مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 211 ـ 220
(211)
    و قوله عزّ و جلّ : ( وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الأَرْضُ بِأَمْرِهِ ) ( الروم/25 ).
    و قد علمنا أنّ امساك اللّه السموات و الارض و رعايته لها و هدايته إيّاها للقيام بما توجّه إليها من الأوامر التكوينيّة و كلّ ذلك مستمر دائم يتجدد لحظة فلحظة.
    فهل يتّفق هذا البيان الالهي لاسم اللّه « القيّوم » مع ما يقرره الفلاسفة من أنّ اللّه أودع في كلّ شيء طبيعة و قوّة فهو بها يحقّق آثاره ، و ينتج معلولاته ، و ذلك لأنّه إذا تصوّرنا الأمر على هذا النحو فقد بطلت صفة القيوميّة في ذات اللّه عزّ و جلّ و بطل معنى قوله : « يمسك السموات و الارض أن تزولا » لأنّ الأشياء بعد أن أُودعت فيها قواها أصبحت تؤدّي مهمّاتها استقلالا و دونهما حاجة إلى أي عون مستمر فتصبح كالجهاز العقلي الآلي المعروف اليوم حيث لايحتاج إلى أكثر من أن يملأ بالمعلومات التوجيهيّة إذ هو بعد ذلك يؤدّي عمله دون أي معونة مستمرة أو حتى رقابة من صاحب هذا الجهاز أو صانع (1).
    يلاحظ عليه أوّلا :
    إنّه إذا كان الوحي الالهي هو المصدر الوحيد في ذاك المجال فاللّه سبحانه كما ينسب الآثار و الأفعال إلى نفسه ينسب إلى جنوده و ملائكته و عباده نسبة حقيقيّة سبحانه مع أنّه القيّوم ، و معناه حسب قول الكاتب القائم بأمر المخلوقات على الدوام و الاستمرار ينسب التوفي إلى نفسه مرّة و يقول : ( اَللّهُ يَتَوَفّى الاَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) ( الزمر/42 ). و إلى رسله ثانياً و يقول : ( حَتّى اِذا جاءَ اَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لايُفَرِّطُونَ ) ( الأنعام/61 ). و إلى الملائكة ثالثاً و يقول : ( فَكَيْفَ اِذا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ اَدْبارَهُمْ ) ( محمد/27 ).
    و لانشكّ في أنّ القرآن خال عن الاختلاف و التناقض ، فإذا كان معنى كونه قيوماً قائماً بأمر المخلوقات على الدوام والاستمرار ، و كان القول بأنّ هناك سبباً و علّة اُخرى تقوم ببعض الاُمور في مجال الكون و الطبيعة مخالفاً لذلك ، فما معنى نسبة
1 ـ المصدر نفسه : ص 176 ـ 177.

(212)
التوفّي إلى الملائكة و الرسل ، و هل يمكن أن يقال إنّ النسبة الثانية و الثالثة نسبتان مجازيّتان؟ أو أنّ هناك وجهاً آخر به تنحلّ عويصة هذا النوع من الايات و هو انّ الممكن بذاته و فعله قائم به سبحانه ، قيام المعنى الحرفي بالاسمي ، أنّه لو قام بفعل أو تأثير فإنّما هو بقدرة مفاضة إليه في كلّ آن و آن ( إن صحّ التعبير بالآن من حيث هي أصغر وحدة زمنية نعرفها ).
    و ثانياً : إنّه ليس نسبة الممكن إلى الواجب كنسبة البناء إلى البنّاء حيث يستغني البناء عن الباني في بقائه و دوامه لأجل القوى الطبيعيّة المودوعة فيه التي توجب تماسكه و التصاقه و بقائه ، فإنّ ذلك التصوير تصوير خاطىء ، فانّ الباني ليس موجداً للبناء حدوثاً و لابقاء ، و إنّما هو علّة الحركة ، أي تحريك أدوات البناء من حجر و طين و جصّ و تركيبها و نضدها بشكل خاص ، و في مثل ذلك يصحّ استغناء البناء عن الباني و لو غاب أو مات ، لبقى كما هو محسوس.
    و أمّا نسبة العلل الطبيعية إلى اللّه سبحانه فليس من تلك المقولة فإنّها في حدوثها و بقائها ، ذاتها و فعلها محتاجة إليه سبحانه قائمة به و الوجود ذاتاً و فعلاً ، يفيض من المبدئ دوماً آناً فآناً ، بحيث لو انقطعت الصلة بين رب العزّة و العلل الطبيعية لما كان منها عين و لاأثر ، فلاترى الشمس و لاضياءه و لاالقمر و لانوره ، و في مثل ذلك لايتصوّر استقلال الممكن في ذاته و فعاله ، و ما ذكره الكاتب مبنيّ على حاجة العالم في حدوثه إلى البارىء لا في بقائه ، و هو تصوّر باطل لاينسجم مع كونه ممكناً و لو أورد بالتشبيه و التنزيل فلنا أن نقول :
    « إنّ نسبة العلل الطبيعية إلى اللّه سبحانه نظير نسبة المعنى الحرفي إلى الاسمي فإنّها لاتستغني عن المعنى الاسمي لافي عالم التصوّر و لا في مقام التحقّق عنه أو كنسبة الصور الذهنيّة إلى النفس ، و في مثل ذلك التحدّث عن الاستغناء و الاستقلال تحدّث خاطىء ».
    و بذلك تعلم قيمة قوله « بعد أن اودعت فيها قواها المزعومة أصبحت تؤدّي


(213)
مهمّاتها استقلالاً فتصبح كجهاز العقل الآلي المعروف اليوم » و هذا يعرب عن أنّه تصور أنّ نسبة العوالم الامكانية إلى الواجب كنسبة البناء إلى الباني ، فإنّ القول بوجود القوى في الأسباب الطبيعية ليس بمعنى استقلالها في الوجود و الايجاد بل بمعنى أنّ وجودها و ايجادها و جوهرها و آثارها قائمة به و مؤثّرة بحوله و قوّته و أمره و إذنه ، فهو الذي أعطى قوّة الاحراق للنار و قوة التبريد للماء : ( هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً ) ( يونس/5 ).
    وينزل منه فيض الوجود إلى الممكنات دوماً وفي كلّ لحظة فلحظة و آن و آن.
    و ثالثاً : نتنزّل عن كلّ ما ذكرنا و نقول : إنّ نسبة العلل الطبيعية إلى اللّه سبحانه لاتقلّ عن نسبة الوكيل إلى الموكل و العبد إلى مولاه ، و مدير الشركة إلى أصحابها.
    فالعبد يعمل لمولاه ، و الوكيل يشتري و يبيع في متجر الموكّل ، و المدير يخطّط اُمور التجارة و يمهّد لها ، و الكلّ مبادىء أفعال و آثار و في الوقت نفسه ينسب أفعالهم إلى السيّد و الموكّل و أصحاب الشركة ، و ما ذلك إلاّ لأجل انّهم قاموا بهذه الاُمور و نالوا هذا المنصب بإذنهم و أمرهم و إرادتهم ، و إذا لم يريدوا حالوا بينهم و بين أفعالهم ، و لأجل ذلك فلو باع الوكيل دار الموكّل ينسب الفعل إليهما جميعاً لكن الوكيل غير مستقل و الموكّل مستقل ، و فعل الوكيل فعله بالتسبيب.
    هذا هو الخط الذي يجب أن يمشي عليه المفسّر في تنسيق هذه الايات و تفسيرها ، و المراد الايات التي ينسب الفعل الواحد إلى اللّه سبحانه و في الوقت نفسه إلى الإنسان و إلى غيره و إليك نماذج من هذا النوع من الايات :
    1 ـ يقول سبحانه : ( قُلْ اِنَّ هُدى اللّهِ هُوَ الهُدى ) ( البقرة/120 ). فترى أنّه يحصر الهداية في اللّه سبحانه و في الوقت نفسه يسمّي النبي هادياً و يقول : ( وَ اِنَّكَ لَتَهْدِى اِلى صِراط مُسْتَقِيم ) ( الشورى/52 ). فما معنى الحصر المتقدّم و نسبة الهداية إلى النبي الأكرم؟
    و الجمع أنّ الهداية الأصيلة القائمة باللّه مختصّة به ، و أمّا الهداية المفاضة


(214)
المكتسبة المأذونة فإنّما هو للعبد ، فهناك هداية واحدة تنسب إلى اللّه أوّلاً و إلى الثاني استقلالاً و تبعاً ، و اللّه سبحانه هاد بلاشكّ و النبي الأعظم هاد حقيقة بلاشائبة مجاز ، لكن بتمكين و إقدار و إذن منه ، و مثل ذلك لايوجب كون النبي مستقلاً في فعله و يكون كجهاز العقل الآلي.
    2 ـ يأمر القرآن ـ في سورة الحمد ـ بالاستعانة باللّه وحده ، إذ يقول :
    ( وَ اِيّاكَ نَسْتَعِينُ ).
    في حين نجده في آية اُخرى يأمر بالاستعانة بالصبر و الصلاة ، إذ يقول :
    ( وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ ) ( البقرة/45 ).
    3 ـ يعتبر القرآن الكريم الشفاعة حقاً مختصّاً باللّه وحده ، إذ يقول :
    ( قُلْ للّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ) ( الزمر/44 ).
    بينما يخبرنا ـ في آية اُخرى ـ عن وجود شفعاء غير اللّه كالملائكة :
    ( وَ كَمْ مِنْ مَلَك فِى السَّمواتِ لاتُغْنِى شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً اِلّا مِنْ بَعْدِ اَنْ يَأْذَنَ اللّهُ ) ( النجم/26 ).
    4 ـ يعتبر القرآن الإطلاع على الغيب و العلم به منحصراً في اللّه ، حيث يقول :
    ( قُلْ لاَيَعْلَمُ مَنْ فِى السَّمواتِ وَ الأَرْضِ الغَيْبَ اِلّا اللّهُ ) ( النمل/65 ).
    فيما يخبر الكتاب العزيز في آية اُخرى عن أنّ اللّه يختار بعض عباده لاطلاعهم على الغيب ، إذ يقول :
    ( وَ ما كانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلى الغَيْبِ وَ لَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِى مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ ) ( آل عمران/179 ).
    5 ـ ينقل القرآن عن إبراهيم ( عليه السلام ) قوله بأنّ اللّه يشفيه إذا مرض حيث يقول : ( وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين ) ( الشعراء/80 ).


(215)
    و ظاهر هذه الاية هو حصر الشفاء من الأسقام في اللّه سبحانه ، في حين أنّ اللّه يصف القرآن و العسل بأنّ فيهما الشفاء أيضاً ، حيث يقول :
    ( فِيهِ شِفاءٌ لِلْنّاسِ ). ( النحل/69 )
    ( وَ نُنَزِّلُ مِنْ القُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ ) ( الاسراء/82 ).
    6 ـ إنّ اللّه تعالى ـ في نظر القرآن ـ هو الرزّاق الوحيد ، حيث يقول :
    ( اِنَّ اللّهَ هُوَ الرزّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ ) ( الذاريات/58 ).
    بينما نجد القرآن يأمر المتمكّنين و ذوي الطول بأن يرزقوا من يلوذبهم من الضعفاء ، إذ يقول :
    ( وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ ) ( النساء/5 ).
    7 ـ الزارع الحقيقي ـ حسب نظر القرآن ـ هو اللّه كما يقول :
    ( اَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ * أَاَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ ) ( الواقعة/63و64 ).
    في حين انّ القرآن الكريم ـ في آية اُخرى ـ يطلق صفة الزارع على الحارثين ، إذ يقول :
    ( يُعْجِبُ الزُرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّار ) ( الفتح/29 ).
    8 ـ إنّ اللّه هو الكاتب لأعمال عباده ، إذ يقول :
    ( وَ اللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ) ( النساء/81 ).
    في حين يعتبر القرآن الملائكة ـ في آية اُخرى ـ بأنّهم المأمورون بكتابة أعمال العباد ، إذ يقول :
    ( بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) ( الزخرف 80 ).
    9 ـ و في آية ينسب تزين عمل الكافرين إلى نفسه سبحانه يقول :
    ( اِنَّ الَّذِينَ لايُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ رَبَّنَا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ ) ( النمل/4 ).


(216)
    و في الوقت نفسه ينسبها إلى الشيطان :
    ( وَاِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ اَعْمالَهُمْ وَ قَالَ لاغَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ ) ( الأنفال/48 ).
    و في آية اُخرى نسبها إلى آخرين و قال :
    ( وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ اَيْدِيهِمْ ) ( فصّلت/25 ).
    10 ـ مرّ في هذا البحث حصر التدبير في اللّه حتى إذا سئل من بعض المشركين عن المدبّر لقالوا : هو اللّه ، إذ يقول في الاية 31 من سورة يونس :
    ( وَ مَنْ يُدَبِّرُ الاَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ ).
    بينما اعترف القرآن بصراحة في آيات اُخرى بمدبّريّة غير اللّه حيث يقول :
    ( فَالْمُدَبِّراتِ أَمراً ) ( النازعات/5 ).
    فمن لم يكن له إلمام بمعارف القرآن يتخيّل لأوّل و هلة أنّ بين تلك الايات تعارضاً غير أنّ الملمّين بمعارف الكتاب العزيز يدركون أنّ حقيقة هذه الاُمور ( أعني الرازقيّة و الشفاء و ... ) قائمة باللّه على نحو لايكون للّه فيها أيّ شريك فهو تعالى يقوم بها بالاصالة و على وجه « الاستقلال » في حين أنّ غيره محتاج إليه سبحانه في أصل وجوده و فعله ، فما سواه تعالى يقوم بهذه الأفعال و الشؤون على نحو « التبعيّة » و في ظل القدرة الالهية.
    و بما أنّ هذا العالم هو عالم الأسباب و المسببات ، و أنّ كل ظاهرة لابدّ أن تصدر و تتحقّق من مجراها الخاص بها المقرر لها في عالم الوجود ، ينسب القرآن هذه الآثار إلى أسبابها الطبيعية دون أن تمنع خالقية اللّه من ذلك ، و لأجل ذلك يكون ما تقوم به هذه الموجودات فعلاً للّه في حين كونها فعلاً لنفس الموجودات ، غاية ما في الأمر إنّ نسبة هذه الامور إلى الموجود الطبيعي نفسه إشارة إلى الجانب « المباشري » فيما يكون نسبتها إلى « اللّه » إشارة إلى الجانب « التسبيبي ».


(217)
    و يشير القرآن إلى كلا هاتين النسبتين في قوله سبحانه :
    ( وَ ما رَمَيْتَ اِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى ) ( الأنفال/17 ).
    ففي حين يصف النبي الأعظم بالرمي ، إذ يقول بصراحة « إذ رميت » نجده يصف اللّه بأنّه هو الرامي الحقيقي ، و ذلك لأنّ النبي إنّما قام بما قام بالقدرة التي منحها اللّه له ، فيكون فعله فعلا للّه أيضاً ، بل يمكن أن يقال : إنّ انتساب الفعل إلى اللّه ( الذي منه وجود العبد و قوّته و قدرته ) أقوى بكثير من انتسابه إلى العبد بحيث ينبغي أن يعتبر الفعل فعلاً للّه لا غير ، و لكن شدّة الانتساب هذه لاتكون سبباً لأن يكون اللّه مسؤولاً عن أفعال عباده ، إذ صحيح انّ المقدّمات الأوّلية للظاهرة مرتبطة باللّه و ناشئة منه إلاّ أنّه لما كان الجزء الأخير من العلّة التامّة هو إرادة الإنسان و مشيئته بحيث لولاها لما تحققت الظاهرة يعدّ هو مسؤولاً عن الفعل.

الخامس و الثلاثون : « الخلاّق »
    و قد تبيّن حاله ممّا ذكرناه في الاسم السابق.
السادس و الثلاثون : « الخبير »
    و قد ورد لفظ الخبير في الذكر الحكيم 45 مرّة و جاء اسما له سبحانه في جميع الموارد ، و استعمل تارة مع « الحكيم » و اُخرى مع « البصير » و ثالثة مع « العليم » و رابعة مع « اللطيف ».
    قال سبحانه : ( وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) ( الأنعام/18 ).
    و قال سبحانه : ( وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرِ ما يَشاءُ اِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ) ( الشورى/27 ).
    و قال سبحانه : ( إِنَّ اَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ اَتْقيكُمْ اِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ( الحجرات/13 ).


(218)
    و قال سبحانه : ( لاتُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الاَبْصارَ وَ هُوَ اللَطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام/103 ).
    و يستظهر معناه ممّا قورن به من كونه حكيماً و بصيراً و عليماً و لطيفاً.
    قال ابن فارس : « خبر » له أصلان : الأوّل العلم ، و الثاني يدل على لين و رخاوة و غزر ، فالأوّل الخبر : العلم بالشيء ، تقول لي بفلان خبره و خبر ، و اللّه تعالى الخبير أي العالم بكلّ شيء ، و قال اللّه تعالى : ( وَ لايُنْبِئُكَ مِثْلُ خَبِير ) ، و الثاني الخبراء و هي الأرض الليّنة و الخبير الأكّار و هو من هذا ، لأنّه يصلح الأرض و يدمّثها و يلينها » (1).
    و قال الراغب : « العلم بالأشياء المعلومة من جهة الخبر ، و خبرته خبراً و خبرة و أخبرت و أعلمت بما حصل لي من الخبر ، و قيل الخبرة : المعرفة ببواطن الأمر ».
    و فسّره الصدوق بمطلق العلم و قال : « الخبير معناه العالم ، و الخبر و الخبير في اللّغة واحد ، و الخبر علمك بالشيء ، يقال لي به خبر أي علم » (2) و الظاهر انّ المراد هو الثاني و هو العلم بكنه الشيء و الخبير هو المطّلع على حقيقته و إليه يشير قوله : ( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) ( الفرقان/59 ).
    و قوله : ( وَ لاَيُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير ) ( فاطر/14 ). نعم الخبير صفة المخلوقين إنّما يستعمل في العلم الذي يتوصل به في الاختبار و الامتحان و اللّه منزّه منه (3).
    و أمّا حظ العبد فيمكن أن يكون مظهراً لهذا الاسم بالبحث و الفحص عن أسرار الكون و دقائقه ، و محاسن الأخلاق و قبائحه.
1 ـ مقاييس اللغة ج 2 ص 231.
2 ـ كتاب التوحيد : ص 216.
3 ـ لوامع البينات للرازي : ص 248.


(219)
السابع و الثلاثون : « الخير »
    و قد ورد لفظ « الخير » مرفوعا في الذكر الحكيم 176 مرّة و وقع اسماً و وصفاً له سبحانه مرّتين.
    قال سبحانه : ( وَ اللّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقَى ) ( طه/73 ) ، و قال ( قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ اَلَّذِينَ اصْطَفى أَاَللّهُ خَيْرٌ اَمّا يُشْرِكُونَ ) ( النمل/59 ).
    هذا في ما وقع له وصفاً مفرداً ، و أمّا إذا اُضيف إلى اسم من أسمائه سبحانه فقد جاء في الذكر الحكيم الأسماء التالية :
    1 ـ خيرالحاكمين. 2 ـ خيرالراحمين. 3 ـ خيرالرازقين. 4 ـ خيرالغافرين. 5 ـ خيرالفاتحين. 6 ـ خيرالفاصلين. 7 ـ خيرالماكرين. 8 ـ خير المنزلين. 9 ـ خيرالناصرين.10 ـ خيرالوارثين. 11 ـ خيرحافظا.
    و هذا الأخير شبه المضاف و لذلك أتينا به في عداد المضاف ، و نقدّم البحث عن « الخير » غير المضاف ثمّ نأتي بالمضاف من « الخير ».
    « الخير » كما قال ابن فارس خلاف الشرّ و الضرّ.
    قال سبحانه : ( وَ لايَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتيهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ) ( آل عمران/180 ).
    و قال سبحانه : ( وَ اِنْ يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلاكاشِفَ لَهُ اِلّا هُوَ وَ اِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْر فَهُوَ عَلى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ ) ( الأنعام/17 ). و في جميع الأحوال ، و خير مقيّد و نسبيّ و هو أ ن يكون خيراً لواحد ، و شراً لآخر كالمال فقد أسماه سبحانه في مورد خيراً و قال : ( إِنْ تَرَكَ خَيْراً ) ( البقرة/180 ) و في مورد آخر بخلافه و قال : ( أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مال وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْراتِ بَلْ لايَشْعُرُونَ ) ( المؤمنون/55و56 ).
    فالمال في يد الرجل التقيّ خير يقري به الضيف و يقضي حاجة المستنجد ، و


(220)
في يد الرجل الفاسق شرّ ، لأنّه يصرفه في العصيان و الطغيان ، و اللّه سبحانه خير مطلق لاشرّ فيه و لايصدر منه الشرّ و ليس للشرّ إليه سبيل.
    هذا و ربّما يطرح هناك سؤال و هو انّه سبحانه لو كان خيراً محضاً فما هو المبدئ للمصائب و الآلام التي ملأت العالم كالزلازل الهدّامة و السيول الجارفة و السباع الضارية ، إلى غير ذلك ممّا يسمّى شرّاً.
    أقول : هذا ممّا شغل بال الباحثين طيلة سنين و أجابوا عنه بوجوه :

1 ـ النظرة الأنانيّة إلى الظواهر :
    إنّ ما يظن من الحوادث الشاذّة متّسمة بالشرّ إنّما ينبع من نظر الإنسان إلى هذه الاُمور من خلال مصالحه الشخصيّة و يجعلها محوراً و ملاكاً لتقييم هذه الاُمور فعندما يراها نافعة لشخصه و ذويه ، يصفها بالخير و إلاّ فيصفها بالشرّ ، فهو في هذا الحكم لاينطلق إلاّ من نفسه و مصالحه الشخصيّة و من يقرّبه بأواصر القومية ، و لأجل ذلك يصف الطوفان الجارف الذي يكتسح مزرعته ، و السيل العارم الذي يهدّم منزله ، و الزلزلة التي تضعضع أركان بيته بالشرّ و البلاء ، و لكنّه يتجاهل غيره من البشر الذين يقطنون في مناطق اُخرى من العالم ، أو الذين عاشوا في غابر الزمان أو يعيشون في مستقبله أن تكون هذه الحوادث مفيدة لأحوالهم و حياتهم ، و ما أشبه هذا الإنسان و رؤيته برؤية عابر سبيل ، يرى جرّافة تحفر الأرض أو تهدم أبنية فيقضي من فوره أنّه عمل ضارّ و مسيئ ، و هو لايدري أنّ ذلك التخريب و التهديم مقدّمة لبناء مستشفى كبير يستقبل المرضى و يعالج المصابين و يهيّئ لمئات الآلاف من المحتاجين إلى العلاج ، و لو وقف على تلك الغاية لما وصف التهديم بالشرّ بل تتلقّاه خطوة نافعة.
    إنّ مثل هذا الإنسان المحدود النظرة الأناني في تقييمه مثل الخفّاش الذي يؤذيه النور لأنّه يقبض بصره ، بينما يبسط هذا النور ملايين العيون ، و يساعدها على
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس