مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 321 ـ 330
(321)
اللازم ممتنع الانفكاك عن الملزوم ، و حكم المنجّم بما سيقع ، و الطبيب الحاذق حيث يقول : الشيء الفلاني ينذر بكذا و كذا من هذا الباب (1).

الدليل الثاني : بسيط الحقيقة كلّ الأشياء
    ربّما يستدل على علمه سبحانه بالأشياء قبل الايجاد بالقاعدة الشريفة التي تفطّن إليها الفيلسوف الكبير صدر الدين الشيرازي و هي : « بسيط الحقيقة كلّ الأشياء على النحو الأتم الأكمل الأبسط » و هذه القاعدة تثبت علمه سبحانه بالأشياء قبل الايجاد في مرتبة الذات بالتوضيح التالي :
    إذا لاحظنا الوجودات الخاصة كالسماء و الأرض و نحوهما نرى ثمّة وجوداً كوجود السماء ـ مثلاً ـ و لهذا الوجود حداً ، و ينتزع من حدّه ماهيّة ، و هي ماهيّة السماء ، فيلاحظ حينئذ أشياء ثلاثة : ذات الوجود ، و حدّه ، و الماهية المنتزعة من حد ، فينحلّ الملحوظ إلى ثلاثة :
    1 ـ حقيقة الوجود.
    2 ـ حد ذلك الوجود ، و المراد من الحد : فقدان تلك المرتبة من حقيقة الوجود الثابت لمرتبة اُخرى ممّا يكافئها كفقدان السماء ، وجود الأرض و غيرها.
    3 ـ الماهيّة المنتزعة من ذلك الحد التي تكون قالباً للوجود الخاص به.
    فيكون الموجود ـ بعد الانحلال ـ مركباً من أشياء ثلاثة لايكون المتحقّق منها إلاّ نفس الوجود.
    و أمّا الحدّ فهو راجع إلى الفقدان ، كما أنّ الماهيّة أمر عدمي أيضاً و لكنّه صار موجوداً بالوجود ، و لولاه لما كان لها وجود.
    فكلّ موجود كان مركّباً من هذه الاُمور الثلاثة أي من ( وجود و عدم و عدمي )
1 ـ المنظومة قسم الفلسفة : ص164.

(322)
فهو مركّب بأسوء أنواع التركيب الذي لاينفك عنها الامكان.
    إذا عرفت هذا ، فاللّه سبحانه بما أنّه لاكثرة في ذاته أبداً ، يجب أن يجمع في مقام ذاته كلّ وجود ، بحيث لايشذّ عن وجوده وجود ، إذ لو صدق أنّه شيء ، و ذلك الوجود شيء آخر مسلوب عنه سبحانه لصار محدوداً ، و المحدود يلازم الإمكان ، وكلّ محدود مركّب ، و كلّ مركّب ممكن ، فينتج أنّه لاشيء من الواجب ممكناً.
    فعلى ذلك فوجوده سبحانه يجب أن يكون مع صرافته و بساطته جامعاً لكلّ وجود يتصوّر ، بحيث لايمكن سلب وجود عن مرتبة ذاته ، و إلاّ يلزم تركيبه من : أمر وجودي ( و هو ذاته ) ، و أمر عدمي ( و هو سلب ذلك الوجود عن ساحة ذاته ) ، و كان استجماعه لكلّ شيء لابنحو الكثرة و التعدّد حتى يلزم التركيب بصورة أسوء و أبشع ، بل ذلك الاستجماع يكون بنحو أتم و أعلى ، أي بشكل جمعي رتقي بحيث يكون في وحدته كلّ الوجودات ، و لايكون اشتماله على هذه الكثرات و الوجودات موجباً لانثلام وحدته و انتقاض بساطته.
    فوجوده سبحانه مشتمل و جامع لكلّ وجود ، لكن كلّ وجود ملغى عنه حده ، الذي تنتزع عنه ماهيّته و إن كان كماله موجوداً فيه.
    و إن شئت توضيح هذا المطلب أكثر من ذلك فلاحظ حال الملكات بالنسبة إلى الأفعال الصادرة عنها.
    فإنّ الملكة حالة بسيطة جامعة ـ على نحو الأتم و الأبسط ـ فكان كلّ فعل يصدر منها و كلّ ظهور ينشأ منها ، فالإنسان الواجد لملكة النحو قادر على الإجابة عن كلّ سؤال يرد عليه ، وهذه الأجوبة الكثيرة الصادرة عنه بفضل تلك الملكة ، كانت موجودة في نفس الملكة ، لكن لابتفاصيلها و خصوصيّاتها و حدودها و قيودها ، بل بكمالها و وجودها الأتم و الأبسط ، إذ لولاها لكان معطي الكمال فاقداً له.
    فكما انّ الملكة ـ مع بساطتها ـ واجدة لكمال كلّ الأجوبة ، و كمال وجودها


(323)
لكن لاعلى نحو التمايز و الخصوصيّات ، و إلاّ تلزم الكثرة و يلزم التركيب بشرّ صورها في « الملكة ».
    فكذلك كلّ علّة واجدة لكمال معلولها و لبّ كمالها على النحو الأتم و الأبسط.
    إذا عرفت هذا ، فاستوضح للوقوف على استجماع ذاته تعالى لكلّ كمال صدر منه و لكلّ وجود ظهر منه ، من حديث الملكة.
    فإنّ ما سوى اللّه من أرض و سماء و من إنسان و حيوان ، و من شجر و حجر ، كلّها موجودات تفصيليّة ، و تحقّقات امكانيّة ، لايعقل أن تكون موجودة في ذاته سبحانه بهذه الكثرات و التفصيلات ، و إلاّ يلزم انقلاب البسيط إلى المركّب ، و انقلاب الواجب إلى الممكن ، و هو أمر لايصح لأي حكيم أن يتفوّه به.
    و مع ذلك كلّه فذاته سبحانه ذات كاملة مشتملة لكلّ كمال موجود في هذه الموجودات ، بل جامعة كذلك لجميع الوجودات لكن لابخصوصيّاتها بل هي ـ بما أنّها وجود أتم و تحقّق أكمل ـ جامعة لتلك الكمالات بأشدّها و أكملها و أحسنها.
    فكما أنّ « المائة » بوحدتها مشتملة على التسعين و الثمانين مع شيء زائد ، لابمعنى أنّ التسعين و الثمانين موجودتان في المائة بنحو التفصيل بل بمعنى أنّ وجود المائة ببساطته تشتمل على كمال كلّ من الرقمين بنحو أتم و أكمل.
    فاللّه سبحانه بحكم البرهان المذكور من أنّه لايمكن سلب مرتبة من مراتب الوجود عنه ، و إلاّ لزم التركّب في ذاته ، و بفضل برهان آخر هو أنّ معطي الكمال لايكون فاقداً له ، وجوده أكمل الموجودات ، و أتمّها ، فإذا فرض العلم بذاته و حضور ذاته لديه ، كان ذلك عبارة اُخرى عن علمه بالوجودات الامكانيّة لكن لابوجه التفصيل ، بل بنحو البساطة و الوحدة.


(324)
    و هذا هو ما يقال من : « إنّ وجوده سبحانه كشف إجمالي عن الأشياء بلاطروء تركيب و حدوث امكان ».
    و على الجملة فاللّه سبحانه ـ بفضل هذين البرهانين ـ لايمكن أن يشذّ عنه اي كمال و أي وجود و إليك اعادة البرهانين :
    1 ـ لو صحّ سلب وجود عنه ، أو سلب كمال للزم تركيب ذاته سبحانه من « أمر وجودي و أمر عدمي » و هذا ممّا ينافي بساطته ، و يستلزم التركيب في ذاته تعالى ، و هو ملازم للامكان الموجب للاحتياج إلى العلّة.
    2 ـ إنّ معطي الكمال لايمكن أن يكون فاقداً له فاللّه الصادر منه كلّ الأشياء ، لايصحّ أن يكون فاقداً لكمالات تلك الأشياء.
    فعلى ذلك لايمكن أن يكون وجوده سبحانه مثل سائر المراتب من الوجود بأن يكون وجدان ذاته عين فقدانه لوجود اّخر ، و مع ذلك كلّه لايمكن أن تكون تلك الكثرات الامكانية موجودة فيها بحدودها و خصوصيّاتها ، و إلاّ يلزم تركيب أسوأ من التركيب السابق.
    فلامحيص من أن يكون ذلك الوجود البسيط مشتملاً على وجود أقوى ، و آكد من الوجودات الخاصّة ، المتشتتة ، المحدودة ، التي من حدودها يحصل التركيب من « الوجدان و الفقدان » و العلم بهذا الوجود الآكد الأقوى ، نفس العلم بكلّ الكمالات ، و كلّ الوجودات التالية الصادرة منه.
    فهو بوجوده الجمعي الواحد واقف على ذاته ، و واقف على كلّ ما يصدر منه.
    و إن شئت فقل : إنّ صرف الوجود يجمع كلّ وجود ، و لايشذّ عنه شيء ، و لكن المشتمل عليه هو ذات الوجود من كلّ شيء لابخصوصيّته الخاصّة الناشئة عن حدّه. فالوجودات الخاصّة بخصوصيّاتها و الماهيّات الموجودة بها غير متحقّقة في الأزل ، و إذ لم يكن المعلوم بخصوصيّته في الأزل لايتصوّر العلم به كذلك ، و لكن


(325)
هناك وجوداً أكمل و معلوماً أتمّ يكون العلم به أتمّ أنواع العلم بهذه الوجودات الصادرة منه.
    إن قلت : كيف يصحّ أن يقال إنّ النحو الأدنى من كلّ وجود ، معلوم له سبحانه في الأزل حسب الفرض إذ كيف يصير النحو الأعلى من كلّ وجود ، و النحو الأظهر من كلّ تحقّق ، علماً بالنحو الأدنى ، مع أنّ النحو الأدنى من كلّ وجود لايكون موجوداً في الأزل.
    غير أنّ الاجابة عن هذا السؤال ، بعد التوجّه إلى ما مثّلنا من حديث « الملكة » واضح فإنّ العلم بتمام الشيء و كماله ، علم بمراتبه النازلة مثل كون العلم بالإنسان الذي هو عبارة عن الحيوان الناطق نفس العلم بالمراتب التالية من النبات والجماد.
    و حينئذ يكون الوجود بالنحو الأعلى نفس التحقق للوجود الأدنى مع كمال آخر ، و جمال زائد.
    و على ذلك فالمعلوم الامكاني ، و ان لم يكن في الأزل بخصوصيّاته و تفاصيله لكنّه كمال وجوده و تمام تحقّقه موجود في الأزل بوجوده سبحانه فهو سبحانه ـ ببساطته ـ جميع الكمالات و الجمالات ، و العلم بالذات لاينفك عن العلم بتلك الكمالات التي لاتنفك عن العلم بما صدر عنه من الكمالات.
    قال صدر المتألّهين :
    لمّا كان وجوده تعالى وجود كلّ الأشياء ـ لما حققنا سابقاً من أنّ البسيط الحقيقي من الوجود يجب أن يكون كلّ الأشياء ـ فمن عقل ذلك الوجود عقل جميع الاشياء ، و ذلك الوجود هو بعينه عقل لذاته ، و عاقل ، فواجب الوجود عاقل لذاته بذاته ، فعقله لذاته عقل لجميع ما سواه ، و عقله لذاته مقدّم على وجود جميع ما سواه ، فعقله لجميع ما سواه سابق على جميع ما سواه ، فثبت أنّ علمه تعالى بجميع الأشياء حاصلة في مرتبة ذاته بذاته قبل وجود ما عداه فهذا هو العلم الكمالي التفصيلي بوجه و الاجمالي بوجه ، و ذلك لأنّ المعلومات على كثرتها و تفصيلها


(326)
بحسب المعنى موجودة بوجودة واحد بسيط ، ففي هذا المشهد الالهي و المجلى الأزلي ينكشف و ينجلي الكلّ من حيث لاكثرة فيها ، فهو الكلّ في وحده (1).
    قال العلامة الطباطبائي : « إنّ ذاته المتعالية حقيقة الوجود الصرف البسيط الواحد بالوحدة الحقّة الذي لايداخله نقص و لاعدم ، فلاكمال وجوديّاً في تفاصيل الخلقة بنظامها الوجودي إلاّ و هي واجدة له بنحو أعلى و أشرف ، غير متميّز بعضها من بعض لمكان الصرافة و البساطة فما سواه من شيء فهو معلوم له تعالى في مرتبة ذاته المتعاليّة علماً تفصيليّاً في عين الإجمال و إجماليّاً في عين التفصيل (2).
    إلى هنا تمّ الكلام في علمه بأفعاله أي الأشياء قبل وجودها. بقي البحث عن علمه بها بعد الايجاد. و إليك الكلام فيه.

علمه سبحانه بالأشياء بعد الايجاد
    يستدل على علمه بالأشياء بعد ايجادها بوجوه :
    الأوّل : قيام الأشياء به يستلزم علمه بها.
    إنّ الأشياء أعمّ من المجرّدات و الماديّات ـ معلولة للّه سبحانه على سبيل ترقّب الأسباب و المسبّبات ، و كلّ معلول حاضر بوجوده العيني عند علّته غير غائب و لامحجوب عنه ، فالأشياء في عين معلوليّتها نفس علمه العقلي بعد الإيجاد (3).
    و توضيحاً لهذا الدليل نقول :
    إنّ كلّ موجود سواه فهو ممكن في وجوده ، معلول في تحقّقه ـ له سبحانه ـ و
1 ـ الاسفار : ج 6 ، ص 270 ـ 271.
2 . نهاية الحكمة : ص 289.
3 ـ نهاية الحكمة : ص 290 ، الطبعة الجديدة.


(327)
ليس معنى المعلوليّة إلاّ تعلّقه وجوداً بالعلّة ، و قيامه بها قياماً حقيقيّاً ، كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي.
    فكما أنّ المعنى الحرفي قائم ـ حدوثاً وبقاءً ـ بالمعنى الاسمي ، بحيث لوقطع النظر عن المعنى الاسمي لما كان للمعنى الحرفي تحقّق في وعاء الوجود ، فهكذا المعلول ، فصلته بالعلّة أشدّ من صلة المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي.
    فإذا قلنا « سرت من البصرة » فهناك معنىً اسميا من : السير ، و البصرة ، و هناك معنىً حرفيّاً و هو ابتداء السير من ذلك البلد.
    فحقيقة الابتداء الحرفي ليس شيئاً مستقلاًّ ، بل هو أمر مندكّ قائم بالطرفين ، و هكذا مثل المعلول الصادر من العلّة ، بمعنى مفيض الوجود ، فليس للمعلول واقعيّة سوى قيامه بالعلّة ، و اندكاكه فيها و تعلّقه و تدلّيه بها.
    و ما هذا هو شأنه لايخرج عن حيطة وجود العلّة ، و مجال ثبوتها ، إذ الخروج عن ذلك المجال مساو للانعدام و مساوق للبطلان.
    و على الجملة : فالمعلول بالنسبة إلى العلّة كالوجود الرابط بالنسبة إلى « الوجود المستقل » فكما أنّ الوجود الرابط لايستغني عن « الوجود المستقل » آناً واحداً من الآنات ، بل يستمد منه وجوده ـ كلّ وقت و حين ـ فهكذا المعلول يستمد وجوده ـ حدوثاً و بقاءً ـ من العلّة ، و ما هذا شأنه لايمكن أن يخرج عن حيطة وجود العلّة ، و مجال تحقّقه. و معنى ذلك حضوره لدى العلّة و ما نعني من العلم سوى الحضور.
    و يتّضح من ذلك القاعدة أنّ الموجودات الامكانية بما أنّها فعله ، هي علمه أيضاً فهي بوجوداتها الامكانية علم للّه علماً فعلياً.
    و إن أردت مزيد توضيح فلاحظ الصور الذهنية ، فإنّ الصورة الذهنيّة أفعال للنفس مع أنّها في نفس الوقت علوم فعليّة لها ، فالعلم و الفعل مجتمعان.
    و هذا البرهان هو المنقول عن شيخ الاشراق و قدأوضحه المحقّقون.


(328)
    قال العلاّمة الحلّي ( رحمه اللّه ) :
    « إنّ كلّ موجود سواه ، ممكن ، و كلّ ممكن فإنّه مستند إليه ، فيكون عالماً به سواء أكان جزئياً أم كلّياً ، كان موجوداً قائماً بذاته أو عرضاً قائماً بغيره ، و سواء أكان موجوداً في الأعيان أو متعقّلاً في الأذهان ، لأنّ وجود الصورة في الذهن من الممكنات أيضاً فسيتند إليه ، و سواء كانت الصورة الذهنية صورة أمر وجودي أو عدمي ممكن ، أو ممتنع ، فلايعزب عن علمه شيء من الممكنات و لا من الممتنعات.
    ثمّ انّ العلاّمة ( رحمه اللّه ) وصف هذا الدليل بأنّه برهان شريف قاطع (1).
    و الحاصل : إنّ وزان الممكن بالنسبة إلى الواجب وزان المعنى الحرفي بالنسبة إلى المعنى الاسمي ، و وزان الوجود الرابط بالنسبة إلى الوجود التام المستقل ، فليس للمعلول واقعيّة سوى القيام و الارتباط و التدلّي بالعلّة.
    فما سوى اللّه ـ ماديّاً و مجرّداً ، جوهراً و عرضاً ـ مخلوق له ، فهو في عين الوجود قائم به قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي و مرتبط به ، و ما هذا هو حاله لايمكن أن يكون غائباً عن اللّه مستوراً عليه ، لأنّه وجوده قائم بوجود العلّة ، كما يكون المعنى الحرفي قائماً بالمعنى الاسمي.
    و إن شئت قلت : إنّ وزان الممكن بالنسبة إلى الواجب وزان الفقير المطلق بالنسبة إلى الغني ، فالعالم بحكم فقره المطلق محتاج إليه في وجوده و تحقّقه ، في حدوثه و بقائه ، و ما هذا شأنه لايمكن غيابه ، لأنّ غيابه عن العلّة مساوق للإنعدام.

الثاني : سعة وجوده دليل على علمه بالاشياء
    لقد أثبتت البراهين القاطعة على أنّ وجوده سبحانه مجرّد عن المادة والمدّة ،
1 ـ كشف المراد : ص 175.

(329)
مجرّد عن الزمان و المكان ، فوجوده فوق كلّ قيد زماني أو مكاني ، و كلّ من كان كذلك فوجوده غير محدود و غير متناه لأنّ المحدوديّة و التقييد فرع كون الشيء سجيناً في الزمان و المكان ، فهذا هو الذي لايتجاوز إطار محيطه ، و زمانه ، و أمّا الموجود المجرَّد عن ذينك القيدين ، المتجرّد من إطار الزمان و المكان بل الخالق لهما ، و للمادّة ، فهو فوق الزمان و المكان ، و المادّة ، و المدّة ، لايحدّه شيء من ذلك العوارض و لايحصر حاضر منها ، و لهذا لايمنعه المكان من الإحاطة والسيطرة على ما قبله ، و ما بعده.
    و لتوضيح هذه الحقيقة نأتي بالأمثلة التالية :
    1 ـ إنّ النملة الصغيرة الماشية على سجّادة منسوجة بألوان مختلفة لايمكنها بحكم صغر جسمها و محدوديّة حواسّها أن تشاهد إلاّ اللّون الذي تسير عليه دون بقية الألوان.
    أمّا الإنسان الواقف على طاولة ، المشرف على تلك السجّادة فإنّه يرى جميع ألوانها و يحيط بكلّ نقوشها دون إستثناء ، لا أنّه لاينظر إليها من زاوية دون زاوية كما هي في تلك النملة.
    2 ـ إنّ الإنسان الجالس في غرفة ، الناظر إلى خارجها من كوة صغيرة ، لايمكنه مشاهدة إلاّ ناقة واحدة من قافلة النوق و الابل التي تمرّ أمام الغرفه بعكس من يقف على سطح تلك الغرفة المشرف على الطريق من شاهق ، فإنّه يرى كلّ ما في تلك القافلة من الإبل و النوق جملة واحدة ، و من دون أن يمنعه عن ذلك قيد المكان.
    3 ـ إنّ الإنسان الجالس على حافة نهر جار لايرى إلاّ بعض الأمواج المائيّة التي تمرّ أمام عينيه دون بقيّة الأمواج الكائنة في منبع النهر أو مصبّه بخلاف من يراقب ذلك النهر من طائرة هليكوبتر أو من فوق مكان شاهق ، فإنّه يرى جميع التعرّجات و التموّجات في ذلك النهر جملة واحدة و في وقت واحد.


(330)
    و إنّما يرى هؤلاء الأشياء جميعها بخلاف غيره لأنّه لاينظر إليها من خلال المكان المحدود.
    هذه الأمثلة و إن كانت أقلّ بكثير عمّا يناسب ساحته سبحانه غير أنّها تكفي لالقاء بعض الضوء على الحقيقة ، و تقريب سعة علمه إلى الذهن.
    و على الجملة فاللّه المجرّد عن الزمان و المكان ، المجرّد عن كلّ حدّ و قيد ، بما أنّه لايحيط به شيء ، بل هو المحيط بالأشياء جميعاً ، لايصحّ في مجال علمه تقديم و تأخير ، و ماض و حاضر ، أو حاضر و مستقبل ، بل العالم بأجمعه حاضر لديه و هو يحيط بجميع ما خلق دونما استثناء.
    و قدعرفت أنّه لامعنى لحقيقة العلم إلاّ حضور المعلوم لدى العالم ، فبما أنّ وجوده سبحانه وجود غير متناه ، لايحدّه حدّ و لايقيّده قيد ، فهو في كلّ الأزمنة و الأمكنة ، و حاضر مع كلّ الأشياء و الموجودات ، و الاّ يلزم أن يكون وجوده محدوداً متناهياً ، و عند ذلك يتحقّق علمه بكلّ حاضر لديه ، و بكلّ ماثل فلايغيب عن وجوده شيء و لاذرّة.
    و قدأشار الإمام علي ( عليه السلام ) إلى هذه الحقيقة إذ قال :
    « إنّ اللّه عزّ و جلّ أيّنَ الأين فلا أين له ، و جلّ أن يحويه مكان ، و هو في كلّ مكان ، بغير مماسة و لامجاورة ، يحيط علماً بما فيها و لايخلو شيء منها من تدبيره » (1).

الثالث : إتقان المصنوع دليل علمه
    إنّ الكون ـ من حيث سعته ، و اشتماله على أسرار و رموز ـ أشبه ما يكون بمحيط لاتعرف سواحله التي قدغمرته الظلمة ، و غابت شواطيه في جنح المجهول ،
1 ـ الارشاد للمفيد : ص 108 ، قضايا أمير المؤمنين ( عليه السلام ).
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس