السادس عشر : البارئ قد ورد لفظ البارئ في القرآن ثلاث مرّات ولم يستعمل في غيره. قال سبحانه : ( هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنى ) (1). وقال سبحانه : ( إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ) (2). وقال سبحانه : ( فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (3). قال ابن فارس : البرأ له أصلان إليهما ترجع فروع الباب ، أحدهما : الخلق يقال برأ الله الخلق يبروهم برأً. والبارئ : الله جلّ ثناؤه ، والأصل الاخر : التباعد من الشيء ومزايلته من ذلك البُرء وهو السلامة من السقم. وفي المفردات : البارئ خصّ بوصف الله نحو قوله : البارئ المصوّر ، والبريّة : الخلق.
1 ـ الحشر : 24. 2 ـ ابقرة : 54 . 3 ـ البقرة : 54.
(152)
و قال الطبرسي هو الخالق الصانع. قال اُميّة بن الصلت :
الخالق البارئ المصوّر في الـ
ارحام ماءً حتى يصير دماً
و الفرق بين البارئ و الخالق ، أنّ البارئ هو المبدىء ، المحدث ، و الخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال (1). و قال ابن منظور : « البارئ هو الذي خلق الخلق لا عن مثال و قال هذه اللفظة في الاختصاص بخلق الحيوان ما ليس لها بغيره من المخلوقات ، و قلّما تستعمل في غير الحيوان فيقال : برء اللّه النسمة و خلق السماوات و الأرض » (2). و على ضوء هذين النصّين يتلخّص الفرق بين البارئ و الخالق في أمرين : 1 ـ البارئ هو الخالق لا عن مثال ، و الخالق هو الأعم ، و لايختصّ بالناقل من حال إلى حال كما هو الحال في فعل المسيح ، قال سبحانه ناقلاً عنه : ( أَنِّى أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) ( آل عمران/ 49 ). بل هو أعمّ من ذلك بقرينة قوله سبحانه : ( خَلَقَ السَّمواتِ وَ الاَْرْضَ فِى سِتَّةِ ايّام ) ( يونس/3 ). 2 ـ إنّ البارئ يستعمل في الحيوان كثيراً دون الخالق ، و لأجل ذلك صحّ الجمع بين الخالق و البارئ في بعض الايات كما مرّ.
ورد لفظ « الباطن » في الذكر الحكيم مرّة واحدة و وقع وصفاً له ، قال سبحانه : ( هُوَ الاَوَّلُ وَ الآخِر وَ الظاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ ) ( الحديد/3 ).
1 ـ مجمع البيان ج 1 ص 112 طبع صيدا. 2 ـ لسان العرب ج 1 ص 30.
(153)
وورد لفظ « الظاهر » بصوره المختلفة عشر مرّات و وقع اسماً له في مورد واحد ، كما عرفت في الاية السابقة.
قال « ابن فارس » : الظهر له أصل صحيح واحد يدلّ على قوّة و بروز ، من ذلك ظهرَ الشيء يظهر ظهوراً ، و لذلك سمّي وقت الظهر و الظهيرة ، و هو أظهر أوقاتالنهار و أضوؤها ، و منه يعلم معنى البطن و هو خلاف الظهور أعني الخفاء ، و لعلّه لذلك سمّي أعلى الحيوان ظهراً و أسفله بطناً لظهور الأوّل و خفاء الثاني. قال الراغب : و البطن خلاف الظهر في كلّّ شيء ، ويقال للجهة السفلى بطن و للجهة العليا ظهر ، و به شبّه بطن الامر و بطن البوادي ، يقال لكلّ غامض بطن ، ولكلّ ظاهر ظهر ، و منه بطنان القِدر و ظهرانها. و قد استعمل في الذكر الحكيم كلا اللفظين على هذا المنوال ، قال تعالى : ( وَ ذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَ بَاطِنَهُ ) ( الأنعام/120 ) ، و قال تعالى : ( وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً ) ( لقمان/20 ) ، و من هذا الباب قولهم لدخلاء الرجل الذين يبطنون أمره : هم بطانته ، قال اللّه تعالى : ( يا اَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ) ( آل عمران/118 ). و على هذا فالمراد من توصيفه بالظاهر و الباطن هو ظهوره و خفائه و أنّه سبحانه جامع بين الوصفين الضدّين. و لأرباب الإشارات في تفسير هذين الاسمين و جوه أنهاها الرازي إلى أربعة وعشرين وجها (1) و سنذكر الأقلّ منها : 1 ـ الظاهر بآياته التي أظهرها من شواهد قدرته و آثار حكمته و بيّنات حجّته الذي عجز الخلق جميعاً عن إبداع أصغرها ، و انشاء أيسرها و أحقرها عندهم ،
1 ـ لاحظ لوامع البينات : ص 323.
(154)
والباطن كنهه ، و الخفي حقيقته ، فلاتكتنهه الأوهام و لاتدركه الأبصار ، فهو باطن كلّّ باطن و محتجب كلّّ محتجب.
2 ـ العالم بما ظهر و العالم بما بطن. 3 ـ الظاهر : الغالب العالي على كلّّ شيء ، فكلّّ شيء دونه ، و الباطن : العالم بكلّّ شيء فلا أحد أعلم منه. 4 ـ ان اتّصافه بهذين الوصفين من شؤون احاطته بكلّّ شيء فإنّه تعالى لمّا كان قديراً على كلّّ شيء مفروض ، كان محيطاً بقدرته على كلّّ شيء من كلّّ جهة فكلّ ما فرض أوّلا فهو قبله ، و كلّ شيء فرض ظاهراً فهو أظهر منه لإحاطة قدرته به ، فهو الظاهر دون المفروض ظاهراً و كلّ شيء فرض أنّه باطن فهو تعالى أبطن منه لإحاطته به من ورائه فهو الباطن دون المفروض باطناً (1).
قد ورد لفظ « البديع » في القرآن مرّتين و وقع وصفاً له في آيتين قال سبحانه : ( بَدِيعُ السَّمواتِ وَ الاَْرْضِ وَ اِذا قَضى اَمْراً فَاِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ( البقره/117 ). ( بَدِيعُ السَّمواتِ وَ الاَْرْضِ اَنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَىْء وَ هُوَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ ) ( الانعام/101 ). قال ابن فارس : « الإبداع إبتداء الشيء و صنعه لا عن مثال كقولهم أبدعت الشيء قولاً أو فعلاً إذا ابتدعته لا عن سابق مثال.
1 ـ الميزان ج 19 ص 165 و لاحظ توحيد الصدوق : ص 200 ـ 201 ، و مجمع البيان ج 5 ، ص 230 ، و مفاتيح الغيب للرازي ج 8 ، ص 85.
(155)
قال الراغب : « الإبداع إنشاءُ صنعة بلا احتذاء و اقتداء ، و منه قيل رَكِيّة بديعة أي جديدة الحضر و إذا استعمل في اللّه تعالى فهو بمعنى إيجاد الشيء من غير آلة و لا مادّة و لا زمان و لا مكان و ليس ذلك إلاّ للّه ». و يؤيّد ذلك قوله سبحانه ( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ) ( الاحقاف/9 ) : أي مبدعاً لم يتقدّمني رسول ، أو مبدعاً في ما أقوله و منه اشتق البدعة للمذهب و هو إيراد قول لم يستَنّ قائلها و فاعله ـ ا فيه بصاحب الشريعة و مثله قول ـ ه سبحان ـ ه : ( وَ رَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ) ( الحديد/27 ) (1). و منه يظهر أنّ قوله سبحانه « بديع السموات » برهان عقلي على أنّه ليس له ولد و لاصاحبة ، فإنّ مبدع السموات و الأرض و منشئهما هو من أوجدهما لا من شيء و لا على مثال سبق ، و هو لايجتمع مع اتّخاذ الولد لأنّه فرع اتّخاذ الزوجة أوّلا ، و فرع اللقاح ثانياً ، و فرع الولادة ثالثاً ، و الكلّّ ينافي كونه سبحانه بديعاً في فعله ، منشىء في الإيجاد بلامادّة و لامثال سبق. قال الرازي : « البديع عبارة عن من يوجد الشيء بلا آلة و لا مادّة و لا زمان و لايخلوا اتّخاذ الولد من واحد منها ، و على ذلك فالبديع من صفات الفعل لا من صفات الذات. نعم لو فسّر بأنّه الذي لامثل له و لاشبيه ، كما يقال هذا شيء بديع إذا كان عديم المثل كان من صفات الذات ، و هو تعالى أولى الموجودات بهذا الاسم و الوصف لأنّه يمتنع أن يكون له مثل أزلاً و أبداً ». (2)
قد ورد لفظ « البرّ » 15 مرّة في القرآن و قد وقع وصفاً له في آية واحدة. قال
1 ـ المفردات : ص 45. 2 ـ لوامع البينات : ص 350.
(156)
سبحانه : ( إنّا كُنّا مِنْ قِبْلُ نَدْعُوهُ اِنَّهُ هُوَ البَرُّ الرَّحِيم ) ( الطور/28 ).
قد ذكر ابن فارس « للبَر » مثلثاً اُصولاً أربعة : الصدق ، و حكاية صوت ، وخلاف البحر ، و نبت. أمّا الصدق مثل قوله : صدق فلان و برّ ، و برّت يمينه أي صدقت ، و أبّرها أمضاها على الصدق. و أمّا حكاية الصوت فالعرب تقول : لايعرف هِراً من برّ ، فالهر دعاء الغنم ، والبرّ الصوت بها إذا سقيت. و أمّا خلاف البحر مثل قوله سبحانه : ( ظَهَرَ الفَسادُ فِى البَرِّ وَالْبَحْرِ ) ( الروم/41 ). و أمّا النبت فمنه البُرّ و هِيَ الحِنْطَةُ ، الواحدة : بُرّة. ثمَّ إنّه رتّب على المعنى الأوّل قولهم : يبرّ ذا قرابته ، و قال : و أصله الصدق يقال : رجل برّ و بارّ و بررت والديّ. و على هذا فالبرّ هو الصادق و اُطلق على المحسن لأنّه صادق في حبّه ، و قد وصف به سبحانه في القرآن كما وصف به يحيى و المسيح قال سبحانه واصفاً ليحيى : ( وحناناً مِنْ لَدُنّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيّاً * وَ بَرّاً بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبّاراً عِصِّياً ) ( مريم/13و14 ) و حكى عن المسيح و قال : ( وَ اَوْصانى بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيّاً * وَ بَرّاً بِوالِدَتِى وَ لَمْيَجْعَلْنِى جَبّاراً شَقِيّاً ) ( مريم/31و32 ). هذا ما يستفاد من كلام الخبير ابن فارس غير أنّ الراغب في مفرداته جعل الأصل هو خلاف البحر فاشتقّ منه سائر المعاني فقال : البرّ خلاف البحر و تصوّر منه التوسّع فاشتقّ منه البرّ أي التوسع في فعل الخير (1) و ينسب ذلك إلى اللّه تعالى
1 ـ و لعلّه لأجل انّ البَرّ مركز الخير عند العرب ، و البحر محل الشرّ.
(157)
نحو ( إِنَّهُ هُوَ البرّ الرَّحِيم ) ( الطور/28 ) و إلى العبد تارة فيقال : برّ العبد ربّه ، أي توسّع في طاعته ، فمن اللّه تعالى الثواب و من العبد الطاعة إلى آخر ما ذكره.
و على ذلك فيحتمل أن يكون المراد ، الصادق في ما وعده ، و الرحيم بعباده ، و اختارها الصدوق و نقله الطبرسي وجهاً ، كما يحتمل أن يكون المراد المحسن ، وإليه يرجع ما يقال أي اللطيف و أصله اللطف مع عظم الشأن (1).
قد ورد لفظ « البصير » في القرآن 51مرّة و وقع اسماً له سبحانه في 43آية كما أنّ « السميع » ورد في الذكر الحكيم 47مرّة ، و وقع وصفاً له سبحانه في جميع الموارد إلاّ آية واحدة أعني ما ورد في وصف خلق الإنسان. قال سبحانه : ( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) ( الإنسان/2 ). و لنرجع إلى تحقيق المعنى الأصيل للفظ « البصير » والظاهر من ابن فارس أنّ له أصلا واحداً و هو وضوح الشيء ثم اشتقّ منه سائر المعاني و منها إطلاق اسم « البصر » على العين (3). و لكن الظاهر من « الراغب » إنّ المعنى الجذري له هو الجارحة الناظرة و منه اشتقّ سائر المعاني. قال : « البصر » يقال للجارحة الناظرة نحو قوله تعالى : ( كَلَمْحِ البَصَرِ ) ( النحل/77 ) و ( القمر/50 ) و ( إِذْ زَاغَتْ الأَبْصَار ) ( الأحزاب/10 ) و يقال للقوّة التي فيها ، و يقال لقوّة القلب المدركة « بصيرة » و « بصر » نحو قوله تعالى : ( فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدُ ) ( ق/22 ) و قال : ( مَا زَاغَ البَصَر وَ1 ـ التوحيد للصدوق : ص 215 ، مجمع البيان ج 5 ، ص 116. 2 ـ لوجود الصلة بين هذين الاسمين ، بحثنا عنهما في حرف الباء. 3 ـ مقاييس اللغة ج 1 ، ص 253 ـ 254.
(158)
مَاطَغَى ) ( النجم/17 ) ، و جمع « البصر » : « أبصار » و جمع « البصيرة » : « بصائر » (1).
و على كلّّ تقدير إنّ البصر و السمع من أعظم أدوات المعرفة و أنفعها و أكثر ما يرتبط به الإنسان مع الخارج بهذين الحسّين ، فهما من أشرف الحواسّ الظاهرة ولعلّه ـ لأجل ذلك ـ اُطلق عليه سبحانه « السميع البصير » دون غيرهما من أسماء الحواسّ ، فلايطلق عليه « الشامّ » و « الذائق » و « اللامس » و إن فسّرت بما يفسّر به « السميع » و « البصير » بمعنى حضور المبصرات و المسموعات ، و هذا يعرب عن كرامة هذين الحسّين و أعظمها نفعاً و أوسعها في ايجاد الصلة للإنسان بالخارج. ونقدّم الكلام في « البصير » على « السميع » حفظاً للترتيب الأبجدي. و التتبّع في الايات يعطي أنّ البصير قد يطلق و يراد منه حضور المبصرات عنده كما سيأتي بيانه و ذلك عند ما استعمل مع « السميع » ، قال سبحانه : ( اِنَّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمُ بِهِ اِنَّ اللّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً ) ( النساء/58 ) و قس عليه ما جاء بهذا المنوال و قد يراد منه العلم بالجزئيات و الاشراف عليها عن كثب و أنه لايعزب عنه شيء من الأشياء و ذلك عندما يستعمل متعدّياً بالباء. قال سبحانه : ( إنّه كان بعباده خبيراً بصيراً ) ( الاسراء/30 ) و قال سبحانه : ( وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) ( الاسراء/17 ) و قال سبحانه : ( وَ كانَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً ) ( الفتح/24 ) و قال سبحانه : ( ما يُمْسِكُهُنَّ اِلّا الرَّحْمنُ اِنَّهُ بِكُلِّ شَيء بَصِيرٌ ) ( الملك/19 ). و المتعلّق في هذه الايات يختلف سعة وضيقاً فقد تعلّق ب ـ « كلّ شيء » مّرة ، وب ـ « العباد » ثانيا ، و ب ـ « أعمالهم » ثالثة ، و ب ـ « ذنوبهم » رابعة ، فعندئذ لايصحّ تفسير البصير فيها بحضور المبصرات فإنّ كثيراً من الذنوب و كثيراً من الأشياء ليس أمراً مبصراً مرئيّا بالعيون ، و مع ذلك هو بصير بكلّ شيء ، فالبصير هناك يرادف العلم
1 ـ المفردات للراغب : ص 49.
(159)
بالجزئيّات بدقّة و امعان و لعلّ « الخبير » تأكيد لمعناه أو هو تأكيد له ، و الايات بصدد بيان أنّ علمه سبحانه بما يجري في الكون ليس علماً اجماليّاً بل هو علم تفصيلي يشمل كلّّ ما جلّ و دق ، و كلّّ شيء خَفِي أو ظهر ، و بذلك يبطل قول من ينكر علمه سبحانه بالجزئيات بحجّة أنّها في مظان التغير و التبدّل ، فيوجب الحدوث و التبدّل في ذات البارئ ذاهلاً عن أنّ التغيّر في المعلوم لا في جانب العلم ، و لعلّنا نرجع إلى نقد هذه الشبهة عند البحث عن اسم « العالم ».
و لأجل اشتمال هذه الكلمة على الدقّة و الامعان يقول سبحانه : ( بَلِ الاِْنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرةٌ * وَ لَوْ اَلْقى مَعاذِيرَهُ ) ( القيامة/14و15 ). و يقول سبحانه حاكياً عن السامري : ( بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ... ) ( طه/96 ). هذا كلّّه حول البصير و أمّا « السميع » فقد استعمل في معنيين : أحدهما سماع المسموعات الذي يرجع معناه فيه سبحانه إلى حضورها لديه ، و عدم غيبتها عن ذاته ، و هذا المعنى هو الأكثر ، و اخرى بمعنى « المجيب » مثل قوله : ( سَمِيعُ الدُّعَاءِ ) ( آل عمران/38 ) و ( إبراهيم/39 ) و الحقّ أن يقال : إنّ السميع في هاتين الايتين كالسميع في غيرهما ، و إنّه استعمل في معنى واحد و هو سماع الدعاء غير أنّ السماع إذا لم يكن مقترناً بالاجابة لايكون نافعاً للعبد ، فلأجل ذلك فسّر بمجيب الدعاء لا أنّه استعمل اللفظ في المجيب بل الاجابة من لوازم المقصود ، و مثله مايقال : اسمع ما أقول ، أو يقال : لِمَ لاتسمع ما قلت. و قال سبحانه : ( سَمِعْنا وَ اَطَعْنا ) ( البقرة/285 ). و « الراغب » فسّر بعض الايات و قول القائل : « اسمع ما أقول » بالطاعة ، و الحقّ أنّ السماع استعمل في نفس المعنى اللغوي و لكن لمّا كانت الغاية من السماع هو الفهم ثم العمل دلّ الكلام عليه بما أنّه من لوازم المعنى اللغوي في المقام.
(160)
تفسير كونه « سميعاً بصيراً » إنّ السماع في الإنسان يتحقّق بأجهزة و أدوات طبيعيّة ، و يتحقّق السماع في الإنسان بوصول الأمواج الصوتية إلى الصماخ و منها إلى المخ ثمّ إلى النفس. كما أنّ حقيقة الأبصار في الإنسان تتحقّق بأجهزة و آلات طبيعية حيث تنقل الأضواء الحاملة لصورة الشيء المرئي إلى عدسة العين و منها ـ بعد أعمال فيزياويّة ـ إلى النقطة الصفراء إلى أن يتحقّق الإبصار ، و لكن إطلاقهما على اللّه سبحانه ليس بتحقّق هذه المقدّمات فيه أيضاً و ذلك لأنّ هذه الأدوات و التفاعلات من لوازم تحقّق الأبصار و السماع في الحيوان و الإنسان و ليست داخلة في حقيقتهما بصورة عامّة ، و بعبارة اُخرى : انّ هذه الآلات و الأدوات و الأعمال الفيزياوية التي اثبتها العلم إنّّما هي من لوازم الابصار و السماع في الإنسان و الحيوان اللذين لايمكنهما القيام بعملية السماع و الأبصار إلاّ في ظلّ هذه الامور ، فلو تمكن موجود من الوصول إلى ما يصل إليه الإنسان من دون أداة و فعل و انفعال فهو أولى بأن يكون سميعاً و بصيراً ، لأنّ الغاية الحاصلة بعد عمل الحسّ هو حضور الأمواج و الصور عند النفس فلو أمكن حضورهما لديه بلاأداة أو بلاعمل فيزياوي أو كيمياوي فهو سميع و بصير قطعاً لتحقق الغاية المتوخّاة. و بما أنّ جميع العوالم الامكانيّة حاضرة لديه ، و اللّه سبحانه محيط بالموجودات إحاطة قيوميّة و العالم الإمكاني قائم به من الذرّة إلى المجرّة ، فتكون المسموعات و المبصرات حاضرة لديه حضور سائر الأشياء و لأجل ذلك إنّ كثيراً من المحقّقين جعلوا كونه « سميعاً » و « بصيراً » من شعب علمه و لكن علمه بالجزئيات (1). و المراد من كونه من شُعب علمه بالجزئيات حضور المسموعات و المبصرات
1 ـ الأسفار الأربعة ج 6 ص 421.