مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 161 ـ 170
(161)
لديه حضوراً واقعيّاً ، و ليس للعلم حقيقة وراء حضور المعلوم لدى العالم و لعلّ هذا هو مراد من قال من المتكلّمين : سمعه تعالى يؤول إلى علمه بالمسموعات إذ لاجارحة له ، و إلاّ فالتعليل المذكور لايكون دليلاً على عدم كونه سميعاً حقيقة.
    قال الحكيم السبزواري : اللّه سبحانه يسمع جميع الأصوات التي كانت و ستكون بسمع واحد حضوري اشراقي ، و من أسماءه الحسنى : « من لايشغله سمع عن سمع » فمناط السمع حضور الأصوات ، حتى لو فرضت حضور الأصوات لك ، بلاقرع صماخ لكنت سميعاً فما ظنّك بمن حضور إله ، أشد من حضورها لانفسها ، فلاقيمة دفت من يقول من المتكلّمين : سمعه تعالى يؤول إلى علمه بالمسموعات إذ لاجارحة له بل الأمر كما قال شيخ الاشراق : إنّ علمه تعالى يرجع إلى بصره و سمعه لا أنّ بصره و سمعه يرجعان إلى علمه (1).
    أقول كما أنّ ارجاع سمعه إلى علمه بحجّة أنّه لاجارحة له غير صحيح ، كذلك ارجاع علمه في جميع الموارد إليهما غير تامّ إلاّ إذا كان المراد ارجاع خصوص علمه بهما لامطلق علمه كما هو واضح.
    و ربّما يقال : « من أنّه إذا كان ملاك توصيفه سبحانه بالسميع و البصير هو حضور المسموعات و المبصرات فليكن هذا مبرّراً لتوصيفه بأنّه ذائق شامّ لامس لحضور المذوقات و المشمومات و الملموسات عنده » و هذا غير تام لما عرفت أنّ شرافة الحسّين و كرامتهما و عظم نفعهما صار سبباً لتسميته سبحانه بهما دون غيرهما من أسماء الحواس الظاهرة ، مضافاً لما عرفت في باب توقيفيّة الأسماء و إنّ كلّّ اسم يكون موهماً لكونه جسماً أو جسمانياً فتكون التسمية به ممنوعة. نعم أهل الحديث و الحنابلة و السلفية يصفونه سبحانه بهما على وجه يوهم كونه سبحانه سميعاً و بصيراً بنفس المعنى الموجود في الإنسان و الحيوان ، و آخر ما يوجد عند المتظاهرين بالتنزيه منهم أنّهم يقولون : إنّه سميع و بصير بلاكيف.
1 ـ شرح الأسماء الحسنى : ص 36 ، للحكيم السبزواري.

(162)
    قال الأشعري : « و نثبت للّه السمع و البصر و لاننفي ذلك كما نفته المعتزلة و الجهميّة و الخوارج » (1).
    و قال في موضع آخر : « و زعمت المعتزلة أنّ قول اللّه عزّ و جلّ ( وَ اَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) ( الحج/61 ). معناه عليم. ثم أجاب بأنّه إذا قال عزّ و جلّ : ( اِنَّنِى مَعَكُما اَسْمَعُ وَ اَرى ) ( طه/46 ) و قال : ( قَدْ سَمِعَ اللّهُ قُولَ الَّتِى تُجادِلُكَ فِى زَوْجِها ) ( المجادلة/1 ) فهل معنى ذلك عندكم « علم » فإن قالوا نعم ، قيل لهم : فقد وجب عليكم أن تقولوا معنى قوله أسمع و أرى : أعلم و أعلم إذ كان معنى ذلك العلم. ثم قال : إذا كان معنى سميع و بصير هو أنّه عالم فيلزم أن يكون معنى قادر هو عالم ـ إلى آخر ما ذكره ـ (2).
     يلاحظ عليه :
    أوّلا : إنّه لو قيل بأنّ كونه « سميعاً » و « بصيراً » من شعب علمه بالكلّيّات فلاشك أنّه خاطىء في رأيه لأنّ السمع و البصر من أدوات المعرفة الجزئيّة و السميع و البصير من يعرف المسموعات و المبصرات عرفاناً شخصياً جزئياً ، و أمّا لو قيل بأنّه من شعب علمه بالجزئيات الذي يعبّر عنه بالعرفان و المعرفة فلايرد عليه ما ذكره الشيخ أبوالحسن من إنكار كونه سميعاً و بصيراً و ما نسب إلى المعتزلة من أنّهم ينفون أن يكون للّه السمع و البصر غير صحيح فانّهم يثبتان للّه سبحانه هذين الأمرين لكن بالتطور الذي قد عرفته ، و سيجيء نظيره في الحياة ، فاللّه سبحانه « سميع » بالحقيقة « بصير » واقعا و المسموعات و المبصرات مشهودة له لكن بلاحاجة إلى الحسّ وإعماله.
    قال الصدوق : « و ليس وصفنا له تبارك و تعالى بأنّه سميع بصير ، وصفاً بأنّه
1 ـ الابانة : ص 19.
2 ـ الابانة : ص117 و 118.


(163)
عالم بل معناه ما قدّمناه من كونه مدركاً و هذه الصفة صفة كلّّ حيّ لا آفة به » (1).
    و بذلك يعلم أنّ قوله « أسمع و أرى » يفيد معنيين متغايرين فقوله « أسمع » إشارة إلى حضور المسموعات و قوله « أرى » إشارة إلى حضور المبصرات عنده.
    و ثانيا : إنّ تفسير « السميع » و « العليم » بالعالم لايستلزم تفسير القادر به لما عرفت من أنّ حضور المبصرات و المسموعات لدى العالم نوع معرفة له لكن معرفة جزئيّة مشخّصة لامعرفة كلّّية ، و أمّا القدرة فلاصلة له بالعلم ، فالسمع و البصر من أدوات المعرفة و العلم دون القدرة.
    و ثالثا : إنّ الوحدة المصداقية ، لاتلازم الوحدة المفهوميّة فكم فرق بين القول بأنّ واقع كونه بصيراً و سميعاً ، هو علمه بالمبصرات و المسموعات ، لابشيء آخر ، و القول بأنّ مفهومهما هو نفس مفهوم العلم و انّ الموضوع في الكلّ واحد و المدّعى هو الأوّل ، و ما ذكر من الاشكال إنّما يترتّب على الثاني ، و على ذلك فلايلزم من القول بأنّهما من شعب علمه تفسير قوله سبحانه : ( إنّى معكما أسمع و أرى ) : « اعلم و اعلم ».
    و كم للشيخ الاشعري من هذه التخليطات.
    نعم الأشعري و إمام الحنابلة و من لفّ لفّهما غير الراسخين في تنزيهه سبحانه عن الجسم و الجسمانيات ربّما يروق لهم اثبات أجهزة كالعين و السمع له سبحانه و لكن لايتظاهرون بذلك بل يتظاهرون بالتنزيه باضافة « بلاكيف » ، و قد عرفت أنّ هذه اللفظة لاتفيد شيئاً في مقام التنزيه.
1 ـ التوحيد للصدوق : ص 197.

(164)
    روايات أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) في هذا المجال
    قال الامام أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) : « و البصير لابتفريق آلة و الشاهد لابمماسّة » (1).
    و قال عليه السلام : « و يسمع لابخروق و أدوات » (2).
    و قال عليه السلام : « بصير لايوصف بالحاسّة » (3).
    و قال الامام الصادق ( عليه السلام ) : « سميع بصير ، أي سميع بغير جارحة ، و بصير بغير آلة ، بل يسمع بنفسه و يبصر بنفسه » (4).
    و قال الامام الباقر ( عليه السلام ) : « إنّه سميع بصير : يسمع بما يبصر ، و يبصر بما يسمع » (5).
    و في هذا الحديث إشارة إلى اتّحاد صفاته بعضها مع بعض و المجموع مع الذات لكن اتّحاداً في الخارج و المصداق لا في المفهوم.
    و أمّا الثاني فكما قال سبحانه : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة/37 ) و قال : ( ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة/54 ) و قال : ( لَقَدْ تَابَ اللّهُ عَلَى النَبِىِّ وَ المُهَاجِرِينَ وَ الأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ العُسْرَةِ ) ( التوبة/117 ).
    و بذلك يعلم أنّ معنى التوّاب هو قابل التوبة عن العباد و ذلك لأجل وروده بعد قوله « فتاب عليه » أو « فتاب عليكم » و هو بمنزلة العلّة للجملة المتقدّمة.
1 ـ نهج البلاغة : الخطبة 155.
2 ـ نهج البلاغة : الحكمة 186.
3 ـ نهج البلاغة : الخطبة 182.
4 ـ التوحيد للصدوق : ص 144.
5 ـ التوحيد للصدوق : ص 144.


(165)
حرف التّاء
الثالث و العشرون : « التوّاب »
    قد ورد لفظ التوّاب في الذكر الحكيم 11 مرّة و وقع في الجميع اسماً له سبحانه قال : ( فَتَلَقّى آدَمُ مُنْ رَبِّهِ كَلِمات فَتابَ عَلَيْهِ اِنَّهُ هُوالتوّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة/37 ).
    قال ابن فارس : التوب كلمة واحدة يدلّ على الرجوع. يقال : تاب من ذنبه أي رجع عنه ، يتوب إلى اللّه توبة و متاباً فهو تائب ، و التوب : التوبة ، قال اللّه : ( و قابل التوب ) (1).
    أصل التوبة الرجوع عمّا سلف ، و الندم على ما فرّط ، فالعبد إذا تاب يقال له تائب إلى اللّه بندمه على معصيته ، و إذا قبل توبته يقال اللّه تعالى تائب على العبد بقبول توبته.
    و الحاصل أنّه إذا تعدّى بكلمة « إلى » يكون بمعنى التوبة و إذا تعدّى به « على » يكون بمعنى قبول التوبة ، أمّا الأوّل فقال سبحانه : ( فَتُوبُوا اِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا اَنْفُسَكُمْ ) ( البقرة/54 ) و قال سبحانه : ( وَ اَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا اِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً ) ( هود/3 ) و قال سبحانه : ( وَ تُوبُوا اِلى اللّهِ جَمِيعاً اَيُّها المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( النور/31 ) إلى غير ذلك من الايات.
1 ـ مقاييس اللغة ج1 ص357.

(166)
    وأمّا الثاني فكما قال سبحانه : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (1) وقال : ( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (2) وقال : ( لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ وَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ) (3).
    وبذلك يعلم أنّ معنى التوّاب هو قابل التوبة عن العباد وذلك لأجل وروده بعد قوله « فتاب عليه » أو « فتاب عليكم » وهو بمنزلة العلّة للجملة المتقدّمة.
1 ـ البقرة : 37.
2 ـ البقرة : 54 .
3 ـ التوبة : 117.


(167)
حرف الجيم
الرابع و العشرون : « الجبّار »
    قد ورد هذا اللفظ في موارد عشرة في القرآن الكريم و وقع وصفاً له في مورد واحد قال سبحانه : ( اَلْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الحشر/23 ) و هو من الصفات التي إذا وقع وصفاً له سبحانه يتبادر منه المدح و إذا وصف به غيره يتبادر منه الذم. قال سبحانه : ( كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلى كُلِّ قَلْب مُتَكَبِّر جَبّار ) ( غافر/35 ) و قال سبحانه : ( وَ عَصَوا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا اَمْرَ كُلِّ جَبّار عَنِيد ) ( هود/59 ) و يمكن توضيح ذلك بوجوه :
    1 ـ قال ابن فارس : الجبر هو جنس من العظمة و العلوّ و الاستقامة. فالجبّارُ الذي طال و فات اليد. يقال فرس جبّار و نخلة جبارة (1).
    و قال الرازي : الجبّار : العالي الذي لاينال ، و منه نخلة جبّارة : إذا طالت و علت و قصرت الأيدي عن أن تنال أعلاها ، ومنه قوله تعالى : ( إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ ) ( المائدة/22 ) أي عظماء ، فيقال : رجل جبّار إذا كان متعظّماً متجبّراً لايتواضع ولاينقاد لأحد وهذا الاسم في حقّ اللّه سبحانه يفيد أنّه سبحانه وتعالى بحيث لاتناله الأفكار و لاتحيط به الأبصار ، و لايصل إلى كنه عزّه عقول العقلاء ، و لاترقي إلى مبادي اشراق جلاله علوم العلماء ، و هو بهذا المعنى من صفات التنزيه (2).
1 ـ مقاييس اللغة ج 1 ص 501.
2 ـ لوامع البينات : ص 197.


(168)
يلاحظ عليه :
    الظاهر أنّ الجبّار بمعنى واحد صفة مدح في حقّه سبحانه و وصف ذمّ في غيره ، و على ضوء ذلك فيجب أن يفسّر على وجه يكون نفس المعنى في مورد مدحاً و في مورد آخر ذمّاً من دون أن يكون هناك معنيان ، و ما ذكر من المعاني للجبّار لايحقّق ذلك المطلوب و إليك البيان :

1 ـ الجبّار : العالي الذي لاينال
    هذا المعنى هو المتبادر ممّا ذكره « ابن فارس » و « الرازي » ولو صحّ لايحقّق ما هو المطلوب بأن يكون معنى واحد مدحاً في حقّ الواجب و ذمّاً في حقّ الممكن ، فإنّ كون الشيء عالياً لاينال مدح على كلّ حال ، و تعليل كونه ذمّاً في حقّ الممكن بعدم كونه كذلك ، لايستلزم كونه وصف ذمّ في ذلك المورد و إلاّ يلزم أن يكون وصف العالم في حقّ الجاهل وصف ذمّ إذا ادّعى لنفسه.
     2 ـ الجبّار : العظيم الشأن في الملك
    و هذا هو المستفاد من كلام الطبرسي حيث قال : الجبّار ب ـ « العظيم الشأن في الملك » و لايستحق أن يوصف به على الاطلاق إلاّ اللّه تعالى ، فإن وصف به غيره فإنّما يوضع اللفظ في غير موضعه فيكون ذمّاً » (1).
    يلاحظ عليه : بنفس ما لوحظ به على كلام الرازي ، فإنّ ما ذكره من المعنى صحيح في حقّ البارئ سبحانه ، إنّما الكلام في وجه كونه وصف ذم في حقّ غيره فالظاهر من الآيات أنّه كذلك بنفس معناه وصف ذم لا لكون المبدء غير موجود فيهم. فكم فرق بين كون الشيء وصف ذمّ ، و بين كونه في حدّ ذاته مدحاً ، و لكنه لأجل كونه مدعياً لما ليس فيه وصف ذمّ.
1 ـ مجمع البيان ج 2 ص 179 ، و ج 5 ص 267.

(169)
3 ـ « الجبّار » : من يصلح الشيء بضرب من القهر
    هذا المعنى يظهر من « الراغب » في مفرداته. قال الجبر : إصلاح الشيء بضرب من القهر و قديقال في الاصطلاح المجرد مثل قوله علي ( عليه السلام ) : « يا جابر كل كسير » (1) و يطلق على الإنسان بمعنى من يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالى لايستحقّها. و هذا لايقال إلاّ على طريق الذم (2).
    أقول ما ذكره محتمل في حقّه سبحانه و يمكن تقريره بوجه واضح و هو أنّه سبحانه و تعالى باعتبار جمع شتيت اُمور خلقه ، و لمّ شعثهم و شعب ما تفرّق عنهم ، و استصلاح ما فسد منهم ، و رتق ما فتق منهم ، فهو جبّار من في السموات و من في الارض دائماً (3).
    و لكن عدّه وصف ذم بهذا المعنى أيضا في حقّ الغير أمر مشكل ، فإنّ من يجبر النقيصة بادعاء منزلة من التعالي لايستحقها ليس مذموماً إلاّ من جهة عدم وجود المبدأ فيه ، و هو غير كونه بذاته ذمّاً و قدحاً و الظاهر أنّ قوله « بادّعاء منزلة من التعالي لايستحقّها ليس داخلا في معنى الجبّار و ذلك لأنّه على هذا الاحتمال يصدق على اللّه سبحانه و على الناس بمعنى واحد و إلاّ يلزم أن يكون مشتركا لفظياً فاذا اطلق على اللّه سبحانه يكون القيد هو الايجاب أعني يستحقّها مكان لايستحقّها.
    و الذي يمكن أن يقال : إنّ المراد منه قهر الناس على ما يريده من دون أن يكون له ذلك الحق و يؤيّده توصيفه بالشقيّ في آية ، و العنود في آية اُخرى ، و هما يناسبان مع كونه بمعنى القهر و الجبر ضد الاختيار. قال سبحانه واصفاً ليحيى : ( وَبِرّاً بِوَالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً ) ( مريم/14 ) و قال عن لسان المسيح ( وَ بِرّاً بِوَالِدَتِى وَ لَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً ) ( مريم/32 ) و قال سبحانه : ( وَ عَصَوا رُسُلَهُ وَ
1 ـ و في المصباح المنير : جبرت العظم الكسير : اصلحته.
2 ـ المفردات : ص 86.
3 ـ شرح الأسماء الحسنى للسيد حسين الهمداني : ص 39.


(170)
اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّار عَنِيد ) ( هود/59 ) فبحكم المقابلة أي مقابلة جبّار مع البرّ ، وتوصيفه بالشقاء و العناد ، يعلم معنى الجبّار الموصوف به الانسان ، كما أنّ المراد من قوله سبحانه : ( قالُوا يا مُوسى اِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ وَ اِنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّى يَخْرُجُوا مِنْها فَاِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَاِنّا داخِلُونَ ) ( المائدة/22 ) هو كونهم شديدي البطش والبأس وهو يلازم قهر الناس على الحرب و المقابلة.

الخامس و العشرون : « الجامع »
    و قد ورد اللفظ في القرآن الكريم ثلاث مرّات و وقع وصفاً له سبحانه في آيتين قال : ( رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوم لارَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لايُخْلِفُ الْمِيعادَ ) ( آل عمران/9 ).
    و قال سبحانه : ( اِنَّ اللّهَ جامِعُ المُنافِقِينَ وَ الكافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً ) ( النساء/140 ) و نظير الاية الاُولى قوله سبحانه : ( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ ) ( التغابن/9 ) و قوله سبحانه : ( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) ( هود/103 ).
    و الظاهر أنّ المراد من كونه جامعاً هو جمع الخلق في موقف القيامة بشهادة قوله سبحانه : ( هذا يَوْمُ الفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَ اَلاَوَّلِينَ ) ( المرسلات/38 ) و قوله سبحانه : ( اِنَّ يَوْمَ الفَصْلِ مِيقاتُهُمْ اَجْمَعِينَ * يَوْمَ لايُغْنِى مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُم يُنُصَرُونَ * اِلّا مَنْ رَحِمَ اللّهُ ) ( الدخان/40 ـ 42 ) ، و الذي يوضح ذلك أنّ قوله ( رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النّاسِ ) بمنزلة التعليل لسؤال الرحمة الوارد في الاية المتقدمة : أعني ( رَبَّنا لاتُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ ) ( آل عمران/8 ). فعلّل سؤاله الرحمة بأنّه سبحانه يجمع الناس في يوم القيامة الذي لايغني فيه أحد عن أحد ، و على ضوء ذلك فما ذكره الرازي من الوجوه كلّها ساقطة فلاحظ (1).
1 ـ الايات البينات : ص 243.
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس