مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 191 ـ 200
(191)
الوصف ثم قيس إلى الخارج و كان الخارج على وفق ما قدّر و وصف كان الاعتقاد حقّاً و القضيّة الذهنيّة حقّة ، و أمّا إذا لم يكن كذلك يكون الاعتقاد باطلاً و القضية باطلة.
    قال سبحانه : ( كانَ الناسُ أُمّةً واحِدةً فَبَعَثَ اللّهُ النَبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ ... فَهَدى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِما اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِاِذْنِهِ وَ اللّهُ يَهْدِى مَنْ يَشاءُ اِلى صِراط مُسْتَقِيم ) ( البقرة/213 ). اي هداهم إلى العقائد الحقّة المطابقة لنفس الأمر.
    هذا إذا وقع الحق و الباطل و صفين للإعتقاد و القضيّة الذهنيّة ، و أمّا إذا وقعا وصفين لنفس الأمر و الواقع الخارجي فتوصيفه بهما يدور مدار ثبوته و عدمه.
    فإذا كان الواقع واجب الوجود أي ماله ثبوت لايشوب ثبوته بطلان ، و يكون ثابتاً من جميع الجهات و موجوداً على أيّ تقدير ، و موصوفاً بالوجود مطلقا غير مقيّد بقيد و لامشروطاً بشرط فهو الحقّ المطلق الذي لايتطرّق اليه البطلان بوجه ما ، و الحقّ بهذا المعنى ينحصر فيه سبحانه لاغير و لأجل ذلك قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ ) فأتى بضمير الفصل و عرّف الخبر باللام لغاية القصر أي حصر المبتدأ في الخبر ، فاللّه سبحانه حقّ بذاته على الاطلاق بلاشرط و قيد.
    أمّا إذا كان الواقع ممكن الوجود فهو حقّ بمقدار ماله من الثبوت و باطل بمقدار ما لاثبوت له ، فبما أنّ الممكن يتّصف بالوجود من جانب علّته ، فيكون له الثبوت بفضلها فهو حقّ ، و بما أنّه ليس له الوجود من صميم ذاته ، و انّه إذا لم يكن له الموجد لبقي على العدم فهو باطل و هالك.
    و هناك آيتان ناظرتان إلى ما ذكرنا أعني قوله سبحانه :
    1 ـ ( كُلُّ شَىْء هالِكٌ اِلّا وَجْهَهُ ) ( القصص/88 ).
    2 ـ ( وَ يُحِقُّ اللّهُ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ) ( يونس/82 ).
    فالاية الأولى ناظرة إلى بطلان الممكن من حيث هو هو ، و لأجل ذلك يحكم


(192)
بهلاكه فعلاً و مستقبلاً فغيره سبحانه محكوم بالهلاك في جميع الأزمان ، و الاية الثانية ـ لو قلنا بأنّ المراد بكلماته هو أفعاله ـ ناظرة إلى أنّ كل ممكن حقّ لكن بإحقاقه سبحانه ، إذ هو الذي يعطي الوجود و الثبوت.
    و للحكيم الفارابي كلام لابأس بنقله : يقال : حقّ : للقول المطابق للمخبر عنه ، إذا طابق القول ، و يقال : حقّ للموجود الحاصل بالفعل ، و يقال : حقّ للموجود الذي لا سبيل للبطلان إليه ، و الأوّل تعالى حقّ من جهة المخبر عنه ، حقّ من جهة الوجود ، و حقّ من جهة أنّه لا سبيل للبطلان إليه. لكنّا إذا قلنا : إنّه حقّ فلأنّه الواجب الذي لايخالطه بطلان ، و به يجب وجود كل باطل.
ألا كل شيء خلا اللّه باطل و كل نعيم لامحالة زائل (1)
    و بذلك خرجنا إلى هذه النتيجه أنّه سبحانه حقّ على الاطلاق ، و أمّا الممكن فبما أنّه يفقد الوجود من صميم الذات فهو باطل ، و بما أنّه متصف بالوجود الظلّي و الثبوت التبعي فهو حقّ ، و لعلّ إلى بعض ما ذكرنا يشير قول لبيد الذي تقدّم آنفاً.
    هذا حال الواجب و الممكن و قدعرفت أنّ الأوّل حقّ مطلق ، و الثاني حقّ من جهة و باطل من جهة اُخرى ، و أمّا الممتنع فهو الباطل المحض ، ليس له منه حظ.
    قال بعض المحقّقين : كل ما يخبر عنه فأمّا باطل مطلقاً ، و أمّا حقّ مطلقا ، و أمّا حقّ من وجه و باطل من وجه ، فالممتنع بذاته هو الباطل مطلقاً ، و لاحقيقة له أصلاً ، فإنّ الحقيقة هي التي بها ذوحقيقة ، حقّ و ثابت ، لايمكن انكاره و هي خصوصيّة وجوده الذي يثبت له ، و الواجب بذاته هو الحق مطلقاً ، و الممكن بذاته الواجب بغيره فهو حقّ من وجه و باطل من وجه آخر ، فهو من حيث ذاته لاوجود له ، و من حيث استفادة الوجود من غيره موجود ، فهو من هذا الوجه حقّ و ثابت له حقيقة ينتهي إليها و أصل ينبعث منه و يجب وجوده به و يظهر بنوره الظاهر المظهر له
1 ـ شرح الأسماء الحسنى : ص 271.

(193)
فلا يكون له وجود وظهور في نفسه بل يكون وجوده و ظهوره من أصله المظهر بايجاب وجوده المحقّق لحقيّته و ثباته ، و الممكن من جهة نفسه باطل و لذلك قال : ( كُلُّشَىْء هالِكٌ اِلّا وَجْهَهُ ) (1).
    و بذلك يعلم أنّ قوله سبحانه : ( ذلِكَ بِاَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَ اَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الباطِلُ وَ اَنَّ اللّهَ هُوَ العَلِىُّ الكَبِيرُ ) ( لقمان/30 ). من غرر الايات القرآنية ، تشتمل على معارف الهيّة نشير إلى إجمالها :
    1 ـ إنّ الحقّ المطلق ثابت للّه سبحانه و إنّه لايوصف به إلاّ هو.
    2 ـ إنّ الأصنام و الأوثان التي كانت العرب عابدة لها ليس لها من الألوهية شيء ، فهي من هذا الجانب باطل محض لاتملك منها شيئاً إلاّ الإسم و هذا لاينافي أن يوصف بالحقّ من حيث أنّ لها درجة من الوجود ككونها جماداً أو نباتاًً أو حيوانا غير أنّ محور البحث كونها آلهة فهي في هذا النظر لاتوصف إلاّ بالبطلان.
    3 ـ إنّ توصيفه سبحانه بالعليّ في الاية يشير إلى صفاته السلبية و يفيد تنزّهه عمّا لايليق بساحته فاللّه سبحانه حقّ منزّه عن كل نقص من الجهل و العجز و الزمان و المكان و الجسم ، فما يدعون من الآلهة ليس لهم من الحقيقة شيء و لا إليهم من الخلق و التدبير شيء ، و لا إليهم شيء ممّا يعدّ فعلاً للربّ ككونهم مالكين للمغفرة و الشفاعة.
    4 ـ إنّ توصيفه سبحانه بالكبير إشارة إلى صفاته الثبوتية و يفيد سعة وجوده و اشتماله على كل كمال وجودي و هو مجمع الصفات الكمالية و الجمالية ، فهي الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال فهو اللّه عزّ اسمه.
    و على ذلك فلحق في الاية و في كل ما وقع وصفاً له سبحانه يعادل واجب الوجود و « العليّ » يقوم مقام الصفات السلبية و « الكبير » يقوم مقام الصفات الثبوتية.
1 ـ كتاب كاشف الأسماء في شرح الأسماء الحسنى في اسم الحق.

(194)
توصيف الفعل بالحق
    إنّ الحقّ كما يوصف به نفس الواجب و ذاته فكذلك يوصف به فعله سبحانه لكن بلحاظ آخر قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ ما خَلَقَ اللّهُ ذلِكَ اِلّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ ) ( يونس/5 ).

أفعاله سبحانه معلّلة بالاغراض
    إنّ الذكر الحكيم يصف كثيراً من أفعاله سبحانه بقوله : « بالحق » و بذلك يشير إلى أنّ أفعاله أفعال حكيمة مصونة عن العبث و اللغو ، و لأجل ذلك ذهبت العدلية إلى أنّ افعاله معلّلة بالاغراض خلافاً للاشاعرة ، فإذا كان الهادي في مجال العقائد هو الكتاب فآياته صريحة في ذلك ، يقول سبحانه :
    ( اَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ اَنَّكُمْ اِلَيْنا لاتُرْجَعُونَ ) ( المؤمنون/115 ).
    و قال عزّ من قائل : ( وَ ما خَلَقْنا السَّمواتِ وَ الاَْرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) ( الدخان/38 ).
    و يقول سبحانه : ( وَ ما خَلَقْنا السَّماءَ وَ الاَْرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّار ) ( ص/27 ).
    و قال سبحانه : ( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الاِْنْسَ اِلّا لِيَعْبُدُون ) ( الذاريات/56 ).
    و المراد في المقام هو إيجاده بحسب مقتضى الحكمة و بالتالي نزاهة فعله من العبث و اللغو ، و بذلك يعلم معنى ما يقال : انّ فعله سبحانه كلّه حقّ كما يعلم سرّ اقتران لفظة « بالحق » بكثير من أفعاله التي جاءت في الذكر الحكيم ، قال سبحانه : ( اَلمْ تَرَ اَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمواتِ وَ الاَْرْضَ بِالْحَقِّ اِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْق


(195)
    جَدِيد ) ( إبراهيم/19 ). و تعرب الاية عن أنّ هنا صلة بين خلق السموات و الأرض و وجود الإنسان في هذا الكوكب فقال سبحانه : ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدًى وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) ( النحل/102 ). أفيمكن توصيف الفعل العاري عن الغرض و الهدف حتى ما يُرجع إلى المخلوق بأنّه نزّل بالحقّ؟
    و العجب إنّ الأشاعرة و عامّة أهل الحديث الذين يلتزمون التعبّد بظاهر النصوص تعبداً حرفياً قدخرجوا في هذا المقام عن هذا الأصل و قالو بعدم كون أفعاله معلّلة بالأغراض فماذا جوابهم تجاه هذه الآيات و تكرّر « بالحق » وصفاً لفعله؟ لاأدري و لاالمنجّم يدري.
    هلمّ معي ندرس ما ذكره العقليون من الأشاعرة :
    1 ـ قالوا : « لو كان فعله تعالى تابعاً لغرض لكان ناقصاً لذاته مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض لأنّه لايصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه و هو معنى الكمال » (1).
    إنّ المستدلّ خلط بين الغرض الراجع إلى الفاعل و الغرض الراجع إلى الفعل فالاستكمال موجود في الأوّل دون الثاني ، و القائل بكون أفعاله تابعة للأغراض و الغايات و الدواعي و المصالح إنّما يعني به الثاني دون الأوّل ، و الغرض بالمعنى الأوّل ينافي كونه غنيّاً بالذات وغنيّاً في الصفات و غنيّاً في الأفعال ، والغرض بالمعنى الثاني يوجب خروج فعله عن كونه عبثاً و لغواً و كونه سبحانه عابثاً و لاهياً ، فالجمع بين كونه غنيّاً غير محتاج إلى شيء ، و كونه حكيماً منزّهاً عن العبث و اللغو يتحقق بالقولباشتمال أفعاله على مصالح وحكم ترجع إلى العباد و النظام لاإلى وجوده و ذاته.
    2 ـ قالوا : إنّ العلّة الغائيّة هي احدى أجزاء العلّة التامّة و يراد منها في مصطلح
1 ـ المواقف « للقاضي عضدالدين » : ص 231.

(196)
الحكماء ما يخرج بها الفاعل من القوّة إلى الفعل و من الامكان إلى الوجوب ، فهي السبب لخروج الفاعل عن كونه فاعلاً بالقوّة إلى كونه فاعلاً بالفعل ، مثلا النجّار لايقوم بصنع الكرسي إلاّ لغاية مطلوبة ولولا تصوّرها لبقى على كونه فاعلاً بالقوّة ، فلو كان لأفعاله سبحانه غاية لزم كونه ناقص الفاعليّة في ذاته ، وتامّ الفاعليّة بغاية الفعل فيحتاج في فاعليّته إلى شيء وراء ذاته.
    يلاحظ عليه : إنّ ما ذكروه في تفسير العلّة الغائية حقّ لاغبار عليه و قد أخذته مفكّروا الأشاعرة من الفلاسفة و استغلوه في غير موضعه ، وخرجوا بهذه النتيجة : إنّ فعله سبحانه عار عن أية غاية و غرض و جعلو فعله كفعل العابثين و اللاعبين يفعل بلاغاية و يعمل بلاغرض ، و العلّة الغائيّة بهذا المعنى تنطبق على وجود الغرض للفاعل ، و لاتنطبق على وجود الغرض للفعل ، و قدعرفت أنّ القائلين بتبعيّة أفعاله للأغراض إنّما يعنون القسم الثاني دون الأوّل ، فلاشكّ انّه سبحانه تامّ الفاعلية بالنسبة إلى كلا الفعلين : ما يترتب عليه الغرض و ما لايترتب عليه الغرض لعموم قدرته ، لكن كونه حكيماً يصدَّه عن اختيار القسم الثاني ، فلايختار من الأفعال الممكنة إلاّ ما يناسب ذلك المبدأ.
    و هذا كعموم قدرته للفعل المقترن بالعدل و الجور كسوق المطيع إلى الجنة و النار لكن اتّصافه بالعدل يصدّه عن سوقهم إلى النار ، و لايختار إلاّ الأوّل و هذا لايعني انّه في مقام الذات و الفاعلية يستكمل بهذا الغرض بل هو في مقام الفاعلية تامّ لكلا العملين ، لكن عدله وحكمته و ما يناسبهما تقتضي أن يختار هذا دون ذاك ، فلو أنّ النافين للأغراض يفرّقون بين الغرضين لما تطرفوا في نفي اقتران فعله بالغرض.
    و بذلك يعلم المراد من انتخاب الأصلح و انّه لايخلق إلاّ الأصلح و يترك اللغو و العبث ، و ليس المراد من ذلك تحديد قدرته و مشيئته من جانب العبد بل العبد يستكشف من خلال صفاته و كمالاته ، إنّه لايختار إلاّ الأصلح و الأولى مع عموم قدرته على كلا الطرفين ، و أظنّ أنّ المسائل الكلامية لو طرحت في جو هادئ


(197)
فربّما ينتظم الكلّ في أكثر المسائل في صف واحد و يذوب الاختلاف في كثير من المسائل.

الواحد و الثلاثون « الحليم »
    قد ورد لفظ « الحليم » مرفوعاً و منصوباً 15 مرّة و وصف به سبحانه كما وصف به بعض أنبيائه كإبراهيم الخليل و شعيب النبيّ ، و قد جاء وصفاً له سبحانه في ( 11 ) مورداً و جاء مقترناً بلفظ « غفور » تارة و « عليم » ثانياً و « غني » ثالثاً قال سبحانه : ( وَ لَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ اِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) ( آل عمران/155 ).
    و قال سبحانه : ( وَ اللّهُ يَعْلَمُ ما فِى قُلُوبِكُمْ وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَلِيماً ) ( الأحزاب/51 ).
    و قال سبحانه : ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَة يَتْبَعُها أَذىً وَ اللّهُ غَنِىٌّ حَلِيمٌ ) ( البقرة/263 ).
    قال ابن فارس : « الحلم » له اُصول ثلاثة : الأوّل : ترك العجلة ، و الثاني : تثقّب الشيء ، و الثالث : رؤية الشيء في المنام ، و هي متباينة جدّاً تدلّ على أنّ بعض اللغة ليس قياساً و إن كان أكثره منقاساً.
    فالأوّل « الحلم » خلاف الطيش ، و الثاني قولهم : حلم الأديم إذا تثقّب و فسد ، و الثالث قد حلم في نومه حلماً.
    قال الراغب : « الحلم » ضبط النفس و الطبع عن هيجان الغضب ، و جمعه أحلام قال تعالى : ( أَمْ تَأْمُرُهُمْ اَحْلامُهُمْ بِهذا اَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ) ( الطور/32 ).
    و قيل : معناه عقولهم و ليس الحلم في الحقيقة هو العقل لكن فسّروه بذلك لكونه من مسببّات العقل.
    الظاهر أنّ المراد من توصيفه سبحانه بالحليم في المقام هو الذي لايعجل


(198)
    بالانتقام ، يقول سبحانه : ( وَ لَوْيُؤاخِذُ اللّهُ الناسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دابَّة وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى اَجَل مُسَمّىً فَاِذا جاءَ اَجَلُهُمْ فَاِنَّ اللّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً ) ( فاطر/45 ).
    و قال سبحانه : ( وَ رَبُّكَ الغَفُورُ ذُوالرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً ) ( الكهف/58 ).
    و هو يجري على اللّه سبحانه بهذا المعنى و أمّا ما ذكره « الراغب » بأنّه ضبط النفس و الطبع عن هيجان الغضب ، فإنّما هو من خصائص الإنسان الحليم ، و ليس من صميم معناه حتى يتوقّف توصيفه سبحانه به على تجريده من معناه اللغوي.
    قال الصدوق : معناه حليم عمّن عصاه لايعجل عليهم بعقوبته (1).
    و قال الكفعمي : الحليم ذوالحلم و الصفح الذي يشاهد معصية العصاة ثمّ لايسارع إلى الانتقام مع غاية قدرته ، و لايستحقّ الصافح مع العجز اسم « الحليم » إنّما الحليم هو الصفوح مع القدرة.
    ثمّ إنّ الرازي ذكر هنا كلاماً فقال من لايعجل الانتقام إن كان على عزم ان ينتقم بعد ذلك فهذا يسمّى حقوداً ، و ان كان على عزم أن لاينتقم البتّة فهذا هو العفو والغفران ، و أمّا إذا كان على عزم أن لاينتقم لكن بشرط أن لايظهر ذلك فهو حليم فإن أظهره كان ذلك عفوّاً » (2).
    قال بعض المحقّقين : إنّ موقف العلم و عدم الانتصاف و الانتقام فيما إذا صدر الظلم منه بالنسبة إلى حقوق اللّه فله ترك الانتقام مع القدرة عليه على سبيل العجلة و الاسراع كي يندم و يستغفر فيُغفر فإنّه جلّ شأنه لاتضرّه المعصية و لا تنقصه المغفرة (3).
1 ـ التوحيد : ص 202.
2 ـ لوامع البينات : ص 242.
3 ـ كاشف الأسماء في شرح الأسماء الحسنى للسيد عمادالدين المتوفّي عام 1110.


(199)
    و أمّا حظّ العبد من هذا الاسم فهو انّه يمكن أن يكون الإنسان من مظاهر أسمائه فلايعجل في الانتقام ، و لأجل ذلك عدّ الحلم من محاسن الأخلاق ، و لمّا دعا الخليل ربّه و قال : ( وَ اجْعَلْ لِى لِسانَ صِدْق فِى الآخِرِينَ ) ( الشعراء/84 ).
    فاُجيبت دعوته بقوله : ( فَبَشَّرناهُ بِغُلام حَلِيم ) ( الصافّات/101 ).
    و قد وصف به « إبراهيم » الخليل و « شعيب » النبيّ في بعض الآيات كماعرفت.

الثاني و الثلاثون « الحميد »
    و قد ورد ذلك اللفظ في الذكر الحكيم بالرفع و النصب ( 17 ) مرّة و قد وصف به سبحانه في جميعها ، و قد انضمّ اليه « غنيّ » تارة و « مجيد » ثانياً و « العزيز » ثالثاً و « حكيم » رابعاً و « الولي » خامساً قال سبحانه : ( وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ اِلاّ اَنْ تُغْمِضُوا فِيه وَ اعْلَمُوا اَنَّ اللّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ ) ( البقرة/267 ).
    و قال سبحانه : ( رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ اَهْلَ البَيْتِ اِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) ( هود/73 ).
    و قال سبحانه : ( لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنْ الظُّلُماتِ اِلى النُّورِ بِاِذْنِ رَبِّهِمْ اِلى صِراطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ ) ( إبراهيم/1 ).
    و قال سبحانه : ( لايَأْتِيهُ الباطِلُ مِنْ بَينِ يَدَيهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيم حَمِيد ) ( فصّلت/42 ).
    و قال سبحانه : ( وَ هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَ يَيْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ الْوَلِىُّ الحَمِيدُ ) ( الشورى/28 ).
    قال ابن فارس : « الحمد له أصل واحد يدلّ على خلاف الذم يقال : حمدت


(200)
فلانا أحمده ، ورجل محمود ومحمداً إذا كثرت خصاله المحمودة غيرالمذمومة » (1).
    و قال الراغب : قوله عزّ و جلّ ( إنّه حميدٌ مجيدٌ ) يصح أن يكون في معنى المحمود و أن يكون في معنى الحامد.
    أقول : الحمد على ما هو المعروف : الثناء على الشخص بالفضيلة في ما يصدر منه من الأفعال الاختياريّة.
    قال الصدوق : الحميد معناه المحمود و هو فعيل في معنى المفعول و الحمد نقيض الذمّ و يقال : « حمدت فلاناً إذا رضيت فعله و نشرته في الناس » (2). و هو أخص من المدح فإنّه في مقابل كلّ جميل سواء كان اختياريّا أو تسخيرياً كما إذا مدحت اللؤلؤ بصفاته ، و على ذلك فالحميد أمّا فعيل بمعنى الفاعل ، و عندئذ يكون المراد اللّه الحامد فإنّه لم يزل يثني على نفسه كما في قوله : ( الحمدُ للّهِ رَبِّ العالمينَ ) و أمّا فعيل بمعنى المفعول كالقتيل بمعنى المقتول أي هو محمود بحمده لنفسه و حمد عباده له ، و منه قوله : ( وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ) ( البقرة/30 ). و يحتمل أن يكون المراد المستحقّ للحمد و الثناء.
    و أمّا حظ العبد من هذا الاسم فيقع مظهراً له إذا كان محمود العقيدة و الفعل فيستحقّ أن يثنى عليه.
    و أمّا الفرق بين الحمد و الشكر فسيوافيك عند البحث عن اسم الشاكر و الشكور.

الثالث و الثلاثون « الحي »
    و قد جاءت اللفظة في الذكر الحكيم 14مرّة و وقع وصفاً له في موارد أربعة قال سبحانه :
1 ـ مقاييس اللغة : ص 110.
2 ـ التوحيد : ص 202.
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس