و يظهر هذا المعنى من الشيخ المفيد غير أنّه فرّق بين العرش المطلق و العرش المحمول ، ففسّر الأوّل بالملك و قال : العرش الأوّل هو ملكه ، و إستواءه على العرش هو إستيلاءه على الملك ، و أمّا العرش الذي تحمله الملائكة هو بعض الملك و هو عرشٌ خلقه اللّه تعالى في السماء السابعة ، و تعبّد الملائكة بحمله وتعظيمه ، كما خلق سبحانه بيتاً في الأرض و أمر البشر بقصده و زيارته و الحجّ إليه وتعظيمه كما جاء في الحديث : « إنّ اللّه تعالى خلق بيتاً تحت العرش سمّاه « البيت المعمور » تحجّه الملائكة في كل عام ، و خلق في السماء الرابعة بيتاً سمّاه « الزراح » وتعبّد الملائكة بحجّه و الطواف حوله ، وخلق البيت الحرام في الأرض وجعله تحت الزراح ـ إلى أن قال ـ : « و لم يخلق اللّه عرشاً لنفسه ليستوطنه تعالى اللّه عن ذلك ، ولكنّه خلق عرشاً أضافه إلى نفسه تكرمة له و إعظاماً ، و تعبّد ملائكة بحمله ، كماخلق بيتاً في الأرض و لم يخلقه لنفسه و لاليسكنه تعالى اللّه عن ذلك ، لكنه خلقه لخلقه واضافة لنفسه إكراماً له و إعظاماً ، وتعبّد الخلق بزيارته و الحجّ إليه (1). و قال العلاّمة المجلسي : اعلم انّ ملوك الدنيا لمّا كان ظهورهم و اجراء أحكامهم على رعيتهم إنّما يكون عند صعودهم على كرسيّ الملك و عروجهم على عرش السلطنة ، و منهما تظهر آثارهم و تتبيّن أسرارهم ، و اللّه سبحانه لتقدّسه عن المكان لايوصف بمحلّ و لامقرّ و ليس له عرش و لاكرسي يستقرّ عليهما بل يطلقان على أشياء من مخلوقاته » (2). و هذا هو الظاهر من بعض الروايات ، روى الصدوق بسنده عن المفضّلبنعمر ، قال : سألت أبا عبداللّه عن العرش و الكرسي ما هما؟ فقال : العرش في وجه هو جملة الخلق (3).
1 ـ تصحيح الاعتقاد : ص 29 ـ 31. 2 . بحار الانوار ج 58 ، ص27. 3 ـ بحار الانوار ج 58 ، ص 29.
(262)
و ها هنا كلام للعلاّمة الطباطبائي ( ره ) يحقّق ما ذكرنا بشكل بديع و يقول : « إنّ السلطة و الاستيلاء و الملك و الرئاسة و الولاية و السيادة و جميع ما يجري هذا المجري فينا اُمور وضعيّة اعتبارية ليس في الخارج منها إلاَّ آثارهما ، مثلاً الرئيس لايسمّى رئيساً إلاّ لأن يتبعه الذين نسمّيهم مرؤوسين في إرادته و عزائمه ، و ليس هنا للرئاسة واقعيّة إلاَّ التخيّل و التشبيه بمعنى تنزيل الرئيس مكان الرأس ، و المرؤوسين مكان البدن ، فكما أنّ البدن يتبع الرأس ، فالمرؤوسون يتبعون الرئيس و قس عليها. و هذا خلاف ما يوصف به سبحانه من الملك و الاحاطة و الولاية و غيرها ، فإنّها معاني حقيقية واقعيّة على ما يليق بساحة قدسه ، و على ذلك يجب أن يكون للاستيلاء حقيقة تكوينيّة و لعرشه المتعلّق به واقعيّة مثله. فالايات كما ترى تدلّ بظاهرها على أنّ العرش حقيقة من الحقائق العينيّة و أمر من الاُمور الخارجية » (1). 5 ـ إنّ العرش حقيقة من الحقائق العينيّة و هو المقام الذي يجتمع فيه جميع أزمّة الاُمور (2) و بعبارة اُخرى هو المقام الذي يبتدىء منه و تنتهي إليه أزمّة الأوامر و الأحكام الصادرة من الملك ، و هو في ذلك و إن كان موجوداً مادّيّاً إلاَّ أنّ المحكمات من الايات مثل قوله : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء ) ( الشورى/11 ). و قوله : ( سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الصافّات/159 ) تدلّ على انتفاء الجسم و انّه ليس من خواصّه تعالى فينفي من العرش الذي وصفه لنفسه كونه سريراً مؤلّفاً من مادّة معيّنة ، ويبقى أصل المعنى و هو أنّه المقام الذي يصدر عنه الأحكام الجارية في نظام الكون هو من مراتب العلم الخارج عن الذات ، و المقياس في معرفة ما عبّرنا عنه بأصل المعنى أنّه المعنى الذي يبقى ببقائه الاسم ، و بعبارة اُخرى يدور مداره صدق الاسم وإن تغيّرت المصاديق و اختلفت الخصوصيّات.
1 ـ الميزان ج2 : ص 159 ـ 160 بتلخيص منّا. 2 ـ الميزان ج 8 ، ص 160.
(263)
و على ضوء هذا ينفى عن العرش ما يلازم المادّيّة من كونها من خشب أو معدن أو على صورة خاصّة ، و يبقى ما لايلازم ذلك كوجود مقام تنتهي إليه أزمّة الاُمور و منه تصدر الأحكام (1). و لو صحّت تلك النظرية لكان العرش بعض الخلق لاكلّه و يكون وجوداً مجرّداً لامادّيّاً حتى يناسب كونه مركزاً لصدور الأحكام و مرجعاً لانتهاء الاُمور إليه. و مثل ذلك يعدّ من مراتب علمه الفعلي لا الذاتي ، فإنّ لعلمه الفعلي مراتب و درجات ، و يؤيد هذا التفسير بعض الروايات التي تفسّر العرش بالعلم. روى عبداللّه بن سنان عن الصادق ( عليه السلام ) في تفسير قول اللّه عز و جل : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّموَاتِ وَ الأَرْض ). قال ( عليه السلام ) : السموات و الأرض و ما بينهما في الكرسي ، و العرش : هو العلم الذي لايقدر أحد به قدره (2). روى الكليني بسند صحيح عن صفوان بن يحيى ، قال : سألني أبو قرّة المحدّث أن أدخله على أبي الحسن علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) ، فاستأذنته فأذن بي ، فدخل فسأله عن الحلال و الحرام ، ثمّ قال له : أفتقرّ أنّ اللّه محمول ، فقال أبوالحسن : كل محمول مضاف إلى غيره محتاج ، و المحمول اسم نقص في اللفظ ، و الحامل فاعل و هو في اللفظ ، مدح ... و لم يسمع أحد آمن باللّه و عظمته قطّ قال في دعائه يا محمول. قال أبوقرّة : ( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذ ثَمَانِيَة ) و قال : ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ ) فقال أبوالحسن ( عليه السلام ) : العرش ليس هو اللّه و العرش اسم علم و قدرة ، و العرش كل شيء ، و عرش فيه كل شيء ، ثمّ أضاف الحمل إلى غيره ، خلق من خلقه لأنّه استعبد خلقه بحمل عرشه و هم حملة علمه ، و خلقاً يسبّحون حول عرشه و هم يعملون بعلمه ، و ملائكة يكتبون
1 ـ الميزان ج 14 ص 139 ـ 140 بتغيير طفيف. 2 ـ التوحيد : باب 52 الحديث 20.
(264)
أعم العباده (1).
و يؤيّد ذلك ما ذكره أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في جواب الجاثليق : فكل شيء محمول واللّه تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا و المحيط بهما من شيء وهو حياة كل شيء ، و نور كل شيء سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً (2). و روى سنان بن سدير عن الصادق ( عليه السلام ) : إنّ الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع و منها الأشياء كلّها ، و العرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف و الكون و القدر و الحدّ و العلم و المشيئة ... فهما في العلم بابان مقرونان ... (3).
و قد ورد لفظ الرحمن في الذكر الحكيم 57 مّرة و اسم الرحيم 95 مرّة ، و وقع الجميع وصفاً له سبحانه. أمّا الرحمن فقد قورن باسمين : 1 ـ « الرحيم » و هو الأكثر ، قال سبحانه : ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ). 2 ـ « المستعان » ، قال سبحانه : ( رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنا الرَّحْمنُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ ) ( الأنبياء/112 ).
1 ـ البحار : ج 58 ، ص 14. 2 ـ البحار : ج 58 ، ص10 الحديث8. 3 ـ التوحيد : الباب 50 ، ص 321 الحديث1.
(265)
و أمّا الرحيم فقد قورن بأسماء كثيرة للّه سبحانه نشير إليها : 1 ـ « الرحمن » كما عرفت. 2 ـ « التواب » قال سبحانه : ( فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة/37 ). 3 ـ « الرؤوف » قال سبحانه : ( اِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) ( البقرة/143 ). 4 ـ « الغفور » قال سبحانه : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَ لا عَاد فَلاَ اِثْمَ عَلَيْهِ اِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( البقرة/173 ). 5 ـ « الودود » قال سبحانه حاكياً عن شعيب : ( وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا اِلَيْهِ اِنَّ رَبِّى رَحِيمٌ وَدُودٌ ) ( هود/90 ). 6 ـ « العزيز » قال سبحانه : ( وَ اِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ ) ( الشعراء/9 ). 7 ـ « الرب » قال سبحانه : ( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبِّ رَحِيم ) ( يس/58 ). 8 ـ « البرّ » قال سبحانه : ( اِنّا كُنّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ اِنَّهُ هُوَ البَرُّ الرَّحِيمُ ) ( الطور/28 ). و الاسمان مشتقان من « الرحم » و قد مضى معناه في تفسير اسمه « أرحمالراحمين » فلانعيد. إنّما الكلام في الفرق بينهما ، و سيوافيك بيانه. الظاهر من الآيات إنّ العرب في العصر الجاهلي ما كانت تعرف « الرحمن ». قال الزجّاج : « الرحمن » اسم من أسماء اللّه مذكور في الكتب الاولى و لم يكونوا يعرفونه من أسماء اللّه فقيل لهم إنّه من أسماء اللّه و معناه عند أهل اللّغة ذوالرحمة التي لاغاية بعدها في الرحمة ، لأنّ « فعلان » من أبنية المبالغة تقول رجل « ريّان » و « عطشان » في النهاية من الري و العطش ، و فرحان و جذلان إذا كان في النهاية من الفرح و الجذل.
(266)
قال سبحانه : ( وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قَالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَ زَادَهُمْ نُفُوراً ) ( الفرقان/60 ). أي زادهم ذكر الرحمن بعداً عن الايمان أو قبول الحقّ و قول النبي. روى ابن هشام في أمر الحديبيّة الذي صالح فيه رسول اللّه مع قريش ثم دعا رسول اللّه ( صلى اللّه عليه و آله و سلّم ) عليّ بن أبي طالب ـ رضوان اللّه عليه ـ فقال : اكتب « بسم اللّه الرحمن الرحيم » قال : فقال سهيل : لاأعرف هذا و لكن اكتب « باسمك اللّهمّ » ، فقال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ) : اكتب « باسمك اللّهمّ ». فكتبها ... (1). و أمّا الفرق بينهما فهناك وجوه : 1 ـ الرحمن بمنزلة اسم العلم من حيث لايوصف به إلاّ اللّه بخلاف الرحيم لأنّه يطلق عليه و على غيره. 2 ـ الرحمن : رحمان الدنيا ، و الرحيم : رحيم الآخرة. 3 ـ الرحمن بجميع الخلق ، و الرحيم بالمؤمنين خاصّة. 4 ـ الرحمن برحمة واحدة و الرحيم بمائة رحمة (2). و الظاهر هو الثاني و هو المروي عن الامام الصادق ( عليه السلام ) حيث قال : « الرحمن » اسم خاص بصفة عامّة ، و الرحيم اسم عامّ بصفة خاصّة ، و هو الظاهر من الصدوق حيث قال : « الرحمن » معناه الواسع الرحمة على عباده يعمّهم بالرزق والانعام عليهم و هو لجميع العالم ، و الرحيم إنّه رحيم بالمؤمنين يخصّهم برحمته في عاقبة أمرهم كما قال اللّه عزّ و جلّ : ( وَ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ) و الرحمان و الرحيم اسمان مشتقّان من الرحمة على وزن ندمان و نديم (3).
1 ـ السيرة النبوية : ج 2 ، ص 317. 2 . مجمع البيان : ج 1 ، ص 21. 3 ـ التوحيد للصدوق : ص 203.
(267)
و أوضحه الرازي بقوله : « و قال جعفر الصادق ( عليه السلام ) : اسم الرحمان خاصّ بالحق ، عامّ في الأثر ، لأنّ رحمته تصل إلى البرّ و الفاجر ، و اسم الرحيم عامّ في الاسم خاص في الأثر لأنّ اسم الرحيم قديقع على غير اللّه تعالى ، فهو من هذا الوجه عامّ إلاّ انّه خاص في الأثر لأنّ هذه الرحمة مختصّة بالمؤمنين ». ثم استدلّ على ذلك بأنّ بناء وضع « الرحمان » للمبالغة يقال رجل غضبان وشبعان ، و رجل عريان هو الذي لاثوب له أصلاً ، فإن كان له ثوب خلق ، فقد يقال له إنّه عار و لايقال إنّه عريان ، و أمّا الرحيم فهو رحيم و الفعيل قديكون بمعنى الفاعل كالسميع بمعنى السامع ، و بمعنى المفعول كالقتيل بمعنى المقتول و ليس في واحد منهما كبير مبالغة. أضف إلى ذلك إنّ كثرة المباني تدلّ على كثرة المعاني ، و حروف الرحمان أكثر من حروف الرحيم (1). ثمّ إنّه يمكن استظهاره من بعض الآيات ، نرى أنّه سبحانه إنّما يخاطب الكلّ أو خصوص الكافر يقول ( الرَّحْمنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) ( طه/5 ). و يقول : ( قُلْ مَنْ كَانَ فِى الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَداً ) ( مريم/75 ). و الأوّل خطاب للعامّ والثاني يخص مفاده بالكافر ، و في الوقت نفسه يخصّ المؤمنين بالرحيم يقول : ( وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ) ( الأحزاب/43 ) و يقول : ( اِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) ( التوبه/117 ). و على ضوء هذا فالرحمان و إن كان يفيد الرحمة العامّة للكلّ إلاّ أنّ الرحيم يفيد الرحمة الخاصّة بالمؤمنين ، فكان الرحمان كالأصل و الرحيم كالزيادة في التشريف ، و الأصل يجب تقديمه على الزيادة كقوله : ( لِلَّذِينَ اَحْسَنُوا الحُسْنى وَزِيادَة ) ( يونس/26 ).
1 ـ لوامع البينات : ص 152 ـ 172.
(268)
و أمّا حظ العبد من اسميه تعالى فحظ العبد من اسم « الرحمان » أن يكون كثير الرحمة على الناس و حظه من اسم الرحيم أن يكون عطوفاً بالمؤمنين ، فلو صحّ ماروي عن النبي ( صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ) أنّه قال : « تخلّقوا بأخلاق اللّه » فمعناه التشبّه بالاله بقدر الطاقة البشرية و صيرورة الإنسان مظهراً لاسمائه إلاّ فيما خرج كقوله : « المصوّر » (1).
و قد جاء « الرؤوف » في الذكر الحكيم 11 مرّة و وقع الجميع اسماً له سبحانه و اقترن ب ـ « العباد » تارة ، و بالرحيم اُخرى ، قال سبحانه : ( وَ يُحَذِّرُكُمْ اللّهُ نَفْسَهُ وَ اللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبادِ ) ( آل عمران/30 ). و قال : ( وَ ما كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ اِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) ( البقرة/143 ). و أمّا معناه فقال ابن فارس : « الرؤوف كلمة واحدة تدل على رقّة و رحمة ». قال اللّه تعالى : ( وَ لاتَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللّهِ ) ( النور/2 ). وقال سبحانه : ( وَ جَعَلْنا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ) ( الحديد/27 ). و قال جرير :
يرى للمسلمين عليه حقّا
كفعل الوالد الرؤوف الرحيم
و اطلاقه على اللّه سبحانه بالتجريد عمّا يلازم الوجود الامكاني من الرقة في القلب ، و التأثّر عن الشيء و الأخذ بالنتيجة كما هو الضابطة في كثير من أسمائه سبحانه.
1 ـ لوامع البينات : ص 167 بتلخيص منّا.
(269)
ثمّ ان ّ الرؤوف قدّم على الرحيم في جميع الايات فما هو وجهه؟ يمكن أن يقال : إنّ الرحمة كمال حال في الرؤوف يدعوه إلى ايصال الاحسان إلى الغير ، و الحال إنّ الرحيم معنى يحصل من مشاهدة المرحوم في فاقة و ضعف وحاجة ، و من المعلوم كون الأوّل أكمل في مجال الفضيلة ، و لعلّه لذلك قدّم الرؤوف على الرحيم. قال الصدوق : « الرؤوف معناه الرحيم و الرأفة الرحمة » (1).
جاء في الذكر الحكيم مرّة واحدة و وقع إسماً له. قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرزَّاقُ ذُوالقُوَّةِ الْمَتِينُ ) ( الذاريات/58 ). كما انّه سبحانه وصف ب ـ « خير الرازقين » 5 مرّات. قال سبحانه : ( وَ ارْزُقْنَا وَ اَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( المائدة/114 ). قال سبحانه : ( لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللّهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ اللّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ ) ( الحج/58 ). و قال سبحانه : ( أَمْ تَسْئَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ ) ( المؤمنون/72 ). و قال سبحانه : ( وَ ما اَنْفَقْتُمْ مِنْ شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ ) ( سبأ/39 ). و قال سبحانه : ( قُلْ ما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَ مِنْ التِّجارَةِ وَ اللّهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ ) ( الجمعة/11 ).
1 ـ التوحيد للصدوق : ص 204.
(270)
و قد دل غير واحد من الآيات على أنّ رزق العباد و الدوابّ على اللّه سبحانه. قال عزّ و جلّ : ( وَ مَا مِنْ دَابَّة فِى الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا ) ( هود/6 ). ودلّت بعض الايات على أنّ منبع الرزق و مصدره هو السماء. قال سبحانه : ( وَ فِى السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ ) ( الذاريات/22 ). فلو كان المراد من السماء هو السماء المحسوس ، فالمراد من الرزق إمّا هو المطر كما عليه قوله سبحانه : ( وَ ما اَنْزَلَ اللّهُ مِنْ السَّماءِ مِنْ رِزْق فَاَحْيا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) ( الجاثية/5 ). أو الأعم منه و من الأنوار و الأشعّة الحيوية إلى غير ذلك من الاُمور النازلة من السماء إلى الأرض. و أمّا الرزق فقد فسّره ابن فارس بعطاء اللّه جلّ ثناؤه. و قال الراغب : الرزق يقال للعطاء الجاري تارة دنيويّاً كان أم اُخرويّا ، وللنصيب تارة و لما يصل به إلى الجوف و يتغذى به تارة.
فالأوّل مثل قول القائل : « أعطى السلطان رزق الجند » ، و الثاني : ( وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تَكَذِّبُونَ ) ( الواقعة/82 ) أي تجعلون نصيبكم من النعمة تحرّى الكذب ، و أمّا الثالث فقوله : ( فَلْيَأتِكُمْ بِرِزْق مِنْهُ ) ( الكهف/19 ) أي بطعام يتغذى به ، وقديطلق على الرزق الاُخروي. قال سبحانه في حقّ الشهداء في سبيل اللّه : ( بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ( آل عمران/169 ). و الظاهر أنّ المراد من الرزق هو كل ما يحتاج إليه الإنسان في مأكله و ملبسه و مسكنه و لايختصّ بما يصل إلى الجوف و إن كان هو الرزق البارز. قال الحكيم السبزواري : إنّ رزق كل مخلوق ما به قوام وجوده ، و كماله