مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 231 ـ 240
(231)
العيب ، و لاالصحّة إلاّ عند المرض ، و لا العافية إلاّ عند الاصابة بالحمّى ، ولاتدرك لذة الحلاوة إلاّ عند تذوق المرارة.
    و بالجملة لولا المرض لما علمت قيمة الصحّة ، و لولا الشتاء لما عرفت قيمة الصيف ، و هكذا.
    و من هنا نجد البنّائين و المهندسين إذا بنوا داراً تفنّنوا في بناء الجدران و السقوف ، فبنوها متموّجة متعرّجة لامسطّحة خالية من أية تعرجات و تموّجات ، لأنّ النفس الميّالة بطبعها إلى التنوّع لاترتاح إلاّ برؤيتها للجدار المتنوّع الأشكال والسطوح.
    و لعلّ لهذا السبب كانت الوديان إلى جانب الجبال ، و الأشواك إلى جانب الورود ، و الثمار المرة إلى جانب الثمار الحلوة ، و الماء الاجاج إلى جانب الماء العذب الفرات ، و عبور الأنهر و المياه عبر الجداول المتعرجة الملتوية في بطون السهول و الاودية.
    إنّ المصائب و إن كانت مرّة غير مستساغة ، و لامأنوسة المذاق ، إلاّ أنّها تبرز من جانب حلاوة الحياة و قيمة النعم ، و أهمّية المواهب.
    فجمال الحياة و قيمة الطبيعة ينشئان من هذا التنوّع و الانتقال من حال إلى حال ، و التبدّل من وضع إلى آخر.
    الثانية : إنّ هناك من المحن ما ينسبها الإنسان الجاهل إلى خالق الكون والحال أنّ أكثرها من كسب نفسه و نتيحة منهجه.
    فإنّ الأنظمة الطاغوتية هي التي سبّبت تلك المحن و أوجدت تلك الكوارث ، ولو كانت هناك أنظمة قائمة على قيم إلهية لما تعرّض البشر لتلك المحن و لما أصابته أكثر تلك النوائب.
    فالتقسيم الظالم للثروات ـ مثلاً ـ هو الذي سبّب في تجمّع الثروة عند قلّة قليلة ، و انحسارها عن جماعات كثيرة ، و تمتّع الطائفة الاُولى بكلّ وسائل الوقاية و


(232)
الحماية ضد الأمراض و الحوادث ، و حرمان غيرهم منها ، وهذا هو الذي جعل الطائفة الفقيرة المحرومة من المال و الامكانيات أكثر عرضة للكوارث بسبب فقدانهم لوسائل الوقاية من الأمراض ، و الحماية من النوازل (1).
    و لهذا يكثر الدمار و الخراب و الخسائر المالية و الروحية بسبب الزلازل و السيول في القرى و الأرياف ، و يقلّ ذلك في المدن التي تتمتع بأعلى مستويات الوقاية و الحماية و الحصانة.
    و لو أنّ الناس سلكوا السبيل الإلهي المرسوم لهم ، وراعوا العدالة في تقسيم الثروة و الامكانيات لما تضرّر أحد بهذه النوازل و الحوادث ، و لكان الجميع في أمن من تبعاتها على السواء.
    فالأنظمة المجحفة ، و خروج الناس عن السبيل الإلهي القويم الذي يكفل توفير وسائل العيش و السلامة للجميع على السواء هو من الأسباب الرئيسية التي توجب تعرّض الناس للمحن و الكوارث.
    هذا كلّه في الخير المطلق ، و أمّا الخير المضاف ( كخير الحاكمين و ... ) فإليك تفسير ما ورد في الذكر الحكيم في ذلك المجال.

الثامن و الثلاثون : « خير الحاكمين »
    و قد ورد ذلك اللفظ في الذكر الحكيم في موارد ثلاثة و وقع وصفاً للّه سبحانه قال :
    ( وَ اِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِى اُرْسِلْتُ بِهِ وَ طائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنا وَ هُوَ خَيْرُ الحاكِمِينَ ) ( الأعراف/87 ).
1 ـ اقتبسنا ما مرّ من كتاب « الإلهيات » من محاضراتنا الكلامية فراجع الجزء الأوّل ص271 ـ 277.

(233)
    و قال سبحانه : ( وَ اتَّبِعْ ما يُوحى اِلَيْكَ وَ اصْبِرْ حَتى يَحْكُمَ اللّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) ( يونس/109 ).
    و قال سبحانه ناقلاً عن الولد الأكبر ليعقوب بعد ما سجن أخ له من أبيه مخاطباً أخوته : ( فَلَنْ اَبْرَحَ الاَْرْضَ حَتّى يَأْذَنَ لِى اَبِى اَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِى وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) ( يوسف/80 ).
    و قد تبيّن معنى هذا الاسم بما ذكرناه في « أحكم الحاكمين » و المفاضلة لأجل وجود حكّام غيره سبحانه و هم بين عادل في حكمه و جائر ، بين مأذون من اللّه و غيره و الكلّ غير مصون بالذات عن الخطأ و الزلّة إلاّ من عصمه اللّه كالأنبياء و الأولياء فيكون سبحانه « أحكم الحاكمين » لكونه معصوماً من الخطأ و الجهل بالذات.

التاسع و الثلاثون « خير الراحمين »
    و قد ورد في الذكر الحكيم مرّتين و وقع وصفاً له سبحانه في كلا الموردين.
    قال تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَ ارْحَمْنَا وَ اَنْتَ خَيْرُ الرَاحِمِينَ ) ( المؤمنون/109 ).
    و قال عزّ شأنه : ( وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ اَنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ ) ( المؤمنون/118 ).
    و يظهر معناه ممّا سيجيئ في تفسير اسم « الرحيم ».
الأربعون : « خير الرازقين »
    و قد ورد في القرآن الكريم في موارد ، و وقع وصفاً له سبحانه في جميعها ، قال سبحانه حاكياً عن عيسى بن مريم : ( اَللّهُمَّ رَبَّنا اَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنْ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لاَِوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ اَنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ ) ( المائدة/114 ).


(234)
    و قال تعالى : ( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِى سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ قُتِلُوا اَو ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللّهُرِزْقاً حَسَناً وَ اِنَّ اللّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ ) ( الحج/58 ) (1).
    وسيوافيك معناه عند البحث عن اسم « الرازق ».

الواحد و الأربعون : « خير الغافرين »
    و قد ورد في القرآن مرّة واحدة و وقع وصفاً له سبحانه.
    قال : ( وَ اخْتارَ مَوْسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمّا اَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ اَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ اِيّايَ اَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا اِنْ هِىَ اِلّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِى مَنْ تَشاءُ اَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنَا وَ اَنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ ) ( الأعراف/155 )
    و يجيئ تفسيره عند البحث عن اسم « غافر الذنب ».
الثاني و الأربعون : « خير الفاتحين »
    و قد ورد في القرآن المجيد مرّة واحدة و وقع وصفاً له.
    قال سبحانه : ( قَدْاِفْتَرَيْنا عَلى اللّهِ كَذِباً اِنْ عُدْنا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ اِذْ نَجّانا اللّهُ مِنْها وَ ما يَكُونُ لَنا اَنْ نَعُودَ فِيها اِلّا اَنْ يَشاءَ اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْماً عَلى اللّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ اَنْتَ خَيْرُ الفاتِحِينَ ) ( الأعراف/89 ).
    و سيظهر معناه عند البحث عن اسم « الفتّاح ».
الثالث و الأربعون : « خير الفاصلين »
    و قد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة.
    قال سبحانه : ( قُلْ اِنِّى عَلى بَيِّنَة مِنْ رَبِّى وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِى ما تَسْتَعْجُلُونَ بِهِ
1 ـ لاحظ : المؤمنون/72 ، سبأ/39 ، الجمعة/11.

(235)
اِنِ الْحُكْمُ اِلّا لِلّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الفاصِلِينَ ) ( الأنعام/57 ).
    قال ابن فارس : « الفصل » يدل على تميّز الشيء عن الشيء و ابانته عنه ، يقال : فصل الشيء فصلاً ، و الفيصل : الحاكم ، و الفصيل : ولد الناقة إذا افتصل عن اُمّه ، و المفصل : اللسان ، لأنّ به تفصل الاُمور و تميّز.
    و قال الراغب : ابانة أحد الشيئين عن الآخر حتى يكون بينهما فرجة و سمّي يوم القيامة يوم الفصل ، لأنّه يبيّن الحق من الباطل ، و يفصل بين الناس بالحكم ، و فصل الخطاب ما فيه قطع الحكم.
    و على ذلك فمعنى قوله سبحانه « خير الفاصلين » أي خير الحاكمين ، لأنّه لايظلم في قضاياه و لايجور عن الحقّ ، و إنّه يقضي بالحق و لايعدل عنه ، و الناس يحكمون بالايمان و البيّنات و القرائن و الشواهد و هي قدتصيب و قدتخطىء ، و هو سبحانه يقضي بعلمه الوسيع الذي لايشوبه جهل ، و بعرفانه الذي لايخالطه خطأ فهو خير الفاصلين.
    و حظ العبد من هذا الاسم هو اتّصافه بالقضاء العدل ، و الحكم الفصل.
    قال سبحانه : ( يَا دَاوُدُ اِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الاَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ وَ لاَتَتَّبِعْ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنِ سَبِيلِ اللّهِ ) ( ص/26 ).
    و روي عن الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : « القضاة أربعة : ثلاثة في النار و واحد في الجنّة : رجل قضى بجور و هو يعلم فهو في النار ، و رجل قضى بجور و هو لايعلم فهو في النار ، و رجل قضى بالحقّ و هو لايعلم فهو في النار ، و رجل قضى بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنّة » (1).
1 ـ وسائل الشيعة ج 18 الباب 3 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 6.

(236)
الرابع و الأربعون : « خير الماكرين »
    و قد ورد هذا اللفظ في القرآن مرّتين و وقع وصفاً له سبحانه في كلا الموردين.
    قال تعالى : ( فَلَمَّا اَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الكُفْرَ قَالَ مَنْ اَنْصارِى اِلى اللّهِ قالَ الحَوارِيُّونَ نَحْنُ اَنْصارُ اللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَ اشْهَدْ بِاَنَّا مُسْلِمُونَ ... وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ ) ( آل عمران/52و54 ).
    و قال تعالى : ( وَ اِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ اَوْ يَقْتُلُوكَ اَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ ) ( الأنفال/30 ).
    و قد اتّفق المفسّرون على أنّ المراد من مكره سبحانه هو المجازاة على مكرهم و قدسمّى المجازاة على المكر مكراً في غير هذا المورد أيضاً.
    قال سبحانه : ( وَ اِذا خَلَوْا اِلى شَيَاطِينِهِمْ قالُوا اِنّا مَعَكُمْ اِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ * اَللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ( البقرة/14و15 ).
    و من المعلوم امتناع الاستهزاء على أنبيائه سبحانه فضلاً عن اللّه لأنّها من فعل الجهلة ، و اللّه الحكيم و أنبياؤه هم الحكماء ، قال سبحانه حاكياً عن بني اسرائيل :
    ( قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ اَنْ اَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) ( البقرة/67 ).
    و اللّه سبحانه وصف نفسه به عند ابطال مكر الناس على رسله و أنبيائه ففي الاية الاُولى يذكر همّ بني اسرائيل بالمسيح حيث أرادوا قتله ، فأبطل سبحانه مكرهم برفع عيسى إليه و قتلوا مكانه يهوذا و هو الذي دلّهم على المسيح.
    روا أهل السير والتاريخ إنّ المسيح جمع الحواريين تلك الليلة و أوصاهم ثمّ قال : ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة ، فخرجوا وتفرقوا ، و جاءت اليهود إليه فقال ما تجعلون لي أن أدلّكم عليه ، فجعلوا له ثلاثين


(237)
درهماً فأخذهم و دلّهم عليه ، فألقى اللّه عليه شبه عيسى ، فخرج إلى أصحابه و ظنّوا أنّه عيسى (1).
    و في الاية الثانية تذكّرهم قصة همّهم بأسر النبي أو قتله أو اخراجه من البلد حتى استقرّ رأيهم على اجتماع أربعين رجلاً من أقويائهم للهجوم على البيت بعد تمام الليل لاجراء أحد الاُمور الثلاثة عليه ، و اللّه سبحانه جازاهم بالمثل و أخبر رسوله فترك البيت قبل أن يتواثبوا عليه ، فلو مكروا يجازوا بمكر مثله و اللّه خير الماكرين أي المجازين للماكرين ، و بذلك يعلم كونه سبحانه أسرع مكراً ، قال سبحانه :
    ( قُلِ اللّهُ اَسْرَعُ مَكْراً اِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ ) ( يونس/21 ).
    فإذا كان المكر منه سبحانه هو الجزاء و ابطال أثر مكر العدو ، فتوصيفه بالسرعة إمّا خاص بموارد معيّنة كابطال مؤامرة الأعداء في قتل الأنبياء ، أو في ما بلغ الطغيان أعلى درجاته فيأخذ الطغاة في الدنيا لعذابه ، و إمّا عام لجميع موارد العقوبة و التعبير بالسرعة إمّا لأنّ ظرف المجازاة قريب منه قال سبحانه : ( اِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَ نَرَاهُ قَرِيباً ) ( المعارج/6و7 ). و إمّا لكون عملهم نفس المجازاة التي يجازيبها العصاة يوم القيامة ، فعملهم و مكرهم عذاب لهم و هم لايشعرون بناء على تجسّم الأعمال وتمثّلها.

الخامس و الأربعون « خير المنزلين »
    و قد ورد « خير المنزلين » في الذكر الحكيم مرّتين و وقع وصفاً له سبحانه في مورد واحد.
    قال سبحانه حاكيا عن يوسف : ( أَلا تَرَوْنَ أَنِّى اُوفِى الْكَيْلَ وَ اَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) ( يوسف/59 ).
1 ـ مجمع البيان ج 1 ص 448.

(238)
    و قال سبحانه حاكياً عن نوح عند وقوف سفينته على الجودي : ( رَبِّ اَنْزِلْنِى مُنْزَلاً مُبارَكاً وَ اَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) ( المؤمنون/29 ).
    و المنزل في الآية الثانية إمّا مصدر ميمي بمعنى الانزال أو اسم مكان بمعنى المنزل ، فهو يطلب من اللّه تعالى أن يتفضّل عليه بانزال مبارك أو منزل مبارك بأن يكون ذات ماء و شجر أو غير ذلك ممّا يمهّد الحياة.
    و أمّا معناه فقد قال ابن فارس : « النزل » يدلّ على هبوط شيء و وقوعه ، يقال : نزل عن دابّته نزولاً ، و نزل المطر من السماء نزولاً ، و النازلة : الشديدة من شدائد الدهر تنزل ، و النزل ما يهيّئ للنزيل ، و طعام ذونزل أي ذوفضل ، و يعبّرون عن الحجّ بالنزول ، و نزل : إذا حج ، و قال الراغب : « النزول » في الأصل هو انحطاط من علو يقال نزل عن دابته و نزل في مكان كذا : حط رحله فيه ، و أنزله غيره قال : « انزلني منزلاً مباركاً و أنت خير المنزلين ».
    و الظاهر أنّ له معنى واحد و هو الانحطاط من علو ، فلو اطلق على المضيف حتى فسّر قوله سبحانه : ( و انّا خَيْرُ المنزِلين ) في سورة يوسف به لأجل أنّ المضيف ينزل الضيف عن دابّته ، و هو في جميع الموارد بمعنى واحد ، فاللّه منزل القرآن نفسه إلى قلب رسوله ، قال : ( اللّهُ الَّذِى أَنْزَلَ الكِتَابَ ) ( الشورى/17 ) و منزل الحديد.
    قال سبحانه : ( و اَنْزَلْنَا الحَدِيدَ ) ( الحديد/25 ) و منزل « الأنعام » و « الماء » و « اللباس » إلى غير ذلك ممّا تعلّق به الانزال في الذكر الحكيم ، ففي الكلّ نوع هبوط من علو ، و نوح شيخ الانبياء يطلب من اللّه سبحانه أن ينزله من السفينة إلى منول مبارك فإنّه « خيرالمنزلين » ، فليس توصيفه سبحانه به بخصوص هذا الملاك بل هو خير المنزلين على الاطلاق سواء أنزل الإنسان إلى الأرض أو القرآن أو غيره.


(239)
السادس و الأربعون : « خير الناصرين »
    و قد ورد هذا اللفظ في الذكر الحكيم مرّة واحدة و وقع وصفاً له سبحانه قال : ( بَلِ اللّهُ مَوْليكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ ) ( آل عمران/150 ).
    و سيجيئ تفسيره عند تفسير اسم النصير.
السابع و الأربعون : « خير الوارثين »
    وقد ورد « خير الوارثين » في الذكر الحكيم مرّة واحدة و وقع وصفاً للّه سبحانه قال :
    ( وَ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاتَذَرْنِى فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُالوارِثِينَ * فَاَسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِى الخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَبَاً وَ رَهَباً وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ ) ( الأنبياء/89و90 ).
    قال ابن فارس : « الورث » أن يكون الشيء لقوم ثمّ يصير إلى آخرين بنسب أو سبب و اطلاقه على اللّه سبحانه بملاك الانتقال من الإنسان إليه فقط من دون علقة النسب و السبب.
    و إنّما وصفه سبحانه ب ـ « خير الوارثين » لأنّه اسم عامّ يطلق عليه و على غيره.
    قال سبحانه : ( وَ عَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ) ( البقرة/233 ). و قال سبحانه : ( وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ * اُولئِكَ هُمْ الوارِثُونَ ) ( المؤمنون/9و10 ). و قال : ( وَ نَجْعَلَهُمُ اَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الوارِثِينَ ) ( القصص/5 ).
    غير أنّ وراثته سبحانه أتم و أكمل من وراثتهم ، و لأجل ذلك لمّا طلب زكريا وارثاً و قال : ( رَبِّ لاتَذَرْنِى فَرْداً ) الملازم لوجود ولد يرثه ذكَّر بتنزيهه سبحانه لأنه هو الذي يرث كلّ شيء و هو المنزّه عن مشاركة غيره له في كلّ شيء حتى في الوراثة فرفعه عن مساواة غيره و قال : ( وَ أَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ ) يعني : أين هذا الوارث الذي


(240)
يرث مالي مدة ثمّ يموت من وراثتك الباقية و الثابه قال : ( وَ للّهِ مِيراثُ السَّمواتِ وَ الاَْرْضِ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) ( آل عمران/180 ). و قال : ( وَ اِنّا لَنَحْنُ نُحْيِى وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ الوارِثُونَ ) ( الحجر/23 ).

الثامن و الأربعون : « خير حافظا »
    و قد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة و وقع وصفاً له سبحانه : ( فَلَمّا رَجَعُوا اِلى اَبِيهِمْ قالُوا يا اَبانا مُنِعَ مِنّا الكَيْلُ فَارْسِلْ مَعَنا اَخانا نَكْتَلْ وَ اِنّا لَهُ لَحافِظُونَ * قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ اِلّا كَما آمِنْتُكُمْ عَلى اَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ اَرْحَمُ الراحِمِينَ ) ( يوسف/63و64 ).
    و الحافظ اسم عام توصف به الملائكه تارة قال سبحانه : ( وَ اِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ * كِراماً كاتِبِينَ ) ( الانفطار/10 و 11 ).
    و الناس اُخرى. قال سبحانه : ( مَنَعَ مِنّا الكَيْلُ فَاَرْسِلْ مَعَنا اَخانا نَكْتَلْ وَ اِنّا لَهُ لَحافِظُونَ ) ( يوسف/63 ).
    قال ابن فارس : و الحفظ له معنى واحد يدل على مراعاة الشيء ، و التحفّظ : قلّة الغفلة ، و الحفاظ : المحافظة على الاُمور.
    و أمّا الذكر الحكيم فقد استعمله تارة في مورد رعاية حدود اللّه و قال : ( وَ النّاهُونَ عَنْ المُنْكَرِ وَ الحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ ) ( التوبة/112 ). و اُخرى في تسجيل الشيء و ضبطه كما في قوله سبحانه : ( وَ اِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ * كِراماً كاتِبِينَ ). و ثالثة في صيانته عن الافراط و التفريط قال سبحانه : ( وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ) ( المؤمنون/5 ) و رابعة في دفع الكيد و الشر و البلاء و وقايته من كلّ سوء و هذا هو المراد من قول اخوة يوسف ( وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) كما هو المراد في قوله : ( اِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَ اِنّا لَهُ لَحافِظُونَ ) ( الحجر/9 ). أي نصونه من التحريف و التبدّل و الزيادة و النقص و الفقدان ، و الموارد ترجع إلى أصل واحد.
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس