صدر عن نيّة صالحة و قبيحاً إذا صدر عن نيّة فاسدة (1).
هذه الأقوال من فروع القول بالحسن و القبح العقليّين و الجميع في مقابل المنكرين أعني أهل الحديث و الأشاعرة. و لكنّ الحقّ هو القول المختار حيث أنّ هناك أفعالاً يقوم العقل بدرك حسنها أو قبحها بنفسها من أيّ فاعل صدر ، و في أيّ موّرد وقع ، بلاملاحظة جهة خارجية و حيثيّة تعليلية أو تقييديّة و من دون ملاحظة نيّة الفاعل و قصده فضلاً عن ملاحظة كونه ملائماً للطبع و غيره ، نعم و إنّما يفتقر إلى ملاحظة النيّة في توصيف الفاعل بأنّه محسن أو مسيئ و أمّا نفس الفعل فلايحتاج في الحكم عليه بشيء منهما وراء فرض الموضوع. هذا هو المدّعى و إليك الدليل في البحث الثاني.
2 ـ العقل النظري و العقل العملي ينقسم العقل عند الحكماء إلى عقل نظري و عقل عملي. فالأول هو الذي به يحوز الانسان علم ما ليس من شأنه ذلك العلم أن يعمله. و الثاني هو الذي يعرف به ما من شأنه أن يعمله الانسان بإرادته (2). و ظاهر هذه العبارة أنّ هنا عقلين أحدهما نظري و الاخر عملي و لكنّه خلاف التحقيق ، بل الظاهر أنّ تفاوت العقل النظري مع العقل العملي بتفاوت المدرَكات من حيث أنّ المدرك من قبيل أن يُعلَم ، أو من قبيل ما ينبغي أن يؤتى به أو لايؤتى به ،
1 ـ هذا القول أي كون الحسن و القبح يدوران مدار النوايا و الأهداف غير القول بكون الحسن و القبح أمراً يعتبره العقل من ادراك الملائمة للطبع ، الذي حقّقه العلاّمة الطباطبائي ، و هو خيرة بعض فلاسفة العرب ، فقد طوينا الكلام عن ذلك القول في هذا البحث لما اسهبنا عنه في أبحاثنا الكلامية. لاحظ : « مناهج الجبر و الاختيار ». 2 ـ شرح المنظومة : ص 305 ، نقلا عن المعلّم الثاني.
(182)
فالأوّل هو العقل النظري و الثاني هو العقل العملي (1).
و على ضوء ذلك فالنظري و العملي وجهان لعملة واحدة لايختلفان جوهراً و ذاتاً ، فإن كان المدرك ممّا ينبغي أن يعلم فيسمّى المدرك عقلاً نظرياً ، و إن كان المدرك ممّا ينبغي أن يفعل أو لايفعل فالمدرك هو العقل العملي.
3 ـ الحكمة العملية و قضاياها الواضحة إنّ الحكمة العملية تتمشّى مع الحكمة النظريّة في كيفيّة البرهنة و الاستدلال فكما أنّ في الحكمة النظرية قضايا بديهية بأصولها الستة تنتهي إليها القضايا النظريّة فهكذا في الحكمة العملية قضايا واضحة تنتهي إليها القضايا غير الواضحة. نعم إنّ تقسيم القضايا إلى نظريّة و بديهيّة و إن كان دارجاً في الحكمة النظريّة دون العملية ، غير أنّ الحقّ عدم اختصاص التقسيم بها بل قضايا الحكمتين تنقسم إلى قسمين : واضحة و غير واضحة ، و تنتهي الثانية إلى الواضحة في كلتا الحكمتين ، و العقل كما يدرك القضايا البديهية في الحكمة النظريّة من صميم ذاته أو من تصوّر الطرفين مع النسبة فهكذا يدرك القضايا الواضحة في الحكمة العملية إذا لوحظت بذاتها. هذا هو المهم في باب الحكم بالحسن و القبح العقليين ، و بالوقوف على هذه الحقيقة تعلم قيمة سائر الأقوال فيهما و بما أنّ الحكم في المقيس عليه « الفعلالنظري » واضح لاحاجة فيه إلى البيان ، فلنرجع إلى بيانه في الفعل العملي فنقول : إنّ القضايا عند العقل العملي ليس على وزان واحد بل هو على قسمين : منها ما هي مغمورة مجهولة لايحكم العقل فيها بواحد من الطرفين « الايجاب و النفي » و منها ما هو مبيّنة واضحة لدى العقل مع غضّ النظر عن كل شيء و الاقتصار على لحاظ نفس القضية فيجب أن تكون تلك القضايا مقدّمة
1 ـ نهاية الدراية : ج 2 ، ص 124.
(183)
لحلّ القضايا الاُولى و بأنّها ترجع إليها ، و من تلك القضايا البديهية مسألة التحسين و التقبيح في جملة من الأفعال أو جميعها مثلاً جزاء الاحسان بالاحسان حسن ، و جزاء الاحسان بالإساءة قبيح ، أو العمل بالميثاق حسن ، ونقضه قبيح ، أو العدل حسن ، والظلم قبيح ، فهذه القضايا قضايا بديهية في الحكمة العملية والعقل يدركها من صميم ذاته ويقف عليها من ملاحظة القضية مع نسبتها ، وعلى هذه القضايا البديهية يبتني كل ما يَردُ على العقل في مجال الأخلاق وتدبير المنزل وسياسة المدن.
و بذلك يعلم أنّ تحليل حسن العدل و الاحسان ، و قبح الظلم و العدوان و غيرهما ممّا عددناه بأنّ القضية الأولى حافظة للنظام و الثانية هادمة له ، و لأجل تلك التوالي عمّ الاعتراف بها من قبل الجميع ـ إنّ ذلك التحليل ـ إنكار للحسن و القبح العقليين الذاتيين فإنّ مدار البحث كما عرفت مركّز على نفس العقل مع غضّ النظر عن تواليه و توابعه ، و إنّ العقل هل يقوم بنفسه بمدح إحسان المحسن بالاحسان ، وبذمّ جزاء المحسن بالإساءة أو لا ، و هل العقل يحسن الملتزم بالميثاق أو لا؟ لابالنظر إلى الأعراض و المصالح المترتّبة سواء كانت المصالح فردية أم اجتماعية. و العجب أنّ أكثر المحقّقين الباحثين في هذا الموضوع فسّروا حكم العقل بما يترتّب عليه من المصالح و المفاسد ، مع أنّ الهدف من طرح هذا البحث إنّما هو التوصّل إلى معرفة أفعال اللّه و اكتشاف ما هو الحسن و القبيح عنده ، فكيف يمكن تفسير حسن العدل و قبح ضدّه بكونه حافظاً للنظام أو هادماً له؟ لاشك أنّ العدل و الظلم يترتّب عليهما صيانة النظام و هدمه و يوصف الأوّل بالحسن و الثاني بالقبيح لهذه الجهه أيضا ، لكنّ المطروح في هذا الباب ما هو أوسع من ذلك و هو درك العقل العملي حسن الفعل و قبحه بما هو هو سواء كان هناك نظام أو لا؟ و سواء أكان هناك خلق أو لا؟ و بذلك يعلم بطلان سائر الأقوال من القائلين للحسن و القبح حيث جعلوا ملاك الحسن و القبح الملائمة للطبع و المنافرة له سواء كان المراد الطبع الفردي أو
(184)
الطبع النوعي ، لأنّ ذلك على فرض صحّته إطلاق الحسن و القبح خارج عن محل البحث.
كما يعلم بطلان القول بأنّ الحسن ما يوافق الغرض و القبيح ما يخالفه ، فإنّ ذلك أيضاً كالسابق خارج عن محلّ البحث. كما يعلم فساد تفسير الحسن بما فيه المصلحة ، و القبيح بما فيه المفسدة و إنّ ما خلا منهما ليس بحسن و لاقبيح (1). و على الجملة فالمحور في حكم العقل بالحسن و القبح هو ملاحظة نفس القضية مع غضّ النظر عن كل شيء لا كونه حافظاً للنظام أو هادماً ، و لا كونه موافقاً للطبع الفرديّ ، أو النوعيّ ، و لا كونه محصّلاً للغرض و عدمه ، أو كونه متضمناً للمصلحة أو المفسدة ، فالكل انحراف عن مسير البحث و كلام زائد ملأ كتب المتكلّمين بل الاصوليين من الشيعة إلاّ القليل منهم ، و لأجل ذلك ضربنا البحث عن تحليل هذه الأقوال من شعب القول بالتحسين و التقبيح العقليين ، و أظنّ أنّ هذه الأقاويل و إن نسبت إلى القائلين بالتحسين و التقبيح العقليّين لكنّها أشبه بقول المنكرين ، فإنّه لما اتسع على الأشاعرة سبيل الانتقاد و ضاق عليهم طريق الاعتذار أرادوا الدفاع عن منهجهم فعمدوا إلى تكثير معاني الحسن و القبح إلى معان ، أو تكثير ملاكاتهما و الأولى للقائل بالحسن و القبح العقليين الذي يريد استكشاف حال افعال الواجب الاعراض عن هذه التفاصيل. و الحاصل أنّ هناك أفعالاً إذا تصوّرها العقل حكم بحسنها أو قبحها بمجرد الوقوف على القضيّة و حكم بمدح فاعلها أو ذمّه كائناً من كان الفاعل. و إن شئت قلت : إنّ كل عاقل مميّز يجد من صميم ذاته حسن بعض الأفعال و قبح بعضها ، سواء كان الشخص مؤمناً أو كافراً ، معتقداً بالشرايع الإلهيّة أو لا ، وسواء أصدر الفعل من الممكن أم من الواجب و سواء تصوّر كونه حافظاً للنظام أولا ، و سواء تصوّر كونه ذات مصلحة أو مفسدة ، أو كونه موافقاً للطبع الفردي أو
1 ـ شرح التجريد للقوشجي : ص 337.
(185)
النوعي ، بل هو مع الغفلة عن كل هذا يدرك حسن بعض و قبح بعض آخر ، و لو نرى اتّفاق جميع العقلاء من جميع المذاهب و الطوائف على هذا الحكم فلأنّه نابع من صميم القوّة العاقلة و هو أمر مشترك بين الناس.
و أقول رعاية للحقّ : إنّ أوّل من هذّب محلّ النزاع بوجه رائع هو المحقّق اللاهيجي في تأليفيه النفيسين (1). و نزيد تأكيداً على أنّ هذا هو المدار ، و هو أنّ الغرض من طرح هذه المسألة هو التوصل إلى التعرف على أفعاله تعالى و هو لايتمّ إلاّ إذا لوحظت المسألة على النحو الذي بيّنّاه. نعم يمكن توجيه القول بالطبع من هذه الأقوال و إرجاعه إلى ما ذكرنا و هو أنّ صدق القضايا العقليّة في الحكمتين ، وتوصيفهما بالحقّ والصدق يتوقّف على وجود ملاك له. و هو في قضايا الحكمة النظريّة ، نفس الواقع و الخارج بعرضها العريض. فقولنا الإنسان متعجّب أو ممكن أو نوع من القضايا الصحيحة في الحكمة النظرية و ملاك صدقها هو مطابقتها للخارج العريض و لاتشذّ عنها قضايا الحكمة العمليّة فإنّ توصيفها بالصدق و الحقّ يتوقف على الملاك ، فقولنا : « العدلحسن » و « الظلمقبيح » قضّيتان صحيحتان و نقيضاهما باطلان و كاذبان. فما هو الملاك في الحكم بالأوّليتين بالحقّ و الصدق و بالثانيتين بالكذب و البطلان؟ أقول : الملاك في هذا الباب هو مطابقة حكم القضية للطبع الإنساني و لايراد منه الطبع الحيواني الذي يجنح إلى العبث و الفساد بل الجانب الأعلى و المثل الأعلى للانسان و الوجه المثالي منه ، فلو اريد من الطبع هذا المعنى لاتّفق القولان. فالانسان بما هو ذو فطرة مثاليّة يتميز بها عن الحيوانات يجد بعض القضايا
1 ـ گوهر مراد : ص 122 ـ 123 ، و سرماية ايمان : ص 33 ـ 35.و ما حقّقناه توضيح و تحقيق لكلامه.
(186)
ملائمة لذلك و البعض الآخر منافياً له. فيصف الملائم بالحسن و لزوم العمل ، و المنافي بالقبح و لزوم الاجتناب ، و بما أنّ هذا الموضوع يحتاج إلى بسط في الكلام حتى يعلم اتّفاق القولين في الهدف و المرمى نقوم بالاسهاب فيه.
4 ـ الانسان و قوى الخير و الشر إنّ واقع الانسان يتألّف من قوى الشر و الخير ، الحيوانية و الإنسانية ، و لكلّ دوره في حياة الانسان ، غير أنّ واقع الانسان يتمثّل و يتجلّى في الجانب الثاني ، ففي الجانب الأوّل تتجلّى الشهوة و الغضب و الأنانيّة و القسوة و غيرها من رذائل الأخلاق كما أنّ الجانب الثاني تتجلّى فيه القيم الأخلاقية و المثل الإنسانية و غير ذلك من خصال الخير ، و هذا الجانب هو الأصيل في الانسان دون الجانب الأوّل. و الشاهد على ذلك إنّه عندما يقع الانسان في صراع بين جانبيه : الحيواني و الانساني « الملكوتي » فإذا غلب الجانب الثاني على الجانب الأوّل ، يحسّ من صميم ذاته بالسرور و الرضا ، فلو كان واقع الانسان يتمثّل في الجانب الحيواني لما صحّ السرور و الرضا لأنّ المفروض مغلوبيّة القوى الحيوانية و المغلوب يكون محزوناً لامسروراً ، و هذا يفيد بجلاء إنّ واقع الإنسان هو الجانب الثاني أي كونه موجوداً ملكوتياً ، إلهيَّ النزعة ، طالبا للخير و الكمال و السموّ و الارتقاء. فلو أراد القائل من كون ملاك حكم العقل هو موافقة الحكم للطبع هو ما ذكرنا فنعم الوفاق ، و إلاّ فهو غير تام كسائر الأقوال. و إن شئت قلت : لاحقيقة للحسن و القبح إلاّ كون الشيء ملائماً لطبع الانسان أو غير ملائم ، لكنّ المراد منه ليس هو الطبع السافل بل الطبع العالي ، و الطبع العالي ينزع إلى الخير ويميل إلى الكمال ، و الطبع السافل ينزع إلى الشرّ ، فكل فعل أحبّه الإنسان بروحه المتعالية و عقله المتكامل فهو حسن ، و كل ما وقع في خلاف ذلك يعدّ قبيحاً ، و على ضوء ذلك تقدر على تحليل جميع الأمثلة.
(187)
5 ـ الاُصول الأخلاقية الثابتة إذا كان الميزان في الحكم بالحسن و القبح و في الحكم بالقيم الأخلاقية هو درك العقل مع غضّ النظر عن كل شيء على ما ذكرنا ، أو كون القضية المدركة مطابقة للجانب المثالي الأعلى للإنسان ، تقف على أنّ هناك اُصولاً أخلاقيّة ثابتة لاتتغير مع مرور الدهور و العصور ، و تبدّل الحضارات ، لأنّ الشخصيّة المثالية العليا في الكيان الإنساني ثابتة لاتتغير و لاتتبدل. فإذا كان الملاك هو الملائمة و المنافرة بالقياس إليه تصبح الاُصول ثابته دائمة بثبات الحيثية العليا من الإنسان و دوامها. و لأجل ذلك إنّ الاُصول الأخلاقيّة لاتختلف عند الأمم و الشعوب لأنّهم متشابهون و متشاركون في الجانب الأعلى للانسان ، نعم يختلفون في العادات و الأخلاق التابعة للمحيط و العائلة و ليس لها جذور في الفطرة الإنسانية. نعم يختلفون في الأشكال و الصور و التجلّيات و المظاهر و يتّحدون في اللبّ و الجوهر ، فالكل يحكم باحترام المعلّم و الاستاذ لأنّ عقله يحكم بلزوم إحسان المحسن و قبح إساءته غير أنّهم يختلفون في كيفيّة الاحترام ، و هذا الاختلاف نابع من التقاليد و العادات ، فربما يحترمون بالقيام عند الورود و اخرى برفع القلنسوة عن الرأس و ثالثة ...
6 ـ الاُصول الثابتة في الشرائع السماوية لاشكّ انّ هناك اُصولا ثابتة في جميع الشرائع السماوية من حرمة الشرك باللّه تعالى في العبادة و حرمة الظلم و لزوم تكريم الوالدين و غير ذلك ، و ما ذلك إلاّ لأنّ الاُصول الثابتة توافق الجانب الأعلى من الإنسان و هو ثابت عبر القرون و العصور ، و بذلك يتجلّى سرّ خاتميّة الاسلام و دوام اُصوله الخلقية ، و تشريعاته المطابقة للشخصية الانسانية العالية ، فبما أنّ الشخصيّة المثاليّة لاتمسّها يد التغيّر و التبدل
(188)
في جميع العصور و الحضارات ، و تكون الأحكام و التشريعات المطابقة لتلك الجوهرة المتعالية ثابتة لاتمسّها يد التغيير.
7 ـ القرآن و كونه سبحانه حكيماً إذا كانت الحكمة بمعنى التحرّز عمّا يجب الاجتناب عنه مما يحكم العقل بقبحه ، فقد تضافر توصيفه سبحانه ب ـ « الحكيم » في القرآن الكريم. ترى أنّ القرآن الكريم يذكّر بلطيف بيانه انه سبحانه بريء من القبيح و فعل ما يجب التنزّه عنه. قال سبحانه : ( وَ اِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْهَا آبائَنا وَ اللّهُ اَمَرَنا بِها قُلْ اِنَّ اللّهَ لايأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) ( الأعراف/28 ). و قال سبحانه : ( قُلْ اِنَّما حَرَّمَ رَبِّىَ الفَواحِشَ ) ( الاعراف/33 ) و قال سبحانه : ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاَْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجّارِ ) ( ص/28 ) و قال سبحانه : ( هَلْ جَزاءُ الاِْحْسانِ إِلّا الاِْحْسانُ ) ( الرحمن/60 ). فهذه الآيات تعرب بوضوح أنّ هناك اُموراً توصف بالاحسان و الفحشاء و المنكر و البغي و المعروف قبل تعلّق اُمر الشارع بها أو نهيه عنها ، و أنّ الانسان يجد اتّصاف الأفعال بواحد من هذه العناوين من صميم ذاته ، و ليست معرفة الانسان بهذا الاتّصاف موقوفاً على تعلّق حكم الشرع و إنّما دور الشرع هو إرشاد حكم العقل الذي يأمر بالحسن و ينهي عن القبيح. قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الإحْسانِ وَ اِيتاءِ ذِى الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنْ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل/90 ). و بذلك تقف على قيمة كلام الأشعري في جواز تعذيب أطفال الكفّار في الاخرة.
(189)
قال في « الابانة » : يجوز أن يؤلم أطفال الكافرين في الاخرة ليغيظ بذلك آباءهم و يكون ذلك منه عدلا؟! (1). و قال في اللمع : فإن قال قائل : هل للّه تعالى أن يؤلم الأطفال في الاخرة إذا قيل للّه تعالى ذلك ، و هو عادل ان فعله؟ ـ إلى أن قال ـ : و لايقبح منه أن يعذّب المؤمنين ، و يدخل الكافرين الجنان ، و إنّما نقول : إنّه لايفعل ذلك لأنّه أخبرنا أنّه يعاقب الكافرين و هو لايجوز عليه الكذب في خبره (2).
قد ورد الحق معرّفاً و منكراً في الذكر الحكيم 239 مرّة و وقع وصفاً له سبحانه في سبعة موارد : قال سبحانه : ( ثُمَّ رُدُّوا اِلى اللّهِ مَوْليهُمُ الْحَقِّ اَلا لَهُ الحُكْمُ وَ هُوَ اَسْرَعُ الحاسِبِينَ ) ( الانعام/62 ). و قال سبحانه : ( فَذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الحَقِّ اِلاّ الضَّلالُ فَأَنّى تُصْرَفُونَ ) ( يونس/32 ). و قال سبحانه : ( ذلِكَ بِاَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَ اَنَّهُ يُحْيِى المَوْتى وَ اَنَّهُ عَلى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ ) ( الحج/6 ). و قال سبحانه : ( ذلِكَ بِاَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَ اَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الباطِلُ وَاَنَّ اللّهَ هُوَ العَلِىُّ الكَبِيرُ ) ( الحج/62 ). و قال سبحانه : ( يَوْمَئِذ يُوَفِّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ اَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور/25 ).
1 ـ الابانة : ص 133. 2 ـ اللمع : ص 116 ـ 117.
(190)
و قال سبحانه : ( ذلِكَ بِاَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَ اَنَّ مايَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الباطِلُ وَ اَنَّ اللّهَ هُوَ العَلِىُّ الكَبِيرُ ) ( لقمان/30 ). و قال سبحانه : ( فَبِعِزَّتِكَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ اَجْمَعِينَ * اِلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ * قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ اَقُولُ ) ( ص/82 ـ 84 ). و قد استعمل الحق في (1) مقابل الباطل في غير واحد من الايات فهل هما من قبيل المتضادّين أو من قبيل المتضائفين أو من قبيل العدم و الملكة أو السلب و الايجاب ، لاسبيل إلى الأوّل لما سيوافيك أنّ البطلان أمر عدمي لاوجودي ، و بذلك يعلم عدم كونهما من قبيل المتضايفين لاشتراط كونهما أمرين وجوديين حيث يلزم من تصوّر أحدهما تصوّر الاخر ، فانحصر الاحتمال بين الثالث و الرابع ، و لعلّ الثالث أقرب ، و على كل تقدير فلو كان أحد المفهومين واضحاً يمكن استظهار معنى الاخر من خلاله. قال ابن فارس : الحق أصل واحد و هو يدلّ على إحكام الشيء و صحّته فالحق نقيض الباطل ثم يرجع كل فرع إليه بجودة الاستخراج و حسن التلفيق. يقال حقّ الشيء أي وجب ، و يقال ثوب محقّق إذا كان محكم النسج ، و الحقّة من أولاد الابل : ما استحقّ أن يحمل عليه كأنَّه احكمت عظامه و اشتدّت فاستحق الحمل ، و الحاقة : القيامة لأنّها تحقّ بكل شيء (2). و قال الراغب في مادة « بطل » : الباطل نقيض الحق و هو ما لاثبات له عند الفحص عنه ، قال تعالى : ( ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ إِنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ ). اقول : إنّ الحقّ و الباطل قد يوصف بهما الاعتقاد و اُخرى نفس الواقع الخارجي مع قطع النظر عن الاعتقاد به ، فاذا قدّر للشيء نوع من الوجود أو نوع من
1 ـ بناء على انّ المراد من الحق الأوّل هو اللّه سبحانه على انّ التقدير فالحق اقسم به ، وفيه أقوال. 2 ـ مقاييس اللغة : ج 2 ، ص 15 ـ 17.