مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 421 ـ 430
(421)
    وفي ختام هذا المبحث نذكّر بعدة نقاط :
    1. انّ الآيات القرآنية ، والدلائل العقلية أثبتت بوضوح أنّ التوحيد في الخالقية والتدبير لا يمنع من أن يقوم النظام الكوني على أساس العلة والمعلول ، لأنّ تأثير الأسباب لا يكون في معزل عن إرادة اللّه ، بل هو ـ بالتالي ـ فعله بنحو من الأنحاء.
    2. قد توجب المصالح بأن يعطّل اللّه سبباً من تأثيره ، مثل أن يجرّد من النار خاصية الإحراق ، ويأمر البحر بأن لا يغرق كما فعل لموسى وقومه ، إذ يقول عن الأوّل : ( يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً ). (1)
    ويقول عن الثاني : ( فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى ). (2)
    3. كيف يمكن القول بأنّ اللّه خالق الحسنات والسيئات ، وأي رابطة بين الكمال المطلق والخير البحت والجمال المحض وخلق السيئات؟
    والجواب : إنّ كون الشيء سيئاً ليس من الصفات الحقيقية التي يتّصف بها الشيء مطلقاً كالبياض والسواد حتى يمتنع صدوره من اللّه لكونه كمالاً وخيراً مطلقاً ، بل من الصفات النسبية التي لا يتّصف بها الشيء إلاّ بالمقايسة والنسبة ، كما في الكبر والصغر فإنّ الشيء لا يتّصف به من دون مقايسة.
    وعلى ذلك فالسيئات من حيث وجودها لا تتصف بالسوء حتى يمتنع
    1 ـ الأنبياء : 69.
    2 ـ طه : 77.


(422)
انتسابها إلى اللّه ، بل هي من تلك الزاوية طوارئ جميلة ، وإنّما يتّصف بها إذا كان هناك نوع من النسبة بينها وبين حياة الإنسان ، فقدرة العدو مثلاً سيئة ومضرة بالقياس إلى الطرف الآخر ، والمطر مضر وشر بالقياس إلى تخريبه المنازل ، ففي هذه الحالة فقط يمكن أن توصف هذه الظواهر بالشر والسوء وفي هذه الصورة بالذات يقول الناس « لقد نزل البلاء ».
    وعلى الجملة : الهدف من انتساب الحسنة والسيئة كليهما إلى اللّه سبحانه ، ليس هو انتساب السيئة ـ بوصف كونها سيئة ـ إلى اللّه ، فإنّ الشيء إنّما يتّصف بكونه سيئاً إذا كانت هناك مقايسة بالنسبة إلى الإنسان ، وإلاّفلا يتصف من حيث وجوده بكونه شرّاً وسيئاً ، فالعقرب شرّ إذا قيس بالنسبة إلى الإنسان ، والسيل الجارف شر إذا قيس إلى الدور التي هدمها ، ومع عدم هذه المقايسة لا يتصف شيء بكونه سيئاً ، والآية بما أنّها في مقام توحيد الخالقية والربوبية تنسب وجود كل حادثة إلى اللّه سبحانه بما أنّه المنبع الوحيد للخلق والتقدير (1).
    4. قد تبيّن ممّا ذكرناه في وجه الجمع بين نسبة الحسنات والسيئات إلى اللّه أوّلاً ، ونسبة الحسنات إليه سبحانه والسيئات إلى الإنسان ثانياً ، إنّه لا منافاة بين قوله سبحانه : ( أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (2). (3)
    وقوله سبحانه : ( قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرتُم ) (4).
    فما يتطيّرون به إنّما يجري في الكون بأمره سبحانه فلا خالق له إلاّ هو ، غير
    1 ـ راجع ما حققنا في صفحة 370 من نسبة الشرور والآفات إلى اللّه.
    2 ـ الأعراف : 131.
    3 ـ ونظير ذلك قوله سبحانه : ( قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللّهِ ) (النمل : 47).
    4 ـ يس : 19.


(423)
أنّ منبع الطائر ليس إلاّ نفس الإنسان وعمله الذي يجري عليه الذي يسمّيه طائراً.
    5. إنّ أيّة ظاهرة في العالم مرتبطة بعلة ، وهذا قانون كلّي وعام لا يقبل ـ في منطق العقل ـ أيَّ تغيير واستثناء ، وفي هذه الصورة ينطرح سؤال وهو : كيف إذن تتحقّق معجزات الأنبياء والرسل ( عليهم السَّلام ) ، وفي ظل أي سبب تقع؟
    غير أنّ المحقّقين من الفلاسفة والمتكلّمين قد بحثوا حول هذاالسؤال بحثاً وافياً ، فليراجع في محله.


(424)

(425)
الفصل التاسع
التوحيد في العبادة


(426)
التوحيد في العبادة
    1. دوافع الشرك في العبادة.
    2. لفظة العبادة في معاجم اللغة العربية.
    3. هل العبادة هي مطلق الخضوع؟
    4. هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير شرك؟
    5. التعاريف الثلاثة للعبادة.
    6. الشيعة الإمامية وتهمة التفويض.
    7. معنى الإلوهية وما هو ملاكها؟
    8. هل الاعتقاد بالسلطة الغيبية غير المستقلة يوجب الشرك ؟
    9. هل التوسل بالأسباب غير الطبيعية يُعد شركاً؟
    10. هل الحياة والموت تعدّان حداً للتوحيد والشرك؟
    11. هل تعظيم أولياء اللّه والتبرك بآثارهم أحياء وأمواتاً شرك؟
    12. هل قدرة المستغاث وعجزه من حدود التوحيد والشرك؟
    13. هل طلب الأُمور الخارقة للعادة شرك وملازم للاعتقاد بالوهية المسؤول؟
    14. هل يكون طلب الشفاعة من الصالحين ودعوتهم شركاً؟
    15. عقائد الوثنيين في العصر الجاهلي.


(427)
1
دوافع الشرك في العبادة
    الأمر الذي كان يؤلِّف أساس دعوة الأنبياء في جميع عهود الرسالة السماوية هو : دعوة البشر إلى عبادة اللّه الواحد ، والاجتناب عن عبادة غيره.
    فالتوحيد في العبادة وتحطيم أغلال الشرك والوثنية كان من أهم التعاليم السماوية التي تحتل مكان الصدارة في رسالات الأنبياء ( عليهم السَّلام ) حتى كأنّ الأنبياء والرسل لم يبعثوا ـ أجمع ـ إلاّ لهدف واحد ، هو تثبيت دعائم التوحيد ومحاربة الشرك.
    لقد ذكر القرآن هذه الحقيقة ـ بجلاء ـ إذ قال : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمّة رَسُولاً أَنْ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ). (1)
    ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول إِلاَّ نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ). (2)
    ثم في موضع آخر يصف القرآن الكريم التوحيد في العبادة بأنّه الأصل
    1 ـ النحل : 36.
    2 ـ الأنبياء : 25.


(428)
المشترك بين جميع الشرائع السماويّة ، إذ يقول : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تََعَالَوْا إِلَى كَلِمَة سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ) . (1)
    وإذا أردت أن تعرف كيف بيّن القرآن الكريم الشرك في العبادة ، أو جميع أقسامه ، وصور المشرك في فقده ما يعتمد عليه في حياته فتدبّر في الآية التالية ، إذ يقول تعالى : ( وَمَنْ يُشْ ـ رِكْ بِاللّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْ ـ رُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَان سَحِيق ) . (2)
    ولا يستطيع أيُّ تشبيه على ترسيم بطلان الشرك وضياع المشرك وخيبته وحيرته بأوضح ممّا رسمته هذه الآية الكريمة.
منشأ الشرك والوثنية
    من العسير جداً إبداء الرأي في جذور الوثنية ومنشأ هذا الانحراف العقيدي ونموّه بين البشر ، خاصّة أنّ موضوع الوثنية لم يكن عند قوم أو قومين ، ولا في شكل أو شكلين ، ولا في منطقة أو منطقتين ، ليتيسّر للباحث إبداء نظر قطعي فيه وفي نشوئه.
    فالوثنية عند « العرب الجاهليين » مثلاً تختلف عمّا عليها عند « البراهمة » ، وهي عند « البوذيين » تختلف عمّا هي عليها عند « الهندوس » ، فاعتقادات هذه الملل والشعوب مختلفة في موضوع الشرك ، بحيث يعسر تصوّر قدر مشترك
    1 ـ آل عمران : 64.
    2 ـ الحج : 31.


(429)
بينها. (1)
    أمّا العرب البائدة مثل عاد وثمود : أُمم هود وصالح ، ومثل سكنة مدين وسبأ : أُمم شعيب وسليمان ، فكانوا بين وثنيين وعبدة الشمس. (2) وقد ذكرت عقائدهم وطريقة تفكيرهم في القرآن الكريم.
    وقد كان عرب الجاهلية من أولاد إسماعيل موحدين ردحاً من الزمن ، يتَّبعون تعاليم النبي إبراهيم وولده إسماعيل عليمها السَّلام ولكن ـ على مرّ الزمان وعلى أثر الارتباط بالشعوب والأُمم الوثنية ـ حلّت الوثنية محل التوحيد في المجتمع العربي الجاهلي تدريجاً. (3)
    هذا حال الأُمّة العربية العائشة في تلكم النواحي ، وأمّا الأُمّة العائشة في مكة وضواحيها المقاربة لعصر الرسولصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فقد نقل المؤرخون أنّ أوّل من أدخل الوثنية في مكة ونواحيها وروّجها فيها هو : « عمرو بن لحي ».
    فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان ، وعند ما سألهم عمّا يفعلون قائلاً :
     ـ ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها؟
    قالوا : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا !
    1 ـ شرحت دوائر المعارف ، وبخاصة دائرة معارف البستاني معتقدات هذه الشعوب الآسيوية التي تعيش في رقعة كبيرة في آسيا.
    2 ـ قال سبحانه : ( وَجَدْتَهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلْشَمْسِ مِنْ دُونِ اللّهِ ) (النمل : 24).
    3 ـ وهذا يعطي أنّ الوثنية يمتد جذورها في المجتمع العربي الجاهلي إلى زمن بعيد وإن كان دخولها إليمكة وضواحيها ليس بذاك البعد حسب ما ينقله ابن هشام وغيره من أهل السير والتاريخ.


(430)
    فقال لهم : أفلا تعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟
    وهكذا استحسن طريقتهم واستصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم « هبل » ووضعه على سطح الكعبة المشرفة ، ودعا الناس إلى عبادتها. (1)
    هكذا تسرّبت الوثنية إلى الحجاز وظهرت عند الأقوام والقبائل العربية المختلفة : الأصنام والآلهة المدعاة التي كانوا يعبدونها.
    يرى بعض الباحثين أنّ « الوثنية » نشأت من تعظيم الشخصيات وتكريمهم ، فعندما كان يموت أحد الشخصيات كانوا ينحتون له تمثالاً لإحياء ذكراه وتخليد مثاله في أفئدتهم ، ولكن مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال كانت تتحول هذه التماثيل ـ عند تلك الأقوام ـ إلى معبودات ، وإن لم تقترن ساعة صنعها بمثل هذا الاعتقاد. (2)
    وأحياناً كان رئيس عائلة يحظى باحترام وتعظيم كبيرين ـ في حياته ـ حتى إذا مات نحتوا له تمثالاً على صورته وعكفوا على عبادته.
    وفي اليونان والروم القديمتين كان ربُّ العائلة ورئيسها يعبد من قبل أهله ، فإذا توفّي عبدوا تمثاله.
    وتوجد اليوم في متاحف العالم أصنام وتماثيل لرجال الدين وللشخصيات البارزة الذين كانوا ـ ذات يوم ـ أو كانت أصنامهم تعبد كما يعبد الإله.
    ومن محاورة النبي إبراهيم ( عليه السَّلام ) مع كبير قومه : « نمرود » يستفاد ـ بوضوح ـ أنّ نمرود كان موضع العبادة من جانب قومه.
    1 ـ سيرة ابن هشام : 1/79.
    2 ـ هذا الرأي غير ثابت عند كاتب هذه السطور ، ثم ليس من المعلوم هل كان عملهم ذاك مجرد تعظيم أو عبادة.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس