مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 131 ـ 140
(131)
السادس : « الأعلم »
    و قد ورد في الذكر الحكيم لفظ « الأعلم » 49 مرّة و لم يوصف به غيره سبحانه.
    قال سبحانه : ( يَقُولُونَ بِاَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَ اللّهُ اَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ ) ( آل عمران/167 ).
    و قال سبحانه : ( اللّهُ اَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) ( الأنعام/124 ) إلى غير ذلك من الموارد.
    و صيغة « أعلم » صيغة المفاضلة و معناه انّه يثبّت العلم لنفسه و غيره و لكنّه يفضّل علمه على غيره غير أنّه يعدل عنه في موارد بقرائن خاصّة مثل قوله سبحانه : ( وَ إِذا جائَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤتى مِثْلَ ما أُوتِىَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ اَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) ( الانعام/124 ) فعلّقوا إيمانهم و تصديقهم على أن يؤتوا مثل ما أوتى رسل اللّه بأن ينزّل عليهم الملك و الوحي ، فاجيبوا بقوله سبحانه ( اَللّهُ اَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) و المناسب لمقام الرد هو انسلاخ صيغة التفضيل من المفاضلة أي إنّه العالم دونهم بحجّة انّهم علّقوا ايمانهم على صدق النبي على أن يكونوا أنبياء مثله و هذا دليل على جهلهم المطبق ، فهم جهلاء و اللّه سبحانه هو العالم ، و نظير ذلك قوله سبحانه نقلاً عن « لوط » في حق بناته : ( يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) ( هود/78 ) و قوله سبحانه حاكياً عن يوسف ( رَبِّ السِّجْنُ اَحَبُّ إِلَىَّ مِمّا يَدْعُونَنِى اِلَيْهِ ) ( يوسف/33 ) و المناسب لمقام العصمة كون السجن محبوباً إليه دون غيره أعني الفحشاء ، و الحبّ بمعنى كونه موافقاً للغريزة الجنسية خارج عن مجال البحث قال سبحانه : ( قُلْ اَذلِكَ خَيْرٌ اَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِى وُعِدَ المُتَّقُونَ ) ( الفرقان/15 ) و المراد انّها خير دون الجحيم بل هي شر ، و على ذلك فالأصل في الصيغة هو الحمل على المفاضلة إلاّ إذا دلّ الدليل على خلافه ، نعم أدب العرفان و العبوديّة يقتضي توصيفه سبحانه فقط بالعلم.


(132)
السابع : « الأكرم »
    و قد وردت هذه اللفظة في الذكر الحكيم مرتين الاُولى قوله سبحانه : ( اِنَّ اَكْرَمَكُمْ عِنْدَاللّهِ اَتْقكُمْ ) ( الحجرات/13 ) و الثانية قوله سبحانه : ( اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الاَْكْرَمُ ) ( العلق/3 ).
    قال الراغب في مفرداته : « الكرم إذا وصف اللّه تعالى به فهو اسم لإحسانه و إنعامه المتظاهر نحو قوله : ( فَاِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ ) ( النمل/40 ) و إذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق و الأفعال المحمودة التي تظهر منه و لايقال هو كريم حتى يظهر ذلك منه.
    و على ذلك فمعنى قوله ( وَ رَبُّكَ الاَْكْرَمُ ) اي الأكثر كرماً الذي يفوق عطاؤه ما سواه ، فهو يعطى لا عن استحقاق و ما من نعمة إلا و تنتهي إليه سبحانه.
    قال الطبرسي : أي الأعظم كرماً فلايبلغه كرم كريم لأنّه يعطي من الكرم ما لايقدر على مثله غيره ، فكلّ نعمة توجد فمن جهته تعالى أمّا بأن اخترعها و أمّا بأن سبّبها و سهّل الطريق إليها.
    هذا و يمكن أن يقال :
    إنّه من الكرم بمعنى الشرف سواء كان في الشيء نفسه أو في خُلق من الأخلاق. يقال : رجل كريم و فرس كريم ، و أمّا السخاء و العطاء و الصفح عن ذنب المذنب فهو من آثاره ، قال في المقاييس نقلاً عن ابن قتيبة : الكريم : الصفوح و اللّه تعالى هو الكريم الصفوح عن ذنوب عباده المؤمنين (1) و على ذلك فمعنى قوله ( وَ رَبُّكَ الاَْكْرَمُ ) هو الأكمل في الشرف ذاتاً و فعلاً.
1 ـ معجم مقاييس اللغة ج5 ص 171 ـ 172.

(133)
الثامن : « أرحم الراحمين »
    و قد جاء « أرحم الراحمين » في الذكر الحكيم أربع مرّات و صفاً له سبحانه. قال سبحانه : ( وَ أَدْخِلْنا فِى رَحْمَتِكَ وَ اَنْتَ اَرْحَمُ الرّاحِمِينَ ) ( الاعراف/151 ). و قال سبحانه : ( فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَ هُوَ اَرْحَمُ الرّاحِمِينَ ) ( يوسف/64 ) ، و قال سبحانه : ( قالَ لاتَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَ هُوَ اَرْحَمُ الرّاحِمِينَ ) ( يوسف/92 ). و قال سبحانه : ( وَ اَيُّوبَ اِذْ نادى رَبَّهُ إِنِّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَ اَنْتَ أَرْحَمُ الراحِمِينَ ) ( الأنبياء/83 ).
    و جاء فيه « خير الراحمين » وصفاً له سبحانه مرّتين. قال : ( رَبَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ اَنْتَ خَيْرُ الراحِمِينَ ) ( المؤمنون/109 ). و قال : ( وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ اَنْتَ خَيْرُ الراحِمِينَ ) ( المؤمنون/118 ).
    قال ابن فارس : « الرحم أصل واحد يدل على الرقّة و العطف و الرأفة يقال من ذلك : رحمه يرحمه إذا رقّ له و تعطّف عليه ، و الرحم ، و المرحمة و الرحمة بمعنى ، و الرحم علاقة القرابة ثم سمّيت رحم الأنثى رحماً من هذا لأنّ منها ما يكون ما يرحم و يرقّ له من ولد ».
    قال الراغب : « و الرحمة رقّة تقتضي الإحسان إلى المرحوم و قد تستعمل في الرقة المجرّدة و تارة في الاحسان المجرّد عن الرقّة نحو « رحم اللّه فلانا » و إذا وصف به الباري فليس يراد به إلاّ الإحسان المجرّد دون الرقّة ، و على هذا روي : « إنّ الرحمة من اللّه إنعام و إفضال ، و من الآدميّين رقّة و تعطّف ... ».
    و ظاهر هذا أنّ الرقّة و التعطّف داخل في معنى الرحمة غير أنّ البرهان العقلي يجرّنا عند توصيفه سبحانه به إلى تجريده عن الرقّة لاستلزامها الإنفعال و هو محال على اللّه سبحانه.
    قال العلاّمة الطباطبائي : « الرحمن الرحيم من الرحمة و هي وصف انفعالي و


(134)
تأثر يلمّ بالقلب عند مشاهدة من يفقد أو يحتاج إلى ما يتم به أمره ، فيبعث الإنسان إلى تتميم نقصه و رفع حاجته إلاّ أنّ هذا المعنى يرجع بحسب التحليل إلى الإعطاء والافاضة لرفع الحاجة و بهذا المعنى يتّصف سبحانه بالرحمة » (1).

التاسع : « أحكم الحاكمين »
    و قد ورد « احكم الحاكمين » في القرآن وصفاً للّه سبحانه مرّتين.
    قال : ( وَ نادى نُوْحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ اِنَّ ابْنِى مِنْ اَهْلِى وَ اِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ اَنْتَ اَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) ( هود/45 ).
    و قال سبحانه : ( اَلَيْسَ اللّهُ بِاَحْكَمِ الحَاكِمِينَ ) ( التين/8 ).
    و الحكم في اللغة بمعنى المنع لإصلاح ، و سمّيت اللجام حَكَمة الدابّة لأنّها تمنعها و منه قول الشاعر :
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم
    ثمّ استعير في الحكم الفاصل و القضاء الباتّ بأنه كذا و كذا أو ليس بكذا وكذا لأنّه يمنع الخصمين عن التعدّي ، و سمّيت الحكمة حكمة لأنّها تمنع الرجل من فعل ما لاينبغي.
    قال سبحانه : ( وَ اِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ اَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) ( النساء/58 ) وقال : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْل مِنْكُمْ ) ( المائدة/95 ) فكما وصفه القرآن بأنّه « احكم الحاكمين » كذلك خصّ له الحكم و قال : ( اَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ اَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ) ( الأنعام/62 ) و قال : ( وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ اِلَيهِ تُرْجَعُونَ ) ( القصص/70 ) وقال : ( اَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ ) ( الزمر/46 ) إلى غير ذلك من الايات. بقي الكلام في المراد من قوله « أحكم الحاكمين ».
1 ـ الميزان ج1 ص 16.

(135)
    و أمّا قوله « أحكم » فهل المراد أنّه سبحانه أقضى القاضين؟ كما نقله الطبرسي وجهاً ، فقال : فيحكم بينك يا محمد و بين أهل التكذيب.
    الظاهر أنّ صيغة التفضيل في المقام بعد تسليم كونه بمعنى القضاء متضمّنة لمعنى الاحكام و الاتقان خصوصاً في الاية الاُولى حيث أنّها وردت بعد قول نوح : ( رَبِّ اِنَّ ابْنِى مِنْ اَهْلِى وَ اِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) فلايناسب تفسيره بأنّك أقضى القاضين إلاّ بتضمين « أحكم » معنى الإتقان و معناه إنّك فوق كلّّ حاكم في إتقان الحكم و حقّيّته و نفوذه من غير اضطراب و وهن فما جرى على ابني من الغرق في الماء عين حكمك الحكيم و قضاؤك الرصين.

العاشر : « أحسن الخالقين »
    و قد ورد « أحسن الخالقين » وصفاً للّه سبحانه في الذكر الحكيم مرتين. قال سبحانه : ( ... ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ اَحْسَنُ الخَالِقِينَ ) ( المؤمنون/14 ). و قال سبحانه ناقلاً عن إلياس : ( أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللّهَ * رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الاَْوَّلِينَ ) ( الصّافات/125 ـ 126 ) فهو سبحانه يصف نفسه في هاتين الايتين بأنّه « أحسن الخالقين » كما أنّه يصف فعله حسناً على الاطلاق في الايات الاُخر قال :
    ( اَلَّذِى أَحْسََنَ كُلَّ شَىء خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الاِنْسانِ مِنْ طِين ) ( السجدة/7 ).
    و قال : ( وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَيِّبَاتِ ) ( غافر/64 ).
    أمّا الخلق لغة فقد فسّر بمعنى تقدير الشيء ، يقال خلقت الأديم للسقاء إذا قدّرته. قال زهير :
و لانت تفري ما خلقت و بعض القوم يخلق ما يفري


(136)
    و من ذلك الخُلق : و هي السجيّة لأنّ صاحبه قد قدر عليه ، و الخلاق : النصيب لأنّه قد قدّر لكلّ أحد نصيبه.
    و يؤيّد كونه متضمّناً معنى الإيجاد قوله سبحانه : ( صُنْعَ اللّه الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ ) ( النمل/88 ) فانّ الصنع في الاية مكان الخلق و ليس الصنع صرف التقدير بل العمل عن تقدير. قال سبحانه : ( اَنِ اصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا ) ( المؤمنون/27 ).
    قال الراغب : ثم إنّ الخلق تارة يستعمل في إبداع الشيء من غير مادّة و لا احتذاء قال سبحانه : ( خلق السموات و الارض ) ( الأنعام/6 ) أي أبدعهما بدلالة قوله ( بديع السموات و الارض ) ( الأعراف/189 ) و أخرى في ايجاد الشيء من الشيء نحو : ( خلقكم من نفس واحدة ). و قال : ( خَلَقَ الجانَّ مِنْ مارِج مِنْ نار ) ( الرحمن/15 ) ثم قال : و الخلق الذي هو الابداع للّه تعالى و لهذا قال في الفصل بينه تعالى وبين غيره : ( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لايَخْلُقُ أَفَلاتَذَكَّرُُونَ ) ( النحل/17 ) و أمّا الذي يكون بالإستحالة فقد جعله اللّه تعالى لغيره في بعض الأحوال كعيسى حيث قال : ( وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى ) ( المائدة/110 ) (1).
    و الظاهر أنّ الراغب بصدد الجمع بين مفاد الاية المثبت لكون الخلق صفة مشتركة بين اللّه و بين غيره ، و بين الآيات الحاصرة لها في اللّه سبحانه حيث يقول : ( ذلِكُمْ اللّهُ رَبُّكُمْ لا اِلهَ اِلّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَىْء فَاعْبُدُوه ) ( الأنعام/102 ) فحصر الخلق في ابداع الشيء من غير أصل و لا احتذاء في اللّه سبحانه ، و أمّا الخلق بمعنى الإستحالة فأثبته للمسيح ، و بذلك ارتفع الخلاف بين الآيتين ، و إليه ذهب الطبرسي حيث قال : و في الاية دليل على أنّ اسم الخلق قد يطلق على فعل غير اللّه إلاّ أنّ الحقيقة في الخلق للّه سبحانه فقط ، فإنّ المراد من الخلق ايجاد الشيء مقدّراً
1 ـ المفردات للراغب : ص 157 ـ ماده خلق.

(137)
تقديراً لاتفاوت فيه ، و هذا إنّما يكون من اللّه سبحانه و تعالى دليله قوله : ( ألا لهُ الخلق ) (1).
    يلاحظ عليهما : إنّ الخلق من غير أصل يوصف به سبحانه و غيره فانّ النفوس المجرّدة تخلق الصور في صقع النفس من غير مادة ، و إنّما يرتفع الإختلاف بين القسمين من الايات بأنّه لامانع من تخصيص الخلق باللّه سبحانه و تشريك الغير معه أيضاً و ذلك لأنّ الخلق بمعنى فعل الفاعل ، المستقل في فعله ، غير المعتمد في خلقه على شيء ، غير المستعين في عمله من أحد يختصّ باللّه سبحانه ، وأمّا الخلق بمعنى فعل الفاعل ، غير المستقل في فعله ، المعتمد في وجوده وفعله على الواجب ، المستعين في كلّّ آن من الفياض المطلق ، فهو للإنسان خاصّة ، و يجمعهما لفظ الخلق وهو على وجه وصف مشترك ، وعلى وجه مختصّ باللّه سبحانه.

الحادي عشر : « أسرع الحاسبين »
    و قد ورد في الذكر الحكيم في مورد واحد. قال سبحانه : ( أَلاَ لَهُ الحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) ( الأنعام/62 ). كما وصفه في آية بأنّه أسرع مكراً.
    قال سبحانه : ( قُلِ اللّهُ اَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ ) ( يونس/21 ).
    و سيأتي البحث عنه عند الكلام في وصفه : « سريع الحساب ». كما يأتي البحث عن الاخر في البحث عن « خير الماكرين ».
الثاني عشر و الثالث عشر : « أهل التقوى و أهل المغفرة »
    و قد ورد في الذكر الحكيم هذان الاسمان في مورد واحد و وقعا اسمين له
1 ـ مجمع البيان ج4 ص 101 ، طبع صيدا.

(138)
    سبحانه. قال سبحانه : ( وَ ما يَذْكُرُونَ اِلّا اَنْ يَشاءَ اللّهُ هُوَ اَهْلُ التَّقْوى وَ اَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) ( المدثر/56 ).
    قال الطبرسي : أي هو أهل أن تتّقى محارمه و أهل أن يغفر الذنوب. روي مرفوعاً عن أنس قال : إنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ) تلا هذه الآية و قال : قال اللّه سبحانه : أنا أهل أن اُتقى فلايجعل معي إله ، فمن اتّقى أن يجعل معي الهاً فأنا أهل أنأغفرله (1).
    و الظاهر أنّ الأهل في الاية بمعنى الجدير. قال الراغب : « يقال فلان أهل لكذا أي خليق به » (2) و منه اشتقّ المؤهّل أي الجدير ، و المؤهّلات : القابليات.
    قال العلاّمة الطباطبائي : إنّ قوله : ( هو أهلُ التقوى و أهلُ المغفرة ) تعليل لقوله ( و ما يذكرون إلاّ أن يشاءَ اللّهُ ) فإنّ كونه تعالى أهل التقوى و أهل المغفرة لايتمّ إلاّ بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم (3).

الرابع عشر : « الأبقى »
    قد ورد لفظ « الأبقى » في الذكر الحكيم سبع مرّات ، و قد وصف به عذابه و رزقه و ما عنده و الاخرة ، و ورد في آية واحدة وصفاً له سبحانه فقال : ( إِنّا آمَنّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللّهُ خَيْرٌ وَ اَبْقى ) ( طه/73 ).
    و مضمون الآية إجابة على ما هدّد به فرعون السحرة و قال : ( وَ لاَ ُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ اَبْقى ) ( طه/71 ) و الآيتان ( اَيُّنَا اَشَدُّ عَذَاباً وَ اَبْقَى ) ( وَ اللّهُ خَيْرٌ وَ اَبْقَى ) على وتيرة واحدة و الضمير في صيغة التفضيل يرجع إلى
1 ـ مجمع البيان ج5 ص 362.
2 ـ المفردات : ص 30.
3 ـ الميزان ج2 ص 185.


(139)
اللّه سبحانه. إنّما الكلام في تعيين المتعلّق ، فربما يقال : إنّه الثواب أي و اللّه خير لنا منك و ثوابه أبقى لنا من ثوابك ، و ربما يقال : إنّ المتعلّق هو العقاب و المراد : و اللّه خير ثواباً للمؤمنين و أبقى عقاباً للعاصين و هذا جواب لقوله : و لتعلمنّ أيّنا أشدّ عذاباً و أبقى و لكن الظاهر أنّ المراد أوسع من ذلك و كأنّه قيل : إنّما آثرنا غفرانه على احسانك ، لأنّه خير و أبقى أي خير من كلّّ خير و أبقى من كلّّ باق ـ لمكان الاطلاق ـ فلايؤثر عليه شيء ، و بذلك يعرف معنى المقابلة بين كلام فرعون و السحرة فإنّه يصف نفسه في الاية الاُولى بالأبقى و السحرة تقابله بأنّه سبحانه أبقى.

الخامس عشر : « الأقرب »
    و قد وردت اللفظة في القرآن 11مرّة و وردت توصيفاً له سبحانه مرتين قال : ( و نحنُ أقرب إليه من حبل الوريد ) ( ق/16 ) و قال سبحانه : ( وَ نَحْنُ اَقْرَبُ اِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لاتُبْصِرُونَ ) ( الواقعة/85 ) و فسرت الأقربيّة بالعلم : أي نحن أقرب إليه بالعلم من حبل الوريد و يكون معنى الآية : نحن أعلم به. و تحقيق الكلام في مفاد الاية يتوقف على بيان معنى الأقربيّة الواردة فيها فنقول :
    إنّ الأقربيّة ليست أقربيّة مكانيّة كما أنّ قربه سبحانه من العبد ليس منحصراً بالافضال عليه بل لقربة سبحانه من العبد ، و أقربيته إليه من حبل الوريد معنى آخر لايقف عليه إلاّ المرتاض في المعارف الإلهية و الخارج عن أسر التعطيل و حبال التشبيه.
    انّه سبحانه يصرّح بأنّه مع عباده أينما كانوا و يقول : ( وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ ) ( الحديد/4 ).
    و يعد نفسه رابع الثلاثة و سادس الخمسة و يقول : ( مَا يَكُونُ مِنْ نَّجْوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَ لاَخَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَ لاَأَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَ لاَأَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ ) ( المجادلة/7 )


(140)
كما أنّه يصف نفسه الهاً في السماوات و الأرض و يقول : ( وَ هُوَ اَللّهُ فِى السَّمواتِ وَ فِى الاَْرْضِ ) ( الأنعام/3 ) إلى غير ذلك من الايات التي تدل على إحاطة وجوده سبحانه بكلّ شيء و كونه مع كلّّ شيء.
    ثمّ إنّ المسلمين في مقابل هذه الايات على طائفتين :
    الاُولى : أهل الحديث و الحنابلة و المتقشّفون المغترّون بالظواهر التصوّريّة البدئيّة غير المتعمّقين في الايات و الأحاديث ، فهؤلاء أخذوا بظاهر قوله سبحانه : ( الرَّحْمنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) ( طه/5 ) ففسّروا الإستواء بالإستقرار لا بالإستيلاء و السلطة ، فجعلوه مستقرّا على عرشه وسريره فوق السماوات و أقصى ما عند المتظاهرين بالتنزيه إضافة قولهم : بلاكيف أي لانعلم كيفية سريره و استقراره ، قال الشيخ الأشعري : « نقول : إنّ اللّه عزّ و جلّ يستوي على عرشه كما قال يليق به من غير طول الاستقرار » (1).
    و هؤلاء ـ الذين حبسوا القاهر المحيط في نقطة خاصّة من العالم ـ تحيّروا أمام هذه الايات التي دلّت على احاطة وجوده لكلّ شيء و صحيفة الكون ، فلجأوا إلى التأويل المبغوض عندهم فقالوا في تفسير الآية في سورة المجادلة : المراد انّه سبحانه هو بعلمه رابعهم ، و بعلمه سادسهم ، و لا أدنى من ذلك و لا أكثر إلا هو معهم ، نعني بعلمه فيهم ، كما أوّلوا قوله سبحانه : ( و هو اللّهُ فِى السَّمواتِ َو فِى الأَرْضِ ) بأنّ المراد هو إله من في السموات ، و إله من في الارض و هو على العرش ، و قدأحاط علمه بما دون العرش ، و لايخلو من علم اللّه مكان ، و لايكون علم اللّه في مكان دون مكان (2).
    إنّ اتّخاذ الرأي المسبق في إحاطته سبحانه على الأشياء و تحديد وجوده بالاستقرار على السرير الموضوع على العرش ، لاينتج سوى هذا أي التلاعب بآيات
1 ـ الإبانة للأشعري : ص18 و 85.
2 . السنّة لابن حنبل : ص 34 و 36 طبع القاهره.
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس