مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 171 ـ 180
(171)
حرف الحاء
السادس و العشرون : « الحسيب »
    و قد ورد اللفظ في الذكر الحكيم أربع مرّات و وقع وصفاً له في موارد ثلاث قال سبحانه : ( وَ كَفَى بِاللّهِ حَسِيباً ) ( النساء/6 ).
    ( اِنَّ اللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَىْء حَسِيباً ) ( النساء/86 ).
    ( وَ لايَخْشَوْنَ اَحَداً اِلّا اللّهَ وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً ) ( الاحزاب/39 ).
    و قال ابن فارس : إنّ لـ « حسب » اُصولا أربعة :
    1 ـ العدّ. تقول : حسبت الشيء أحسبه حسباً و حسباناً ...
    2 ـ الكفاية. تقول : شيء حساب أي كاف ...
    3 ـ الحسبان. و هي جمع حسبانة و هي الوسادة الصغيرة ...
    4 ـ الأحسب الذي ابيضّت جلدته ...
    و المتناسب في المقام هو المعنيان الأوّلان. أمّا الاية الاُولى فالمناسب فيها هو المعنى الأوّل بقرينة ما قبله. فالاية واردة في الارتزاق من أموال اليتامى.
    قال سبحانه : ( وَ مَنْ كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ فَاِذا دَفَعْتُمْ اِلَيْهِمْ اَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً ) ( النساء/6 ).
    و على هذا « الحسيب » بمعنى المحاسب كالنديم بمعنى المنادم ، و الجليس بمعنى المجالس قال تعالى : ( كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) ( الاسراء/14 ) و


(172)
معنى الاية كفى باللّه محاسباً فاحذروا محاسبته في الآخرة كما تحذرون محاسبة اليتيم بعد البلوغ ، و إلى ذلك يرجع تفسيره بأنّه بمعنى « رقيبا » يحاسبهم عليه. فإنّ الحساب لغاية الرقابة و الحفظ ، و مثله من فسّره بالحفيظ فانّ الكلّ من الغايات المترتبة على العدّ و الحساب. و ربّما يحتمل أن يكون من الأصل الأوّل بمعنى « وكفى باللّه حسيبا » أي شاهداً على دفع المال إليهم و كفى بعلمه وثيقة.
    و أمّا الاية الثانية أعني قوله تعالى : ( و إذا حيّيتم بتحيّة فحيّوا باَحسن منها أَوْ ردّوها إنّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىء حَسِيباً ) ( النساء/86 ) فالظاهر أنّه أيضاً من الأصل الأول و إليه يرجع تفسيره ب ـ « حفيظا » فانّ الحفظ نتيجة العدّو الحساب.
    و أمّا الاية الثالثة : ( اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللّهِ وَ يَخْشَونَهُ وَ لايَخْشَونَ اَحَداً اِلّّا اللّهَ وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً ) ( الاحزاب/39 ) فالظاهر أنّه من الأصل الثاني أي كفى كفاية بقرينة قوله : ( وَ لايَخْشَونَ أَحَداً إلاّ اللّهَ ) و يحتمل أن يكون من الأصل الأوّل أي حافظاً على أعمال خلقه ، و محاسباً و مجازياً عليها.

السابع و العشرون : « الحفيظ »
    و قد ورد « الحفيظ » في القرآن الكريم احدى عشرة مرّة و وقع وصفاً له سبحانه في آيتين :
    قال سبحانه : ( فَاِنْ تَوَلَّوا فَقَدْ اَبْلَغْتُكُمْ ما اُرْسِلْتُ بِهِ اِلَيْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لاتَضُرُّونَهُ شَيْئاً اِنَّ رَبِّى عَلى كُلِّ شَىْء حَفِيظٌ ) ( هود/57 ).
    و قال سبحانه : ( وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطان اِلّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالاْخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِى شَكّ وَ رَبِّكَ عَلى كُلِّ شَىْء حَفِيظٌ ) ( سبأ/21 ).
    و في آية ثالثة جاء وصفاً للكتاب قال سبحانه : ( قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الاْرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ ) ( ق/4 ).
    و أمّا معناه فقد قال ابن فارس : له أصل واحد يدلّ على مراعاة الشيء ... و


(173)
التحفّظ و قلّة الغفلة و الحفاظ : المحافظة على الامور.
    و قال الراغب : الحفيظ : الحافظ.
    و لكن المناسب للايتين الأوّليتين تفسيره « بعليم » ، نعم هو في الاية الثالثة بمعنى الحافظ ، يظهر ذلك بالامعان في معنى الايات.

الثامن و العشرون : « الحفيّ »
    قد ورد « الحفي » في الذكر الحكيم مرّتين و وقع وصفاً له في آية واحدة. قال حاكياً عن ابراهيم عندما هجر آزر : ( قالَ سَلامٌ عَلَيكَ سَاَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى اِنَّهُ كانَ بِى حَفِيّاً ) ( مريم/47 ).
    و قال في غيره سبحانه : ( يِسّأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَاللّهِ ) ( الأعراف/187 ).
    قال ابن فارس : « إنّ للحفي اُصولاً ثلاثة : المنع ، و استقصاء السؤال ، والحفاء خلاف الانتعال ... » (1).
    و من الأصل الثاني قوله سبحانه : ( اِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا ... ) ( محمد/37 ) أي أن يجهدكم بمسألة جميع أموالكم و يبالغ في المسألة تبخلوا.
    و أمّا الحفيّ عند ما وقع وصفاً له فهو بمعنى البرّ اللطيف و لايرجع معناه إلى الاصول التي طرحها ابن فارس و لأجل ذلك فسّره الراغب بما ذكرناه و قال : الحفيّ : البرّ اللطيف و أضاف : يقال أحفيت بفلان و تحفّيت به : إذا عنيت بإكرامه ، والمناسب لسياق الاية هو هذا لأنّ الاية تذكر وعد ابراهيم لأبيه آز انه سيستغفر له وكأنّه يريد : و يقبل سبحانه دعائي لأنّه حفيّ بي.
1 ـ مقاييس اللغة ج 2 ص 83.

(174)
التاسع و العشرون : « الحكيم »
    قد ورد لفظ « الحكيم » في القرآن الحكيم 97 مرّة و وقع اسماً له سبحانه في92 موردا.
    و أمّا الموارد الاُخر ، فقد وقع وصفاً للاُمور التالية : 1 ـ الذكر ، 2 ـ الكتاب ، 3 ـ القران ، 4 ـ الأمر ، قال سبحانه : ( ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَ الذِكْرِ الحَكِيمِ ) ( آل عمران/58 ) ، و قال تعالى : ( آيات الكتاب الحكيم ) ( يونس/1 و لقمان/2 ) و قال : ( يس * و القران الحكيم ) ( يس/1 ـ 2 ) و قال : ( كُلّ أَمْر حَكِيم ) ( الدخان/1 ).
    و أمّا معناه في اللغة فقد مضى البحث عنه في تفسير أحد أسمائه : « اُحكمالحاكمين » فقلنا : إنّ له أصلاً واحداً و هو المنع ، و سمّيت حكمة الدابّة بها ، لأنّها تمنعها ، يقال : حكّمت الدابّة و أحكمتها ، و الحكمة هذا قياسها ، لأنّها تمنع من الجهل.
    و ممّا يجدر بالذكر أنّه لم يقع الحكيم اسماً له سبحانه إلاّ معه اسم آخر من علمه و عزّته و غيرهما ، و إليك الايات التي ورد فيها اسم الحكيم مع سائر الأسماء و نذكر من كل قسم آية واحدة.
    1 ـ العليم : قال سبحانه : ( قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَعِلْمَ لَنَا اِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ ) ( البقره/32 ).
    2 ـ العزيز : قال سبحانه : ( وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ اِنَّكَ اَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( البقرة/129 ).
    3 ـ الخبير : قال سبحانه : ( وَ هُوَ القاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ هُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام/18 ).
    4 ـ التوّاب : قال سبحانه : ( وَ لَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ اَنَّ اللّهَ تَوّابٌ حَكِيمٌ ) ( النور/10 ).


(175)
    5 ـ عليّ : قال سبحانه : ( اَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِاِذْنِهِ ما يَشاءُ اِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ ) ( الشورى/51 ).
    6 ـ واسع : قال سبحانه : ( وَ اِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهَ كُلاًّ مِنْ سِعَتِهِ وَ كانَ اللّهُ واسِعاً حَكِيماً ) ( النساء/130 ).
    7 ـ حميد : قال سبحانه : ( تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيم حَمِيد ) ( فصلت/42 ).
    و أمّا معناه فقد اختلفوا فيه على أقوال :
    1 ـ ذهب « الأزهري » إلى أنّه من صفات اللّه كالحكم و الحاكم و معاني هذه الأسماء متقاربة و اللّه أعلم بما أراد بها و علينا الايمان بأنّها من أسمائه.
    يلاحظ عليه : إنّ القرآن نزل للتدبّر و التعقّل لا للتلاوة فقط و ارجاع معاني ألفاظها إلى اللّه سبحانه ، و إنّما يرجع إليه كنه حقائقها.
    2 ـ قال ابن الاثير : الحكم و الحكيم بمعنى الحاكم و هو القاضي فهو فعيل لمعنى فاعل.
    يلاحظ عليه : إنّه لاينطبق على جميع الايات. مثلا يصحّ في قوله سبحانه : ( فَاقْطَعُوا أيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنْ اللّهِ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( المائدة/38 ) ولايصحّ في قوله : ( وَ ما النَّصْرُ اِلّا مِنْ عِنْدِاللّهِ اِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الانفال/10 ) أو قوله : ( وَ اِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ فَاَمْكَنَ مِنْهُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال/71 ) أضف إلى ذلك أنّ القاضي ليس من معاني الحاكم و إنّما يستعمل فيه بمناسبة خاصّة.
    3 ـ هو الذي يحكم الأشياء و يتقنها فهو فعيل بمعنى مفعل.
    4 ـ الحكيم : ذوالحكمة و الحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم و به فسّر العلاّمة الطباطبائي قوله : ( و القرآن الحكيم ) ( يس/2 ) قال : وقدوصف القرآن بالحكيم لكون الحكمة مستقرّة فيه و كذلك حقايق المعارف وما يتفرّع


(176)
عليها من الشرائع و العبر و المواعظ (1).
    5 ـ الحكيم بمعنى العالم. ذهب إليه الجوهري ، قال الحكم و الحكمة من العلم ، و الحكيم : العالم ، و الحكم : العلم و الفقه. قال اللّه تعالى : ( وَآتَيْنَاهُالحُكْمَ صَبِيّاً ) أي علما و فقهاً ، و في الحديث : إنّ من الشعر لحكمة أي أنّ في الشعر كلاماً نافعاً يمنع من الجهل و السفه و ينهى عنه (2).
    يلاحظ عليه : إنّه لو صحّ تفسير الحكيم بالعليم فإنّما هو في ما إذا كان مجرّداً عن العليم مع أنّه استعمل في الذكر الحكيم منضمّاً إليه. قال سبحانه : ( قالُواسُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ).
    و قال الصدوق : معناه انّه عالم و الحكمة في اللغة العلم ، و منه قوله عزّ وجلّ ( يُؤْتى الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ) و معنى ثان أنّه محكم و أفعاله محكمة متقنة من الفساد ، و قد حكمته و أحكمته لغتان ، و حكمة اللجام سمّيت بذلك لأنّها تمنعه من الجهل الشديد و هي ما أحاطت بحنكِه (3).
    و الظاهر أنّ الحكيم أخذ من الحكم بمعنى المنع فلو اُطلق على العلم فلأنّه يمنع الجهل ، و لكنّه إذا وصفت به الأفعال يكون المراد منه كونها محكمة متقنة مصونة محفوظة عن الفساد و بما أنّه وقع في كثير من الايات تعليلاً للحكم يستظهر أنّ المراد هو المتقن فعله ، مثلاً إنّ الملائكة تعتذر عن عدم علمهم بالأسماء بقولهم : ( لاَ عِلْمَ لَنَا ِالاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ). ثمّ تعلّل قصورها عن علمها بها بقوله : ( إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ ) أي ما قمت به من تعليم آدم و عدم تعليمنا فهو ناشىء عن علمك بالواقع أو فعلك المتقن ، و مثله قوله سبحانه الذي حكم فيه بقطع يد السارق و أتمّ كلامه بقوله ( وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) و هذا الحكم صدر عن اللّه الغالب المتقن
1 ـ الميزان في تفسير القرآن : ج 17 ص 62.
2 ـ لسان العرب : ج 12 ، مادة « حكم » ص 140.
3 ـ التوحيد للصدوق : ص 201.


(177)
حكمه و فعله و قس على ذلك سائر الايات ، و إلى ذلك يرجع تفسير الحكيم بذي الحكمة ، فهو سبحانه حكيم في تشريعه ، حكيم في تكوينه ، متقن في كل ما يشرع و يكون ، المراد من الاتقان اتقان التدبير و حسن التقدير الذي يدلّ عليه قوله سبحانه : ( وَ خَلَقَ كُلَّ شَىء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) ( الفرقان/2 ).
    و منه يعلم أنّ تفسيره بالمنزّه عن فعل ما لاينبغي من فروع هذا المعنى ، فإنّ التحرّز من البحث من فروع الاتقان ، قال سبحانه : ( وَ ما خَلَقْنا السَّماءَ وَ الاَْرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ) ( ص/27 ).
    و الحاصل انّ الحكم بمعنى المنع ، و الحكيم يراد به المتقن بصلة بين الاتقان و المنع ، فمن أتقن فعله تشريعاً و تكويناً فقد منع من طروء الزوال و الفساد ، و من تحرز عن العبث في فعله فقد صان فعله عن الفساد و الزوال.
    و على ضوء ذلك يستفاد من الحكيم أمران : أحدهما كون الفعل في غاية الإحكام و الإتقان.
    ثانيهما : كون الفاعل لايفعل قبيحاً و لايخلّ بواجب.
    و الثاني من لوازم الأوّل.
    و على ذلك فهو من صفات الذات بوجه و من صفات الفعل بوجه آخر فبما أنّ القيام باتقان الفعل و التجنّب عن العبث سيتوقّف على العلم الوسيع فهو من صفات الذات ، و بما أنّ الفعل يوصف بالحكمة و الاتقان و بالحقّ و التنزّه عن الباطل فهو من صفات فعله ، و إليك البحث في كلا المقامين على وجه الاجمال.

الحكيم : المتقن فعله
    أمّا اتقان الفعل فيكفي في ذلك معطيات العلوم الطبيعيّة فقد كشفت عن الإتقان الهائل في الفلكيّات و الطبيعيّات و يكفي في ذلك ملاحظة كل عضو من أعضاء الانسان فقد حفّ بقوانين و سنن تُدهش النفوس و تبهر العقول.


(178)
قال سبحانه :
    ( وَ تَرى الجِبالَ تَحْسَبُها جامِدةً وَ هِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللّهِ الَّذِى اَتْقَنَ كُلَّ شَىْء اِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ ) ( النمل/88 ) و قال الإمام علي ( عليه السلام ) : « قدّر ما خلق فَأحكم تقديره » (1).
    و قال ( عليه السلام ) : « مبتدأ الخلائق بعلمه ، و منشئهم بحكمه ، بلاإقتذاء وتعليم و لااحتذاء لمثال صانع حكيم » (2).
    ثم إنّ بعض المغرورين أثاروا شكوكاً حول حكمته تعالى و سألوا عن فوائد الاُمور التالية :
    1 ـ الزائدة الدوديّة.
    2 ـ اللوزتان.
    3 ـ ثدي الرجل
    4 ـ صيون الاذن
    5 ـ الفضاء الوسيع
    و لكن الاعتراض بهذه الأعضاء نتيجة الجهل المطبق و ذلك لضآلة علوم الانسان و قلّة اطّلاعه على سنن الكون و رموزه فوضع عدم العلم بالفائدة مكان عدمها مع أنّ العلم كشف عن فوائدها و قد أوضحنا حالها في أبحاثنا الكلامية (3).

الحكيم : المنزّه عن فعل ما لاينبغي
    هذا هو المعنى الثاني للحكمة غير المعنى الذي سبق توضيحه و إن كان من
1 ـ نهج البلاغة : الخطبة 91.
2 ـ نهج البلاغة : الخطبة 191.
3 ـ لاحظ : اللّه خالق الكون ص 370 ـ 378.


(179)
لوازمه عند الدقّة ، و أساس ذلك هو توصيف الأفعال بالحسن و القبح الذاتيّين ، وتمكّن العقل من دركهما و على ضوئه توصيفه سبحانه بالحكيم أي من لايفعل القبيح و لايخلّ بالواجب ، و قداختلفت كلمة المتكلّمين في حسن الأفعال و قبحها هل هما عقليان و إنّ للعقل درك حسن الفعل بذاته و قبحه كذلك أولا؟ فالعدليّة على الأوّل ، و أهل الحديث و الحنابلة و بعدهم الأشاعرة على الثاني حيث ذهبوا إلى أنّه لاحكم للعقل في حسن الأفعال و قبحها ، فلاحسن و لاقبح لها قبل الشرع ، فكل ما أمر به الشرع فهو حسن ، و كل ما نهى عنه فهو قبيح ، فلو عكس الشارع القضية فنهى عمّا أمر و أمر بما نهى تنقلب القضيّة من حيث الحسن و القبح. هذا والخوض في هذه المسأله بمبادئها و مقدماتها يحوجنا إلى القيام بتأليف كتاب مفرد ولأجل ذلك نأتي هنا بملخّص القول الذي فصّلناه في منشوراتنا الكلامية (1).

1 ـ ما هو المراد من الحسن و القبح العقليين
    أ ـ المراد من الحسن و القبح العقليّين الذاتيّين ، ثبوتهما للأفعال بما هي من غير حاجة إلى ضمّ حيثيّة تعليلية أو تقيّدية بل وزان الحسن و القبح في الأفعال وزان الزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة ، فكما أنّه لايحتاج الزوجية في ثبوتها له إلى شيء وراء فرض كون الشيء أربعة فهكذا الحسن و القبح لايفتقر توصيف الأفعال بأحدهما سوى فرض وجودها. هذا هو الذي ذهب اليه المحقّقون و هو المختار عندنا و على هذا فالحسن حسن على كل حال ، و القبيح قبيح على كل حال غير أنّ الانسان ربّما يضطر إلى ارتكاب القبيح لترك الأقبح فيكون الفعل موصوفاً بالقبح لكن رخّص لأجل دفع المحذور الأهم ، و في مقابل هذا القول أقوال اُخر نسبت إلى العدليّة نشير إلى رؤوسها.
    ب ـ إنّهما ثابتان لذوات الأفعال لكن لا على وجه العليّة التامّة بل على وجه الاقتضاء فمن الممكن أن تعارض ذلك الاقتضاء جهة خارجية تمنعها عن مقتضاها و
1 ـ لاحظ : بحوث في الملل و النحل ج 2 ، ص ؟؟؟ ، والالهيات ج 1 ، ص ؟؟؟.

(180)
القائلون بهذا القول يتمسّكون بالصدق و الكذب ، فيتبدّل حسن الصدق إلى القبح إذا كان ضارّاً ، و قبح الكذب إلى الحسن إذا كان نافعاً.
    ج ـ إنّ الأفعال انّما تتّصف بالحسن و القبح إذا قيست إلى الجهات الخارجية فالعدل بما أنّه سبب لبقاء النظام ، و الظلم بما أنّه هادم له يوصفان بالحسن و القبح فليست الأفعال في حدّ ذاتها حسنة و لاقبيحة و إنّما توصف بهما بالنظر إلى الجهات الخارجية ، و إلى ذلك القول يرجع كل من قال بأنّ حسن العدل و قبح الظلم من القضايا المشهورة التي اتّفق العقلاء على حسن الأوّل و قبح الثاني.
    د ـ التفصيل بين الحسن و القبح فالأوّل يكفي فيه نفس الذات دون الثاني ، و نسب هذا القول إلى أبي الحسين البصري و كأنّه يريد أن الحسن يستند إلى نفس الذات و القبح يرجع إلى أمر خارج عنها.
    ه ـ ـ إنّهما يتبعان للفعل بالوجوه و الاعتبارات ، فليس شيء منها مستنداً إلى نفس الذات و لايعد من الصفات اللازمة للأفعال و ذلك كضرب اليتيم فإنّه حسن لو كان بنيّة التأديب ، و قبيح لو كان بنيّة الايذاء.
    و لك أن ترجع مجموع أقوال القائلين بالحسن و القبح العقليين إلى اُصول ثلاثه :
    أ : إنّ الحسن و القبح من الامور الذاتيّة ، فلو قلنا بأنّ نفس الفعل علّة تامّة فهو القول المختار ، و إن قلت إنّه من قبيل المقتضي فهو القول الثاني.
    ب : إنّ الحسن و القبح ليسا من الامور الذاتيّة بل من الامور الاجتماعيّة و العقلائيّة ، فكل فعل وقع في اطار مصلحة الفرد و المجتمع فهو حسن ، و ما وقع في خلافه فهو قبيح ، و إلى هذا القول يرجع كل من أراد اثبات الحسن و القبح للأفعال بتعليلها بالمصالح الفردية و الإجتماعية.
    ج ـ إنّ الحسن و القبح يتبعان نيّة الفاعل و هدفه ، فربّ فعل يصير حسناً إذا
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس