مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 41 ـ 50
(41)
    ج ـ و من عابد للاسم و المعنى أي كلّّ واحد منهما أو مجموعهما فقد أشرك.
    و التعبير بالشرك و الكفر في القسمين الأوّلين لايخفى لطفه.
    د ـ و من عابد للمعنى المقصود من هذه الأسماء بأن اعتقد الهاً خارجاً عن اطار الألفاظ و المفاهيم الذهنية و عقد عليه قلبه و جعل اللفظ معبراً عنه ، فهو موحّد يقتفي أثر سيّدالموحّدين علي ( عليه السلام ).
    3 ـ و روي عن هشام بن الحكم انّه سأل أباعبداللّه ( عليه السلام ) عن أسماء اللّه و اشتقاقها : اللّه ممّا هو مشتق؟ قال فقال : يا هشام ، اللّه مشتق من اِله ، و الاله يقتضي مألوهاً ، و الاسم غير المسمّى ، فمن عبدالاسم دون المعنى فقد كفر ، و لم يعبد شيئاً ، و من عبد الاسم و المعنى فقد كفر و عبد اثنين ، و من عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد. أفهمت يا هشام؟
    قال : فقلت : زدني ، قال : « إنّ للّه تسعة و تسعين اسماً فلو كان الاسم هو المسمّى ، لكان كلّ اسم منها إلهاً ، و لكن اللّه معنى يُدَلُّ عليه بهذه الأسماء و كلّها غيره ـ إلى أن قال ـ يا هشام ، الخبز اسم للمأكول ، و الماء اسم للمشروب ، و الثوب اسم للملبوس ، و النار اسم للمحرق ، أفهمت يا هشام فهماً تدفع به و تناضل به أعداءنا و المتخذين مع اللّه جلّ و عزّ غيره؟ » (1).
    و رواه أيضاً عن عبدالرحمن بن أبي نجران لكن باختلاف يسير ، قال : كتبت إلى أبي جعفر أو قلت له : جعلني اللّه فداك نعبد الرحمن الرحيم الواحد الأحد الصمد؟ قال : فقال : إنّ من عبد الاسم دون المسمّى بالأسماء أشرك و كفر و جحد ، و لم يعبد شيئاً بل اعبدوا اللّه الواحد الأحد الصمد المسمّى بهذه الأسماء ، دون الأسماء ، إنّ الأسماء صفاته وصف بها نفسه (2).
1 ـ الكافي ج1 باب المعبود ص 87 الحديث 2.
2 ـ المصدر نفسه ، الحديث 3.


(42)
    ترى أنّه ( عليه السلام ) يستدل على المغايرة بوجهين :
    الأوّل : إنّ لله أسماء متعدّدة فلو كان الاسم عين المسمّى لزم تعدد الالهة لبداهة مغايرة تلك الأسماء بعضها لبعض.
    الثاني : إنّ الخبز اسم لشيء يحكم عليه بأنّه مأكول ، و معلوم أنّ هذا اللفظ غير مأكول.

3 ـ هل اسماؤه توقيفية أو لا ؟
    المراد من توقيفية أسمائه توقف اطلاقها على الاذن فيه ، و ليس الكلام في الأسماء الموضوعة له بين شعوب العالم حسب اختلاف ألسنتهم حيث أنّ العرب يسمّيه سبحانه « اللّه » و العجم « خدا » و الترك « تارى » و قسم من الافرنج « God » كلّ اُمّة من الامم تسميه سبحانه باسم يشيرون به إلى ما يؤمنون به بالفطرة.
    إنّما النزاع في غير هذا القسم كالذي يشعر بوصف من صفاته أو أفعاله كالعالم و القادر.
    فذهبت المعتزلة و الكرّامية إلى أنّه إذا دلّ العقل على اتّصافه تعالى بصفة وجودية أو سلبية : جاز أن يطلق عليه اسم يدل على اتصافه بها سواء ورد بذلك أذن شرعي أو لم يرد و كذا الحال في الأفعال.
    و قال القاضي الباقلاني من الأشاعرة : كلّ لفظ دلّ على معنى ثابت للّه تعالى جاز إطلاقه عليه بلاتوقيف إذا لم يكن إطلاقه موهماً لما لايليق بكبريائه ، فمن ثمّ لم يجز أن يطلق عليه لفظ العارف لأنّ المعرفة قد يراد بها علم يسبقه غفلة ، و لا لفظ الفقيه لأنّ الفقه فهم غرض المتكلّم من كلامه ، و ذلك مشعر بسابقة الجهل ، و لا لفظ العاقل لان العقل علم مانع عن الاقدام على ما لاينبغي ، مأخوذ من العقال ، و إنّما يتصوّر هذا المعنى في من يدعوه الداعي إلى ما لاينبغي و لالفظ الطبيب لأنّ الطب يراد به علم مأخوذ من التجارب إلى غير ذلك من الأسماء التي فيها نوع ايهام


(43)
بما لايصحّ في حقّه تعالى.
    و ذهب بعض آخر إلى أنّه يشترط وراء ذلك الإشعار بالتعظيم حتّى يصحّ الاطلاق بلاتوقيف.
    و ذهب الشيخ الأشعري و متابعوه إلى أنّه لابد من التوقيف و ذلك للاحتياط احترازاً عمّا يوهم باطلاً لعظم الخطر في ذلك ، فلايجوز الإكتفاء في عدم ايهام الباطل ، بمبلغ ادراكنا بل لابد من الاستناد إلى إذنالشارع (1).
    و قال الغزالي : « إنّ الأسماء موقوفة على الاذن و أمّا الصفات فغير موقوفة عليه و هو خيرة الرازي في كتابه » (2).
    و حجّة من ذهب إلى التوقيف على الاطلاق هو أنّه لو لم يتوقّف ذلك على الاذن لجاز تسميته عارفاً و فقيهاً و عاقلاً و فطناً و طبيباً ، و لكنّه مدفوع بما ذكره الباقلاني من أنّ الجواز فيما إذا لم يكن هناك نوع ايهام لما لايصحّ في حقّه تعالى و ما ذكر من الأمثلة من هذا القبيل ، و لأجل ذلك لايمكن تسميته سبحانه بالخادع والماكرو المستهزيء ، و إن نسب سبحانه الافعال إلى نفسه و قال :
    ( يُخادِعُونَ اللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ ) ( النساء/142 ).
    ( اِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَ اَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ) ( الطارق/17 ).
    ( اَللّهُ يَسْتَهْزىءُ بِهِمْ وَ يَمَدُّهُمْ فِى طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ( البقرة/15 ).
    فلايصحّ في مقام الدعاء أن يقول : يا أيّها الخادع و الكائد و المستهزىء اقض حاجتي ، فإنّ الجري و النسبة غير التسمية و الأوّل خال عن الإيهام لأنّ اللفظ ورد من باب المشاكلة في الكلام ، كما هو واضح لمن لاحظ الآيات بخلاف التسمية ، فإنّه
1 ـ شرح المواقف ج 8 ص 210 ، و شرح المقاصد ج 2 ص 171.
2 ـ لوامع البينات للرازي ص 36.


(44)
خال عن تلك القرينة.
    و أمّا التفصيل الذي ذكره الغزالي و اختاره الرازي فحجّته إنّا أجمعنا على أنّه لايجوز لنا أن نسمّي الرسول باسم ما سماه اللّه به ، و لاباسم ما سمّى هو نفسه به فإذا لم يجز ذلك في حقّ الرسول بل في حقّ أحد من آحاد الناس فهو في حقّ اللّه تعالى أولى (1).
    يلاحظ عليه : إنّ ما لايجوز في حقّ الرسول هو التسمية على وجه العلميّة كأن يقول : مكان يا محمداً و يا أحمد يا شيث فإنّه يعد نوع تصرف في سلطان الغير ، ولكن المراد بالتسمية هنا هو توصيفه بما صدر منه من الأفعال أو اتّصف به من الصفات فمنعه موضع تأمّل ، فلو قال رجل للنبي الأكرم أيها الصابر أمام العدو ، والصافح عنه فلاوجه لمنعه ، فالغزالي و الرازي خلطا التسمية على وجه العلمية بالتسمية بمعنى توصيفه بمحامد صفاته و جلائل أفعاله.
    ثمّ انّه أورد على نفسه و قال : أليس انّ العجم يسمّون اللّه تعالى بقولهم : « خداى » و الترك بقولهم « تنكرى » و الاُمّة لايمنعون من هذه الألفاظ؟ أجاب : إنّ ذلك من باب الاجماع فيبقى ما عداه على الأصل (2).
    يلاحظ عليه : إنّ جواز ذلك ليس من باب الاجماع فإنّ ذلك كان ذائعاً قبل بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله فإنّ كلّ أمّة حسب وحي الفطرة تشير إلى القوّة الكبرى السائدة على العالم بلفظ من الألفاظ و لم ينقل عن أحد منع الشعوب عن التكلّم بلسانها عمّا تجده في فطرتها و الزامهم على التعبير عنه باللفظ العربي أو غيره.
    و الذي أظن أنّ تسميته بما ليس فيه ايهام لما لايصحّ وصفه به جائز لامانع منه ، و أمّا توصيفهبه ، فلاوجه لمنعه لأنّ مدلول اللفظ لمّا كان ثابتاً في حقّه تعالى كان وصفاللّه تعالى به كلاماً صادقاً.
1 ـ لوامع البينات للرازي ص 39.
2 . لوامع البينات للرازي ص 39.


(45)
    ثم إنّه ربما يستدل على التوقيفية بقوله سبحانه : ( وَ للّهِ الاَْسْماءُ الْحُسْنى فَاُدْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى اَسْمائِهِ سَيُجْزَونَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) ( الأعراف/180 ).
    و الاستدلال مبني على أمرين :
    1 ـ إنّ اللام في الأسماء الحسنى للعهد تشير إلى الأسماء الواردة في الكتاب والسنّة.
    2 ـ إنّ الالحاد هو التعدي إلى غير ما ورد فيهما.
    و كلا الأمرين غير ثابت ، أمّا الأوّل فالظاهر ان اللام في الأسماء للاستغراق قدّم عليها لفظ الجلالة لأجل إفادة الحصر و معنى الاية انّ كلّّ اسم أحسن في عالم الوجود فهو للّه سبحانه لايشاركه فيه أحد ، فإذا كان اللّه سبحانه ينسب بعض هذه الأسماء إلى غيره كالعالم و الحيّ فأحسنها للّه أعني الحقائق الموجودة بنفسها ، الغنيّة عن غيرها و الثابتة أيضاً لغيره من العلم و الحياة و القدرة المفاضة من جانبه سبحانه من تجلّيات صفاته و فروعها و شؤنها ، و الآية بمنزلة قوله سبحانه : ( اِنَّ الْقُوَةَ لِلّهِ جَمِيعاً ) ( البقرة/165 ) و قوله : ( فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ) ( النساء/139 ) و على ذلك فمعنى الاية : إنّ للّه سبحانه حقيقة كلّ اسم أحسن لايشاركه غيره إلاّ بما ملّكهم منه كيفما أراد و حيث شاء.
    و أمّا الثاني فلأن الالحاد هو الميل عن الوسط إلى أحد الجانبين و هو يتصوّر في أسمائه بوجوه :
    1 ـ اطلاق أسمائه على الأصنام بتغييرما كاطلاق « اللات » المأخوذ من الاله بتغيير على « الصنم » المعروف ، و اطلاق « العزّى » المأخوذ من العزيز ، فكان المشركين يلحدون و يميلون عن الحقّ بسبب هذه الإطلاقات لإرادتهم التشريك والحطّ من مرتبة اللّه.


(46)
    2 ـ تسميته بما لايجوز وصفه به لما فيه من النقص كوصفه سبحانه بأبيض الوجه وجعد الشعر ، و مثله تسميتة بالخادع و الماكر و الكائد.
    3 ـ تسميته ببعض أسمائه دون بعض حيث كان العرب يقولون : « يا اللّه و يا رحيم » و لايقولون « يا رحمان » و لدفع ذلك قال سبحانه : ( قُلِ ادْعُوا اللّهَ اَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ اَيّاً ما تَدْعُوا فَلَهُ الاَْسْماءُ الْحُسْنى ) ( الاسراء/10 ). و قال سبحانه : ( وَ اِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ ما الْرَّحْمن اَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً ) ( الفرقان/60 ).
    إلى غير ذلك من أقسام الإلحاد و العدول عن الحقّ في أسمائه.
    و بذلك يظهر أنّه لامانع من توصيفه سبحانه بالواجب أو واجب الوجود أو الصانع أو الأزلي أو الابدي و ان لم ترد فيها النصوص مع أنّه سبحانه يقول : ( صُنْعَ اللّهِ الَّذِى اَتْقَنَ كُلَّ شَىء ) ( النمل/88 ).
    و أضعف من القول بالتوقيف ، القول بأنّ الذي ورد به التوقيف تسعة و تسعون اسماً ، حيث روا عن رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ) « إنّ للّه تبارك و تعالى تسعة و تسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة » و قد أخرج الترمذي و ابن المنذر و ابن حبّان و ابن مندة و الطبراني و الحاكم و المردويه و البيهقي فهرس هذه الأسماء باسنادهم عن أبي هريرة (1).
    مع انّه ورد في الكتاب و السنّة أسامي خارجة عن التسعة و التسعين كالبارئ ، و الكافي ، و الدائم ، و البصير ، و النور ، و المبين ، و الصادق ، و المحيط ، والقديم ، و القريب ، و الوتر ، و الفاطر ، و العلاّم ، و المليك ، و الأكرم ، و المدبّر ، و الرفيع ، و ذي الطول ، و ذي المعارج ، و ذي الفضل ، و الخلاّق ، و المولى ، والنصير ، و الغالب ، و الرب ، و الناصر ، وشديدالعقاب ، و قابل التوب ، وغافرالذنب ، و مولج الليل في النهار ، و مولج النهار في الليل ، و مخرج الحي من
1 ـ سيوافيك نقله من صحيح الترمذي ، و نقله السيوطي عنه في الدرّ المنثور.

(47)
الميت ، ومخرج الميت من الحي ، والسيّد ، والحنّان ، والمنّان.
    وقد شاع في عبارات العلماء المريد ، و المتكلّم ، و الشىء ، و الموجود ، والذات ، و الأزلي ، و الصانع ، و الواجب (1). أضف إلى ذلك : إنّ اثبات الشيء لايدل على نفي ماعداه ، فعدم ورود بعض الأسماء في هذه الرواية لايدل على تحريم تسميتهبه.

الروايات و توقيفية الأسماء
    و ربّما يستدل على توقيفية الأسماء ببعض الروايات المرويّة عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) .
    1 ـ فعن محمدبن حكيم قال : كتب أبوالحسن موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) إلى أبي : « إنّ اللّه أعلى و أجل و أعظم من أن يبلغ كنه صفته ، فصفوه بما وصف به نفسه و كُفّوا عمّا سوى ذلك » (2).
    و الشاهد في قوله : « كفّوا عمّا سوى ذلك »
    2 ـ ما رواه حفص أخو مرازم عن المفضّل. قال سألت أباالحسن ( عليه السلام ) عن شيء من الصفة فقال : لاتجاوزوا ما في القرآن (3).
    و الروايتان لاتخلوان من الضعف سنداً و دلالة ، فقد ورد في سندهما سهل بن زياد و هو ضعيف ، كما اشتمل الثاني على ضعيف كسندي بن ربيع ، و مجهول كحفص « أخومرازم » ، و امّا ضعف الدلالة فمن المحتمل جداً إنّ الهدف منع تسميته بما يسمّى به عوام الناس من غير اكثرات ، فربما يسمّونه باُمور يشتمل على
1 ـ شرح المقاصد للتفتازاني ج 2 ص 172.
2 ـ الكافي ج 1 باب النهي عن الصفة بغير ما وصف اللّه به نفسه الحديث 6.
3 ـ المصدر نفسه.


(48)
جهات من النقص و التشبيه ، فلأجل ذلك يقول الامام : « كفّوا عمّا سوى ذلك » أو « لاتتجاوزوا ما في القرآن » ، و أمّا إذا كانت التسمية بريئة عن النقص و العيب ، مناسبة لساحته سبحانه من العزّ و التنزيه كتوصيفه بواجب الوجود فالروايات منصرفة عنه.
    و الذي يقوّي ذلك الاحتمال انّه ورد في الأوساط الاسلامية صفات خبرية تعد من بدع اليهود و النصارى فقد أدخلها أحبار اليهود و رهبان النصارى حتى يشوّهوا بذلك عقائد المسلمين كما حقّفناه في موسوعتنا حول الملل و النحل (1).
    و أمّا إذا كانت التسمية و التوصيف مطابقة للضوابط التي يستقل به العقل في توصيفه و تحميده و تكريمه فالروايتان منصرفتان عنه ، و بذلك يتّضح أنّه يصحّ تسميته بواجب الوجود ، و توصيفه بالضرورة الأزلية ، و غير هما مما ورد في كتب الفلسفة و العرفان.

4 ـ بساطة الذات و كثرة الأسماء
    إنّ الكتاب و السنّة يثبتان للّه سبحانه أسماءً و صفات متكثّرة و مختلفة هذا من جانب ، و من جانب آخر تدل البراهين العقلية على أنّه سبحانه بسيط غير متكثّر فعندئذ كيف تجتمع البساطة مع كثرة الصفات؟ فهما متغايران في بدء النظر.
    و إن شئت قلت : إنّ الوحدة كمال و الكثرة نقصان ، و هذا يقتضي وحدة الذات من دون طروء كثرة هناك. هذا من جانب.
    و من جانب آخر : إنّ الموجود الذي هو قادر على جميع المقدورات ، و عالم بجميع المعلومات ، حيّ ، حكيم ، سميع ، بصير ، أكمل من الموجود الذي ليس كذلك فلامناص من اثبات الصفات المختلفة عليه و عندئذ يقع العقل في حيرة
1 ـ لاحظ : الجزء الأوّل من تلك الموسوعة التي انتشرت باسم « بحوث في الملل و النحل ».

(49)
ودهشة بسبب تعارض هذين الأمرين و كلّ منهما يهدف إلى اثبات الكمال للّه سبحانه ولأجل ذلك ذهبت فرقة إلى نفي الصفات خوفاً من انكار الوحدانية ، كما انّ طائفة اُخرى وقعوا في مغبّة الكثرة رغبة في توصيفه بالصفات الكمالية ، و هناك ثلّة جليلة جمعوا بين الوحدة و البساطة ، و كونه متّصفا بصفات كمالية مختلفة.
    ثمّ ان الإشكال إنّما هو في الصفات الجمالية التي يعبّر عنها بالصفات الثبوتية لكونها راجعة إلى صفات وجودية تختلف كلّ منها عن الاُخرى ، فيُشكل الجمع بينها و بين القول بالوحدة و البساطة ، و أمّا الصفات الجلاليّة أعني الصفات السلبية مثل قولنا ليس بجسم و لاعرض فلاتوجب كثرة السلوب ، كثرة في الذات بشهادة انّه يصحّ سلب كثير من الاُمور عن الجزء الذي لايتجزئ.
    و مثلها كثرة النسب و الاضافات التي تنسب إلى الذات في مرحلة متأخّرة فهي لاتوجب كثرة في الذات ، و ذلك نظير الوحدة فإنّها أبسط الأشياء مع أنّه يلحقها اُمور إضافية و نسبيّة. فيقال : الواحد نصف الاثنين ، و ثلث الثلاثة ، و ربع الأربعة وهكذا إلى غير النهاية من النسب و الاضافات العارضة للواحد ، فالكلام كلّه في الصفات الثبوتية كالعلم و القدرة و الحياة التي لها حقائق خارجية.
    ثمّ ان بعض المتكلّمين لمّا لم يتوفّق للجمع بين وحدة الذات و كثرة الصفات لجأ إلى أحد الأمرين :
    الأوّل : إرجاع الصفات الثبوتية إلى السلبية و قد عرفت انّ كثرة السلوب لاتنثلم به وحدة الشيء فمعنى كونه عالماً أنّه ليس بجاهل ، و معنى كونه قادرا أنّه ليس بعاجز و هكذا و هذه النظرية منسوبة إلى أبي إسحاق النظام ، و لكنّها غير تامّة لأنّه سبحانه واجد لواقعيّة هذه الكمالات حسب الأقيسة العقلية ، و حسب ما يرشد إليه الكتاب و السنّة فهو متصف بالعلم و القدرة ، و بالتالي يطرد عن ذاته الجهل والعجز في الدرجة الثانية لا أنّه ليس له هذه الكمالات و إنّما يسلب عنه النقائص.


(50)
    الثاني : القول بالنيابة و حاصله أنّه ليس هناك علم و لاقدرة ولاحياة و لكن يترتب على الذات ما يترتب على وجود هذه الصفات ، فالذات لأجل كمالها تقوم مقامها و هذا القول منقول عن بعض المعتزلة (1). و هو أيضاً مخالف للبرهان وظاهر الكتاب و السنّة.
    إنّ هناك طائفة جليلة و في مقدّمتهم الراسخون في الحكمة الالهية جمعوا بين بساطة الذات و اتّصافه بحقائق هذه الأوصاف بمعنى : إنّ وجوداً واحدا كلّه علم ، وكلّه قدرة ، و كلّه حياة ، لا أنّ بعضه علم ، و بعضه الآخر قدرة ، و بعضها الثالث حياة و لايقف عليه إلاّ من له قدم راسخ في الأبحاث الفلسفية و لأجل ذلك نرى أنّ الفخر الرازي يردّ هذه النظرية بسهولة ، فيقول « و هذا أيضاً ضعيف لأنّ المفهوم من كونه « قادراً » غير المفهوم من كونه « عالماً » و حقيقة الذات الواحدة ، حقيقة واحدة والحقيقة الواحدة لاتكون عين الحقيقتين ، لأنّ الواحد لايكون نفس الاثنين » (2).
    ثمّ اختار أنّ صفاته سبحانه زائدة على الذات و لم يبال بوجود الكثرة في ساحة الذات و تعدد القدماء ، و الحقّ إنّ المسألة تعدّ من الأسرار الالهية التي يستصعب ادراكها إلاّ على من آتاه اللّه من لدنه علماً و حكمة كما أشار إليه صدرالمتألّهين (3).
    فنقول : إنّ ما ذكره الرازي مردود بوجهين :
    أوّلاً : فبالنقض بأنّ موجوداً امكانياً كزيد كلّه معلوم للّه سبحانه ، و كلّه مقدور له و حيثيّة المعلومية في الخارج ، نفس حيثية المقدورية و ليست حيثية المعلومية في الخارج مغايراً لحيثية المقدورية ، و إلاّ يلزم أن تكون الحيثيّة الثانية غير معلومة للّه سبحانه ، و هو خلف ، لفرض كونه عالماً بكلّ شىء و لأجل ذلك نقول : ثبت في
1 ـ هو رأي « عبّاد بن سليمان المعتزلي » و الجبائيان خلافاً لأبي الهذيل العلاّف عنهم ، لاحظ « بحوث في الملل و النحل ج 2 ص 80 ـ 81 ».
2 ـ لوامع البينات للرازي ص 24.
3 ـ الأسفار الأربعة : ج 6 ص 10.
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس