مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 341 ـ 350
(341)
لدى الذات وأمّا علمه سبحانه بسائر الأشياء فهو بارتسام صورها في ذلك المعلول الأوّل. واختاره المحقّق الطوسي.
    غير أنّه يرد عليه ما أوردناه على ما تقدّم من استلزامه خلو الذات عن العلم بالأشياء ما سوى المعلول الأوّل.
    السادس : وهو آخر الأقوال ـ حسب نقلنا ـ هو قول أكثر الفلاسفة ، وهو كون علمه سبحانه قبل الإيجاد بالأشياء علماً كليّاً ، وليس له علم بالجزئيات وانّه على حاله قبل وجود الأشياء وبعد وجودها من دون تغيّر.
    هذه هي خلاصة الأقوال وعصارتها ، وهناك تفصيلات اُخر لا يهمّنا ذكرها ، وإنّما المهم اثبات علمه بالجزئيات ممّا وقع اوسيقع أو هو واقع ، واشباع البحث يتوقّف على البحث في مقامين :
    الأوّل : اثبات علمه سبحانه بالجزئيات.
    الثاني : نقد براهين النافين لذلك.
    أمّا الأوّل فيمكن تقريره بوجهين :

1. حضور الممكن لدى الواجب في كل حين
    إنّ الكون ـ كما عرفت ـ موجود ممكن ونسبة الوجود والعدم إليه على السواء ، وإنّما تخرج من حد الاستواء بالعلّة الموجبة غير أنّ خروجه عن حد الاستواء لا يخرجه عن حد الامكان ، فهو قبل الخروج ومع الخروج وبعده ممكن بالذات ، مفتقر إلى الواجب مطلقاً وفي كل حين ولحظة ، فلا ينقطع افتقاره إلى الممكن ، بالايجاد أوّلاً ، بل هو في كل لحظة حدوثاً وبقاء قائم بالواجب مفتقر إليه مستفيض منه.
    فإذا كان هذا هو حال الممكن فلا ينفك عنه حضور لدى العلّة ، وما هذا شأنه


(342)
فهو غير غائب عن العلّة في كل لحظة وآن ، وقائم به قيام الرابط بالمعنى الاسمي ، وليس لعلمه حقيقة وراء حضوره لدى العالم.
    وعلى الجملة : فاذا كان الممكن قائماً بوجوده معالواجب ومفتقر إليه في تحقّقه ـ حدوثاً وبقاء ـ وكان قيامه معه كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، فهذا النحو من الوجود لا يقبل الغيبوبة وعدم الحضور ، فإنّ الغيبوبة مناط انعدامه وفنائه.
    وكل من شك وتردّد في علمه سبحانه بالأشياء والجزئيات فقد غفل عن حقيقة نسبة المعلول إلى علّته ، فإنّ النسبة القائمة بينهما نسبة الفقير إلى الغني ، والمتدلّي إلى المتدلّى به ، والمعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، والرابط بالطرفين.
    وهذه الكيفية نفس حقيقة الوجودات الامكانية الصادرة عنه سبحانه ، بحيث لو أخذت منه تلك النسبة لانعدمت ، وخرجت عن حيز الوجود ، أو انقلب اللامستقل إلى المستقل والممكن إلى الواجب.
    فاذا كانت الوجودات الامكانية بعامّة أجزائها في عمود الزمان بهذه الكيفيّة والحالة فكيف يصحّ أن يتصوّر لها الغيبة من جانب العلّة وما هي إلاّ فرض انعدامها وفنائها.
    لقد كشفت نظرية الحركة الجوهرية عن أنّ ذات المادة بعمقها وجوهرها في حال السيلان ، وإنّ الحركة ليست مختصّة بظواهر المادة وسطوحها ( أي بأعراضها ) بل السيلان والتدرّج والزوال والحدوث ، يعمّ جوهرها وصلبها وجودها وهويّتها أيضاً.
    وبعبارة أُخرى : انّ التغيّر والحدوث المتجدّد ، لا يختصّ بصفات المادة وعوارضها ، بل يتطرّق هذا التغيّر إلى ذات المادة بمعنى أنّ الكون بجميع ذراته في تحوّل وتغيّر مستمرّين ، وإنّما يترآى للناظر من الثبات والاستقرار والجمود في مادة الكائنات الطبيعية ليس إلاّ من خطأ الحواس إذ الحقيقة هي غير ذلك ، فكل ذرّة من ذرات المادة خاضعة للتغيّر والتبدّل والسيلان.


(343)
    قال الحكيم صدر الدين الشيرازي :
    لقد تبيّن إنّ الأجسام كلّها متجددة الوجود في ذاتها ، وإنّ صورتها صورة التغيّر ، وكل منها حادث الوجود ، مسبوق بالعدم الزماني ، كائن فاسد ، لا استمرار لهويّاتها الوجودية ، ولالطبائعها المرسلة ، والطبيعة المرسلة وجودها عين شخصياتها وهي متكثّرة ، وكل منها حادث.
    وقال :
    إنّ الطبائع الماديّة كلّها متحركة في ذاتها وجوهرها ، مسبوقة بالعدم الزماني فلها بحسب كل وجود معيّن مسبوقيّة بعدم زماني غير منقطع في الأزل. (1)
    وصفوة القول :
    إنّ الحركة ليست إلاّ تعبيراًآخر عن كيفيّة وجود الشيء ، أي أنّ لوجود الشيء كيفيّتين : إمّا وجود قارّ ، أو وجود متدرّج ، وكانت المادة متحركة في جوهرها فإنّ معنى ذلك انّ لها وجوداً سيّالاً متدرجاً ينقضي بعضه بوجود البعض الآخر.
    فإذا كان عالم المادة ـ بما أنّ وجوده متدرّج سيّال فلم يزل من حدوث إلى حدوث ـ لا ينفك عن محدث له ، وإذا كانت واقعيّة المادة هي نفس الحركة ، ولم يكن في امكانالحركة أن تقوم بنفسها ، فواقعيّتها نفس التعلّق والتدلّي مثلالمصباح الكهربائي المتّصل بالمولّد الكهربائي فإنّه قائم بذلك المولد آناً فآناً ، وهذا هو معنى قولهم : إنّ الموجودات الامكانية متدلّيات بنفسها ومتعلّقات بغيرها.
    فإذا كان مجموع العالم هذا هو حاله ، لم يزل يحتاج لامكانه المستمر وحدوثه الداعي إلى علّة تعطي الوجود في كل حين ، فهو لم يزل كعين نابعة ينبع من جانب ويصب في جانب آخر ، وليس للمادة ـ جوهراً وعرضاً ـ أي بقاء وثبات وصمود واستقرار ، بل الخلقة نفس التجدّد والتغيّر.
1 ـ الاسفار : ج 7 ، ص 297 و 280 و 292 و 293.

(344)
    إذا عرفت ذلك يظهر أنّه ليس للعالم حقيقة وراء الوجود التدريجي ، فهو سبحانه في كل حين و لحظة يفيض الوجود على الكون بجواهره و أعراضه من ذرّاته إلى مجرّداته ، و إن تصوّر الإنسان أنّ العالم خلق مرة واحدة و هو مستمر على الخلقة الاُولى ، لكنّه تصوّر مردود بالبرهان بل هناك ايجاد مستمر ، و ابداع غير منقطع يحسب الجاهل له ثباتاً و صموداً.
    وإذا كان الكون ـ بكل ما فيه ـ من الذرّة إلى المجرّة تجددات و حدوثات متلاحقة و أنّه سبحانه ـ في كل آن ـ ذو شأن أي ذو خلق و إيجاد و فعل و إبداع هذا من جانب.
    و من جانب آخر لايمكن أن يكون المعلول غائباً عن حيطة العلّة لأنّ الغيبة تضاد و قيام المعلول بعلّته كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، ينتج أنّه سبحانه محيط بالأشياء إحاطة علميّة ، و قيوميّة.
    فالعالم بذرّاته و كثراته ، فعله و خلقه و علمه و معرفته.
    و بذلك يعلم : إنّ انكار علمه سبحانه بالجزئيات ناشىء من الغفلة عن حقيقة الافاضة و الخلقة في العالم أو عن حقيقة ارتباط المعلول بالعلّة.
    و بهذا نقف على عظمة الجملة القائلة « إنّ اللّه بكل شيء عليم » فهي تعني : إنّه عالم بما مضى و مايأتي و ما هو كائن ، و هي تحكي عن سعة علمه سبحانه و إحاطته سبحانه بكل ما في هذا الكون ، و بجميع رموزه ، و أسراره وجلائله و دقائقه.
    و هذا هو ما تقصده النصوص الإسلامية في الكتاب و السنّة.
    فهو سبحانه يصف علمه بقوله : ( وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لايَعْلَمُها اِلّا هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِى الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة اِلّا يَعْلَمُها وَ لاحَبَّة فِى ظُلُماتِ الاَْرْضِ وَ لارَطْب وَ لايابِس اِلّا فِى كِتاب مُبِين ) ( الأنعام/59 ).
    و قال تعالى :
    ( قُلْ اِنْ تُخْفُوا ما فِى صُدُورِكُمْ اَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِى السَّمواتِ وَ


(345)
    مافِى الاَْرْضِ ) ( آل عمران/29 ).
    و قال تعالى : ( اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ اُنْثى وَ ما تَغِيضُ الاَْرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَىْء عِنْدَهُ بِمِقْدار ) ( الرعد/8 ).
    و قال تعالى : ( وَ لَقَدْ خَلَقْنا الاِْنْسَانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ اَقْرَبُ اِلَيْهُ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ( ق/16 ).
    و قال تعالى : ( يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِى الاَْرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنْ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها ) ( سبأ/2 ).
    و قال تعالى : ( عالِمُ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّة فِى السَّمواتِ وَ لا فِى الاَْرْضِ وَ لا اَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا اَكْبَرُ اِلّا فِى كِتاب مُبِين ) ( سبأ/3 ).
    و قال تعالى : ( وَ اِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تَكُنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ وَ ما مِنْ غائِبَة فِى السَّماءِ وَ الاَْرْضِ اِلّا فِى كِتاب مُبِين ) ( النمل/74 ـ 75 ).
    و قال تعالى : ( اَلَمْ تَرَ اَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِى السَّمواتِ وَ ما فِى الاَْرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاَثة اِلّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لاخَمْسَة اِلّا هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا اَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا اَكْثَرَ اِلّا هُوَ مَعَهُمْ اَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ القِيامَةِ اِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شيْء عَلِيمٌ ) ( المجادلة/7 ).
    و قال الإمام عليّ ( عليه السلام ) في هذا المجال :
    « ولايعزب عنه عود قطر الماء ، و لانجوم السماء ، و لاسوافي الريح في الهواء ، و لادبيب النمل على الصفا ، و لامقيل الذرّ في الليلة الظلماء. يعلم مساقط الأوراق ، و خفِيّ طرف الأحداق » (1).
1 ـ نهج البلاغة خطبة 178.

(346)
    و قال ( عليه السلام ) : « يعلم عجيج الوحوش في الفلوات ، و معاصي العباد في الخلوات ، و اختلاف النينان في البحار الغامرات ، و تلاطم الماء بالرياح العاصفات » (1).
    و قال ( عليه السلام ) : « قدعلم السرائر ، و خبر الضمائر ، له الاحاطة بكل شيء » (2).

التعبير الرفيع القرآني عن سعة علمه
    إنّ من المفاهيم المعقّدة هو تصوّر مفهوم « اللامتناهي » بحقيقته و واقعيّته.
    فإنّ الإنسان لم يزل يتعامل في حياته مع الاُمور المحدودة و لذلك أصبح تصوّر « اللامتناهي » أمراً مشكلاً في غاية الصعوبة عليه.
    فهذه المنظومة مع ما فيها من السيّارات و الكواكب رغم أنّها تعد جزءاً من مجرّتنا الواسعة الهائلة ـ و مع ذلك ـ فإنّ هذه المجرّة متناهية من حيث العدد و الأجزاء ، و من حيث الذرّات و الألكترونات ، و البروتونات ، و مع السعة و الحجم.
    إنّ أكبر عدد تعارف الإنسان العادي على استخدامه في حياته هو رقم « المليارد » الذي يتألّف من رقم واحد أمامه تسعة أصفار ( 000/000/000/1 ).
    ثمّ إنّ البشريّة بسبب تكاملها في العلوم الرياضية توصّلت إلى ما يسمّى بالأرقام النجومية ، و مع ذلك فإنّ كل ما توصّل إليه الإنسان من الأرقام ـ حتّى النجوميّة منها ـ لايتجاوز كونه عدداً متناهياً.
    إنّ القرآن الكريم يصوّر علمه سبحانه اللامتناهي بنحو خاص ، يختصّ
1 ـ نهج البلاغة : خطبة 198.
2 ـ نهج البلاغة : خطبة 86.


(347)
بالوحي ، فإنّه لايستخدم الأرقام و الأعداد الرياضية و حتّى النجوميّة منها ، لانتهائها إلى حد ، بل يأتي بمثل رائع يبيّن سعة علمه ، إذ يقول عزّ وجلّ : ( وَ لَوْ اَنَّما فِى الأَرْضِِ مِنْ شَجَرَة اَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ اَبْحُر ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ اِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( لقمان/27 ).
    إنّك لاتجد أي رقم رياضي مهما كان عظيماً و هائلاً و نجوميّاً قادر على تصوير سعة علمه سبحانه مثلما يصفها قوله : ( ما نفدت كلمات اللّه ).
    فلو قال أحد : إنّ مقدار علمه ـ بلغة الحساب ـ هو العدد الواحد أمامه عشرات الأصفار لما أفاد هذا الرقم ما أفاده قوله : ( مَا نَفَدَتْ كَلَمَاتِ اللّهِ ).
    و بذلك تقف على حقيقة قوله سبحانه : ( وَ مَا اُوْتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) فإنّه يعبّر عن محدوديّة المقاييس و المقادير و المعايير البشرية ، كما يعبّر عن ضآلة علمه و ضحالة معارفه.

دلائل النافين لعلمه سبحانه بالجزئيات
    قدعرفت البرهان الواضح على علمه سبحانه بالجزئيات و تبيّن لك أنّ الكون ـ بحكم كونه محتاجاً إلى المحدث حدوثاً و بقاء ـ و بحكم أنّ اللّه سبحانه موجد و مبدع في كل آن و لحظة ، فلايمكن للكون أن يغيب عن ساحة العلّة ، و ما هذا شأنه فهو ملازم للحضور ، و ليس للعلم حقيقة وراء ذلك.
    إذا وقفت على ذلك فهلمّ إلى دراسة ما يقوله النافون ، و ما يقيمونه من دليل ، و هو لايتعدّى دليلاً واحداً و قدعبّر عنه بتعابير مختلفة.

الأوّل : العلم بالجزئيات يلازم التغيّر في علمه
    لو علم سبحانه بالجزئي على وجه يتغيّر لزم تغيّر علمه تعالى عند تغيّر المعلوم و هو محال.


(348)
    و قد أوضحه العلاّمة بقوله : احتجّ الحكماء لنفي علمه بالجزئيات الزمانيّة بأنّ العلم يجب تغيّره عند تغيّر المعلوم و إلاّ لانفتّت المطابقة ، لكن الجزئيات الزمانيّة متغيّرة فلو كانت معلومة للّه تعالى لزم تغيير علمه تعالى ، و التغيّر في علم اللّه تعالى محال.
    و قال العلاّمة ابن ميثم البحراني في هذا الصدد :
    و منهم من أنكر كونه عالماً بالجزئيات على الوجه الجزئي المتغيّر ، و إنّما يعلمها من حيث هي ماهيّات معقولة ، و حجّتهم أنّه لو علم كون زيد جالساً في هذه الدار فبعد خروجه منها إن بقي علمه الأوّل كان جهلاً و إن زال لزم التغيّر ، لأنّ واجب الوجود ليس بزماني ولابمكاني ، و ليس ادراكه بالآلة و كل مدرك بجزئي زماني من حيث هو متغيّر ، يجب أن يكون كذلك ، فواجب الوجود لايدرك الجزئي من حيث هو متغيّر (1).
    وأجاب عنه المحقّق الطوسي بعبارة وجيزة بقوله : « و تغيّر الاضافات ممكن ».
    و أوضحه العلاّمة الحلّي بقوله : « إنّ التغيّر هذا إنّما هو في الاضافات لا في الذات و لا في الصفات الحقيقيّة كالقدرة التي تتغيّر نسبتها ، و اضافتها إلى المقدور عند عدمه ، و إن لم تتغيّر في نفسها ، و تغيّر الاضافات جائز لأنّها اُمور اعتبارية لاتحقّق لها في الخارج (2).
    و حاصله أنّ العلم كالقدرة فلو استلزم تعلّق العلم بالجزئيات تغيّره عند تغيّر المعلوم يلزم أن يستلزم التغيّر في قدرته أيضا ، عند تعلّقها بالجزئيات لأنّ الجزئيات التي تتعلّق بها المقدرة هي في مسير التغيّر و التبدّل و التحوّل و التطوّر ، و القدرة من صفات الذات فما هو الجواب في جانب القدرة هو بعينه جار في جانب العلم.
1 ـ قواعد المرام : ص98
2 ـ كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 176.


(349)
    و يمكن توضيحه بوجه آخر أشار إليه المحقّق القوشجي في شرحه لتجريد الاعتقاد إذ قال : « إنّ علمه تعالى ليس زمانيّاً أي واقعاً في زمان كعلم أحدنا بالحوادث المختصّة بأزمنة معيّنة فإنّه واقع في زمان مخصوص ، فما حدث منها في ذلك الزمان كان واقعاً في الحال ، و ما حدث قبله أو بعده كان واقعاً في الماضي أو المستقبل ، و أمّا علمه تعالى فلااختصاص له بزمان أصلاً فلايكون ثمّة حال و ماض و مستقبل ، فإنّ هذه صفات عارضة للزمان بالقياس إلى ما يختص بجزء منه إذ الحال معناه زمان حكمي هذا ، و الماضي زمان قبل زمان حكمي ، و المستقبل زمان هو بعد زمان حكمي هذا فمن كان علمه أزليّاً محيطاً بالزمان و غير محتاج في وجوده إليه ، وغير مختص بجزء معين من أجزائه ، لايتصوّر في حقّه حال و لاماض و لامستقبل فاللّه سبحانه عالم عندهم بجميع الحوادث الجزئيّة و أزمنتها الواقعة التي هي فيها لامن حيث إنّ بعضها واقع في الآن ، و بعضها في الماضي و بعضها في المستقبل ، بل يعلمها علماً شاملاً متعالياً عن الدخول تحت الأزمنة ثابتاً أبد الدهر ، و بعبارة اُخرى إنّه تعالى لمّا لم يكن مكانياً كان نسبته إلى جميع الأمكنة على السواء فليس فيها بالقياس إليه قريب و بعيد و متوسط كذلك لما لم يكن هو تعالى و صفاته الحقيقيّة زمانيّة لم يتصف الزمان مقيساً إليه بالمعنى ، و الاستقبال و الحضور بل كان نسبته إلى جميع الأزمنة على السواء ، فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له كل في وقته ، و ليس في علمه كان و كائن و سيكون ، بل هي حاضرة عنده في أوقاتها ، فهو عالم بخصوصيّات الجزئيات و أحكامها لكن لامن حيث دخول الزمان فيها بحسب أوصافها الثلاثة إذ لاتحقّق لها بالنسبة إليه تعالى ، و مثل هذا العلم يكون ثابتاً مستمرّاً لايتغيّر أصلاً كالعلم بالكلّيّات (1).
    هذا ما ردّ به القوم على الإشكال من الجواب.
    و يمكن توضيحه بوجه آخر من دون تمسّك بأنّ التغيّر في الاضافات بأن نقول إنّ الإشكال إنّما يتوجّه إذا كان علمه تعالى حصولياً و إنّه سبحانه يصل إلى الجزئيات
1 ـ شرح التجريد للقوشجي : ص 314.

(350)
بالصور العلميّة المرتسمة القائمة بذاته سبحانه ، و قدعرفت أنّ علمه بالجزئيات علمه حضوري ، و أنّ الأشياء بهوياتها الخارجيّة ، و حقائقها العينيّة « فعله » سبحانه و في الوقت نفسه « علمه » فلامانع من القول بطروء التغيّر في علمه سبحانه أثر طروء التغيّر في الموجودات العينيّة.
    فإنّ التغيّر الممتنع على علمه إنّما هو على علمه الذاتي لا على علمه الفعلي ، لأنّ طروء التغيّر في العلم الذاتي يستلزم طروء الحدوث في ذاته سبحانه و هو لايجتمع في وجوب وجوده بخلاف العلم الفعلي فإنّ العلم في مقام الفعل عبارة عن كون نفس الفعل « علمه » كما أنّ الصور الذهنيّة مع كونها فعلاً للنفس ، علم لها.
    و بذلك يظهر ضعف اشكال آخر هو : إنّ ادراك الجزئيات إنّما يحتاج إلى آلة جسمانيّة و هو سبحانه منزّه عن ذلك لكونه منزّهاً عن الجسمانيّة.
    فقدظهر من البيان الحاضر أنّ هذا الاشكال ناشىء من الاعتقاد بأنّ علمه تعالى علم حصولي ، حاصل له تعالى عن طريق أعمال الآلات و الأدوات الجسمانيّة للأبصار و الإدراك مع أنّ علمه تعالى نفس فعله لاالصور المنتزعة عن فعله.
    و ربّما يستفاد هذا الجواب ممّا ذكره المحقّق القوشجي في شرحه المذكور إذ قال :
    إنّ ادراك المتشكلات إنّما يحتاج إلى آلة جسمانيّة إذا كان العلم حصول الصورة ، و أمّا إذا كان اضافة محضة أو صفة حقيقيّة ذات اضافة بدون الصورة فلاحاجة إليها (1).
    
1 ـ شرح تجريد الاعتقاد للقوشجي : ص 314.
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس