مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 221 ـ 230
(221)
الأبصار و الرؤية ، و يوفّر لها إمكانيّة الحياة ، فهل يكون قضاء الخفّاش على النور بأنّه شرّ ملاكاً لتقييم هذه الظاهرة؟
    إنّ الحوادث حلقات مترابطة في سلسلة ممتدّة من أوّل الحياة إلى أقصاها ، فما يقع الآن يرتبط بما وقع في أعماق الماضي ، و بما سيقع في المستقبل في سلسلة من العلل و المعاليل و الأسباب و المسبّبات ، و من هنا لايكون القضاء على ظاهرة من الظواهر بغض النظر عمّا سبقها وما يلحقها ، وتقييمها جملة واحدة ، قضاء صحيحاً وموضوعيّاً ، ولا النظر إليها دون هذا الشكل نظراً صائباً ، وإليك بعضالأمثلة :
    إذا وقعت عاصفة على السواحل فإنّها تقطع الأشجار و تهدّم الأكواخ و تقلّب الاثاث ، و يوصف بالشرّ عند القياس إلى النفس ، و لكنّها في الوقت نفسه توجب حركة السفن الشراعيّة المتوقّفة في عرض البحر بسبب سكون الريح ، و بهذا تنقذ حياة المئات من ركابها اليائسين من نجاتهم و توصلهم إلى شواطئ النجاة.
    صحيح انّ العاصفة تهدّم بعض الجدران و تقلع بعض الأشجار و لكنّها تعتبر وسيلة فعّالة في عملية التلقيح بين الأشجار و الأزهار ، كما يعتبر وسيلة فعّالة لتحريك السحب الحاملة للمطر ، و تبدّد الأدخنة المتصاعدة من فوهات المصانع و المعامل ، إلى غير ذلك من الآثار الطيّبة لهبوب الرياح التي تتضاءل عندها بعض الآثار السيّئة أو تكاد تنعدم بالمرّة.
    و هناك ندرك سرّ قوله سبحانه في الكتاب العزيز عن علم الإنسان و عجزه حيث قال : ( وَ ما اُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ اِلّا قَلِيلاً ) ( الاسراء/85 ). و قال : ( يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الحَياةِ الدُنْيا ) ( الروم/7 ).
    كلّ ذلك يصدّنا من التسرّع في القضاء و الحكم على الحوادث بالشرّ لضآلة علمنا بما جرى في السابق و ما يجري حالياً و ما سيجري في المستقبل ، و ليست هذه الحادثة منفصلة عن الحوادث في الظروف الثلاثة ، فلعلّها بالنسبة إليها تحمل


(222)
مصالح كبيرة يحقر عنده ما يصاب الإنسان من الشرّ و البلاء.
    إنّ هنا كلمة قيّمة للفيلسوف الإلهي صدر الدين الشيرازي يقول :
    « و اعلم أنّه قدتحرّت العقول في كون بعض الحيوانات آلة لبعض ، و فيما جعل اللّه تعالى ذلك في طباعها و هيّأ لها الآلات و الأدوات التي يتمكّن بها على ذلك كالأنياب و المخالب و الأظافير الحداد التي بها يقدر على القبض و الضبط و الخرط و النهش و الأكل و الشهوة و اللذّة و الجوع و ما شاكل ذلك مع ما يلحق المأكولات منها من الآلام و الأوجاع و الفزع عند الذبح و القتل ، قلما فكّروا في ذلك و لم تسنح لهم العلّة و لا الغاية و الحكمة ، فاختلفت عند ذلك بهم الآراء وتفنّنتبهم المذاهب ، حتى قال بعضهم : إنّ تسلّط الحيوانات بعضها على بعض و أكل بعض لبعض ليس في فعل حكيم بل فعل شرير قليل الرحمة ظلاّم للعبيد ، فلهذا قالوا : إنّ للعالم فاعلين خيّراً و شريراً.
    و إنّما لم يفقوا عليها لأنّ نظرهم كان جزئيّاً ، و بحثهم عن علل الأشياء مخصوصاً ، و يمتنع أن يعلم أسباب الأشياء الكلّيّة بالأنظار الجزئيّة ، لأنّ أفعال البارئ تعالى إنّما الغرض منها هو النفع الكلّي و الصلاح على العموم و إن كان يعرض من ذلك ضرر جزئي و مكاره مخصوصة أحياناً ، و هكذا خلق اللّه الشمس و القمر و الامطار لأجل النفع و المصلحة العامّة ، و إن كان قديعرض لبعض الناس و الحيوان و النبات من ذلك ضرر ، و لمّا كان الأمر يؤول إلى الصلاح الكلّي كانت تلك الشدائد من جهته صغيرةً جزئيّةً (1).
    و بوجه إجمالي القضاء على بعض الظواهر بأنّه شرٌّ ناشئ من انطلاق الإنسان في قضائه على هذه الظواهر من منطلق نفعيّ أناني ، و أمّا إذا نظر إلى تلك الظواهر من زاوية النظام العام فلايراها إلاّ خيرات ضرورية لتعادل النظام و لازمة لاتّساقه و استمرار الحياة و بقائها.
1 ـ الاسفار ج 7 ص 98 ـ 99.

(223)
    و في ذلك يقول الحكيم السبزواري :
ما ليس موزونا لبعض من نغم ففي نظام الكلّ ، كلّ منتظم

2 ـ الشرّ أمر انتزاعي قياسيّ نسبيّ
    ما ذكرنا من الجواب يعمّ كافّة الناس بشرط أن يتنازلوا عمّا يتصوّرون من الاحاطة على أسرار الكون و حقائقه ، و هناك جواب آخر يهمّ المحقّقين في العلوم العقلية و حاصل هذا الجواب : إنّ الشر أمر عدمي ليس له واقعيّة في صفحة الكون ، بل هو أمر انتزاعي تنتزعه النفس عند مقايسة أمر بأمر ، و الاشكال إنّما يرد لو كان له واقع خارجي في حدّ ذاته ، و أمّا إذا كان كلّّ ما في الكون متّسما بسمة الخير و كانت الشرور مخلوقة ذهن الإنسان عند مقايسة ظاهرة بظاهرة و مشاهدة التنافر و التضاد بينهما فلا ، إذاً ليس لها واقع خارجي يحتاج إلى الايجاد و الخلق ، و إنّما هي اُمور وهميّة يخلقها الذهن عند المقايسة و مشاهدة التضاد بين الحادثين ، بحيث لولا حديث المقايسة لما كان للشرّ في صفحة الكون واقعيّة و حقيقة ، فنقول في توضيحذلك :
    إنّ الصفات على قسمين :
    1 ـ ما يكون له واقعيّة كموصوفه مثل قولنا : الإنسان موجوداً أو انّ المتر = 100 سنتمتر و هذه صفة حقيقيّة لها واقعيّة خارجيّة توجّه إليها الذهن أم لا؟
    2 ـ ما لايكون له واقعية مثل موصوفه بل ينتزعه الذهن عند المقايسة كالكبر و الصغر ، فإنّ الكبر ليس شيئاً ذات واقعيّة خارجيّة ، و انّما هي صفة ينتزعها الذهن بالقياس إلى ما هو أصغر منه.
    مثلاً الأرض له حجم واقعي و مساحة خاصّة كما أنّ الشمس كذلك ، فالحجم و المساحة في كلّ منهما ذات واقعيّة خارجيّة ، إلاّ أنّ هناك أمراً ثالثاً و هو انّ الأرض أصغر من الشمس و الشمس أكبر منه ، أو أنّ القمر أصغر من الأرض و الأرض أكبر


(224)
من القمر ، فليس الكبر و الصغر من الاُمور الواقعيّة ، بل إنّما هي مفاهيم ذهنيّة تنتزع عندالقياس.
    و لأجل ذلك تتّصف الأرض تارة بالصغر و اُخرى بالكبر ، فليس هنا واقعيّة وراء الحجم و المساحة حتى يكون محقّقاً للصغر و الكبر.
    و في ضوء هذا تقدر على حلّ الشرور فإنّها اُمور قياسيّة نسبيّة ، فسمّ الحيّة و العقرب و غزارة المطر ليست من الشرور بتاتاً إذا لوحظ كلّ واحد بنفسه ، بل هي سبب لكمال أصحابها و موجب لبقائها ، و إنّما يتّسم بالشر إذا قيس إلى الإنسان و لوحظ المنافرة بينهما.
    و عند ذلك فالشرّ ليس ممّا يتعلّق به الخلق و الايجاد لأنّ المفروض أنّها اعدام لا موجودات ، و اتّصافه بالشرّ إنّما هو وليد الذهن و بانتزاعه ، فسمّ العقرب و الحيّة بما هي هي مخلوق للّه سبحانه و تعالى ، و أمّا كونه ضارّاً بالنسبه للإنسان فليس شيئاً واقعيّا وراء السمّ حتى يحتاج إلى الخالق ، و إنّما ينطلق إليها الذهن عند المقايسة.
    إلى هنا خرجنا بجوابين عن الاشكال :
    1 ـ إنّ وصف الإنسان لبعض الظواهر بكونها شرّاً لأجل النظر إليها من زاوية ضيّقة ، و أمّا إذا لوحظت من زاوية النظام العام فهي موصوفة بالخير.
    2 ـ إنّ بعض الحشرات و الضواري و السباع التي يصفها الإنسان بالشرّ لايكون الموجود منها سوى ذواتها و أجهزتها ، و أمّا الاتصاف بالشريّة فليس إلاّ أمراً ذهنيّا لاخارجيّاً فلذلك لايقع في صفحة الخلق.
    و إلى ما ذكرنا يشير الحكيم السبزواري :
و الشرّ اعدام فكم قد ضلّ من يقول باليزدان ثم الأهرمن
    ما ذكرنا من الجوابين كان تحليلاً فلسفيّاً و لكن هناك تحليلات اُخرى للشرور و هي تحليلها من جانب الآثار التربويّة و حاصلها : إنّ لهذه الحوادث الأليمة و


(225)
المصائب المحزنة آثار تربويّة مهمّة في حياة البشر ، و لأجل ذلك وقعت في حيّز الخلق و ذلك من باب تقديم الخير الكثير على الشرّ الكثير ، و إليك بيان تلك الآثارالتربويّة.

1 ـ المصائب وسيلة لتفجير القابليات (1).
    يحطّ الإنسان قدمه على هذه الأرض و هو يحمل في كيانه جملة كبيرة من القابليات و المواهب التي تبقى في مرحلة القوى و في صورة الطاقات المعطّلة المخزونة ، إلاّ أن تتوجّه إليها صدمة قويّة تحرك القابليات ، و تفجّر المواهب ، و تظهر المعادن ، و تصقل الجواهر.
    و بعبارة واضحة : إذا لم يتعرّض الإنسان للمشاكل في حياته فإنّ قابليّاته و مواهبه المكنونة بين جوانحه ستبقى جامدة هامدة لاتنمو و لاتنفتح ، بل تبقى في مرحلة القوّة و الذخيرة المهملة ، فإذا تعرّض الإنسان للمشاكل والمحن تفتّقت فيه تلك القابليات ، و نمت تلك المواهب ، و انتقلت الطاقات الكامنة من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعلية ، و تفتّح فكره ، و تكامل عقله.
    و لايعني هذا أن يعمد الإنسان بنفسه إلى خلق المشاكل ، و إثارة الشدائد و المصائب و جرّها إلى نفسه ابتداءً ، بل يعني أن يستقبلها الإنسان ـ إذا جاءت ـ برحابة صدر ، و يستفيد منها في تفجير قابلياته ، و تنمية مواهبه ، و إذكاء عقله ، و تقوية روحه ، لا أن يستسلم أمام عواصفها ، أو ينهزم أو ينهار ، فلايحصد إلاّ الخسران ، و لايقطف إلاّ ثمرة السقوط المرّة.
    إنّ البلايا و المصائب و المحن خير وسيلة ـ لو أحسن المرء استغلالها و استخدامها ـ لتفجير الطاقات ، بل تقدّم العلوم ، ورقيّ الحياة البشريّة.
    فهاهم علماء الحضارة يصرّحون بأنّ أكثر الحضارات لم تتفتّق و لم تزدهر إلاّ
1 ـ لاحظ : اللّه خالق الكون ص 270 ـ 277 ، فقد نقلناه منه.

(226)
في أجواء الحروب و الصراعات و المنافسات ، حيث كان الناس يلجأون فيها إلى استحداث وسائل الدفاع و في مواجهة الأعداءِ المهاجمين ، أو اصلاح ما خلّفته الحروب من دمار و نقص و تخلّف ، أو تهيئة ما يستطيعون به على مقاومة الحصار مثلاً.
    فقد كانت ـ في مثل هذه الظروف ـ تتفتّق المواهب و تتحرّك القابليّات لملافاة مافات ، و تكميل ما نقص و تهيئة ما يلزم. و من هنا قالوا : إنّ الحاجة اُمّ الاختراع.
    قال العلامة الطباطبائي في هذا الصدد :
    « إنّ البحث الدقيق في العوامل المولّدة للسجايا النفسانيّة بحسب الأحوال الطارئة على الإنسان في المجتمعات يهدي إلى ذلك ، فإنّ المجتمعات العائلية و الأحزاب المنعقدة في سبيل غرض من الأغراض الحيوية دنيويّة أو دينيّة في أوّل تكوّنها و نشأتها تحسّ بالموانع المضادّة و المحن الهادمة لبنيانها من كلّ جانب فتتنبّه قواها الدافعة للجهاد في سبيل هدفها المشروع عندها ، و يستيقظ ما نامت من نفسيّاتها للتحذّر من المكاره ، و التفدية في طريق مطلوبها بالمال و النفس ، و لاتزال تجاهد و تفدي ليلها و نهارها ، و تتقوّى و تتقدّم حتى تمهّد لنفسها فيها بعض الاستقلال و يصفو لها الجوّ بعض الصفاء ، و تأخذ بالاستفادة من فوائد جهدها » (1).
    ثم إنّنا لاندّعي بأنّ هذه النتائج و الثمار توجد دائماً في جميع الحوادث و الكوارث ، و إنّما في أغلبها.
    فإنّ أغلبيّة هذه المصائب و البلايا تعطي دفعة قويّة لقابليات الأفراد ، و تطرد الكسل عن نفوسهم و الجمود عن أفكارهم.
    أليس الحديد يزداد قوة و صلابة كلّما تعرّض للنار ، و أليس السيف يزداد حدة و قاطعية كلّما تعرّض للمبرد.
1 ـ الميزان ج 9 ص 124.

(227)
    و من هنا فإنّ الوالدين اللذين يعمدان إلى تربية ولدهما تربية ناعمة مرفّهة بعيدة عن الصعوبات و الشدائد ، لايقدّمان إلى المجتمع إلاّ إنساناً هزيلاً ضعيف الإرادة فاقد الطموح ، أشبه ما يكون بالنبتة الغضّة في مهبّ الريح ، بل و التبنة الخفيفة الوزن أمام هبوب العاصفة تأخدها يميناً و شمالاً.
    و أمّا الذي ينشأ نشأة خشنة محفوفة بالمشاكل و المصائب ، و المصاعب و المتاعب ، فإنّه يكون أشبه بالصخرة الصلبة التي تتكسر عليها كلّ السهام ، و تتحطّم عندها كلّ العواصف أو كما وصف الامام علي ( عليه السلام ) إذ قال :
    « ألا إنّ الشجرة البرية أصلب عوداً و الروائع الخضرة أرقّ جلوداً ، و النباتات البدوية أقوى وقوداً ، و أبطأ خموداً » (1).
    و إلى هذه الحقيقة ذاتها يشير قوله سبحانه :
    ( فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) ( النساء/19 ).
    و قوله تعالى :
    ( فَاِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً * اِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) ( الشرح/5و6 ).
    و قوله سبحانه :
    ( فَاِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَ اِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ ) ( الشرح/7و8 ).
    أي تعرّض للنصب و التعب بالاقدام على العمل و السعي و الجهد كلّما فرغت من العبادة ، و كأنّ النصر و المحنة حليفان لاينفصلان ، و اخوان لايفترقان.
    و خلاصة القول : إنّ القدرة على المقاومة و الظفر بالنجاح يتوقّف على صلابة الإنسان الحاصلة من المرور بالصعوبات و المشاق ، ليزداد قوّة إلى قوّة ، و تماسكاً إلى تماسك كما يزداد الحديد صلابة إذا تعرّض لمطرقة الحدّاد ، و لكي يخلص عقله و روحه من علائق الكسل و الجمود كما يخلص الذهب من الشوائب إذا تعرّض لألسنة اللهب.
1 ـ نهج البلاغة ـ الرسالة رقم 45.

(228)
2 ـ المصائب و البلايا جرس انذار :
    إنّ التمتع بالمواهب المادية ، و الاستغراق في اللذائذ و الشهوات يوجب غفلة كبرى عن القيم الأخلاقيّة.
    فكلّما ازداد الإنسان تعمّقاً في اللذائذ و النعم ازداد ابتعاداً عن الجوانب المعنوية ، و ربّما انتهى به الحال إلى أن ينسى نفسه بالمرّة.
    و هذه حقيقة يلمسها كلّ فرد في حياته و حياة غيره ، كما يقرأها في صفحاتالتاريخ.
    فلابد ـ حينئذ ـ من وخزة للضمير ، و هزّة للعقل ... لابد من جرس للانذار يذكّر الإنسان بنفسه و يفيقه من غفوته ، و ينبّهه من غفلته ، و ليس هناك ما هو أنفع ـ في هذا المجال ـ من بعض الحوادث التي تغيّر رتابة الحياة ، و تقطع على الإنسان شروده و غفلته ، و لهوه و لذّته ، فإذا انقطع نظام الحياة الناعمة بشيء من المزعجات ، و اعترضت لذّته بعض المنغّصات ، استيقظ من نومه ، و أدرك عجزه ، و تخلّى عن غروره ، و خفّف من طغيانه.
    إنّ الذي يعيش حياة ناعمة رتيبة يشبه إلى كبير من يركب في سيارة يقودها سائق ، تسيرعلى طريق مبلّط فيغطّ في نوم عميق ، لايستيقظ منه إلاّ إذا كبس السائق على فرامل السيارة فجأة ، و توقّفت دون سابق اخبار ، أو مرّ على قطعة غير مبلّطة ، فأحدثت رجفة قويّة.
    و لهذا تعمد الأجهزة المسؤولة عن الطرق و المواصلات إلى غرس بعض القطع الناتئة على متن الطرق حتى يوجب ذلك تنبيه السائقين بسبب ما تحدثه من هزّات للسيارة كيلا يستسلموا للنوم و النعاس.
    و لأجل ذلك يتّضح وجه ربط الطغيان باحساس الغنى و الاستغناء في الكتاب العزيز إذ يقول سبحانه :
    ( اِنَّ الاِنْسانَ لَيَطْغى * اَنْ رَآهُ اِسْتَغْنى ) ( العلق/6 و 7 ).


(229)
    كما ولأجل هذا يعلّل القرآن الكريم بعض النوازل والمصائب بأنّها لفائدة الذكرى ، فالرجوع إلى الله ، والتضرّع إليه.
    يقول سبحانه في هذا الصدد :
    ( وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَة مِنْ نَبِىّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) (1).
    ويقول أيضاً :
    ( وَ لَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْص مِنَ الَّثمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) (2).
    فالآيتان تصرّحان بأنّ المصائب والبلايا سبب لتضرّع الإنسان اليالله ، وتذكّره ، فهو إذا نسي الله في غمار الشهوة والماديّة ، أيقظته المحنة وذكّرته بالله ، إذ بها يدرك أنّه فقير عاجز لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً ، وإنّ اللذة الدنيوية لذّة عابرة ، وشهوة متصرّمة ، وإنّه لا ملجأ له ولا معين إلاّ الله.
    وهكذا تكون البلايا والمصائب سبباً ليقظة الإنسان ، وتذكّره ، وتنبّهه وتضرّعه إلى الله ، فهي بمثابة صفعة الطبيب على وجه المريض المبنّج الّتي لولاها لانقطعت حياة المريض وتعرّضت لخطر الموت.
    وهكذا توجب المحن والمصائب التكامل الاخلاقي كما توجب التفتّح العقلي على ما عرفت في النقطة الأُولى ، وقد يتّخذ الإنسان من النوازل والمحن وسيلة لتذكّره ويقظته والتخلي عن غروره ، وعندئذ تكون البلايا نعماً إلهية في حقّ الإنسان.
    وقد لا يتخذ منها أيّ موقف أبداً فتكون في هذه الحالة ـ بالذات ـ مصيبة عليه ، وكارثة في حياته.
1 ـ الاعراف : 94.
2 ـ الاعراف : 130.


(230)
3 ـ البلايا سبب للعودة إلى الحق :
    إنّ للكون هدفاً ، كما أنّ لخلق الإنسان هدفاً كذلك ، و ليس الهدف من خلق الإنسان إلاّ أن يتكامل في جميع أبعاده ، و ما بعث الأنبياء و انزال الكتب و الشرائع إلاّ لتحقيق هذا الهدف العظيم ، و الغاية السامية.
    و لمّا كانت المعاصي و الذنوب من أكبر الأسباب التي توجب بعد الإنسان عن الهدف الذي خلق الإنسان من أجله ، و تعرقل مسيرة تكامله ، لأنّ الذي يعيش طيلة حياته في الكذب و النفاق و غيرها من المعاصي لايمكن أن يتوصّل إلى هدف الخلقة بل يبقى كالحيوان غائب الرشد سادر الفكر ، كان لابدّ من صدمة تعيده إلى رشده ، و تردّه إلى صوابه ، و كذلك تفعل البلايا و المصائب فإنّها بقطعها نظام الحياة و ايقافها للإنسان العاصي على نتائج أعماله توجب رجوعه إلى الحقّ و عودته إلى العدالة ، أو تدفعه إلى أن يعيد النظر في سلوكه و منهجه في الحياة على الأقل.
    إنّ القرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة ـ بوضوح لاابهام فيه ـ إذ يقول :
    ( ظَهَرَ الفَسَادُ فِى البَّرِ وَ البَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ اَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( الروم/41 ).
    و يقول سبحانه في آية اُخرى :
    ( وَ لَوْ اَنَّ أَهْلَ القُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ وَ الاَْرْضِ وَ لكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) ( الأعراف/96 )
     نقطتان هامّتان :
    و يجدر بنا في ختام هذا البحث أن نشير إلى نقطتين هامّتين :
    الاُولى : إنّ بقاء الحياة على نمط واحد و وتيرة واحدة يوجب ملل النفس و كلل الروح و تعب العقل ، فلاتكون الحياة محبّبة لذيذة إلاّ إذا تراوحت بين المرّ و الحلو ، و الجميل و القبيح ، و المحبوب و المكروه ، إذ لايمكن معرفة السلامة إلاّ عند
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس