مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 361 ـ 370
(361)
والقرآنية تعترف وتؤكد « رابطة العلية والمعلولية » بين الموجودات وآثارها واتضح من خلالها أنّ اللّه تعالى علّة العلل وموجد الأسباب ، لا أنّه يقوم مقام الأسباب والعلل بحيث تتعطل الأسباب والعلل ولا تعود لها أية مشاركة وفاعلية.
    وعلينا الآن أن نبحث حول الأصل الثاني ونتحدث حول تقسيم العلة إلى « اضطرارية » وأُخرى « اختيارية ».
    فنقول : هناك نوعان من العلل والأسباب :
    1. علل ذات إدراك وشعور واختيار وإرادة.
    وبعبارة أُخرى ، هناك « فاعل مختار » بمعنى أنّه إذا واجه مفترق طريقين اختار أحدهما على الآخر بإرادة واختيار منه ، وبكامل حريته دونما قهر أو جبر.
    2. وهو ما يقابل النوع الأوّل وتلك هي العلل الفاقدة للإدراك والشعور بنفسها وبأفعالها ، أو تكون مدركة وشاعرة ولكنها لا تكون مختارة ومريدة لأفعالها.
    وهذا النوع من العلل سواء أكانت فاقدة للشعور أم فاقدة للاختيار والإرادة تسمّى فاعلاً مضطراً.
    فمثلاً الشمس هي من العلل التي لا تشعر هي بآثارها (كالإشعاع والإنبات والإنماء) وتكون لذلك مجبورة ومضطرة في فعلها ، والنحل والنمل وما شابههما من الدواب والحيوانات والحشرات ـ وإن كانت تشعر وتدرك ما تفعل ـ إلاّ أنّ ـ ها تعمل ما تعمل بالوحي أو بالغريزة مائة بالمائة بمعنى أنّ هذه الأحياء لا تفعل ما تفعله بعد مراجعة العقل ، بل تأتي بأفعالها تحت وطأة الغريزة ، ودون إرادة منها ولا اختيار ، ومثل ذلك حركة يد المشلول وأضرابه.
    ومع الالتفات إلى هذا النوع من التقسيم يتضح جواب السؤال ، لأنّه وان صحّ أن يقال إنّ أفعال البشر مخلوقة للّه ومتعلّقة لإرادته ، وإنّ اللّه أراد من الأزل


(362)
أن تقع هذه الحوادث في عالم الطبيعة ، ولكنه يجب أن نعرف مغزى خالقية اللّه لكل شيء ، ويتعرف على ذلك من الوقوف على كيفية تعلّق إرادته سبحانه بكل شيء ، وبكل العلل والأسباب مختارها ومضطرها.

كيف تعلّقت إرادته سبحانه بأفعالنا؟
    إذا عرفنا كيفية تعلّق إرادته تعالى ، فسنعرف كيفية « خالقيته » بالنسبة لأفعالنا ، ولذلك يجب علينا هنا أن نركّز البحث على معرفة كيفية « تعلّق الإرادة الإلهية ».
    لقد تعلّقت الإرادة الإلهية منذ الأزل بأن يصدر كل معلول من علّته الخاصة به ، وأن تصدر كل ظاهرة من سببها المخصوص بها ، بمعنى أنّ الإرادة الإلهية قد تعلّقت منذ الأزل بأن تلقي الشمس أشعتها ـ دون شعور منها ـ على الأرض ، وأن يمتص النحل رحيق الأشجار والأزهار بفعل الغريزة أو بدافع الشعور ، ولكن بلا اختيار ولا إرادة ولا حرية ، وأن تبني بيوتها كذلك مسدسة ، وكذلك تعلّقت إرادته تعالى بأن يأتي الإنسان بأفعاله باختيار منه وحرية.
    وبعبارة أُخرى قد تعلّقت إرادة اللّه سبحانه بوجود الإنسان وفعله ، وصدور فعله منه بالاختيار ، فاللّه سبحانه كما شاء وجود الإنسان شاء صدور فعله منه بلا جبر ولا اضطرار ، فلو فرضنا صدور فعله منه بالاضطرار لزم تفريق إرادته سبحانه من مراده وهو أمر محال.
    وعلى الجملة انّ اللّه سبحانه لم يشأ من الإنسان أن يصدر منه الفعل على وجه الإطلاق مختاراً أو مضطراً ، وإنّما شاء أن يصدر منه الفعل بإرادته واختياره ، ولو صدر بغير هذا الوجه لزم تخلّف إرادته عن مراده.


(363)
    ومعلوم أنّ مثل هذه الإرادة الأزلية التي تعلّقت بأفعال الإنسان مضافاً إلى أنّها لا تخالف حرية الإنسان تكون مؤكدة لحريته واختياره ، فكما أنّ إرادة اللّه نافذة وماضية إذا تعلّقت بوجود الشيء ، فهكذا نافذة إذا تعلّقت بصدور شيء على نحو خاص ، فلو صدرت والحال هذه ـ على غير هذا النحو ـ لزم صدور الشيء على خلاف إرادته تعالى.
    وحيث إنّ اللّه أراد أن يكون الإنسان حراً مختاراً آتياً بفعله باختياره فلابد أن تتنفذ إرادة اللّه بأن يأتي الإنسان بأفعاله حسب اختياره وحريته ، وإذا أتى بأفعاله باختيار منه وحرية ، تحققت حينئذ مشيئة اللّه في شأنه ، تلك المشيئة التي شاءت أن يكون الإنسان مختاراً في أفعاله.
    وإذا فرضنا أنّه يصدر منه الفعل بنحو « الجبر » ودون اختياره يلزم أن لا يكون فعل الإنسان حينئذ مطابقاً للمشيئة الإلهية وأن لا تتحقّق هذه المشيئة الربانية مع أنّ من الضروري أنّ إرادة اللّه لابد أن تتحقّق ولابد أن تتنفذ.
    وخلاصة القول : إنّ أصل وجود الإرادة الأزلية للّه لا يكون ـ بتاتاً ـ موجباً للجبر ولا يكون رافعاً للاختيار ، بل يجب علينا أن ننظر إلى كيفية تعلّق تلك الإرادة أوّلاً ثم نصدر أحكامنا في هذا المجال. (1)
    1 ـ هذا الجواب يرجع إلى ما ربما يقال أنّ اللّه خلق الإنسان وخلق فيه (جبراً) قوة الاختيار في الأفعال بمعنى أنّه لا يجبره شيء في كل فعل يصدر منه.
    نعم أنّ العبد وإن كان مجبولاً على الاختيار وخُلق على الحرية التامة لكن حريته وكونه مختاراً لا يخرج عن حيطة إرادة اللّه ومشيئته إذ لا يمكن أن يوجد شيء في صفحة الوجود ويكون خارجاً عن مشيئته وإرادته بتاتاً ، فصدور الفعل عن العبد عن اختيار ، غير خارج عن حيطة إرداته.
    وعلى القارئ الكريم أن يرجع للمزيد من التوضيح إلى المثال الذي ذكرناه في صفحة 349 فإنّه يصور كيفية إرادته سبحانه وإرادة العبد.


(364)
    إنّ جميع الظواهر الكونية ومنها أفعال البشر وإن كانت داخلة في إطار الإرادة الإلهية وليس شيء منها يتحقّق بلا إذنه وإرادته ، ولكن يجب علينا أن نعرف كيفية تعلّق إرادته سبحانه بالظواهر الكونية عامة وأفعال البشر خاصة ، فنقول : إنّ إرادته سبحانه تعلّقت بصدور كل شيء عن مباديه الخاصة ، فلو كان الفاعل مضطراً ومجبوراً ، فقد تعلّقت إرادته بصدور فعله عنه بالجبر والاضطرار وان كان الفاعل مريداً مختاراً تعلّقت إرادته بصدور فعله عنه بالإرادة والاختيار.
    إنّ الإرادة الإلهية الأزلية إنّما تكون موجبة للجبر ومستلزمة له في صورة واحدة بينما لا تكون مستلزمة للجبر في صورة أُخرى ، فإن قلنا بأنّ الإرادة الإلهية تعلّقت بصدور كل ظاهرة من علّتها لا عن اختيار ، ففي هذه الصورة تكون الإرادة الإلهية موجبة للجبر ، ولكنّنا إذا اعتبرنا العالم هذا عالم الأسباب والمسببات وتصوّرنا لكلّ معلول علّة خاصة به واعتبرنا الإنسان ـ من بين هذه الأسباب والعلل ـ فاعلاً مختاراً وقلنا بأنّ الإرادة الإلهية تعلّقت منذ الأزل بأن يصدر الفعل البشري منه بكامل اختياره وحريته ، ففي هذه الصورة بين هذا وبين الجبر مئات الفراسخ والأميال.
جواب على سؤال
    لو قال أحد : إذا كان عالم الممكنات بكل خصائصه وآثاره مخلوقاً للّه ، ومنبعثاً عن إرادته ومشيئته ، فقدرته وسعت كل شيء وشملت كل الوجود بلا استثناء إذن ، فكيف يمكن أن تنسب أفعال البشر القبيحة إلى « اللّه » سبحانه؟
    هل يمكن أن نسند الظلم والأفعال القبيحة إلى اللّه ونعتبرها مرادة ومخلوقة له ، وهو القائل :


(365)
    ( قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ). (1)
    والقائل : ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّم لِلْعَبِيدِ ). (2)
    فهل من الصحيح أن نعتبره خالق المفاسد والمعاصي والرذائل؟ وماذا يعني من كونه : ( خَالِقُ كُلِّ شَيْء ) ؟
    أفليس يفيد قوله تعالى : ( لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيْء ) (3) أنّ خالقيته تشمل كل ما في الوجود وكل ما يكون مصداقاً للشيء؟
    وبعبارة أُخرى : أفلا يستفاد من الآية التي تقول : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلَقَهُ ) كما في سورة السجدة الآية 7 ، أنّ كل ما هو مخلوق للّه فهو متصف بالحسن والجمال ، وبعيد عن القبح بحيث يمكن أن يقال أنّ الخلق والحسن متلازمان في خلق اللّه لا ينفكان ولا ينفصلان؟ فإذا كان اللّه خالق كل شيء ، فكيف يمكن أن يوصف الظلم ـ مثلاً ـ بالحسن وهو كما نعلم من القبائح المسلمة؟
    على أنّ المشكلة لا تنحصر في مسألة الأفعال القبيحة التي يفعلها الناس بل تصدق على مسألة الآفات والبلايا والشرور ، فكيف تصدر من اللّه هذه الحوادث المستقبحة التي تصيب البشر ، وتشقيه؟
    ولنوضح الإشكال بصورة أكثر جلاء فنقول :
    إنّ الإشكال يرد ـ على القائلين بأنّ ( اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء ) على الإطلاق ـ
    1 ـ الأعراف : 28.
    2 ـ فصلت : 46.
    3 ـ الأنعام : 102.


(366)
في موردين :
    1. الأعمال القبيحة التي تصدر من العباد ، فكيف يمكن أن تكون مخلوقة للّه؟ وهذا هو ما دفع بعض أهل الكلام إلى أن ينسبوا كل أفكار البشر وأفعاله خيرها وشرها بنحو مطلق إلى البشر نفسه ، وأن يقطعوا وينكروا أي ارتباط وصلة بين هذه الأفكار والأفعال وبين المقام الربوبي ، وقد دفعهم إلى هذا الاعتقاد تصور أنّ اسناد أفعال البشر إلى اللّه يستلزم أن يكون الظلم مخلوقاً للّه سبحانه.
    2. انّ هناك في عالم الكون أُموراً تدعى بالشرور والبلايا ، فكيف يصح أن نعتبر اللّه الحكيم خالقاً لهذه الشرور والآفات؟! وهذا هو ما تسبب في أن يظهر فريق باسم المجوس يعتقدون بخالقين للكون :
    أ. خالق للخير يدعى يزدان.
    ب. خالق للشر يدعى اهريمن.
    فكيف يواجه القرآن هذين الفريقين وهو يؤكد على وحدة الخالق ، وما هو جوابه عليهما؟
الجواب
    أمّا الأفعال القبيحة فإنّ لها جانبين : وبتعبير آخر : انّ هذه الأفعال يمكن أن تطالع من جانبين :
    1. الجانب الوجودي ، الإثباتي.
    2. الجانب العدمي ، السلبي.
    فالفعل على وجه الإطلاق لا يكون قبيحاً إذا طالعناه من الجانب


(367)
الوجودي ويكون قبيحاً إذا طالعناه من الجانب الثاني (أي الجانب العدمي السلبي).
    خذ مثلاً : اللقاء الجنسي الذي يتم بين الرجل المرأة بصورة غير مشروعة ، فإنّ مثل هذا اللقاء غير المشروع لا يختلف عن اللقاء المشروع في الجوانب الوجودية ، فكلاهما سواء من حيث إنّ العملين نتيجة « الفعالية الجنسية » غايته انّ التفاوت بين هذين اللقاءين هو أنّ العمل الأوّل غير مأذون به من قبل اللّه أو السلطة التشريعية في حين أنّ العمل الثاني مأذون به من قبل اللّه أو موافق لرأي السلطة التشريعية.
    وعلى هذا فإنّ عامل القبح في « الزنا » هو صفة « اللامشروعية » التي هي أمر عدمي وسلبي مائة بالمائة ، والذي تتعلّق به القدرة إنّما هو الجانب الوجودي ، للشيء وليس الجانب العدمي السلبي متعلّقاً بها ، لأنّ الأُمور العدمية والجوانب السلبية أقل من أن تتعلّق بها القدرة الإلهية بل يستحيل تعلّق عملية الخلق بها.
    وانّك ـ بالإمعان في هذا المثال ـ بإمكانك أن تتناول بالتحليل غير عمل الزنا من القبائح كالظلم والخدعة والخيانة والجناية ، فالظلم ـ مثلاً ـ إنّما يكون قبيحاً ، لأنّه يؤدي إلى ذهاب حق المظلوم ويوقف نمو المجتمع وتقدّمه ، وهذا بما أنّه أمر عدمي ليس متعلّقاً للقدرة والإرادة الإلهية.

تحليل عن الشرور
    إنّ السؤال السابق بعينه ينطرح بالنسبة إلى « الآفات والبلايا » كالزلازل والسيول وغيرها ، وقد بحثه المسلمون في كتبهم الكلامية والفلسفية ، ولكنّنا بغية إكمال هذا القسم نعمد إلى بحثه بصورة مختصرة.


(368)
    لو تناولنا بالتحقيق كل ما يسمّى شراً ، لتبيّ ـ ن لنا أنّ تلك الصفة ناشئة من كون الشيء مصحوباً بالعدم ، فالمرض ـ على سبيل المثال ـ إنّما يكون شراً وغير مطلوب ، لأنّ المريض ـ حال مرض هـ يكون فاقداً للصحة والعافية ، وهكذا بالنسبة إلى الأعمى والأصم ، فحيث إنّ السمع والبصر من لوازم الحياة عند البشر لكونهما موجبين لكماله ، لذلك يكون فقدانهما « شراً » وأمراً غير مطلوب ، ولكن العمى أو الصمم ليس شيئاً وجودياً في الإنسان الأعمى والأصم ، إنّما هو فقدان وصفي السمع والبصر وعدمهما ليس غير.
    فما العمى أو الصمم ـ في الواقع ـ سوى حالة الفقدان والعدمية؟
    من ملاحظة هذه النقطة ومقارنة كل الأُمور والموارد المعدودة من الشرور مع المثال المذكور ، يتبين أنّ الشر ملازم لنوع من العدم الذي لا يحتاج إلى موجد وفاعل ، بل هو عين ذلك الفقدان ، فكل البلايا والشرور والقبائح إنّما تكون إذن شروراً وأُموراً غير مطلوبة لكونها « فاقدة » لنوع من الوجود أو مستلزمة ومصحوبة بنوع من العدم.
    وقس على ذلك الحيوانات المفترسة والضارة والآفات فكلّها إنّما تكون شراً لأنّها تجر إلى فقدان سلسلة من الأُمور والجهات الوجودية ، لأنّ كل هذه الأشياء (الحيوانات المفترسة والمضرة والآفات) توجب الموت وفقدان الحياة أو فقدان عضو من الأعضاء ، أو قوة من القوى ، أو تتسبب في منع نمو القابليات والاستعدادات وتحوّلها إلى مرحلة الفعلية ، فلو كانت هذه الشرور كالزلازل والآفات الحيوانية والنباتية لا تنطوي على مثل هذه النتائج لما عدت شروراً ، ولما كانت أُموراً قبيحة غير مطلوبة.


(369)
    وعلى هذا فإنّ الموت والجهل والفقر إنّما تكون شروراً لكونها ترافق أنواعاً من العدم ، فالعلم كمال وواقعية يفقدها الجاهل ، والحياة حقيقة وكمال يفقدها الميت ، والفقير هو ـ بالتالي ـ من يفقد المال الذي يعيش بسببه.
خلاصة القول
    إنّه ليس في هذا الوجود إلاّ نوع واحد من الموجودات ، وهو ما يكون خيراً وجميلاً وحسناً.
    أمّا الشرور فهي من نوع العدم ، و العدم ليس مخلوقاً ، بل هو من باب « عدم الخلق » وليس من باب « خلق العدم ».
    ولهذا (أي الوجود الخير فقط) لا يمكن أن يقال أنّ للعالم خالقين : أحدهما خالق الخير ، والآخر خالق الشر ، إنّ مثل الوجود والعدم مثل الشمس والظل ، فعندما نقيم في الشمس شاخصاً يحدث على الأرض ظل بسبب ذلك الشاخص الذي منع من وصول النور.
    وما الظل في الحقيقة إلاّ عدم النور ، لأنّ الظل هو الظلمة ، والظلمة ليست إلاّ « عدم » النور ، فلا يصح أن نتساءل ـ هنا ـ : ما هي حقيقة الظل؟ إذ ليست للظل واقعية خارجية وحقيقة عينية تقابل حقيقة النور وجوهره ، إنّما الظل هو : عدم النور ومعنى هذا أنّه ليس للظل أو الظلمة منبع ينبعان ، ومنشأ ينشآن منه.
    هذا ولصدور الآفات والشرور من جانب اللّه توجيهات أُخرى نذكرها فيما يأتي.


(370)
جواب آخر حول الشرور
    في التحليل ـ المذكور فيما سبق ـ بيّنا بوجه مبسوط أوّل الأجوبة التي يجيب بها العلماء على الثنويين ، واتضح أنّ الشر أمر عدمي ، والأمر العدمي الذي هو نوع من الفقدان لا يحتاج إلى خالق وفاعل وموجد ، وفيما يلي نعمد إلى توضيح ثاني أجوبتهم.

الشر أمر نسبي
    إنّ لفظة « الحقيقي » و « النسبي » من الألفاظ الرائجة في اصطلاح العلماء كما هي تستعمل في كثير من العلوم الإنسانية والتجريبية ، وإليك توضيحها :
    كل موجود نصفه بصفة أمّا أنّه موصوف بتلك الصفة في كل حال مع قطع النظر عن أي شيء وهذه ما نسمّيها ب ـ « الصفة الحقيقية » ، مثلاً صفة الحياة ثابتة للموجود الحي على وجه الحقيقة ، ولا حاجة إلى توصيفه بصفة الحياة إلى أي نوع من المقارنة والمقايسة ولأجل ذاك تكون الحياة بالنسبة للحي صفة حقيقية ، ووصفه بالحياة توصيفاً حقيقياً وواقعياً.
    فكون المتر يتألف من (100) سنتيمتر واقعية ثابتة للمتر في جميع الحالات ، ولا حاجة لتوصيف المتر بهذه الكمية إلى أي نوع من المقايسة بشيء.
    ويقابل الوصف الحقيقي « الوصف النسبي » ، بمعنى أنّ الشيء ما لم يقس ويقارن بشيء آخر ، وما لم يكن هناك موجود آخر لا يمكن توصيف الشيء بصفة.
    فالصغر والكبر ـ مثلاً ـ من الأوصاف التي لا يمكن أن يوصف بهما شيء من الأشياء إلاّ إذا كان هناك شيء ثان يقاس به هذا الشيء ، حتى يمكن أن يقال
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس