مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 141 ـ 150
(141)
المعارف التي هي إحدى المعاجز القرآنية.
    و لمّا حسب القائل باستقراره سبحانه على عرشه انّ مراد القائلين باحاطة وجوده لكلّ شيء ، و كونه في كلّّ مكان و زمان ، هو الإحاطة المكانية و انّه موجود في كلّّ شيء كوجود الجسم في مكانه بدأ بالاعتراض ، وقال : عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظم الربّ شيء فان قالوا : أي مكان؟ قلنا أجسامكم و أجوافكم و أجواف الخنازير و الحشوش و الأماكن القذرة ليس فيها من عظم الرب شيء (1).
    و العجب انّ الشيخ الأشعري الذي تربّى في حضن الاعتزال قرابة أربعين سنة و وقف على مقالهم عن كثب بل و على مقال كلّّ من يقول باحاطة وجوده على كلّّ شيء ، و قيام كلّّ شيء بوجوده ، و مع ذلك أخذ يكرّر كلام إمام مذهبه الثاني قريباً عن عبارته و يتكلّم مثل من ليس له إلمام بالمعارف العقليّة و يقول : « إنّ من المعتزلة و الجهميّة و الحروريّة قالوا : إنّ قول اللّه عزّ و جلّ : ( الرَّحمنُ عَلَى العرشِ استَوَى ) ( طه/5 ) انّه استولى و ملك و قهر ، و إنّ اللّه عزّ و جلّ في كلّّ مكان ، و جحدوا أن يكون اللّه عزّ و جلّ على عرشه كما قال أهل الحق و ذهبوا في الاستواء إلى القدرة.
    و لو كان هذا كما ذكره فلافرق بين العرش و الأرض السابعة فاللّه سبحانه قادر عليها و على الحشوش و على كلّّ ما في العالم ، فلو كان اللّه مستويا على العرش بمعنى الإستيلاء و هو عزّ و جلّ مستو على الأشياء كلّها لكان مستوياً على العرش ، و على الأرض ، و على السماء ، و على الحشوش ، و الأقذار ، لأنّه قادر على الأشياء مستول عليها و إذا كان قادراً على الاشياء كلّها و لم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول : إنّ اللّه عزّ و جلّ مستو على الحشوش و الأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش ، الإستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلّها ، و وجب أن يكون معناه استواء يختصّ بالعرش دون الأشياء كلّها.
1 ـ السنّة لابن حنبل : ص33.

(142)
    وزعمت المعتزلة و الحروريّة و الجهميّة أنّ اللّه عزّ و جلّ في كلّّ مكان فلزمهم انّه في بطن مريم و في الحشوش و الاخلية و هذا خلاف الذين تعالى اللّه عن قولهم « علوّا كبيرا » (1).
    عزب عن امام الحنابلة و من تبع مذهبه انّ الاستدلال متفرّع على تفسير العرش بأنّه مخلوق كهيئة السرير له قوائم و هو موضوع على السماء السابعة مستو عليه كاستواء الملوك على عروشهم ، فعند ذلك يتوجّه إليهم السؤال بأنّه لو كان المراد من « استوى » هو الاستيلاء ـ لا الإستقرار ـ فلماذا خصّ الاستيلاء به مع أنّه مستو على الأشياء كلّّها؟ و أمّا إذا قلنا بأنّ العرش كناية عن صفحة الوجود و عالم الكون فاستيلائه عليه كناية عن استيلائه على عالم الخلق ، فيسقط السؤال بأنّه لماذا خصّ الاستيلاء بعرشه دون غيره إذ ليس هنا شيء وراء صفحة الوجود ، و اللغة العربيّة مليئة بالمجاز و الكناية ، و لايلزم في صدق الكناية وجود المعنى المكنىّ به و من يرير و استقرار المستوى عليه ، بل يطلق و إن لم تكن هناك تلك المظاهر ، قال الشاعر :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف و دم مهراق
    و الذي يعرب عن ذلك أي انّ المراد استيلائه على عرش التدبير ، إنّ الذكر الحكيم لايذكر استوائه على العرش إلاّ و يذكر فعلاً من أفعاله أو وصفاً من أوصافه ، أمّا قبله أو بعده مثل قوله :
    ( خَلَقَ السَّمواتِ وَ الاَْرْضَ فِى سِتَّةِ اَيّام ثُم اسْتَوى عَلى الْعَرْشِ يُغْشِى اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ) ( الأعراف/54 ).
    و قوله : ( خَلَقَ السَّمواتِ وَ الاَْرْضَ فِى سِتَّةِ اَيّام ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ) ( يونس/3 ).
    و قوله : ( اَللّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ وَ
1 ـ الإبانة للأشعري : ص86 ـ 87.

(143)
سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ) ( الرعد/2 ).
    و قوله : ( تَنْزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَ السَّمواتِ العُلَى اَلرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتََوى ) ( طه/4و5 ).
    و قوله : ( اَلَّذِى خَلَقَ السَّمواتِ وَ الاَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِى سِتَّةِ اَيّام ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) ( الفرقان/59 ).
    و قوله : ( اَللّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمواتِ وَ الاَْرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِى سِتَّةِ اَيّام ثُمَّ اسْتَوى عَلى الْعَرْشِ ) ( السجدة/4 ).
    و قوله : ( هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمواتِ وَ الاَْرْضَ فِى سِتَّةِ أيّام ثُمَّ اسْتَوى عَلى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِى الاَْرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها ) ( الحديد/4 ).
    إنّ قوله سبحانه ثمّ استوى على العرش يحتمل في بادىء النظر معنيين و لايتعيّن أحدهما إلاّ بالتدبّر فيما حُفّ به من المطالب و إليك المحتملين :
    1 ـ إنّه سبحانه مستقر على العرش كاستقرار الملوك على عروشهم غاية ما في الباب إنّ الكيفية مجهولة و هذا خيرة الحنابلة و الأشاعرة.
    2 ـ إنّه سبحانه مستول على عالم الخلقة و صفحة الكون و قاهر عليه و بالتالي يدبّر العالم كلّّه بلااستعانة من أحد و من دون أن يمسّه في هذا تعب و لالغوب ، و هذا خيرة العدليّة كالاماميّة و المعتزلة و ليس هذا تأويلاً له بل سياق جمل الاية يؤيّد ذلك ، فهو ظاهر في هذا المعنى و العدول عن الظاهر تأويل ، لا الأخذ بالظاهر. و الميزان في تشخيص الظاهر ، هو الظهور التصديقي الجملي ، لا الظهور الحرفي و التصوّري.
    هلمّ معي نستظهر أحد المعنيين من خلال التدبّر في الايات التي تلوناها عليك.


(144)
    نقول : إنّه سبحانه كلّّما ذكر استوائه سبحانه على العرش ضمّ إليه إمّا بيان فعل من عظائم أفعاله أو وصفاً من أوصافه العليا و إليك بيان ذلك.
    1 ـ ( خَلَقَ السَّمواتِ وَ الاَْرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِى سِتَّةِ اَيّام ) ( الأعراف/54 ـ يونس/3 ـ الفرقان/59 ـ السجدة/3 ـ الحديد/4 ).
    2 ـ ( خَلَقَ الاَْرْضَ وَ السَّمواتِ العُلى ) ( طه/4 ).
    3 ـ ( رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَها ) ( الرعد/2 ).
    4 ـ ( يُغْشِى اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ) ( الأعراف/54 )
    5 ـ ( سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ) ( الرعد/2 ).
    6 ـ ( يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِى الاَْرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها ) ( الحديد/4 )
    فعند ذلك فأيّ المعنيين يناسب مع ذكر هذه الامور؟
    هل استقراره على السرير و إن كانت الكيفيّة مجهولة؟
    أو استيلاؤه على العالم و صفحة الكون و كونه قاهراً على الخلق و بالتالي مدبّراً للعالم و انّ الخلق لم يضعفه عن القيام بالتدبير.
    حَكِّم وجدانَك ثم اختر أحد المعنيين المناسب لما حفّ به من القرائن اللفظيّة.
    لاشك انّ البحث عن عظائم الامور و الأفعال يناسب الأخبار عن فعل عظيم له صلة بما جاء فيه من سائر الأفعال و الأوصاف و هو استيلاؤه على العالم كلّّه ، و لذلك ربّما يرتّب عليه تدبير الامر ( يونس/3 ) و اُخرى غشيان الليل النهار و طلبه لها حثيثاً ( الأعراف/54 ) و ثالثة تسخير الشمس و القمر ( الرعد/2 ) و رابعة علمه الوسيع بما يلج في الارض و ما يخرج منها ( الحديد/4 ) فالجملة ظاهرة في الاستيلاء لا ظاهرة في الاستقرار حتى يسمّى تفسيرها بالاستيلاء تأويلاً لأنّ التأويل هو العدول عن


(145)
ظاهر الكلام ، فإذا أيّدت القرائن كون المراد هو الاستيلاء فالتفسير بالاستقرار تأويل بلا دليل لا العكس كما هو المعروف في كتب أهل الحديث و الحنابلة.
    أظنّ أن ّهذا البيان يقنع القارىء في أنّ المراد هو الإستيلاء لا الإستقرار و لو فرضنا أنّه في ريب و تردّد في اختيار أحد المعنيين فنأتي بمثال يقرّب إليه المطلوب و هو :
    إذا بلغ طبيب في فنّ الجراحة مقاماً عظيماً فأخذ يصف أعماله العجيبة في ذلك المجال و يقول : إنّي قمت بعمل كذا و كذا فيذكر إبداعاته و اعجازاته العلميّة أفيصح أن يرتجل في اثناء هذه المذاكرة و يقول : إنّي مستقرّ على عرشي في بيتي ، ولو تكلّّم بذلك يعدّ كلامه غير منسجم ، فيقول المخاطب في نفسه : أيّ صلة بين ما قام به من الأعمال العجبية في مجال الجراحة و بين استقراره على السرير في بناء رفيع.
    و هذا بخلاف ما إذا كان جميع الجمل مربوطة إلى عمله و فعله في الموضوع الذي أخذ بتفسيره و بيانه ، و بهذا المثال تقدر على تقييم المعنى الذي لم يزل يسيطر على ذهن القشريين من الحنابلة و أهل الحديث ، إذ أيّ مناسبة بين هذه الأفعال العجيبة و استقراره على العرش و جلوسه على السرير و ان كانت الكيفية مجهولة ، و أمّا إذا قلنا : بأنّ المراد استيلاؤه على صحيفه الكون و انّ الخلق ما أوقعه في التعب و اللغوب (1) و لم يضعفه عن القيام بأمر التدبير بشهادة استيلائه عليه ، تكون الجمل مترابطة متناسبة.
1 ـ اشارة الى قوله سبحانه : ( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّمواتِ وَ الأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّام وَ مَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوب ) ( ق/38 ) اقرأ هذه الآية و راجع التوراة. ترى أنّه يقول في سفر التكوين : الإصحاح الثاني : و فرغ في اليوم السابع من عمله الذي عمل ، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك اللّه اليوم السابع و قدّسه لأنّه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل اللّه خالقا.

(146)
    ثمّ إنّ إمام الحنابلة لأجل إتخاذ رأي مسبق في معنى الاية ، التبس الأمر عليه في كلامه السابق من جهات ثلاث :
    1 ـ لمّا رأى ظهور الايات في إحاطة وجوده سبحانه بالعالم ، عمد إلى تأويلها بالإحاطة العلميّة مع أنّ حصرها فيها خلاف ظاهرها ، لأنّها ظاهرة في الإحاطة الوجوديّة المستلزمة للإحاطة العلمية.
    2 ـ زعم أنّ العرش في الاية عند القائلين بالإحاطة الوجوديّة بمعنى السرير ، فردّ عليهم بأنّه « إذا كان مستولياً على العالم كلّّه ، فلماذا خصّ في هذه الايات استيلائه بالعرش » و لم يقف على أنّ القائلين بالإحاطة الوجوديّة يرون الاستيلاء على العرش بأجمعه كناية عن استيلائه على صفحة الوجود كاستيلاء الملوك على بلدانهم ، غير أنّهم يدبّرون البلد بالجلوس على سررهم ، و اللّه سبحانه يدبّر العالم من دون أن يكون له سرير.
    3 ـ زعم أنّ القائلين بالاحاطة الوجوديّة يفسّرونه بالاحاطه الحلوليّة المكانيّة فأورد « بأنّ المسلمين يعرفون أمكنة ليس فيها من عِظم الربّ شيء » و غفل أنّ الاحاطة هنا إحاطة قيوميّة لا إحاطة مكانيّة ، و لأجل إيضاح الحال نبحث عن هذا النوع من الإحاطة القيوميّة.

« الإحاطة القيوميّة لا الإحاطة المكانيّة »
    إنّ نسبة الوجود الإمكاني إلى الواجب جلّ اسمه كنسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي ، فكما أنّ المعنى الحرفي قائم بالثاني ، و متقوّم به ، و لايتصوّر له الانعزال عنه و الاّ لصار باطلاً معدوماً فهكذا الوجود الإمكاني الصادر عنه سبحانه ، فالممكن بذاته قائم بالغير ، متدل به ، لايتصوّر له البينونة عن الواجب و العزلة عنه و إلاّ بطل وجوده.


(147)
    هذا هو المدّعى و أمّا الدليل عليه فهو إنّ الامكان قديقع وصفاً للماهيّة ، و قديقع وصفاً للوجود فعندما يقع وصفاً للماهيّة يكون معناه مساواة نسبة الوجود و العدم إليها ، فلو وجد فمن جانب وجود علّته ، و إن اتّصف بالعدم فمن جانب عدم علّته و عندما يقع وصفاً للوجود ، فليس هو بمعنى مساواة الوجود و العدم إلى الوجود ، ضرورة إنّه إذا كان الموضوع هو الوجود ، لامعنى لمساواة الوجود و العدم إليه ، بل المراد من اتّصاف الوجود بالإمكان هو تعلّقه بعلّته و قيامه و تدلّيه بها تعلقاً و تدلّيا و قياماً داخلاً في حقيقة وجوده بحيث لاحقيقة له إلاّ هذا.
    و بعبارة اُخرى إنّ الوجود الإمكاني أمّا أن يكون مستقلا في ذاته أو يكون متعلّقا بالغير كذلك ، لاسبيل إلى الأوّل ، لأنّ الاستقلال مناط الغنى عن العلّة و مثله يمتنع أن يكون معلولاً بل و يمتنع أن يتّصف بالإمكان ، فتعيّن الثاني أي ما يكون متعلّقا بالغير بذاته ، و ما هو كذلك يمتنع عليه العزلة عمّا يتعلّق به ، لانّ المفروض إنّه لاحقيقة له إلاّ التعلّق بالغير فيجب أن يكون معه ، معيّة المتدلّي بالمتدلّى به ، و معيّة المعنى الحرفي مع المعنى الاسمي ، فالعوالم الامكانيّة بعامّة مراتبها من جبروتها إلى ملكوتها إلى ملكها حاضرة عنده سبحانه ، غير غائبة عنه ، لاكحضور المبصرات الخارجية لدى الإنسان ، بل كحضور الصور الذهنية لدى النفس المبدعة الخالقة لها ، بل أشدّ من ذلك.
    و لعلّه إلى ما ذكرنا يشير قوله سبحانه : ( يا اَيُّها النّاسُ اَنْتُمُ الْفُقَراءُ اِلى اللّهِ وَ اَللّهُ هُوَ الغَنِىُّ الحَمِيدُ ) ( فاطر/15 ).
    و مثل هذا كيف يتصوّر له العزلة و البينونة فان فرضهما فرض بطلانه.
    هذا البرهان الذي أجملنا الكلام في بيانه يكشف الستر عن حقيقة المعيّة أي معيّة الممكن مع الواجب ، و يفسر الاحاطة الوجوديّة له ، و إنّه ليس المراد حلول الواجب في جوف الممكن و نفوذه في ذرّاته ، كنفوذ الماء بين ذرّات الطين ، بل المراد أنّ مقتضي قيوميّته المطلقة قيام العوالم الممكنة به و حضورها لديه ، و بما أنّ


(148)
التعلّق و القيام في الممكنات نفس حقيقتها و واقعها ، فلايمكن لها الغيبة عن اللّه سبحانه و لا العزلة عنه ، و إن أردت تقريب هذا في ضمن مثال فنقول :
    إنّ النفس فاعل إلهي و فعله مثال لفعله سبحانه ، فالنفس هي مصدر الصور الذهنيّة و مبدعها و ليست الصور منعزلة عن النفس مباينة عنها ، بل لها مع الصور معيّة قيوميّة تحيط بها ، و لاتحلّ فيها و لايربط النفس بأفعالها سوى إحاطتها عليها مع أنّ لها مقاماً آخر ليس للصور فيها شأن و دخل.
    قال الإمام الطاهر موسى بن جعفر : « إنّ اللّه تبارك و تعالى ، لم يزل بلازمان و لامكان و هو الآن كما كان ، لايخلو منه مكان ، و لايشغل به مكان ، و لايخل في مكان ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ، و لاخمسة إلاّ هو سادسهم ، ولاأدنى من ذلك و لا أكثر إلاّ هو معهم أينما كانوا ، ليس بينه و بين خلقه حجاب غير خلقه ، احتجب بغير حجاب محجوب ، و استتر بغير ستر مستور ، لا إله إلاّ هو الكبير المتعال » (1).
    و لعلّه إليه ينظر قول ابن العربي في خصوصه :
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيّداً وإن قلت بالأمرين كنت مسدداً فإيّاك والتشبيه إن كنت ثابتاً وإن قلت بالتشبيه كنت محدّداً وكنت إماماً في المعارف سيّداً وإيّاك والتنزيه إن كنت مفرداً
    والمراد من التنزيه هو تصوّر العزلة والبينونة الكاملة الّتي تستلزم استقلال الممكن ، وغناء عن الواجب كما عرفت.
1 ـ التوحيد للصدوق : ص 179.

(149)
ما هو المقصود من الأقربيّة؟
    و على ضوء هذا إنّ قوله سبحانه : ( وَ نَحْنُ أَقْرَبُ اِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ ) ( ق/16 ) تقريب للمقصود بجملة ساذجة تفهمه العامّة « و الوريد » هو مطلق العرْق أو عبارة عن العرق الموجود في العنق حيث انّ حياة الإنسان قائمة به فلو قطعنا النظر عن ظاهر الاية فأمر قربه سبحانه إلى الإنسان أعظم من ذلك و لكن الاية اكتفت بما تفهمه العامّة ، و أحال سبحانه المعنى الدقيق منه إلى الايات الاُخر. كيف و الاية جعلت للإنسان نفساً و جعلت لها آثاراً ، قال سبحانه : ( وَ نَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) ( ق/16 ) و جعلت سبحانه هو المتوسط بين الإنسان و نفسه ، و بين نفسه و آثارها ، مع أنّه سبحانه أقرب إلى الإنسان من كلّّ أمر مفروض حتى نفسه ، كلّّ ذلك يعرب من أنّ الاية بصدد تفهيم قرب يقع في متناول فهم العامّة و نظيره قوله سبحانه : ( وَ اعْلَمُوا اَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَ قَلْبِهِ ) ( الأنفال/24 ).
    و في روايات أئمّة أهل البيت تصريحات بالقرب القيومي و الاحاطة الوجوديّة نكتفي منها بما يلي :
    1 ـ روى الكليني عن الامام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) أنّه ذكر عنده قوم يزعمون أنّه اللّه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا فقال : « إنّ اللّه لاينزل و لايحتاج إلى أن ينزل ، وإنّما منظره في القرب والبعد سواء ، لم يبعد منه قريب ولم يقرب منه بعيد » (1).
    2 ـ روى الكليني عن محمد بن عيسى قال : كتبت إلى أبي الحسن علي بن محمد الهادي ( عليه السلام ) : « جعلني اللّه فداك يا سيّدي قد روي لنا أنّ اللّه في موضع دون موضع على العرش استوى ... » فوقّع ( عليه السلام ) : « و اعلم أنّه إذا كان في السماء الدنيا فهو كما هو على العرش و الأشياء كلّّها له سواء علماً و قدرة و ملكاً وإحاطة » (2).
1 ـ الكافي ج 1 ، باب الحركة ، ص 125 الحديث 1.
2 ـ المصدر نفسه : الحديث 4 ، ص 126.


(150)
    3 ـ روى الكليني عن أبي عبداللّه ( عليه السلام ) : إنّ أميرالمؤمنين استنهض الناس في حرب معاوية في المرّة الثانية ، فلمّا حشر الناس قام خطيباً فقال : « سبحان الذي ليس أوّل مبتدأ و لاغاية منتهى و لاآخر يفنى سبحانه هو كما وصف نفسه ، و الواصفون لايبلغون نعته ، و حدّ الأشياء كلّّها عند خلقه ـ إلى ان قال ـ : لم يحلل فيها فيقال هو فيها كائن ، و لم ينأ عنها فيقال هو منها بائن ، و لم يخل منها فيقال له أين؟ لكنّه سبحانه .... » (1).
    4 ـ روى ابن عساكر « في تاريخ دمشق » :
    « إنّ نافع بن الأزرق قائد الأزارقة من الخوارج قال للحسين ( عليه السلام ) : صف ربّك الذي تعبده ، قال الحسين ( عليه السلام ) : « يابن الأزرق أصف إلهي بما وصف به نفسه : لايدرك بالحواس ، و لايقاس بالناس ، قريب غير ملتصق ، و بعيد غير مستقصي ، يوحّد و لايبعّض ، معروف بالآيات ، موصوف بالعلامات ، لا إله إلا هو الكبير المتعال » (2).
    و ما أليق بالمقام قول القائل :
لا تقل دارها بشرقيّ نجد ولها منزل على كلّ ماء كلّ نجد لعامرية دار وعلى كلّ دمنة آثار

1 ـ المصدر نفسه : باب جوامع التوحيد ، ص 135 الحديث 1.
2 ـ تاريخ دمشق : ج 4 ، ص 323.
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس