مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 381 ـ 390
(381)
يفعل ، يعرب عن عدم كفاية الذات في مقام الفاعليّة بل تحتاج إلى ضم ضميمة باسم المشيئة و اللّه سبحانه تام في الوجود كما هو تام في الفاعليّة ، لايحتاج في وجوده و فعله إلى شيء سواه ، فيجب في توصيفه سبحانه بالقدرة و الاستطاعة ، تجريده عن شوب النقص و العيب.
    و لعلّنا لانقدر على تعريف قدرته بشكل جامع و مانع مناسب لذاته إلاّ أنّه يمكن القاء الضوء عليه بالتقسيم التالي.
    إنّ نسبة الفعل إلى الفاعل لاتخلو عن أقسام ثلاثة :
    1 ـ أن يكون ملازماً للفعل غير منفك عنه كالنار بالنسبة إلى الاحراق.
    2 ـ أن يكون ملازماً لتركه فيكون ممتنعاً عليه كالنار بالنسبة إلى البرودة.
    3 ـ أن يكون الفاعل غير مقيّد بواحد من النسبتين فلايكون الفعل ممتنعاً عليه حتى يتقيّد المبدء بالترك و لاالترك ممتنعاً عليه حتى يتقيّد بالفعل ، فيعود الأمر في تعريف القادر إلى كونه مطلقاً غير مقيّد بشيء من الفعل و الترك ، و لعلّ هذا التعريف أسهل و أتقن ما في الباب.
    و قدقلنا غير مرّة : إنّ الهدف من توصيفه سبحانه بهذه الصفات الكماليّة هو اثبات الكمال على ذاته و تنزيهه عن النقص و العيب فلو كان في اجراء بعض الصفات بما لها من المفاهيم العرفيّة شيء ملازم لشوب النقص ، وجب تجريدها عنه ، و تمحيضها في الكما ل المحض ، و قدتعرّفت في تفسير الحياة بأنّ ما ندركه من معناه من الموجودات الطبيعيّة يمتنع توصيفه سبحانه بها لاستلزامه كون الواجب موجوداً مادّياً قابلاً للفعل و الانفعال ، بل يجب في اجراء الحياة عليه تجريدة عن كل ما يلازم شوب النقص و وصمة الامكان.


(382)
دلائل قدرته سبحانه :
    استدلّ على قدرته سبحانه باُمور :

الأوّل : الفطرة
    فكلّ إنسان يجد في قرارة نفسه و صميم ذاته و وجدانه ميلاً و انجذاباً إلى قدرة فائقة يستمدّ منها العون عند الشدائد و نزول المحن ، و يعتقد كونه قادراً على تخليصه و مساعدته و إمداده. إن وجود تلك الفطرة و ذلك الانجذاب حاك عن وجود تلك القدرة المطلقة ، و إلاّ يلزم لغويّة وجودها في الإنسان ، و ليس المراد منها التصوّر و التفكّر حتّى يقال إنّ الوهم لايدلّ على وجود المتوهّم بل المراد هو الميل الباطن و الانجذاب الذاتي من دون محرّك و حافز ، فكل إنسان عند ما يواجه المشاكل و الشدائد يجد من أعماق نفسه أنّ هناك موجوداً قادراً عالماً بمشاكله و هو قادر على دفعها عنه.
    نعم بعد ما ارتفعت الشدّة ، و هدأت الأوضاع ربّما يغفل عنها ، و هذا من خصائص الاُمور الفطرية حيث تتجلّى في ظروف خاصّة و تتضاءل في ظروف اُخرى.
    قال سبحانه : ( قُلْ أَرَأَيْتُكُمْ اِنْ اَتاكُمْ عَذابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ اِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام/40و41 ).
    فالفطرة كما تهدي إلى أصل وجود الصانع ، كذلك تهدي إلى صفاته.

الثاني : مطالعة النظام الكوني
    إنّ مطالعة النظام الكوني بما فيه من دقيق و جليل ، و ما فيه من دقة و روعة ، و جمال و بهاء و اتقان و احكام ، تهدي أنّ فاعله و موجده قادر ، قام بفضل قدرته على ايجاد عالم بديع. و قدخدم العلم الحديث بتوضيح هذا الوصف خدمة عظيمة ، و كلّما تكاملت العلوم الطبيعية ازداد علم الإنسان بسعة قدرته سبحانه و


(383)
يقف على ما في هذا النظام من السنن و القوانين التي تحيّر العقول.
    و يكفي في ذلك إذا لاحظنا النظام السائد على الكون بدءاً من السماء و ما فيها من نجوم و كواكب و ما فيها من منظومات و مجرّات و مروراً بالأرض ، و ما فيها من عوالم كعالم الحيوان وعالم البحار و عالم النبات وعالم الحشرات ، و ما فيها من بدائع الصنع و رائع الخلق. ـ فإذا لاحظنا ـ تتمثّل قدرته تعالى أمام أعيننا قدرة لايمكن تحديدها ، و على ذلك فكما أنّ وجود كل ممكن يدلّ على وجود صانع له فكذا صفات المصنوع كاشفة عن صفات الصانع ، فالملحمة الشعرية كما تحكي عن وجود الشاعر ، تعرب عن مدى مقدرته الخياليّة و ذوقه الخلاّق ، حيث استطاع بذوقه المتفوّق على التحليق في آفاق الخيال ، و سبك المعاني في قوالب الألفاظ الجميلة.فكتاب « القانون » لابن سينا في الطب و « الشفاء » له في الفلسفة ، و « الملحمة البطولية » للفردوسي تعكس قدرة المؤلّفين و إحاطتهم على الطبّ و الفلسفة و خلق المفاهيم و المعاني في عالم الخيال.
    يقول الإمام أمير المؤمنين في بعض خطبه :
    « و أرانا من ملكوت قدرته و عجائب ما نطقت به آثار حكمته ... » (1).

الثالث : معطي الكمال لايكون فاقداً له
    و من دلائل قدرته أن خلق الإنسان و خلق غيره من الأشياء و أعطى لكلّ موجود حرّ مختار قدرة يقتدر بها على ايجاد البدائع و الغرائب من الأشياء ، و معطي هذا الكمال و مفيضه لايكون فاقداً له ، و الذي أظن إنّ المقام غني عن إقامة البرهان ، إنّما الكلام في فروع هذا الوصف التي مهمها عبارة عن سعة قدرته لكل شيء.
1 ـ نهج البلاغة : الخطبة87 المعروف بخطبة الاشباح.

(384)
سعة قدرته لكلّ شيء
    الكمال المطلق الذي ينجذب إليه الإنسان في بعض الحالات و الأحايين ، يجب أن يكون قادراً على كل شيء ممكن و لايتبادر إلى الأذهان أبداً ـ لولا تشكيك المشكّكين ـ إنّ لقدرته حدوداً و إنّه بالتالي قادر على شيء دون شيء و لكن الأبحاث الكلاميّة طرحت أسئلة في المقام و هي :
    1 ـ هل هو سبحانه قادر على القبيح أو لا؟
    2 ـ هل هو قادر على خلاف معلومه أو لا؟
    3 ـ هل هو قادر على مثل مقدور العبد أو لا؟
    4 ـ هل هو قادر على عين مقدور العبد أو لا؟
    و لاتنحصر الأسئلة المطروحة في المقام فيما ذكر بل هناك أسئلة أخرى ، فإليك بيانها :
    5 ـ هل هو سبحانه قادر على خلق نظيره؟
    6 ـ هل هو سبحانه قادر على جعل الشيء الكبير في جوف الشيء الصغير؟
    7 ـ هل هو سبحانه قادر على خلق شيء لايقدر على إفنائه أو تحريكه من جانب إلى جانب؟
    و هذه الأسئلة الثلاثة الأخيرة لايختلف فيها أحد من المتكلّمين و لأجل ذلك لايعدّ البحث فيها ملاكاً لوجود الخلاف ، و إليك البحث عن تاريخ المسألة وفاقاً و خلافاً فنقول :
    لم يكن أحد من المسلمين مخالفاً في سعة قدرته أخذاً بالنصوص الواردة في الكتاب الحكيم ، إلى أن حدث الخلاف في عموم قدرته على اُمور أربعة :
    الأمر الأول : قدرته على القبيح من جانب المتكلّم المعتزلي الشهير


(385)
« إبراهيم ابن سيّار » ( النظام ) (1) المتوفّى عام 231 فقدخالف فيها و قال بعدم قدرته على القبيح و إلاّ لصدر منه فيكون فاعله جاهلاً أو محتاجاً و هو محال ، فيكون الفعل محالاً فلايقدر عليه (2).
    الأمر الثاني : من جانب « عبّاد بن سليمان السيمري » حيث قال :
    إنّ اللّه لايقدر على خلاف معلومه.أي ما علم اللّه وقوعه ، وجب وقوعه و ما علم عدمه ، يمتنع وقوعه ، إذ لو لم يقع ما علم و قوعه ، أو وقع ما علم عدمه ، لزم انقلاب علمه تعالى جهلاً ، و انقلاب علمه تعالى جهلاً محال (3).
    الأمر الثالث : من جانب البلخي المتوفّى عام 319 حيث قال : لايقدر على مثل مقدور عبده لأنّه طاعة أو سفه أو عبث ، و الكل عليه محال (4).
    الأمر الرابع : من جانب الجبّائيين : أبي علي و ولده أبي هاشم (5).
    فقال : لايقدر على عين مقدور العبد و إلاّ لاجتمع قادران على مقدور واحد و هو محال ، و إلاّ لزم وقوعه نظراً إلى إرادة أحدهما ، و عدمه نظراً إلى كراهة الآخر ، فيكون واقعاً و غير واقع ، و هذا خلف (6).
1 ـ راجع في ترجمة النظام : الملل و النحل للشهرستاني : ج 1 ، ص 53 ـ 54 ، و التبصير في الدين للاسفرايني : ص 70 ، و الجزء الثالث من موسوعتنا « بحوث في الملل و النحل ».
2 ـ نقله الفاضل السيوري في « ارشاد الطالبين » في شرح نهج المسترشدين : ص 187 ، و « العلامة » في كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 174.
3 ـ اللوامع الالهية : ص119 ، ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين : ص 189 ـ 190.
4 ـ اللوامع الالهية : ص 119 ، و نهج المسترشدين : ص 191.
5 ـ توفّي أبو علي الجبائي عام 303 كما توفّى ابنه أبوهاشم عام 321 ، و كانا من أقطاب المعتزلة.
6 ـ اللوامع الالهية : ص 119 ، و قواعد المرام في علم الكلام لابن ميثم البحراني : ص 96.


(386)
    و ربّما نسب إلى الحكماء القول بأنّه سبحانه لايقدر على أكثر من الواحد و حكموا بأنّه لايصدر عنه إلاّ شيء واحد (1).
    هذه صورة تاريخيّة عن نشأة هذا الرأي أي تحديد قدرة اللّه ، و يبدو أنّ أكثر هؤلاء إمّا تأثروا ببعض المناهج الفلسفيّة المترجمة ، كما أن بعضهم لم يدرك حقيقة القول بسعة قدرته ، و إذا شرحنا حقيقة المقال تقف على سقوط الآراء الثلاثة الأخيرة المنسوبة إلى السيمري و البلخي و الجبائيين.

تحليل القول بعموم القدرة الالهية
    إنّ المقصود من عموم قدرته سبحانه هو سعتها لكل شيء ممكن ، بمعنى أنّه تعالى يقدر على خلق كل ما يكون ممكناً بذاته غير ممتنع كذلك ، و هذا الوصف العنواني رهن اُمور :
    أوّلاً : أن لايكون الشيء ممتنعاً بالذات مثل أن يكون من قبيل جعل الشيء الواحد متحرّكاً و ساكناً في آن واحد و هو أمر ممتنع.
    فإنّه لاشك في أنّ هذا الامتناع مانع من شمول القدرة لهذا المورد و نظائره.
    ثانياً : أن لايكون هناك مانع من نفوذ قدرته ، و شمولها و هذا لايكون إلاّ بوجود قدرة مضاهيّة ، معارضة ، مانعة ، من نفوذها.
    ثالثاً : أن لاتكون قدرة القادر محدودة ، مضيّقة في ذاتها.
    و هذه الشرائط كلّها موجودة في حقّ الواجب.
    أمّا الاول : فلأنّ المقصود من عموميّة قدرته تعالى هو شمولها لكل أمر ممكن ، دون الممتنع بالذات ، فلاتتعلّق القدرة الالهية بالممتنع ذاتياً ، و هو بالتالي
1 ـ النسبة في غير محلّها ، و سيوافيك مرامهم.

(387)
خارج عن محيط البحث ، تخصّصاً لاتخصيصاً ، أي لالقصور في الفاعل بل لقصور في المورد و نعني به الممتنع ذاتيا. و الأمر القبيح ليس أمراً ممتنعاً بالذات ، بل ممتنع بالغير و حسب الحكمة.
    و أمّا الثاني : فليس هناك شيء مانع من نفوذ القدرة الالهيّة كي يزاحم تلك القدرة إلاّ إذا كان موجوداً ، و هذا الموجود إن كان واجب الوجوب مثله سبحانه فهو مرفوض بما ثبت من وحدة واجب الوجود ، و انتفاء نظير له و أنّه بالتالي ليس في صفحة الوجود واجب سواه ، و إن كان ممكناً مخلوقاً له سبحانه فهو مقهور له تعالى فكيف يزاحم قدرته ، و كيف يمنع من نفوذها؟
    و أمّا الثالث : و هو ضيق نطاق قدرته ، فهو مدفوع لما سيوافيك ـ أيضاً ـ من أنّ وجود اللّه تعالى غير محدود ، و لامتناه ، فهو وجود مطلق لايحدّه شيء من الحدود العقليّة و الخارحيّة و ما هو غير متناه في وجوده ، غير متناه في قدرته (1) لما ثبت من عينيّة صفاته وجوداً و تحقّقاً مع ذاته.
    و الحاصل : إنّ هذا البيان يعتمد على أمرين كل منهما ثابت و محقق :
    أوّلاً : ما سيوافيك من أنّ وجوده سبحانه غير محدود و لامتناه ، بمعنى أنّه لاتحدّه حدود عقليّة ولاخارجيّة.
    ثانياً : سيوافيك أيضاً من أنّ صفاته تعالى عين ذاته ، لا أمر زائد على الذات.
1 ـ و قد استدلّ بعض المحققين من علماء الكلام على عموميّة قدرته من طريق آخر فقال « العلاّمة الحلّي » في كشف الفوائد : ص 43 و الدليل عليه ( أي على عموم قدرته ) إنّه تعالى واجب الوجود دون غيره ، و كل ما عداه ممكن و كل ممكن محتاج إلى المؤثر و لابد أن ينتهي إلى الواجب. فعلّة الحاجة و هي الامكان ثابتة في الجميع ، فتساوت نسبتها إليه سبحانه بالاحتياج لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ، فيكون قادراً على الجميع ، و راجع كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 174 ، و « قواعد المرام » : ص 96 ، و ارشاد الطالبين : ص187.

(388)
    و هذان الأمران ينتجان عدم تضيّق القدرة الالهية ، فهو إذا كان ـ من حيث الوجود ـ مطلقاً غير متناه و كان الوصف عين الذات و نفسها; كانت صفة القدرة هي الاُخرى مطلقة لاتعرف حدّاً ، و لاتقف عند نهاية.
    و بهذه الصورة تثبت سعة قدرته تعالى و شمولها لكل شيء.
    و لقدصرّحت النصوص الدينيّة ـ من كتاب و سنّة ـ بهذه الخصوصيّة في القدرة الالهية ، و أكدت بالتالي على عموميّتها ، و سعة دائرتها ، و اطلاقها على غرار الذات ، و ذلك كقوله سبحانه : ( وَ كانَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَىْء قَدِيراً ) ( الأحزاب/27 ).
    و قوله تعالى : ( وَ كانَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَىْء مُقْتَدِراً ) ( الكهف/45 ).
    و قوله تعالى : ( وَ ما كانَ اللّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَىْء فِى السَّمواتِ وَ لا فِى الاَْرْضِ اِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً ) ( فاطر/44 ).
    و قوله تعالى : ( لَهُ المُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ ) ( التغابن/1 ).
    و قوله تعالى : ( تَبارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ ) ( الملك/1 ).
    و قال الإمام موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) : « و القادر الذي لايعجز » (1).
    و قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « الأشياء له سواء علماً و قدرة و سلطاناً و ملكاً و إحاطة » (2).
1 ـ توحيد الصدوق : ص 76.
2 ـ توحيد الصدوق : ص 133.


(389)
حول الأقوال السابقة
    بعد أن عرفت أدلّة القائلين (1) بعموميّة القدرة الإلهيّة. حان الأوان لتقييم ما قاله بعض أئمّة المعتزلة و أقاموه لتحديد قدرته فنقول :
    لقدعرفت في مفتتح البحث أنّ الذي جرّ النافين لعموميّة القدرة إلى مثل هذا الموقف الذي يضادّ الفطرة مضافاً إلى مضادّته للبراهين العقليّة القاطعة ، و ما دلّ عليه الكتاب و السنّة من النصوص الصريحة هو الشبهات التي ألقاها البعض في هذا المجال.

1 ـ عدم قدرته على فعل القبيح
    فلقد استدلّ « النظام » لعدم عموميّة قدرته تعالى بأنّه لايقدر على القبيح و إلاّ لصدر عنه فيكون فاعلاً جاهلاً أو محتاجاً و هو محال فلايكون قادراً على القبيح.
    و نظنّ انّ « النظام » خلط موضع البحث بشيء آخر فإنّ البحث إنّما هو في عموم القدرة و الاقتدار و انّه سبحانه قادر على كل شيء قبيحاً كان أو غيره ، أي أنّ القبيح و غيره عنه قدرته سواء أي كما أنّه سبحانه قادر على ارسال المطيع إلى الجنّة قادر على إدخاله في النار ، و ليس هنا ما يعجزه عن ذلك.
    إلاّ أنّه لمّا كان هذا العمل قبيحاً مخالفاً لعدله و قسطه لايفعله سبحانه ، و لايرتكبه لأنّ الدافع إلى ارتكاب القبيح إمّا الجهل بالقبح ، أو الحاجة إلى العمل القبيح ، و كلاهما منفيّان عن ساحته المقدّسة ، فلايصدر منه الفعل اختياراً لأنّ هذه الموجبات و الدواعي منتفية لديه سبحانه لا أنّه غير قادر عليه أو عاجز عن فعله.
    فكم فرق بين عدم القيام بشيء لعدم توفّر الداعي إليه ، و بين عدم القدرة عليها أصلا.
1 ـ وهم كل علماء الامامية.

(390)
    فالوالد المشفق قادر على ذبح ولده في مرأى و مسمع من الناس لكن الدواعي إلى هذا الفعل منتفية عنه ( لأنّه لايصدر هذا العمل القبيح إلاّ من جاهل بالقبح أو محتاج إلى العمل القبيح ).
    و بالجملة فهو خلط بين عدم فعله لذلك القبيح ، و عدم قدرته عليه من الأساس.

2 ـ عدم قدرته تعالى على خلاف معلومه
    لقد ذهب « عبّاد بن سليمان السيمري » إلى عدم سعة قدرته قائلاً : إنّ ما علم اللّه تعالى بوقوعه يقع قطعاً ، فهو واجب الوقوع ، و ما علم بعدم وقوعه لايقع قطعاً فهو ممتنع الوقوع ، و ما هو واجب أو ممتنع لاتتعلّق به القدرة ، إذ القدرة إنّما تتعلّق بشيء يصحّ وقوعه و لاوقوعه ، و يمكن فعله و لافعله ، و ما صار أحديّ التعلّق ( ذي حالة واحدة حتميّة ) لايقع في إطار القدرة.
    و الجواب عن هذه الشبهة بوجهين :
    أمّا أوّلاً : فلأنّه لو صحّ ما ذكر لزم أن لاتتعلّق قدرته بأي شيء مطلقاً ، لأنّ كلّ شيء إمّا أن يكون معلوم التحّقق في علمه سبحانه أو معلوم العدم.
    فالأوّل : واجب التحقّق ، والثاني ممتنع التحقّق ، فيكون كل شيء متصوّر ، داخلاً في إطار أحد هذين الأمرين ، فيجب أن يمتنع توصيفه بالقدرة على شيء ما ، حتّى ما خلق فضلاً عمّا لم يخلق.
    و ثانياً : إنّ القدرة تتعلّق بكل شيء ممكن في ذاته ، و لاتتعلّق بشيء واجب الوجود بذاته أو ممتنع الوجود كذلك ، و يكفي في تعلّق القدرة كون الشيء في حدّ الذات ممكناً متساوي الطرفين ، و كونه واجباً بالنسبة إلى علّته ، لايخرجه عن حد الامكان كمّا أنّ كونه ممتنعاً بالنسبة إلى عدم علّته ، لايخرجه عن ذلك الحدّ أيضاً.
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس