مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 351 ـ 360
(351)
الثاني : العلم بالجزئيات يستلزم الكثرة في الذات
    إنّ العلم صورة مساوية للمعلوم مرتسم في العالم و لاخفاء في أنّ صور الأشياء المختلفة ، مختلفة ، فيستلزم كثرة المعلومات و كثرة الصور في الذات الأحدية من كل وجه.
    و لكن الاشكال مبني على كون علمه بالأشياء علماً حصولياً مرتسماً في ذاته سبحانه كارتسام الأشياء في النفس الإنسانية ، فيلزم حدوث الكثرات في الذات الأحدية ، و لكنّه غير تام لأنّ علمه بالأشياء نفس هويّاتها الخارجيّة الحاضرة عنده.
    و هذا العلم أقوى من ارتسام صور الأشياء.

الثالث : انقلاب الممكن واجباً
    إنّ العلم لو تعلّق بالمتجدّد ، قبل تجدّده ، لزم وجوبه ، و إلاّ لجاز أن لايوجد فينقلب علمه تعالى جهلاً ، و هو محال.
    و بعبارة اُخرى : إنّ علمه لايتعلّق بالحوادث قبل وقوعها ، و إلاّ يلزم أن تكون تلك الحوادث ممكنة و واجبة معاً ، و التالي باطل للتنافي بين الوجوب و الامكان.
    و بيان الملازمة أنّها ممكنة لكونها حادثة ، و واجبة أيضاً ، و إلاّ أمكن أن لايوجد فينقلب علمه جهلاً.
    و قدأجاب عنه المحقّق الطوسي بقوله :
    « و يمكن اجتماع الوجوب و الامكان باعتبارين ».
    و أوضحه العلاّمة الحلّي بقوله : إن أردتم وجوب علمه تعالى أنّه واجب الصدور عن العالم فهو باطل لأنّه تعالى يعلم ذاته ، و يعلم المعدومات ( فليس العلم هنا مصدر للمعلوم أي المعدوم ).
    و إن أردتم وجوب المطابقة لعلمه فهو صحيح لكن ذلك وجوب لاحق


(352)
لاسابق ، فلاينافي في الامكان الذاتي (1).
    وإن شئت قلت : إنّ العلم إنّما هو تابع للمعلوم فلايكون مفيداً لوجوبه ، فالعلم تعلّق بوقوعه بوصف أنّه ممكن بالذات فهي ممكنة لذواتها ، واجبة لغيرها ، و هو تعلّق علم الباري تعالى بوجوبها ، و لاتنافي بين الامكان بالذات و الوجوب بالغير.
    و بعبارة اُخرى : إنّ الممتنع هو اجتماع « الممكن بالذات » مع « الواجب بالذات ».
    و أمّا اجتماع « الممكن بالذات » مع « الواجب بالغير » فهو أمر ممكن و جائز ، و المعاليل عند وجود العلّة التامة ممكنات بالذات ، واجبات بالغير.
    و على ذلك فلو تعلّق علمه سبحانه بوجود حادث في وقت كذا ، فعلمه سبحانه لايخرجه عن الامكان بالذات ، سواء قلنا بأنّ علمه سبب ، أو غير سبب ، إذ غاية ما يقتضي كون علمه سبباً ، هو وجوب وجوده بالغير ، و هو يجتمع مع الممكن بالذات.
    فلو تعلّق علمه سبحانه بوقوع حادث في ظرف خاص الحادث و إن كان يقع قطعاً و لايتخلّف ، غير أنّ ذلك الوقوع القطعي ، لايخرجه عن الامكان الذاتي.
    لأنّ معنى الامكان الذاتي مساواة الشيء إلى الوجود و العدم في حد الذات و هو محفوظ بعد لحوق العلّة و اتّصافه بالوجوب الناشئ عن جانب العلّة ، فهو إذن ممكن ذاتي و إن كان واجباً بالغير.
    و بذلك تقف على أنّه لاحاجة إلى القول بأنّ علمه ليس سبباً و مصدراً للمعلوم (2).
1 ـ كشف المراد : ص 176.
2 ـ كما عليه الفاضل القوشجي في شرحه على التجريد : ص414.


(353)
    فإنّ التحاشي عن ذلك في غير محلّه بل يجب أن يقال إنّ الحادث الذي يقع في ظرف خاص لايخرج عن حد الامكان بعد تعلّق علمه ، و حصول العلّة التامّة لوجوده ، فالعالم كلّه ممكن لكن بالذات ، واجب بالغير.

الواحد و الثمانون : « العظيم »
    قدورد لفظ العظيم مرفوعاً و منصوباً في القرآن 107 مرّة و وقع وصفاً له في خمسة موارد :
    1 ـ قال سبحانه : ( لَهُ ما فِى السَّمواتِ وَ ما فِى الاَْرْضِ وَ هُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمِ ) ( الشورى/4 ).
    2 و 3 ـ و قال سبحانه : ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) ( الواقعة/74و96 ).
    4 ـ و قال سبحانه : ( اِنَّهُ كانَ لايُؤْمِنُ بِاللّهِ الْعَظِيمِ ) ( الحاقّة/33 ).
    5 ـ و قال سبحانه : ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) ( الحاقّة/52 ).
    بناءاً على أنّ العظيم في الآيات الثلاث صفة للرب لا للمضاف ، أمّا معناه فقال ابن فارس : العِظَم يدل على كبر و قوة ، و عظمة الذراع : مستغلظها ، و من هذا الباب العظم المعروف سُمي بذلك لقوّته و شدّته ، قال الراغب : و عظم الشيء أصله كبر عظمه ، ثم استعير لكل كبير فاُجري مجراه محسوساً كان أو معقولاً ، عيناً كان أو معنى.
    و ما ذكره الراغب على طرف النقيض ممّا ذكره ابن فارس فإنّه جعل الأصل هو الكبر و القوّة ، و انّ اطلاقه على العظام لمناسبة موجودة بينهما ، و الظاهر من مفردات الراغب عكس ذلك.


(354)
    و قدجاء العظيم وصفاً لعدة اُمور في القرآن المجيد :
    العذاب ، البلاء ، الأجر ، الفوز ، الفضل ، اليوم ، السحر ، الخزي ، العرش ، الكيد ، القرآن ، الكرب ، البهتان ، الطود ، الحظ ، الظلم ، الذبح ، الحنث ، النبأ ، القسم ، الخلق ، إلى غير ذلك ممّا يوصف به.
    و أمّا عظمته سبحانه فهو عظيم ذاتاً و وصفاً و فعلاً و كلّ ما لغيره سبحانه من العظمة فهو يرجع إليه.

الثاني و الثمانون : « العزيز »
    ورد لفظة « العزيز » في الكتاب العزيز 148 مرّة و وقع وصفاً له سبحانه 89 مرّة و إقترن بصفات اُخر : الحكيم ، ذوانتقام ، القوي ، الحميد ، الرحيم ، العليم ، الغفور ، الوهّاب ، الغفّار ، الكريم ، المقتدر ، الجبّار.
    قال ابن فارس : له معنى واحد يدلّ على شدّة و قوّة و ما شاكلهما من غلبة وقهر.
    و قال « الخليل » ربّما يستعمل فيما يكاد لايوجد ، قال الخليل : عزّ الشيء حتى يكاد لايوجد ، و لكن قال التعبير بلفظ آخر أحسن : هذا الذي لايكاد يقدر عليه ، أي صعب المنال ، يقال عزّ الرجل بعد ضعف ، و أعززته إن جعلته عزيزاً.
    و قال الراغب العزّة حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب من قولهم : أرض عزاز أي صلبة.
    قال تعالى : ( أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَاِنَّ الْعِزَّةَ للّهِ جَمِيعاً ) و العزيز الذي يقهِر و لايقهر.
    و ما ذكره العلماء هو الظاهر من موارد استعماله في القرآن الكريم ، و لكن يحتاج إلى دقّة و لطف. مثلاً قوله سبحانه : ( عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ) ( التوبة/128 ) ،


(355)
المراد صعب و هو راجع إلى المعنى الأصلي للكلمة ، و هو القوي لكون كل صعب مقاوماً.
    قال سبحانه : ( وَ عَزَّنِى فِى الْخِطابِ ) ( ص/23 ) أي غلبني في الخطاب.
    و قول قوم شعيب له : ( وَ لَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَ ما اَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيز ) ( هود/91 ) أي قويّ و غالب.
    و على أي تقدير فقدجاء وصفاً له سبحانه في موارد كثيرة كما عرفت.
    قال سبحانه : ( وَ ما مِنْ اِله اِلّا اللّهُ وَ اِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ( آل عمران/62 ).
    و قال سبحانه : ( وَ ما النَّصْرُ اِلّا مِنْ عِنْدِ اللّهِ العَزِيزُ الْحَكِيمٌ ) ( آل عمران/126 ).
    و بما أنّه أُستعمل مع اسم « الحكيم » تارة و مع « ذي انتقام » ثانية و مع « القوي » ثالثة ، يعرب عن أنّه بمعنى الغالب القاهر الذي لايغلب و هو « قوي » في الوقت نفسه « حكيم » يقهر عن حكمة و ينتقم عن عزّ و قدرة و لو اجتمع مع « الرحيم » و « الغفور » يعرب عن أنّه غالب و في الوقت نفسه سبقت رحمته كلّ شيء فلايكون عزّه سبباً لعدم رحمتة و تجاوزه.
    و بذلك يعلم أنّ ما احتمله الغزالي في تفسير « العزيز » تفسير غير تام ، قال : العزيز هو الذي يقّل وجود مثله ، و تشتد الحاجة إليه ، و يصعب الوصول إليه فما لم تجتمع هذه المعاني الثلاثة فيه لايطلق عليه اسم « العزيز » ، فكم من شيء يقل وجوده و لكن لايحتاج إليه فلايسمّى عزيزاً ، و قديكون بحيث لامثل له و الانتفاع به عظيم جداً و لكن يسهل الوصول إليه فلايسمّى عزيزاً كالشمس فإنّها لامثل لها و الانتفاع بها عظيم جداً ، و لكنّها لاتوصف بالعزّة فإنّه لايصعب الوصول إليها ، و أمّا إذا اجتمعت المعاني في شيء فهو « العزيز » (1).
1 ـ لوامع البينات : ص 195 نقلا عن الغزالي.

(356)
    يلاحظ عليه : إنّ تفسير « العزيز » بمعنى ما يقل وجود مثله مع ماعرفت من كلام ابن فارس في حقّه غير تام في تفسير هذا الاسم في كثير من الايات ، فإنّ تفسير قوله سبحانه : ( وَ مَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) بأنّه ما النصر إلاّ من عند اللّه الذي لامثل له و لانظير غير منسجم لما تبيّن في محلّه ، إنّ كل اسم يقع في آخر الآية يجب أن يكون متناسب مع ما ورد في الاية من المعنى ، وأي صلة بين النصر و بين كونه سبحانه لانظير له ولامثيل.
    و روي عن الأصمعي أنّه قال : كنت في البادية و أقرأ القرآن بصوت عال فقرأت الآية التالية بهذا النحو :
    ( وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا اَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( المائدة/38 ).
    و كانت هناك إعرابيّة تسمع صوتي ، فقالت لي : لو كان غفوراً رحيماً لما أمر بقطع أيديهما ، فراجعت القرآن فرأيت أنّني أخطأت في التلاوة و الآية ( و اللّه عزيز حكيم ).
    هذا ما فهمته الاعرابية بصفاء فطرتها ، و على ذلك فلامحيص عن تفسير العزيز في جميع الموارد على النحو الذي ذكره « ابن فارس » من القهر و القوّة و الشدّة.
    قال الصدوق معناه : انّه لايعجزه شيء و لايمتنع عليه شيء أراده ، فهو قاهر للأشياء غالب غير مغلوب فقد يقال في المثل « من عزّ بذّ » أي من غلب سلب ، وقوله حكاية عن الخصمين ( و عزّني في الخطاب ) أي غلبني في مجاذبة الكلام ، وقديقال للملك عزيز كما قال اُخوة يوسف له « يا أيّها العزيز » و المراد به يا أيّها الملك (1).
    و الظاهر أنّ استعماله في الملك لمناسبة بينه و بين معناه فإنّ الملك يلازم
1 ـ التوحيد للصدوق : ص 206.

(357)
القدرة و القهر و الغلبة.
    نعم يمكن تصحيح ما ذكره الغزالي بالبيان التالي و هو : إنّ من ليس له مثيل و لانظير هو الغالب على الاطلاق دون ماإذا كان له مثيل فإنّه قديغلب كما أنّ لازم قوله عزيزاً قاهراً عدم كونه محدوداً فانّ الحدّ آية المقهورية و لعلّه إلى ذلك يشير سبحانه :
    ( سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ ) ( الصافّات/180 ).
    و على أي تقدير فتفسير العزيز و ما يشترك معه في الاشتقاق من قوله : « عزّزنا » « عزّاً » « عزّتك » « أعزّ » إلى غير ذلك حَسَب ما ذكرنا من المعنى الأصلي يحتاج إلى دقّة و أعمال قريحة.

الثالث و الثمانون : « العفو »
    لقدجاء العفو في الذكر الحكيم 5 مرّات و وقع وصفاً له سبحانه في جميع مواردها و اقترن باسم الغفور تارة و القدير اُخرى.
    قال سبحانه : ( لَيَنْصُرَنَّهُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) ( الحج/60 ).
    و قال تعالى : ( وَ اَنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَ زُوراً وَ اَنَّ اللّهَ لَعَفُوٌ غَفُورٌ ) ( المجادلة/2 ).
    و قال تعالى : ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ اَيْدِيكُمْ اِنَّ اللّهَ كانَ عَفُوّاً غَفُوراً ) ( النساء/43 ).
    و قال تبارك و تعالى : ( فَاُولئِكَ عَسى اللّهُ اَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ) ( النساء/99 ).
    و قال تعالى : ( اِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَو تُخْفُوهُ اَوْ تَعْفُو عَنْ سُوء فَاِنَّ اللّهَ كانَ عَفُوّاً قَدِيراً ) ( النساء/149 ).


(358)
    و أمّا معناه فقد قال ابن فارس : له أصلان يدل أحدهما على ترك الشيء ، و الآخر على طلبه ثمّ ترجع إليه فروع كثيرة لاتتفاوت في المعنى.
    فالأوّل : العفو ، عفو اللّه تعالى عن خلقه و ذلك تركه إيّاهم فلايعاقبهم فضلاً منه.
    قال الخليل كل من استحقّ عقوبة; فتركته فقدعفوت عنه (1).
    و الظاهر أنّ العفو غير الترك بل هو المحو و الازالة يقال عفت الديارإذا درست و ذهبت ، قال لبيد في معلّقته :
عفت الديار محلّها فمقامها بمنى تأبّد غولها فَرِجامها
    فعلى هذا العفو في حقّ اللّه تعالى عبارة عن إزالة آثار الذنوب بالكلّية فيمحوها من ديوان الكرام الكاتبين ولايطالبه بها يوم القيامة ، و ينسيها قلوبهم كي لايخجلوا عند تذكرها ـ و أحياناً ـ يثبّت مكان كل سيّئة حسنة.
    قال تعالى : ( وَ يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) ( الرعد/39 ).
    و قال تعالى : ( فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَنات ) ( الفرقان/70 ) (2).
    و على هذا فالعفو أبلغ من المغفرة لأنّ الغفران يشعر بالستر ، و العفو يشعر بالمحو ، و المحو أبلغ من الستر.
    قال الصدوق : العَفوّ اسم مشتق من العفو على وزن فعول ، و العفو : المحو يقال عفا الشيءإذا امتحى و ذهب و درس ، و عفوته أنا إذا محوته ، و منه قوله عزّ وجلّ : ( عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) ( التوبة/43 ) أي محى اللّه عنك إذنك لهم.
1 ـ و الأصل الثاني ذكره في آخر كلامه قال : و الأصل الآخر الذي معناه : الطلب ، يقال : اعتقيت فلانا : اذا طلبت معروفه. و هذا الاستعمال قليل.
2 ـ لوامع البينات : ص 338.


(359)
    و جعل « الراغب » الأصل لمعنى العفو هو القصد (1) و قال العفو : القصد لتناول الشيء يقال عفاه و اعتفاه أي قصده متناولاً ما عنده ، و عفت الريح الدار : قصدتها متناولة آثارها ، و عفوت عنه قصدت إزالة ذنبه صارفاً عنه.
    ولايخفى أنّ ما ذكره ابن فارس أقرب بموارد استعمال العفو في الذكر الحكيم.
    قال سبحانه : ( وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النّاسِ ) ( آل عمران/134 ) فلو كان العفو متضمّناً معنى القصد لقال و العافين للناس.
    و قال سبحانه : ( يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتابِ وَ يَعْفُو عَنْ كَثِير ) ( المائدة/15 ).
    وما ذكره الراغب هو الأصل الثاني في كلام « ابن فارس » حيث جعل له أصلين أحدهما ترك الشيء و الآخر طلبه و لكلّ موارد ، و المعنى الثاني يناسب قوله سبحانه : ( يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) ( البقرة/219 ).
    و أمّا حظ العبد من هذا الاسم فهو أن يعفو عمّن ظلمه و لايقطع برّه عنه بسب تلك الاساءة و لايذكر ما تقدّم من أنواع الجفاء شيئاً من الشخص الذي يريد أن يعفو عنه ، قال تعالى : ( وَ لْيَعْفُو وَ لْيَصْفَحُوا ) ( النور/22 ).
    فإنّه متى فعل ذلك فاللّه سبحانه أولى أن يفعل به ذلك.
    روى الرازي عن عليّ ( عليه السلام ) انّه دعا غلاماً له فلم يجبه ، فدعاه ثانياً فلم يجبه و هكذا ثالثا فقام إليه فرآه مضطجعاً ، فقال : يا غلام أما سمعت الصوت؟ فقال : بلى سمعت ، قال : فما منعك من الاجابة؟ قال : ثقتي بحلمك و اتكالي على عفوك ، فقال عليّ ( عليه السلام ) : أنت حرّ لوجه اللّه تعالى بهذا الإعتقاد (2).
1 ـ و لعلّه الأصل الثاني في كلام ابن فارس.
2 ـ لوامع البينات : ص 338.


(360)
الرابع و الثمانون : « العليّ »
    و قدورد في الذكر الحكيم أحد عشر مرّة و وقع وصفاً له سبحانه في ثمانية موارد ، و استعمل مع الكبير تارة و العظيم اُخرى و الحكيم ثالثة.
    قال سبحانه : ( وَ لايَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ العَلِىُّ الْعَظِيمُ ) ( البقرة/255 ).
    و قال سبحانه : ( وَ اَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الباطِلُ وَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ ) ( لقمان/30 ).
    و قال سبحانه : ( اَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِى بِاذِنِهِ ما يَشاءُ اِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ ) ( الشورى/51 ).
    و قال سبحانه : ( فَاِنْ اَطَعْنَكُمْ فَلاتَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً اِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيّاً كَبِيراً ) ( النساء/34 ).
    أمّا معناه فقدقال « ابن فارس » : للعلوّ أصل واحد يدلّ على السمو و الارتفاع لايشذّ عنه شيء من ذلك ، العلاء و العلو ، و يقولون : « تعالى النهار » أي ارتفع.
    قال الخليل : أصل هذا البناء ، العلوّ ، فأمّا العلاء فالرفعة ، و أمّا العلو فالعظمة و التجبّر ، يقولون علا الملك في الأرض علواً كبيراً.
    و على ذلك فالمراد من توصيفه سبحانه بعليّ هو علوّه من أن يحيط به أفكار المفكّرين ، و وصف الواصفين ، و علم العارفين ، فهو تعالى لعلوّه لاتناله أيدي الخلوقات و لعظمته لايعهده كثرة الخلق ، فهو العليّ المطلق لاغيره ، فإنّ العلو من الكمال و حقيقةُ كل كمال قائم به.
    قال الصدوق في تفسير اسم العلي : إنّه تعالى عن الأشباه و الأنداد و عمّا خاضت فيه وساوس الجهّال ، و ترامت إليه فكر الضلاّل فهو عليّ متعال عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس