و ممّا يقضي منه العجب أنّ جلّ من ينسبون أنفسهم إلى مذهب السلفيّة ينكرون ذكر اللّه تعالى بالاسم المفرد ( اللّه ) دون ذكره في جملة ذات معنى تامّ ، و ينسبون من يذكر اللّه باسمه المفرد وحده إلى الضلال و يستدلّون على ذلك بأنّ جميع ما ورد من صيغ الأذكار في القرآن و السنّة جمل أو كلمات ذات دلالة على معنى يتضمّن حكماً كاملاً مثل لا إله إلا اللّه ، استغفر اللّه و ليس فيها لفظ الجلالة المفرد ، فذكر اللّه بهذا اللفظ المفرد باطل ، ويضيف ابن تيميّة بأنّ الاستمرار على ذكر اللّه بهذا اللفظ المفرد من شأنه أن يزجّ الذاكر شيئاً فشيئاً في أوهام الحلول و وحدة الوجود (1). لقد عزب عنه و مضافاً إلى أنّ اطلاقات الأدلّة (2) كاف في ذلك أنّه سبحانه يأمر نبيّه أن يذكر اللّه باسمه المفرد و يقول : ( قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) ( الانعام/91 ). و إمّا ما ذكره به في آخر كلامه من أنّ الاستمرار على ذكر اللّه عسى أن يزجّ الرجل في أوهام الحلول شيئاً فشيئاً لاقيمة له فانّه اجتهاد تجاه النص أولاً ، و هو بنفسه موجود في سائر الأسماء ثانياً.
قد ورد لفظ « الأحد » بصوره المختلفة في الذكر الحكيم 74 مرّة و قد وقع وصفاً له سبحانه في موردين فقط.
1 ـ مجموع الفتاوى ج 10 ص 556. 2 ـ مثل قوله سبحانه : ( و اذكر اسم ربك بكرة و أصيلاً ) ( الدهر/25 ) ، و قوله سبحانه : ( واذكر ربّك فى نفسك تضرّعاً و خيفة و دون الجهر من القول بالغدوّ و الاصال و لاتكن من الغافلين ) ( الأعراف/205 ).
(122)
قال سبحانه : ( قُلْ هُوَ اللّهُ اَحَدٌ اللّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً اَحَدٌ ). قال ابن فارس : أحد و الأصل « وحد » ، و عن الزجّاج : إنّه مأخوذ من « الواحد » و قال الأزهري : أنّه يقال : وحد يوحد فهو وَحَد ، كما يقال : حسن يحسن فهو حسن ثم انقلبت الواو همزة فقالوا « أحد » ، و الواو المفتوحة قد تقلب همزة كما تقلب المكسورة و المضمومة و منها امرأة اسماء بمعنى وسماء من الوسامة. و قد ذكروا فروقاً بين الواحد و الأحد و إليك البيان : 1 ـ إنّ الواحد اسم لمفتتح العدد فيقال : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، و لايقال أحد ، اثنان ، ثلاثة ، قال الصدوق : الأحد ممتنع من الدخول في الضرب و العدد و القسمة و في شيء من الحساب ، و الواحد منقاد للعدد و القسمة و غيرهما داخل في الحساب فتقول : واحد في اثنين أو ثلاثة ، و « الأحد » ممتنع عليه هذا ، فلايقال : أحد بين اثنين (1). 2 ـ إنّ لفظه « أحداً » إذ وضعت في حيّز النفي تفيد عموم النفي بخلاف لفظة « الواحد » فهو منصرف إلى نفي العدد لا إلى نفي الجنس ، فلو قيل ما في الدار واحد يصحّ أن يقال بل فيها اثنان ، و امّا لو قيل ما في الدار أحد بل اثنان كان خطأ. 3 ـ إنّ لفظ الواحد يمكن جعله وصفاً لكلّ شيء يقال رجل واحد ، ثوب واحد بخلاف الأحد فلايصحّ وصف شيء في جانب الاثبات بالأحد إلاّ اللّه الأحد فلايقال رجل أحد و لاثوب أحد فكأنّه تعالى استأثر بهذا النعت. و أمّا في جانب النفي فقد يذكر هذا في غير اللّه تعالى أيضاً فيقال : ما رأيت أحداً و على هذا فالأحد و الواحد كالرحمان و الرحيم.
1 ـ التوحيد للصدوق : ص 197 بتلخيص.
(123)
فالأوّل مختص دون الثاني ، فكذلك الأحد فهو مختص به في مقام التوصيف دون الواحد ، و قال الراغب ( من أقسام استعمالاته ) أن يستعمل مطلقاً وصفاً و ليس ذلك إلاّ في وصف اللّه ( قل هو اللّه أحد ) (1). و قداحتمل الرازي أنّ تنكير أحد في قوله « قل هو اللّه أحد » لأجل أنّه صار نعتاً للّه عزّ و جلّ على الخصوص فصار معرفة فاستغنى عن التعريف. و يحتمل أن يكون التنكير لأجل التنبيه على كمال الوحدانية كقوله سبحانه : ( وَ لَتَجِدَنَّهُمْ اَحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياة ) ( البقرة/96 ). أي على حياة كاملة مضافاً إلى استعمال الأحد في الأدعية معرفة. قال الأزهري سئل أحمد بن يحيى عن الآحاد هل هو جمع الأحد؟ فقال : معاذ اللّه ليس للأحد جمع و لايبعد أن يقال الآحاد جمع واحد كما أنّ الاشهاد جمع شاهد (2). ثمّ إنّه اجتمع في قوله سبحانه : ( قُلْ هُوَ اللّهُ اَحَدٌ ) ألفاظ ثلاثة من أسماء اللّه و كلّّ واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات السائرين إلى اللّه. أمّا الأوّل أعني لفظة « هو » فقد جاء به من دون ذكر مرجع و قد زعم النحويّون غير البارعين في المعارف الإلهية انّه للشأن و لكن يمكن أن يقال : انّه ليس للشأن و إنّما يرجع إليه سبحانه و التعبير به من دون ذكر المرجع يناسب البارعين الذين نظروا إلى صفحة الوجود فلم يروا موجوداً مستحقاً لاطلاق اسم الوجود أو الموجود إلاّ ايّاه فكأنّه ليس في الدار غيره ديّار فكان قوله « هو » كافياً في حق هذه الطائفة لأنّه إذ لم يكن في صفحة الوجود إلاّ هو كانت الإشارة المطلقة لاتتوجه إلاّ إليه و غيره يحتاج إلى مرجع.
1 ـ المفردات : ص 12. 2 ـ لوامع البينات : ص 331.
(124)
ثمّ انّه سبحانه أوضحه بقوله « اللّه » و لعلّه لتفهيم طبقة اُخرى تليهم في المعرفة و هم الذين يرون الكثرة في الوجود و انّ هناك واجباً و ممكناً فاحتاج ضمير الإشارة إلى مميز و ذلك هو قوله اللّه ، و على هذا فالمجموع « هو اللّه » راجع إلى الطبقتين. و أمّا الطبقة الثالثة الذين يجوّزون الكثرة لا في الوجود بل في الإله ، فردّ سبحانه وهمهم بقوله « هو اللّه أحد » لهدايتهم (1). ثم انّه سبحانه كرر لفظة « أحد » في سورة الإخلاص و وصف نفسه به مرّتين و قال قل هو اللّه أحد ثم قال : و لم يكن له كفوا احد ، فهل اُريد من اللفظة في كلاالموردين معنى واحد أو اُريد معنيان؟ و بعبارة واضحة هل اللفظتان تشيران إلى قسم واحد من التوحيد أو إلى قسمين ، فالظاهر أنّ الاية الثانية ناظرة إلى التوحيد الذاتي بمعنى انّه واحد لامثيل له و لانظير بل لايتصور له التعدد و الاثنينية ، و أمّا الاية الاُولى فهي ناظرة إلى التوحيد الذاتي لكن بمعنى البساطة و نفي التجزئة عن الذات. و قد فسّره الصدوق بذلك في توحيده فقال : الأحد معناه أنّه واحد في ذاته أي ليس بذي أبعاض و لاأجزاء و لاأعضاء (2). قال الطبرسي : الأحد هو الذي لايتجزأ و لاينقسم في ذاته و لا في صفاته (3). و يقول الجزائري في « فروق اللغات » في الفرق بين الواحد و الأحد : إنّ الواحد ، الفرد الذي لم يزل وحده و لم يكن معه آخر ، و الأحد الفرد الذي لايتجزّأ و لاينقسم. يقول العلامة الطباطبائي ( ره ) : « و الأحد وصف مأخود من الوحدة كالواحد غير أنّ الأحد إنّما يطلق على ما
1 ـ لوامع البينات : ص 311 ، و توحيد الصدوق : ص 196. 2 ـ توحيد الصدوق : ص 196. 3 ـ مجمع البيان : ج 5 ص 564.
(125)
لايقبل الكثرة لاخارجا و لاذهناً » (1).
و في ضوء هذا يمكن أن يقال : إنّ قوله سبحانه و لم يكن له كفواً أحد بشهادة لفظ « كفوا » ناظر إلى نفي المثيل و النظير له سبحانه ، فهو واحد في الذات فلاذات كذاته كما هو واحد في الفعل فلاخالق و لامدبّر سواه و انّ قوله : « قل هو اللّه أحد » ناظر إلى نفي أي نوع من التركيب و التجزئة في ذاته سبحانه ، و بذلك يعلم أنّ هذه السورة نزلت ردّاً لمزعمة النصارى بل اليهود أيضاً فالنصارى بحجّة أنّهم قالوا بالتثليث و اليهود بحجة أنّهم يقولون : إنّ العزير ابن اللّه محجوجون بما ورد في هذه السورة فاللّه سبحانه واحد لامثيل له ، بسيط لاجزء له. فلو كان مرجع التثليث عند المسيحية إلى أنّ كلّّ واحد من « الأب » و « الابن » و « روحالقدس » إله مستقل متفرّد في الإلوهية فله كفو بل كفوان مع أنّه سبحانه « لم يكن له كفوا أحد » أي لم يكن له مثيل و لانظير فلايتكرر و لايتعدد ، و إن لم يكن كلّّ واحد إلهاً مستقلاً بل كلّّ واحد يشكّل جزء من الالوهية فاللّه سبحانه هو المركب من هذه الثلاثة فهو سبحانه عندهم مركّب لابسيط متجزىء منقسم. فردّ عليهم سبحانه بقوله : ( قل هو اللّه أحد ). و قد ورد في ما روي عن بعض أئمّة اهل البيت ( عليهم السلام ) ما يؤيّد هذا الاستظهار. قال الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في جواب اعرابي سأله يوم الجمل عن تفسير قوله : « إنّ اللّه واحد » فقال ( عليه السلام ) في كلام مبسوط : « و إمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربّنا و قول القائل انّه عزّ و جلّ أحدي المعنى يعني به أنّه لاينقسم في وجود و لاعقل و لاوهم كذلك ربنا » (2). و بذلك تقف على أنّ التوحيد الذاتي ينقسم إلى التوحيد في الواحديّة و
1 ـ الميزان ج 20 ص 543. 2 ـ توحيد الصدوق : ص 83 ـ 84.
(126)
التوحيد في الأحديّة فيفسر الأوّل بنفي المثل و الثاني بنفي التركيب و التجزئة و التقسيم.
و بذلك يمكن إصطياد البرهان على كون صفاته سبحانه الثبوتيّة الكماليّة عين ذاته كما عليه الاماميّة من العدليّة و بعض المعتزلة ، لازائد عليه كما عليه الشيخ الأشعري و من تبعه لوضوح انّ حديث الزيادة يستلزم التركيب و التجزئة ، و هما آيتاالامكان ، و الامكان ينافي الوجوب ، و إلى ذلك يشير الامام أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) بقوله : « و كمال الإخلاص له نفي الصفات ( الزائدة ) عنه بشهادة كلّّ صفة أنّها غير الموصوف وشهادة كلّّ موصوف أنّه غير الصفة. فمن وصف اللّه ( أي بوصف زائد على ذاته ) فقد قرنه أي قرن ذاته بشيء غيره ، و من قرنه فقد ثنّاه ، و من ثنّاه فقد جزّأه ، و من جزّأه فقد جهله » (1). و هذا بعض الكلام حول « الاحد » ، و سيوافيك ما يفيدك عند البحث عن اسم « الواحد ».
لقد ورد لفظ « الأوّل » بصوره المختلفة في الذكر الحكيم 62 مرّة و وقع وصفاً له سبحانه في آية واحدة ، قال : ( هُوَ الاَْوَّلُ وَ الاْخِرُ وَ الظّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ ) ( الحديد/3 ). قال ابن فارس : الأوّل : ابتداء الأمر و الاخر نقيض المتقدّم (2) و قال الراغب : « فالأوّل هو الذي يترتّب عليه غيره » (3). و قد وصف سبحانه في الآية بصفات متضادّة غير مجتمعة حيث تصفه بأنّه
1 ـ نهج البلاغة الخطبة1. 2 ـ المقاييس ج 1 ص 158 و 70. 3 ـ المفردات : ص 31.
(127)
الأوّل و في الوقت نفسه الاخِر ، كما تصفه بأنّه الظاهر و في الوقت نفسه بأنّه الباطن فلو كان أوّلاً كيف يكون آخراً ، و لو كان ظاهراً فكيف يكون باطناً؟ فأوّل الناس في العمل لايكون آخرهم فيه و هكذا الظاهر و الباطن ، و مع ذلك كلّه فاللّه سبحانه جمع بين هذه الصفات جمعاً حقيقياً واقعياً لامجازياً و ذلك بإحاطته على الموجودات الامكانية و قيامهم به قيام المعنى الحرفي بالاسمي ، فكما لايمكن خلو المعنى الحرفي عن الاسمي فهكذا لايمكن خلو الوجود الإمكاني عن الوجود الواجبي ، و ليس حديث نفي الخلو حديث الممازجة بل المقصود الاحاطة القيومية التي له سبحانه بالنسبة إلى العالم كلّه ، فالعالم بما فيه من الكبير إلى الصغير و من المجرّة إلى الذرّة ، و من المادّي إلى المجرّد ، قائم به سبحانه قيام المعلول بعلّته ، نظير قيام الصور الذهنيّة بالنفس فهو مع الأشياء كلّها ( وَ هُوَ مَعَكُمْ اَيْنَما كُنْتُمْ ) ( الحديد/57 ) فإذا كان محيطاً بوجوده على كلّّ شيء فكلّ ما فرض أوّلاً فهو قبله بحكم كونه محيطا و الشيء محاطا ، فهو الأوّل دون الشيء المفروض اولا ، و كلّّ ما فرض آخراً فهو بعده لحديث إحاطة وجوده به من كلّّ جهة ، فهو الآخر دون الشيء المفروض و ليست أوليّته تعالى و لاآخريته زمانيّة و لامكانيّة بل بمعنى كونه محيطاً بالأشياء على أيّ نحو فرض و كيفما تصوّرت.
و على ذلك فالأوّل و الآخر من فروع اسمه « المحيط » فبما أنّ وجوده محيط بكلّ شيء فهو الأوّل قبل الاشياء و الاخر بعد الأشياء. و لأجل ذلك روي عن الإمام علي ( عليه السلام ) أنّه قال : « ما رأيت شيئاً إلاّ و رأيت اللّه قبله و معه و بعده ». و هذا هو العرفان الكامل. و الظاهر أنّ توصيفه بالأوليّة و الآخريّة مبني على إحاطة وجوده بالأشياء و يؤيّده قوله في الاية التالية ( وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ ) ( الحديد/57 ) و إمّا تفسير الاية باحاطة قدرته كما عن بعض المفسّرين فلاينافي ما ذكرناه بل هو يرجع إلى ما ذكرنا لكون قدرته نفس ذاته فإحاطة قدرته لاتنفك عن إحاطة ذاته ، و على ذلك فمعنى الاية
(128)
هو أوّل الأشياء و آخرها ، و انّه لو فرض شيء فهو أوّله كما أنّه آخره بحكم المحيطيّة و المحاطيّة.
و يمكن أن يقال : إنّ الوصفين تعبيران عن أزليّته و أبديّته فبما أنّه واجب الوجود و انّ وجوده نابع من صميم ذاته غير مكتسب من مقام آخر ، يكون أزليّاً فلايكون لوجوده ابتداء كما لايكون لوجوده انتهاء ، و بعبارة اخرى فرض كون وجوده واجباً بالذات يستلزم أن لايتطرّق إليه العدم أبداً لا في السابق و لافي اللاحق و هو يساوق أزليّته و أبديّته و هو يستلزم أن لايكون له ابتداء و لاانتهاء و لاأوّل و آخر ، ولو وصف بالأوليّة و الآخرية يكون المراد منهما أنّه الأول بلاابتداء و الآخر بلاانتهاء ، و هذا معنى آخر غير ما ذكرنا. و الفرق بين المعنيين واضح فإنّ توصيفه بهما في المعنى الأوّل ينبع من كونه محيطا بالأشياء كما أنّ توصيفه بهما في المعنى الثاني ينبع من كونه واجب الوجود ممتنع العدم ، و هو خيرة الصدوق في توحيده حيث قال : « إنّه الأوّل بغير ابتداء و الاخر بغير انتهاء (1). ثمّ إنّ هذه الآية قدوقعت مجالاً لأرباب الاشارات فذكروا في تفسيرها وجوهاً كثيرة تناهز 24 وجهاً (2) كلّها من قبيل التفسير الإشاري ، و قد ذكرنا في محله ان قسماً منه تفسير جائز و قسماً آخر تفسير ممنوع.
و قدورد لفظ « الأعلى » في الذكر الحكيم 9 مرّات و وصف به سبحانه في
1 ـ توحيد الصدوق : ص 197 ، و ذكر ابن فارس في المقاييس : « إنّ العرب تقول : أوّل ذي أول. و أول أول و يريد قبل كل شيء » ج 1 ص 158. 2 ـ لوامع البينات : ص 323 ـ 326.
(129)
آيتين قال : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاَْعْلى ) ( الاعلى/1 ).
و قال سبحانه : ( وَ ما لاَِحَد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَة تُجْزى اِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاَْعْلى ) ( الليل/20 ). و ربّما وصف به مثله ( بالفتح ) سبحانه قال : ( لِلَّذِينَ لايُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَ لِلّهِ الْمَثَلُ الاَْعْلى وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ( النحل/60 ). و قال سبحانه : ( وَ هُوَ الَّذِى يَبْدَؤُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُو أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الاَْعْلى فِى السَّمواتِ وَ الاَْرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ( الروم/27 ). و الأعلى في الآيتين الأوليّتين ـ كما هو الظاهر ـ وصف للرّبّ ، و في الاخيرتين وصف للمثل ( بالفتح ) ، و المراد من « المثل » هو الوصف و التوصيف (1). و « الأعلى » من العلو و هو الرفعة قال ابن فارس : « العلوّ : أصل واحد يدل على السموّ و الإرتفاع ، لايشذ عنه شيء ، من ذلك العلى و العلوّ ، و يقولون : تعالى النهار : ارتفع ». أقول : المراد من العلوّ ، هو العلوّ من حيث الرتبة و الدرجة لأنّه المبدأ لكلّّ شيء ، و المفيض له و المحيط به ، فذاته سبحانه أرفع من كلّّ موجود محدود ، يعلو كلّّ عال ويقهر كلّّ شيء فبما أنّه عال و له العلوّ المطلق ، فله الوجود الكامل ، و هذا يلازم كونه ذا أسماء حسنى ومعه يجب تسبيح اسمه وتنزيهه عمّا لايليق من الأسماء. و كما انّه عليّ في ذاته ، عال من حيث الصفات و الأوصاف ، و للّه سبحانه
1 ـ قال سبحانه : ( اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَيَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) ( الفرقان/9 ) ، و المراد من ضرب المثل للرسول هو توصيفه بصفات لاتليق به ، مثل توصيفه بأنّه « رجل مسحور » كما جاء في الآية المتقدمة عليها حيث قال سبحانه : ( وَ قَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً ) ( الفرقان/8 ).
(130)
الصفات العليا فله العلم الذي لايطرأ عليه الجهل ، و القدرة التي لاتعرضه عجز ، و الحياة التي لايحدّدها موت ، فهو سبحانه أعلى من أمثال السوء التي يتصف بها غيره.
فاللّه سبحانه أعلى ذاتاً و وجوداً ، و أعلى صفة وسمة. أمّا علوّ ذاته فلأجل كونه واجب الوجود و مبدع الممكنات و موجدها ، و أمّا علوّ صفاته فلأنّ كلّّ وصف كمالي يوصف به شيء في السماوات و الأرض كالحياة و القدرة و العلم و الملك و الجود و الكرم و العظمة و الكبرياء ، فله السهم الأعلى و لغيره الأدنى و ذلك لعدم محدوديّة صفاته بخلاف غيره. ثم انّه ربّما يفسّر « الأعلى » بالقاهر. قال الصدوق : و أمّا الأعلى فمعناه العليّ و القاهر و يؤيّد ذلك قوله عزّ و جلّ لموسى ( عليه السلام ) : ( لاتَخَفْ اِنَّكَ اَنْتَ الاَْعْلى ) ( طه/68 ) اي القاهر و قوله عزّ و جلّ في تحريض المؤمنين على القتال : ( وَ لاتَهِنُوا وَ لاتَحْزَنُوا وَ اَنْتُمُ الاَْعْلَونَ اِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران/139 ) و قوله عزّوجلّ : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاَْرْضِ ) ( القصص/4 ). أي غلبهم و استولى عليهم ، و قال الشاعر في هذا المعنى :
فلمّا علونا و استوينا عليهم
تركنا هم صرعى لنسر و كاسر
ثم قال ، و هناك معنى ثان و هو إنّه متعال عن الأشباه و الأنداد أي متنزّه كما قال : ( وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( يونس/18 ). و الظاهر تعين المعنى الثاني و هو الذي عبّرنا عنه بالرفعة وجوداً و صفة ثم الرفعة كما تتحقق بالصفات الكمالية على ما أوضحنا ، تتحقق بالتنزّه عن الأشباه و الأنداد و هو الذي ذكره الصدوق ، و أمّا المعنى الأوّل فالظاهر أنّه لازم المعنى الثاني فانّ العلو رتبة بل و مكاناً يستلزم القهر و الغلبة ، فالقهر و الغلبة ، من لوازم المعنى وليست نفس المعنى.