بالفعل والعمل بقوله تعالى : ( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ). (1)
    والشاهد هو قوله : ( خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) غير انّه يمكن أن يقال : انّ المراد من الموصول في قوله : ( وَمَا تَعْمَلُونَ ) هو الأصنام التي كانوا يعملونها وينحتونها بقرينة ما سبقها من الآيات ، أعني قوله : ( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ) والمقصود انّ اللّه خلقكم وخلق الأصنام التي تصنعونها ، ويكون وزان الآية وزان قوله سبحانه : ( يَعمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَان كَالْجَوَابِ ). (2)
    وبذلك يسقط الاستدلال بالآية.
    وربما يستدل على نفي صحة اسناد الخلق إلى غيره سبحانه بقوله تعالى : ( أَيُشْرِكُونَ مَالاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) . (3). (4)
    فإنّ الظاهر من قوله ( لا يَخْلُقُ شَيْئاً ) انّ كل معبود سواه لا يخلق شيئاً ولا
    1 ـ الصافات : 93 ـ 96.
    2 ـ سبأ : 13.
    3 ـ الأعراف : 191.
    4 ـ ومثله الآية 20 من سورة النحل والآية 3 من سورة الفرقان.


(353)
يقال لفعله انّه مخلوق ولا لنفسه انّه خالق.
    غير انّ الإجابة عن هذا الاستدلال أيضاً واضحة ، فإنّ المراد بعد الغض عن احتمال كون المراد الأصنام المنحوتة لا كل موجود سواه ، نفي الخالقية اللائقة لساحته سبحانه ، وهي الخالقية المستقلة غير المعتمدة على شيء ومن المعلوم أنّ الخالقية بهذا المعنى لا يقدر عليها أحد.
    إذا وقفت على استدلال الطرفين من حيث صدق الخلق على الفعل وعدم صدقه ، فهلمّ معنا نوقفك على الحقيقة وانّه هل يجوز استعمال لفظ الخلق في مورد الأعمال وعدمه؟
    فنقول : أمّا أوّلاً : لا شك أنّ الخلق يتعلّق بالفعل كما يتعلّق بالذات ، كما في قوله سبحانه : ( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ). (1)
    فإنّ قوله سبحانه : ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) بمعنى تقولون : كذباً ، فليس الكذب والصدق إلاّ من أفعال البشر.
    وفي الحديث :
    « خلقت الخير وأجريته على يدي من أحب وخلقت الشر وأجريته على يدي من أُريد ».
    قال الطريحي في تفسير الحديث : المراد بخلق الخير والشر خلق تقدير لا خلق تكوين ، ومعنى التقدير نقوش في اللوح المحفوظ ، ومعنى خلق التكوين
    1 ـ العنكبوت : 17.

(354)
وجود الخير والشر في الخارج ، وهو من أفعالنا وقد ورد في الحديث يا خالق الخير والشر. (1)
    وثانياً : سلمنا أنّ الخلق لا يتعلّق بالفعل غير أنّ عمومية المتعلّق في الآيات الواردة في هذا الفصل التي تخص الخالقية باللّه سبحانه كقوله : ( خَلَقَ كُلَّ شَيْء ) وقوله : ( قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلَّ شَيْء ) أو قوله : ( هَلْ مِنْ خَالِق غَيرِ اللّه ) تكون قرينة على أنّ المراد من الخلق في الآيات هو مطلق الإيجاد والإبداع ، سواء تعلّق بالذات أو بالفعل ، فيستدل بعموم المتعلّق (كل شيء) مثلاً على إلغاء الخصوصية المتوهمة في لفظ الخلق من أنّه لا يتعلّق إلاّ بالذوات دون الأفعال.
    إنّ عناية القرآن بطرح متعلّق الخلق بشكل عام عناية لا يرى مثلها في غيره تكون قرينة على أنّ المراد هو نفي وجود أي مؤثر أو موجود مستقل في صفحة الوجود دون اللّه ، وقد ذكر علماء المعاني ، انّ خصوصية الفعل ربّما يسري إلى المتعلّق فيخرجه عن السعة ، فإذا قال القائل : لا تضرب أحداً ، ينصرف لفظ الأحد بقرينة « لا تضرب » إلى الحي وإن كانت تلك اللفظة عامة تشمل الحي الميت.
    وقد يعكس فتكون سعة المتعلّق قرينة على شمول الفعل وعموميته ، كما لا يخفى مثلاً أنّ قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ) (2) وإن كان خاصاً من جهة الموصول والصلة بالعاقل فلا يشمل إلاّ دعوة العقلاء ، إلاّ أنّ قوله من دون اللّه قرينة على أنّ الممنوع هو دعوة مطلق غير اللّه عاقلاً كان أو غيره ،
    1 ـ مجمع البحرين مادة خلق ، ولا يخفى أنّه كما تكون ذوات الأشياء خيراً وشراً كذلك تكون الأفعال خيراً وشراً ، بل نسبة الخير والشر إلى الذوات كصحة البدن والمال إنّما هي باعتبار كونها مبدأ للخير والشر.
    2 ـ الحج : 73.


(355)
وبذلك يظهر أنّ للعموم الحاكم على المتعلّق في الآيات ، أعني قوله تعالى : ( كُلَّ شَيْء ) ، وإضرابه دليلاً على أنّ المقصود حصر مطلق الخلق المتعلّق بالذوات والأفعال باللّه سبحانه.
    ثالثاً : انّ المقصود من التوحيد في الخالقية هو التوحيد في التأثير والإيجاد سواء أصح إطلاق الخلق عليه أم لا. (1) والمراد أنّ كل موجود ممكن غير مستقل في ذاته غير مستقل في فعله وتأثيره أيضاً ، لأنّ غير المستقل في الذات والقوى والطاقات غير مستقل في أعمال هذه القوى والاستفادة من هذه الطاقات ، إلاّ أنّ كون الفاعل غير مستقل ليس بمعنى كونه مجبوراً ومضطراً في أعمال هذه القوى والطاقات ، بل هو مخير في أعمالها على أي نحو شاء.
    وتظهر حقيقة هذا المعنى بالتدبّر في الآيات التي تصف اللّه تبارك وتعالى بالقيومية كما في قوله سبحانه : ( اللّهُ لاَ إِله إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) (2). (3)
    فإنّ معنى القيومية ليس إلاّ قيام ما سوا هـ من ذات وفعل ومؤثر وأثر ـ به سبحانه ومعه كيف يمكن أن نصف الموجودات الإمكانية بالاستقلال في الفاعلية والتأثير.

سؤال في المقام
    إذا كان المشركون لا يشكّون في موضوع « التوحيد في الخالقية » ، فلماذا نجد
    1 ـ نعم عند ذاك لا تصلح الآيات الحاصرة للخلق باللّه سبحانه للاستدلال في المقام إلاّ بضرب من التأويل ، ولابد من الاستدلال بالآيات التي تحصر القيومية باللّه سبحانه وغيرها من الآيات.
    2 ـ البقرة : 255 ، وآل عمران : 2.
    3 ـ وقوله سبحانه : ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَيُّومِ ) (طه : 111).


(356)
القرآن ينهض لذم المشركين ، ويذكرهم بأنّ معبوداتهم لم تخلق شيئاً؟ كقوله : ( هَذَا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَل مُبِين ). (1)
    ( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لإنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً ). (2)
    ( أَمْ جَعَلُوا للّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) . (3)
    ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ). (4)
    ( اللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْء سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ). (5)
    ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمواتِ ) . (6)
    الجواب : انّ الهدف من التذكير بخالقية اللّه وحده وسلب الخالقية من غيره ليس لأنّ المشركين كانوا يعتبرون الأوثان خالقة ، إنّما الهدف من طرح « حصر الخالقية باللّه ونفيها من الأصنام » هو في الحقيقة « ردع » المشركين من عبادة غير اللّه
    1 ـ لقمان : 11.
    2 ـ الفرقان : 3.
    3 ـ الرعد : 16.
    4 ـ الحج : 73.
    5 ـ الروم : 40.
    6 ـ فاطر : 40.


(357)
تعالى ، ذلك لأنّ العبادة إنّما يستحقها من يكون متصفاً بالكمال ومنزّهاً عن أية نقيصة أو عائبة ، وأي كمال أعلى من الاتصاف بالخالقية التي أسبغ صاحبها لباس الوجود على كل شيء مما سواه؟
    وبعبارة أُخرى فإنّ العبادة من مقتضيات المالكية والمملوكية ، الناشئتين من الخالقية والمخلوقية ، وإذ يعترف المشركون بأنّ اللّه هو الخالق دون سواه ، فلماذا يعبدون غيره؟ ولماذا لا يجتنبون عن عبادة من سواه؟
    وعلى هذا الأساس فإنّ إصرار القرآن الكريم ليس لأنّ المشركين كانوا يشكون في « التوحيد الخالقي » وغافلين عن هذه الحقيقة الساطعة الثابتة ، بل لأنّهم كانوا غافلين عن لوازم التوحيد الخالقي ، وهو : التوحيد في العبادة ، فأراد اللّه بالتذكير بهذه الحقيقة أنّ يلفت نظرهم إلى لازمه وهو « التوحيد في العبادة ».
    هذا وقد نقلنا لك فيما مضى بعض هذه الآيات. (1)
    وقد ذكرت هذه الحقيقة (أي حصر الخالقية في اللّه تعالى) في آيات أُخرى بعبارة ( الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) ، مثل قوله : ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ). (2)
    ( أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ بِقَادِر عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ). (3)
    1 ـ راجع الآيات التالية : الأنعام : 102 ، فاطر : 3 ، الزمر : 62 ، غافر : 62 ، الحشر : 24 وغيرها.
    2 ـ الحجر : 86.
    3 ـ يس : 81.


(358)
    وصفوة القول : إنّ السبب وراء طرح « حصر الخالقية في اللّه » ونفيها عمّا سواه ، وكذا التنديد بالأوثان والأصنام بأنّها لا تقدر على خلق ذبابة ، (1) وغير ذلك هو تنبيه الضمائر الغافلة عن عبادة اللّه وحده ، لأنّه مع اعتراف المشركين بانحصار الخالقية في اللّه ونفيها عن المعبودات الأُخرى (المصطنعة) ينبغي أن يعبدوا اللّه وحده ، الذي خلق كل شيء وأخرج جميع الموجودات من العدم إلى حيز الوجود والتحقّق لا أن يعبدوا ما سواه ، من الأوثان والأصنام العاجزة عن فعل أو خلق شيء حتى ذبابة أو دفعها عن نفسها ، وهذا هو ما تريد هذه الآيات التنبيه إليه.

سؤال
    إذا لم يكن في الوجود من خالق غير اللّه ، فكيف يصف القرآن عيسى المسيح ( عليه السَّلام ) بأنّه يخلق أيضاً حيث يقول حاكياً عنه : ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) (2)؟
    ثم كيف يصف اللّه نفس هـ بعد أن يذكر مراحل خلقه للإنسان ـ بأنّه ( أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) ، وفي ذلك اعتراف ضمني بوجود « خالقين » آخرين إلى جانب اللّه ، إذ يقول : ( فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (3)؟
    1 ـ الحج : 73 ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً ).
    2 ـ آل عمران : 49.
    3 ـ المؤمنون : 14.


(359)
    انّ الجواب : يتضح من التوجه إلى « استقلال » اللّه في التأثير والفعل ، و« عدم استقلال » غيره في مقام الذات والفعل.
    فالخالقية المنحصرة في اللّه غير قابلة لاتصاف الغير بها ، ولا قابلة لإثباتها للغير ، إذ هو مستقل أصيل في خلقه بمعنى أنّه لا يعتمد على شيء ولا يستعين بأحد ولا يحتاج لأذن آذن ، ومن المعلوم أنّ القرآن الكريم لم يصف أحداً بمثل هذه الخالقية دون اللّه تعالى.
    أمّا الخلق والخالقية التي يكون المتصف بها معتمداً على اللّه ، ومحتاجاً إلى قدرته وإرادته وعونه ، فهي يمكن أن تثبت للمخلوقين ، إذ لا مشاركة حينئذ مع اللّه في الصفة الثابتة له المذكورة سابقاً.
    فكل شيء من أشياء هذا الوجود يكون خالقاً في حد نفسه عندما يكون مؤثراً لأثر وسبباً لمسبب ، ولا ريب أنّ إثبات هذا النوع من الخالقية لغير اللّه لا ينافي « التوحيد الخالقي » على النحو الذي مر تفسيره وبيانه.
    وربما يجاب عن هذا السؤال بأنّ لفظة « الخلق » تطلق ويراد منها الإيجاد من العدم تارة وأُخرى التقدير ، والمراد من قوله سبحانه : ( أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) هو المعنى الثاني ، أي أقدر لكم من الطين كهيئة الطير.
    غير انّ هذا الجواب لا يخالف مع ما اخترناه في هذا الفصل ، فانّ التقدير وإن كان فعلاً للمسيح ، إلاّ أنّه بما هو ظاهرة كونية يحتاج إلى فاعل ، وليس الفاعل القريب إلاّ المسيح ( عليه السَّلام ) ، ولكنه ليس مستقلاً في فعله هذا ، كما هو ليس مستقلاً في ذاته وإلاّ تلزم الثنوية في الفاعلية المستقلة ، على ما أوضحنا برهانه فالتقدير مع كونه فعلاً له ، فعل للّه سبحانه ، ونعم ما قاله الحكيم السبزواري في منظومته


(360)
الفلسفية :
و كيف فعلنا إلينا فوضا لكن كما الوجود منسوب لنا وإنّ ذا تفويض ذاتنا اقتضى فالفعل فعل اللّه وهو فعلنا (1)
سؤال آخر
    إنّ حصر الخالقية في اللّه سبحانه ربما يستشم منه القول بالجبر ويكون المسؤول عن فعل العبد هو خالق الفعل والمفروض إنّه لا خالق سوى اللّه؟
الجواب
    إنّ هذا الإشكال ـ في الحقيقة ـ إنّما يتجه ويصح إذا قلنا بأحد الأصلين التاليين ، وهما :
    1. إنكار علّية أية ظاهرة من الظواهر الطبيعية ، وإحلال خالقيته سبحانه مكان العلل الطبيعية ، كما هو الظاهر من كل من أنكر قانون العلية في الأشياء وأراح نفسه بعادة اللّه.
    2. أن نعترف بعلية الموجودات الأُخرى ومشاركتها المباشرة في الآثار والأفعال ، ولكن نعتقد بوجود نوع واحد من العلة في العالم فقط وهو العلة المضطرة المسيرة ، لا أكثر.
    فمع قبول أحد هذين الأصلين يتوجه الإشكال المذكور على ما قلناه ويتجه ولكن إذا أنكرنا كلا الأصلين المذكورين اتضح جواب الإشكال.
    فبالنسبة للأصل الأوّل بحثنا فيما سبق وأوضحنا كيف أنّ البراهين الفلسفية
    1 ـ شرح المنظومة : 175.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس