مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 21 ـ 30
(21)
    و قال الإمام الصادق ـ في جواب السائل عن الكيفية له ـ : لا لأنّ الكيفيّة جهة و الاحاطة ، و لكن من الخروج من جهة التعطيل و التشبيه (1).
    و هذه الأحاديث تحدّد موقف المعرفة و أنّها بين التعطيل و التشبيه.
    فاتضح انّ رائدنا في مجال المعارف الالهية أمران :
    1 ـ الأقيسة العقليّة.
    2 ـ التأمّل في آثار الرب في العوالم المختلفة.
    و لأجل ايضاح الحال و انّه يمكن الحصول على المعارف و صفات الواجب عزّ و جلّ عن طريق ترتيب الأقيسة المنطقيّة أوّلاً ، و التدبّر في صنعه و خلقه ثانياً ، نأتي بالبيان التالي :

1 ـ الاستدلال بالأقيسة العقليّة المنطقيّة
    و له صور نشير إليها :
    إذا ثبت كونه سبحانه غنيّاً غير محتاج إلى شيء بل الكلّ محتاج إليه فالعقل يتّخذه مبدأً لكثير من احكامه على الواجب عزّ اسمه ، فيصفه بما يناسب غناه و ينزّهه عمّا لايجتمع معه ، و قدسلك الفيلسوف الإسلامي الكبير نصير الدين الطوسي هذا السبيل للبرهنة على جملة من الصفات الجلالية قال :
    « و وجوب الوجود ( الغني ) يدل على سرمديته ، و نفي الزائد ، و الشريك و المثل ، و التركيب بمعانيه ، و الضد ، و التحّيز و الحلول ، و الاتحاد ، و الجهة ، و حلو الحوادث فيه ، و الألم و اللذّة و المعاني و الأحوال و الصفات الزائدة عيناً و الرؤية. »
1 ـ الكافي ج 1 باب « اطلاق القول بأنّه شيء » الحديث 2 ، 5.

(22)
    بل انطلق المحقّق من نفس هذه القاعدة لاثبات سلسلة من الصفات الثبوتيّة حيث قال : « و وجوب الوجود يدل على ثبوت الوجود ، و الملك و التمام و الحقّية و الخيرية و الحكمة و التجّبر و القهر و القيوميّة » (1).
    فقد سبقه إلى ذلك صاحب كتاب « الياقوت » في علم الكلام إذ قال و هو بصدد تنزيهه سبحانه عن الصفات غير اللائقة بساحة قدسه : « و ليس بجسم و لاجوهر و لاعرض و لاحالاًّ في شيء و لاتقوم الحوادث به و إلاّ لكان عرضاً » (2).
    و إن شئت قلت : إنّ ذاته سبحانه نفس الكمال ، و فوق ما يتصوّر من الكمال ، و ليس للنقص إليه سبيل ، فإذا كان كذلك فيجب أن يوصف بكلّ ما يُعدّ كمالاً فينزّه عمّا يعدّ نقصاً ، فالصفات الذاتية صفات كمال لا محيص عن الاتّصافبها ، كما أنّ الصفات السلبيّة صفات تنزيهيّة طاردة للنقص عن ساحة ذاته فيجب التنزيه عنها ، فإذا كان العلم و القدرة و الحياة أوصاف كمال و كانت الجسميّة و التركّب و الحالّيّه و المحلّيّة صفات نقص فيجب التوصيف بالأولى و التنزيه عن الثانية و لأجل ذلك قلنا : إنّ الصفات الثبوتية و السلبية ترجع إلى اثبات أمر واحد و هو الكمال ، و سلب أمر واحد و هو النقص.
    و بتعبير آخر لاثبات صفاته و هو أنّ الوجودات الامكانية وجودات متدلّية قائمة بوجود الواجب و ما لها من صفات كمال كالعلم و القدرة و الحياة ، فالمالك الحقيقيّ لها هو اللّه سبحانه ، و المعطي لها هو اللّه سبحانه. قال تعالى : ( لِلّهِ مَا فِى السَّمواتِ وَ مَا فِى الأَرْضِ ). فالعلم و القدرة و الحياة كلّّها تجلّيات لعلمه و قدرته و حياته ، فإذا كان كذلك فالعلم الاصيل و القدرة الاصيلة و الحياة الحقيقيّة للهسبحانه.
1 ـ كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 178 ـ 185 ( ط صيدا ).
2 ـ أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ص 76 ـ 80 ـ 81 ـ 92.


(23)
    يقول العلاّمة الطباطبائي : نحن أوّل ما نفتح أعيننا ، يقع ادراكنا على أنفسنا ، و على أقرب الاُمور منا ، و هي صلتنا بالكون الخارج ، لكنّا لانري أنفسنا إلاّ مرتبطة بغيرها و لاقوانا و لاأفعالنا إلاّ كذلك ، فالحاجة من أقدم ما يشاهده الإنسان ، يشاهدها من نفسه و من كلّ ما يرتبط به من قواه و أعماله و الدنيا الخارجة. و عند ذلك يقضي بذات ما يقوم بحاجته و يصد خلّته ، و إليه ينتهي كلّ شيء و هو اللّه سبحانه و يصدقنا في هذا النظر و القضاء قوله سبحانه : ( يا اَيُّها الْنّاسُ اَنْتُمْ الْفُقَراءُ اِلى اللّهِ وَ اللّهُ هُوَ الغَنِىُّ الْحَمِيد ) ( فاطر/15 ).
    ثمّ إنّ أقدم ما نواجهه في البحث عن المعارف الالهيّه إنّا نذعن بانتهاء كلّ شيء إليه ، و كينونته و وجوده منه ، فهو يملك كلّ شيء لعلمنا أنّه لو لم يملكها لم يمكن أن يفيضها ويفيدها لغيره ، على أنّ بعض هذه الأشياء مما ليست حقيقته إلاّ مبنيّة على الحاجة و هو تعالى منزّه عن كلّ حاجة و نقيصة لأنّه الذي يرجع إليه كلّ شيء في رفع حاجته و نقيصته.
    فله الملك ـ بكسر الميم وضمها ـ على الاطلاق فهو سبحانه يملك ما وجدنا في الوجود من صفة كمال كالحياة و القدرة و العلم و السمع و البصر و الرزق و الرحمة و العزّة.
    فهو سبحانه حيّ ، قادر ، بصير ، حليم ، لأنّ في نفيها اثبات النقص و لاسبيل للنقص إليه ، ورازق و رحيم و عزيز و محي و مميت و مبدع و معيد و باعث إلى غير ذلك لأنّ الرزق و الرحمة و العزّة و الاحياء و الاماتة و الابداع و الاعادة و البعث له سبحانه و هو السبّوح ، القدّوس ، العلي ، الكبير ، المتعال ، إلى غير ذلك ، فنعني بها نفي كلّ نعت عدمي ، و نفي كلّ صفة نقص عنه (1).
    ترى أنّه ( قدس اللّه سره ) استدل على الصفات الثبوتية بمبدء واحد و هو أنّ
1 ـ الميزان ج 8 ص 366 ـ 367.

(24)
الملك له لالغيره ، فكلّ ما يملكه الإنسان فهو يملكه ، فصار هذا منشأً لاثبات كثير من الصفات الثبوتية.

2 ـ مطالعة الكون و آيات وجوده
    الطريق الثاني التي يمكن التعرّف بها على ما في ذاته سبحانه من الجمال و الكمال طريق التدبّر في النفس و الكون أي في آياته الأنفسية و الافاقية امتثالاً لقوله سبحانه :
    ( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فى الاْفاقِ وَ فِى اَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ اَنَّهُ الْحَقُّ أَوْ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَىء شَهِيدٌ ) ( فصّلت/53 ) (1).
    فمطالعة الكون المحيط بنا و ما فيه من بديع النظام و غريب الموجودات يكشف لنا عن علمه الوسيع و قدرته المطلقة فمن خِلال هذه القاعدة و عبر هذا الطريق ، يمكن للإنسان أن يهتدي إلى قسم كبير من الصفات الالهية الجماليّة ( الثبوتية ) و الجلالية ( السلبية ) و قد سلك هذا الطريق المحقّق نصيرالدين و قال : « و الأحكام و التجرّد و استناد كلّ شيء إليه دلائل علمه ».
    (2) و قول شيخنا المحقّق الطوسي ليس فريداً في ذلك الباب بل سبقه شيخنا أبوجعفر الطوسي في بعض كتبه و قال عند البحث عن علمه سبحانه :
    « و أمّا الذي يدل على أنّه عالم هو أنّ إلاحكام ظاهر في أفعاله كخلق الإنسان و غيره من الحيوان لأنّ فيه من بديع الصنعة و منافع الأعضاء و تعديل الامزجة و تركيبها على وجه يصحّ معه أن يكون حيّاً لايقدر عليه إلاّ من هو عالم بما يريد فعله ،
1 ـ والاستدلال مبني على عود الضمير المنصوب في « انّه الحق » الى اللّه سبحانه.
2 ـ كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 174 ( ط صيدا ) و الاستدلال بالتجرّد ، استدلال عقلي و الاستدلال بالأحكام و استناد كل شيء اليه ، استدلال بآيات وجوده على كماله.


(25)
لأنّه لو لم يكن عالماً لما وقع على هذا الوجه من الإحكام و النظام ، و الاختلاف في بعض الأحوال و لمّا كان ذلك واقعاً على حد واحد ، و نظام واحد ، و اتساق واحد دل على أنّ صانعه عالم » (1).
    و هناك ـ وراء الإستدلال العقلي و النظر في آثار الرب ـ طريقان آخران نشير إليهما.

3 ـ المعرفة عن طريق الوحي
    إنّ الوحي ادراك مصون عن الخطأ و الزلل كما أنّ السنّة الصحيحة فرع من فروعه فكلّ ما ورد في الكتاب و السنّة من الإلهيات و المعارف ، يصلح الاستدلال به غير أنّ الآيات القرآنية في ذلك المجال على قسمين : فتارة تتخد لنفسها موقف المعلم و المفكّر الذي يريد تعليم اتباعه فيكون موقف المخاطَب عندئذ موقف الاستلهام و الاستعلام كما هو الحال في البراهين التي أقامها القرآن في مجال اثبات الصانع و نفي الشريك عنه و كثير من صفاته الثبوتية ، فتكون تلك الآيات حجّة عقليّة من دون استلزام الدور ، و اُخرى يتخذ لنفسه موقف الرسول المتكلّم باسم الوحي المنبىء عن اللّه سبحانه فعندئذ يكون قوله حجّة تعبديّة و لايمكن الاعتماد على مثله إلاّ بعد ثبوت وجود الصانع و بعض صفاته و ثبوت النبوّة العامّة و الخاصة ، و لكن الغالب على الآيات القرآنيه و السنّة الصحيحة المرويّة عن أئمّة أهل البيت هو الأوّل. يقف على ذلك من خالط القرآن روحه و قلبه و قرأ القرآن متدبّراً متعمّقاً.

4 ـ المعرفة عن طريق الكشف و الشهود
    هناك طريق رابع و هو التعرّف على الحقائق من خلال الكشف و الشهود ، و القائلون به يرون أنّ سبيل الحصول على حقائق المعارف هو السعي إلى صفاء القلب
1 ـ الاقتصاد ، الهادي الى سبيل الرشاد ص28 ، ولاحظ إرشاد الطالبين للفاضل المقداد ص 194.

(26)
حتى ينعكس ما في ذلك العالم على قلب العارف و ضميره ، و يدرك ما في ماوراء الطبيعة من الجمال و الكمال ادراكاً يقينيّاً لايخالطه الشك ، و لايمازجه الريب ، ولكنه طريق ( قلّ سالكيه ) يختصّ بطائفة خاصّة ولايكون حجّة إلاّ لصاحب الكشف.
    و على كلّ تقدير فليس المدّعى لمن يسلك هذه الطرق الأربعة هو معرفة كنه الذات الالهية و كنه صفاته و أسمائه ، بل المراد التعرّف على ما هناك من الجمال والكمال و نفي النقص و العجز حسب المقدرة الإنسانية.
    إلى هنا تبيّن إنّ التفكير الصحيح ممّا دعى إليه الكتاب العزيز و الفطرة السليمة ، و هناك كلام للعلاّمة الطباطبائي حول التفكّر الذي يدعو إليه القرآن و هو بحث مسهب نقتبس منه ما يلي ، قال :
    « إنّك لو تتبّعت الكلام الإلهي ثم تدبّرت آياته ، وجدت ما لعلّه يزيد على ثلاثمائة آية تتضمّن دعوة الناس إلى التفكّر أو التذكّر أو التعقّل أو تلقّن النبي الحجّة لاثبات حقّ أو ابطال باطل كقوله : ( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ اَرادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ اُمَّهُ ) ( المائدة/17 ).
    أو ينقل الحجّة الجارية على لسان أنبيائه و أوليائه كنوح و إبراهيم و موسى وغيرهم من الأنبياء العظام و لقمان و مؤمن آل فرعون كقوله :
    ( قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّمواتِ وَ الاَْرْضِ ) ( إبراهيم/10 ).
    و قوله : ( وَ اِذْ قالَ لُقْمانُ لاِِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَىَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ اِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ( لقمان/13 ).
    و قوله : ( وَ قال رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنٌ آلِ فِرْعَونَ يَكْتُمُ اِيمانَهُ اَتَقْتُلُونَ رَجُلاً اَنْ يَقُولَ رَبِّىَ اَللّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) ( غافر/28 ).
    و قوله حكاية عن سحرة فرعون ( قالُوا لَنْ نُوءْثِرُكَ عَلى ما جاءَنا مَنْ البَيِّناتِ


(27)
    وَالَّذِى فَطَرَنا فَاقْضِ ما اَنْتَ قاض اِنَّما تَقْضِى هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ) ( طه/72 ).إلى آخر ما احتجّوا به.
    و لم يأمر تعالى عباده في كتابه و لا في آية واحدة أن يؤمنوا به أو بشيء ممّا هو عنده أو يسلكوا سبيلاً على العمياء و هم لايشعرون حتّى أنّه علّل الشرائع و الأحكام التي جعلها لهم ممّا لاسبيل للعقل إلى تفاصيل ملاكاته ، ـ علّل ـ باُمور تجري مجرى الاحتجاجات كقوله : ( اِنَّ الصَّلوةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُاللّهِ اَكْبَرُ ) ( العنكبوت/45 ).
    و قوله : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة/183 ).
    و قوله ( في آية الوضوء ) : ( ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( المائدة/6 ).
    الى غير ذلك من الايات الواردة حول تحريم الخمر و الميسر.
    و هذا الادراك العقلي الذي يدعو إليه القرآن و يبني على تصديقه ، ما يدعو إليه من حقّ أو خير أو نفع ، و يزجر عنه من باطل أو شرّ أو ضرّ ، هو الذي نعرّفه بالخلقة و الفطرة ممّا لايتغيّر و لايتبّدل و لايتنازع فيه إنسان و إنسان ، و العجب انّ المخالفين للتفكّر المنطقي يعتمدون في اثبات دعاويهم و مقاصدهم على الاُسس المنطقيّة بحيث لو حلّلت مقالهم و دليلهم لعاد على صورة أقيسة منطقية يستدل بها المخالف على بطلان الاستدلال المنطقي (1).
    و نذكر من باب المثال قولهم : « لو كان المنطق طريقاً موصلاً لم يقع الاختلاف بين أهل المنطق ، لكنّا نجدهم مختلفين في آرائهم » ترى أنّه استعمل القياس الاستثنائي من حيث لايشعر و أمّا الجواب : فإنّ المنطق آلة تصون الفكر عن
1 ـ الميزان : ج 5 ص 274 ـ 275.

(28)
الخطأ في كيفية الاستدلال و لكن صحّة الاستدلال مبنيّة على دعامتين :
    1 ـ صحّة المادّة.
    2 ـ صحّة الهيئة.
    و المنطق يصون الإنسان عن الخطأ في الجانب الثاني دون الأوّل و أجاب عنه العلاّمة الطباطبائي بوجه آخر و قال :
    « إنّ معنى كون المنطق آلة الاعتصام انّ استعماله كما هو حقّه يعصم الإنسان عن الخطأ و أمّا انّ كلّ مستعمل له فإنّما يستعمله صحيحاً فلايدعيه أحد و هذا كما انّ السيف آلة القطع لكن لايقطع إلاّ عن استعمال صحيح » (1).
    القرآن الكريم يهدي العقول إلى استعمال ما فطروا على استعماله بحسب طبعهم و هو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات و الذي فطرت عليه العقول هو ترتيب مقدمات حقيقيّة يقينيّة لاستنتاج المعلومات التصديقيّة الواقعيّة ، و هو البرهان أو استعمال المقدّمات المشهورة أو المسلّمة و هو الجدل ، أو استعمال مقدّمات ظنيّة لغاية الارشاد و الهداية إلى خير مظنون و شر مثله و هو العظة ، قال تعالى : ( اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِى هِىَ اَحْسَن ) ( النحل/125 ).
    و الظاهر أنّ المراد بالحكمة هو البرهان كما ترشد إلى ذلك مقابلته بالعظة و الجدل.
    ثمّ إنّ آخر ما في كنانة القوم هو ادّعاء انّ جميع ما تحتاج إليه النفوس الإنسانيّة مخزونة في الكتاب العزيز ، مودعة في الأحاديث فما الحاجة إلى أساليب الكفّار والملاحدة؟
    يلاحظ عليه : إنّ اشتمال الكتاب و السنّة على جميع ما يحتاج إليه لايلازم
1 ـ الميزان ج 5 ص 288.

(29)
استغناء البشر عن التفكّر الصحيح الموصل إلى ما في الكتاب و السنّة ، فليس فهم الكتاب و السنّة غنيَّا عن التدبّر و الامعان ، و ليس أصحاب الفلسفة و المنطق من الكفّار و الملاحدة ، و الواجب على المسلم الواعي هو استماع القول ـ من أيّ ابن انثى صدر ـ ثم اتّباع أحسنه.
    و على كلّ تقدير فابطال الاستدلال العقلي عن طريق الاستدلال العقلي غريب و عجيب جداً و من قابَلَ التفكّر و التعقّل و اقامة البرهنة فقد عارض إنسانيّته و فطرته التي تدعوه إلى الاعتناء بالتفكر الصحيح و التعقّل الرصين عن طريق اعمال الأقيسة الصحيحة من حيث المادة و الهيئة.
    و بذلك تقف على قيمة عمل أهل الحديث و اسلوب دعوتهم إلى المعارف و الحقايق حتى إنّ الأشعري لما تاب عن الإعتزال و لحق بأصحاب أحمدبن حنبل ، و استدل على عقيدة أهل الحديث مثل الرؤية و كون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه ، رفضته الحنابلة قائلة : بأنّ الاستدلال ليس طريقاً دينيا ، ً و إنّما الطريق البرهنة بالآية و الحديث مكان التعقل.
    قال ابن أبي يعلي في طبقات الحنابلة عن طريق الأهوازي قال : قرأت على عليّ القومسي ، عن الحسن الاهوازي قال سمعت أباعبدالله الحمراني يقول :
    لما دخل الأشعري بغداد جاء إلى « البربهاري » فجعل يقول رددت على الجبائي و على أبي هاشم و نقضت عليهم و على اليهود و النصارى و المجوس و قلت و قالوا و أكثر الكلام فلمّا سكت قال البربهاري و ما أدري ممّا قلت لاقليلاً و لاكثيرا ، ً و لانعرف إلاّ ما قاله أبو عبدالله أحمدبن حنبل ، فخرج من عنده وصنف كتاب « الابانة » فلم يقبله منه (1).
    هذا و إذا بان لك انّ الاستدلال المنطقي على المعارف العقليّة هو طريق
1 ـ تعليقة « تبيين كذب المفتري » ص 391.

(30)
الفطرة التي دعا إليها القرآن ، و لايشذ عنها إلاّ من احتجبت عنده الفطرة الإنسانيّة.
    فيلزم علينا البحث عن أسمائه وصفاته الواردة في الذكر الحكيم و سنّة نبيه و أحاديث عترته صلوات الله عليهم أجمعين على ضوء البرهان و القياس العقلي.
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس