مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 391 ـ 400
(391)
    يقول الحكيم السبزواري في هذه الحقيقة الأخيرة :
    « الامكان عارض للماهيّة بتحليل من العقل حيث يلاحظها من حيث هي مقطوعة النظر عن اعتبار الوجود و علّته و العدم و علّته ، فيصفها بسلب الضرورتين و أمّا عند اعتبارهما فمحفوف بالضرورة و الامتناع ، و لامنافاة بين لااقتضاء من قبل ذات الممكن للوجود و العدم ، واقتضاء من قبل الغير للوجود أو العدم ». قال في منظومته :
عروض الامكان بتحليل وقع و هو مع الغيريّ من ذين اجتمع (1)
    و على ذلك فمعلومه سبحانه و إن كان بين محقّق الوقوع و محقّق العدم ، أي بين ضرورة الوجود بالنسبة إلى علّته و ضرورة العدم بالنسبة إلى عدم علّته ، لكن هذه الضرورة الناشئة من ناحية علّته ، أو من ناحية عدم علّته ، لايجعل الشيء واجباً بالذات أو ممتنعاً كذلك ، فهو حتى بعد لحوق الضرورة به من جانب علّته ، أو الامتناع من جانب عدم علّته موصوف بالامكان غير خارج عن حدّ الاستواء حسب الذات.
    فابن عبّاد لم يفرق بين الواجب بالذات ، و الواجب بالغير ، كما لم يفرّق بين الممتنع بالذات و الممتنع بالغير ، فما هو المانع من تعلّق القدرة ، هو الوجوب و الامتناع الذاتيان ، لا الوجوب و الامتناع الغيريّان اللاحقان بالشيء من جانب وجود علّته و من جانب عدم علّته.
    و لو صحّ ما ذكره من الكلام وجب أن لايوجد في العالم أي موجود موصوف بالقادريّة.
    فإنّ كل متصوّر إمّا أن يكون في نفس الأمر محقّق الوجود لوجود علّته التامّة ، أو محقّق العدم لعدم تحقّق علّته التامّة.
1 ـ المنظومة : قسم الفلسفة ، ص 69.

(392)
    و إن شئت قلت : إنّ الممكن و إن كان مستوراً علينا و قوعه و لاوقوعه ، غير أنّه في نفس الأمر محقّق الوقوع لوجود علّته أو محقّق العدم لعدم وجود علّته ، و عدم علمنا بأحد الطرفين لايضرّ بوجوب وجوده أو امتناعه وجوباً و امتناعاً عارضيّاً بالغير.
    و كل شيء في صفحة الوجود لايخلو عن أحد هذين الوصفين ، فيلزم أن لايجوز توصيف شيء من الأشياء حتّى الإنسان بالقدرة لأنّه إذا قيس بفعل من الأفعال فهو في نفس الأمر امّا محقق الوقوع لوجود علّته التامّة ، أو ممتنع الوجود لعدم وجود علّته التامّة.

3 ـ عدم قدرته تعالى على مثل مقدور العبد
    و ممّن اختار عدم سعة قدرته ، المتكلّم المعروف بالكعبي إذ قال : « إنّ اللّه تعالى لايقدر على مثل مقدور العبد لأنّه امّا طاعة أو معصية أو عبث و كلّها مستحيلة عليه تعالى ».
    توضيحه : إنّ فعل الإنسان امّا طاعة أو معصية أو عبث ، لأنّه إمّا أن يقع لغرض أو لا ، و الثاني عبث ، و الأوّل امّا أن يقع موافقاً للأوامر الشرعيّة أو لا ، و الأوّل طاعة و الثاني معصية ، ففعل الإنسان لايخلو عن أحد هذه الأوصاف الثلاثة ، فلو قدر اللّه على مثله لوصف فعله بالطاعة أو المعصية أو العبث ، و الأوّلان يستلزمان أن يكون للّه تعالى آمر ، و هو محال.
    و الأخير يدخل تحت عنوان القبيح المستحيل عليه فلايقدر على مثل مقدور الإنسان ، و هو المطلوب.
    و نقول في الجواب : لقدعزب عن « الكعبي » أنّ عدم قيامه بالقبيح ( العبث ) ليس لعدم قدرته عليه ، بل لأجل حكمته العالية الصارفة عن القيام به ، فعدم القيام بالشيء لأجل مخالفته لمشيئته الحكميّة ، لايعد دليلاً على عدم قدرته ، و قدأوضحنا حاله.


(393)
    و أمّا المثالان الأوّلان ( الطاعة و المعصية ) ، فالطاعة و المعصية ليستا من الاُمور الحقيقية القائمة بالشيء ، بل هما أمران ينتزعهما العقل من كون الفعل مطابقاً للمأمور به ، أو كونه مخالفاً له و من نسبة الفعل إلى الأمر الصادر من المولى الواجب طاعته و المحرّم عصيانه.
    و إن شئت قلت : ينتزع وصف الطاعة من مطابقة الفعل لأمر الآمر به ، و العصيان من مخالفة الفعل مخالفاً لذلك الأمر و ليس هذان المفهومان من الاُمور الذاتية ، و لامن الأعراض الحقيقيّة.
    فلاإشكال في قدرته سبحانه على مثل ما قام به العبد بما هو مثل ، أي أن يكون فاعلاً لمثل الفعل الذي يقوم به الإنسان من حيث الذات و الهيئة.
    و أمّا عدم اتّصاف فعله سبحانه حينئذ بوصف الطاعة و العصيان فلايوجب عدم قدرته تعالى على مثل ما يأتي به الإنسان لأنّ الملاك في المثليّة هو واقعيّة الفعل و حقيقته الخارجيّة لاعنوانه الاعتباري ، و لا ما ينتزع من نسبة الشيء إلى الشيء ، فإنّ هذه الاُمور الإنتزاعيّة أو الشيء المنتزع من النسبة غير داخلة في حقيقة الشيء.
    و إلى ما ذكرنا ينظر كلام العلاّمة في شرح التجريد :
    « إن الطاعة و العبث وصفان لايقتضيان الاختلاف الذاتي » (1).
    و إليك نقطة مهمّة يجب التنبيه عليها و هي :
    إنّ هاهنا أفعالاً مباشريّة للإنسان كالصيام و القيام و الأكل و الشرب ، فإنّها
1 ـ كشف المراد شرح التجريد للعلاّمة الحلّي : ص 174 طبعة صيدا ، و المراد لايقتضيان الاختلاف الذاتي أي لايوجب اختلافا في ماهيّة العمل لأنّهما خارجان عن حقيقتة و ماهيّته ، لكونهما منتزعان من نسبة حاصلة من موافقة فعل العبد لأمر المولى في الطاعة و مخالفته في جانب المعصية.

(394)
أفعال تقوم بالفاعل المادي ، و اللّه سبحانه مجرّد و منزّه عن المادّيّة و الجسمانيّة فعدم صدورها منه إنّما هو لأجل تنزّهه سبحانه من أن يقع محلاً للفعل و الانفعال و الحركة و الحدوث.
    و مع ذلك كلّه فالإنسان و ما يأتي به من الأفعال المباشريّة إنّما هي بإقتداره سبحانه و حوله و قوّته بحيث لوانقطع ما بين العبد و ربّه من صلة ، و انقطع الفيض لصار الإنسان مع فعله خبراً بعد أثر.
    و سيوافيك تفصيل ذلك في الشبهة التالية.

4 ـ عدم قدرته تعالى على عين مقدور العبد
    ذهب الجبّائيّان إلى عدم سعة قدرته تعالى قائلين :
    « إنّ اللّه تعالى لايقدر على عين مقدور العبد ، و إلاّ لزم إجتماع النقيضين ، إذا أراده اللّه و كرهه العبد ، أو بالعكس.
    بيان الملازمة أنّ المقدور من شأنه الوقوع عند داعي القادر عليه ، و البقاء على العدم عند وجود صارفه ، فلو كان مقدور واحد واقعاً من قادرين ، و فرضنا وجود داع لأحدهما ، و وجود صارف للآخر في وقت واحد ، لزم أن يوجد بالنظر إلى الداعي ، وأن يبقى معدوماً بالنظر إلى الصارف ، فيكون موجوداً غير موجود ، و هما متناقضان.
    و الجواب أوّلاً : إنّ الجبائيين لم يستوفيا كافة الشقوق الممتنعة في المقام ، فقدبقي هناك شق ثالث و هو أنّه : إذا تعلّقت إرادة كل واحد منهما على نفس ما تعلّقت به إرادة الآخر ، فإنّ ذلك يعني أن تجتمع العلّتان التامّتان على معلول واحد و هو محال.
    و الجواب عن الجميع : هو ما عرفت من أنّ القدرة إنّما تتعلّق بالممكن بما هو ممكن ، فإذا عرض له الامتناع فلاتتعلّق به القدرة ، و عدم تعلّق قدرته بالممتنع


(395)
لايدلّ على عدم سعتها.
    و ما فرض في المقام من الصور ـ بغضّ النظر عمّا سنذكره ـ لايثبت أكثر من أنّ صدور الفعل منه سبحانه في هذه الشرائط محال لاستلزامه اجتماع النقيضين ، أو إجتماع العلّتين التامّتين على معلول واحد ، و ما هو محال خارج عن اطار القدرة و لايطلق عليه عدم القدرة.
    هذا كلّه نذكره مماشاةً مع علامتي المعتزلة و إلاّ فثمّة مناقشة في كلامهما ، إذ نقول : ماذا يريدان من قولهما : « عين مقدور العبد » ؟
    هل يريدان منه الشيء قبل وجوده ، أو بعده؟
    فإن أرادا الشيء قبل وجوده فليس في هذا المقام عينيّة و لاتشخّص ، حتّى يقال : إنّه سبحانه قادر عليه أو لا؟ إذ الشيء في هذه المرحلة لايتجازو عن كونه مفهوما كليّاً ، يصلح أن يكون له مصاديق كثيرة.
    و إن ارادا من « عين المقدور » الشيء بعد وقوعه فمن المعلوم أنّه لاتتعلّق به القدرة ـ في هذه الحالة ـ لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل المحال ، و قدذكرنا أنّ المحال خارج عن إطار القدرة.
    و إن أرادا عدم تعلّق قدرته سبحانه مقارناً لتعلّق قدرة العبد فحكم هذا القسم هو نفس حكم الصورة الاُولى فإنّ المقدور بعد لم يتحقّق ، و لم يتشخّص حتى يقال بأنّه غير قادر على نفس مقدور العبد.
    ثمّ إنّ ما ذكره العلاّمتان المعتزليّان ينبع عن القول بالثنويّة في باب تأثير المؤثّرات و فعل الفواعل حيث إنّ المعتزلة تصوّرت أنّ فعل العبد مخلوق لنفس العبد ، و ليس مخلوقاً للّه ، لاتسبيباً و لامباشرة ، و انّ هناك فاعلين مستقلّين لكل مجاله الخاص فلفعله سبحانه و قدرته مجال ، و لفعل العبد مجال آخر ، و عند ذلك لايمتّ مقدور العبد باللّه سبحانه بصلة.


(396)
    غير أنّنا بيَّنا وهنَ هذه النظرية و أنّ الثنوية باطلة في عامّة المجالات و أنّه لافاعل مستقلّ و لامؤثّر في صفحة الوجود إلاّ « اللّه ».
    فكل فاعل سواه سبحانه ، سواءً كان مختاراً أو غيره إنّما يؤثّر و يقوم بأفعاله بقدرته و حوله.
    فعند ذلك يكون نفس مقدور العبد و فعله ، مقدوراً للّه سبحانه ، و فعلاً له لكن لافعلاً بالمباشرة ، بل فعلاً بالتسبيب.
    و قدأوضحنا حال هذه المسألة في أبحاث التوحيد الخالقي.

سعة القدرة بمعنيين
    ثمّ إنّ الكلام في سعة القدرة يطرح على وجهين :
    الأوّل : ما عرفت مفهومه و أدلّته و أنّه قادر على كل شيء ممكن سواء صدر منه أو لم يصدر إذ من الممكن أن يكون الشيء ممكنا و لايصدر عنه لحكمة خاصّة كصدور القبيح و غيره.
    الثاني : و هو ما طرحه الحكماء في كتبهم ، و يغاير ما سبق ، و حاصله : إنّ الظواهر الكونية ، مجرّدها و مادّيها ، ذاتها و فعلها ، كلّها تنتهي إلى قدرته سبحانه ، فكما أنهّ لاشريك له سبحانه في ذاته كذلك لاشريك له في الفاعليّة.
    و كل ما هو موجود سواء كان جوهراً أو عرضاً ، مادّيّاً أو مجرّداً ، ذاتاً أو فعلاً فالجميع صادر عنه سبحانه على نحو الأسباب و المسبّبات ، فليس هناك موجود ممكن جوهراً كان أو عرضاً ، ذاتاً كان أو فعلاً لايستند في تحقّقه و وجوده إليه سبحانه.
    و هذا هو التوحيد الأفعالي الذي قدّمنا الكلام عنه عند البحث عن التوحيد ، و هذا المعنى هو الذي طرحه الحكماء في كتبهم الفلسفية.


(397)
    و هذه المسألة في مقابل كلمات المعتزلة و من حذى حذوهم من القائلين بأنّ اللّه تعالى أوجد العباد و أقدرهم على تلك الأفعال ، و فوّض إليهم الاُمور و هم مستقلّون بإيجاد تلك الأفعال على وفق مشيئتهم بحيث لايمتّ فعل إنسان إليه سبحانه بصلة بنحو من الأنحاء.
    و لايخفى أنّ هذا الكلام و إن كان وجيهاً عند القائلين بالاختيار و لكنّه يستلزم الشرك في الفاعليّة و هو مستلزم لاثبات الشريك للّه في الحقيقة.
    و من جعل أبناء البشر كلّهم خالقين لأفعالهم مستقلّين في ايجادها ، أتى بما هو أشنع ممّن ذهب إلى جعل الأصنام و الأوثان و الكواكب شفعاء عند اللّه لأنّه جعل للّه شركاء بعدد الفاعلين.
    هذا و بما أنّنا قد استوفينا الكلام في هذه المسألة في مسفوراتنا الكلامية (1) ، فإنّنا نقتصر على ما ذكرناه هنا.
    فتلخص : إنّ لسعة القدرة اصطلاحين :
    الأوّل يناسب الأبحاث الكلامية ، و الثاني يناسب الأبحاث الفلسفية ، و المخالف في القسم الثاني هم المعتزلة ، و الخلاف ينبع من الاعتقاد بالعدل في اللّه سبحانه ، و من التصوّر بأنّ نسبة أفعال العباد إلى اللّه سبحانه تخالف عدله.
    بينما لاتنبع المسألة الاُولى من موقف كلامي معيّن و إن كان المخالف فيها بعض المعتزلة لكن الخلاف لاينبع عن اُصول الاعتزال بخلاف الثانية ، و إن كان بين المسألة صلة و ارتباط.
1 ـ الالهيات : ج 1 ، ص 139 ـ 150.

(398)
أسئلة و أجوبتها
    ثمّ إنّ القائلين بعموميّة القدرة الالهية واجهوا أسئلة و اشكالات اُخرى طرحها المنكرون لعموميّة القدرة ، و اعتمدوا عليها في نفي ذلك و قد تعرّفت على أصولها في صدر البحث :
    و هذه الأسئلة هي :
    1 ـ هل يقدر سبحانه على خلق نظيره؟
    فلو اُجيب عن السؤال بالإيجاب لزم ذلك صحّة إفتراض الشريك للّه سبحانه و امكان و جوده.
    و لو اُجيب بالنفي و الإنكار لزم ضيق قدرته و عدم عموميّتها و شمولها لكل شيء كما هو المدعى.
    2 ـ هل هو قادر على أن يجعل الشيء الكبير في داخل الشيء الصغير كأن يجعل العالم الفسيح في البيضة من دون أن يصغر حجم العالم ، أو تكبر البيضة؟
    فلو اُجيب بنعم ، دفعه العقل و رفضه إذ لايتصوّر أن يكون المظروف أكبر من الظرف.
    و لو أجيب بلا ، ثبت عدم عموميّة قدرته سبحانه.
    3 ـ هل يمكنه سبحانه أن يوجد شيئاً لايقدر على إفنائه؟
    فإن قلنا : نعم ، لزم من ذلك نفي قدرته ، لأنّنا أثبتنا قدرته سبحانه على خلق ما لايقدر على إفنائه.
    و إن قلنا : لا ، استلزم ذلك نفي عموميّة قدرته.
    و بهذا إستلزم الجواب على كلا النحوين انتفاء عموميّة قدرته و تحديدها.
    إنّ الاجابة عن هذه الأسئلة على وجهين : إجمالي و تفصيلي.
    أمّا الجواب الإجمالي فهو أنّ القدرة مهما بلغت من السعة فإنّها لاتتعلّق إلاّ


(399)
بما كان ممكناً بالذات ، أي كان قابلاً للوجود و التحقّق ، و أمّا الخارج عن اطار الإمكان أي الذي يكون بذاته غير ممكن لايقبل الوجود ، فهو خارج عن نطاق القدرة.
    و بعبارة أخرى : إذا لاحظنا الأشياء وجدناها على نوعين :
    الأوّل : ما يقبل أن يتلبّس بلباس الوجود و يتحقّق في الواقع الخارجي بسبب قدرة الفاعل.
    الثاني : ما إذا لاحظناه في عقلنا ، نجد أنّه لايتحقّق و لايقبل الوجود مهما بلغت القدرة من السعة و العظمة ، و مهما بلغ الفاعل من القوّة و القدرة.
    و لتوضيح ذلك نأتي بالمثال التالي فنقول :
    إذا طلبنا من الخيّاط أو الرسّام أن يخيط الأوّل لنا ثوباً من الآجر ، أو أن يرسم الثاني لنا صورة جميلة لطاووس على صفحة الماء الجاري ، رفضا ذلك لاستحالة خياطة ثوب من الآجر ، و رسم صورة شيء على صفحة الماء الجاري.
    فرفض الخيّاط و الرسام لهذا الاقتراح ليس لأجل قصورهما و عجزهما ، بل لاستحالة تحقّق خياطة الثوب من الآجر ، و النقش على صفحة الماء الجاري ، فهو بالتالي قصور في جانب القابل ، لاعجز في ناحية الفاعل.
    إنّ الآجر لايمتلك قابلية صيرورته لباساً ، كما أنّ الماء الجاري لايمتلك هو الآخر قابلية أن يصبح محلاًّ للرسم و النقش.
    هكذا كل ما لايقبل الوجود بذاته ، فإنّ عدم تعلّق القدرة بها ليس من جهة عجز القادر عن إيجادها ، بل من جهة أنّه غير قابل للايجاد ، و غير ممكن التحقّق بذاته.
    و هذا نظير ما إذا طلبنا من رئيس مصنع لتوليد الكهرباء أن يجعل مصباحاً واحداً مشتعلاً و منطفئاً في آن واحد ، فيرفض ذلك الشخص تحقيق هذا المطلب


(400)
لالقصور في مصنعه أو في هندسته ، بل لأنّ المقترح لايمكن ـ بذاته ـ أن يتحقّق.
    كما أنّ ذلك نظير ما إذا طلبنا من عالم رياضيّ ماهو أن يجعل نتيجة 2×2 أربعة و خمسة في آن واحد ، فيرفض تحقيق ذلك المطلب لالقصور في مقدرته الرياضية و الحسابية ، بل لاستحالة تحقّق هذا المطلب المقترح في حدّ ذاته.
    و بهذا يظهر أنّ سعة القدرة و عموميّتها تشمل جميع الممكنات ، و الاُمور القابلة بذاتها للايجاد ، و بالتالي فإنّ كل ما هو ممكن التحقّق و الوجود بذاته ، يقع في نظاق القدرة الإلهيّة دون ما لايمكن تحقّقه و وجوده بذاته ، و هذا بخلاف غيره تعالى فإنّ قدرته قاصرة حتّى بالنسبة إلى كثير من الاُمور و الموارد الممكنة.
    بينما هو سبحانه قادر على ايجاد المجرّات العظيمة ، و على خلق السموات العلى ، و لكن غيره لايقدر على أقلّ من ذلك مع كونه أمراً ممكناً بالذات.
    فيستنتج من ذلك أنّ كلّ ما هو محال ذاتي لايقع في نطاق القدرة لالعدم سعتها بل لعدم قابلية هذا النوع من الأشياء للايجاد.
    و على هذا الأساس لاينحصر ما قلناه في ما ورد ذكره في هذه الأسئلة ، بل يعم كل ما كان من هذا القبيل ، أي كان من المحال الذاتي.
    و بهذا يستطيع القارئ أن يقف على حل جميع الأسئلة المطروحة هنا.
    فإنّ الجواب في الجميع هو النفي لالعدم سعة قدرته سبحانه بل لعدم امكانها أساساً فإنّ جميع هذه الموارد مستلزمة للمحال أو هو بنفسه أمر محال ، و مع ذلك نوقف القارئ على الجواب لكل واحد من الأسئلة المطروحة.
     الجواب التفصيلي عن الأسئلة الثلاثة :
    أمّا الأوّل أعني قدرته على خلق مثله فالجواب عنه : إنّ خلق المثل لايقع في اطار القدرة لالقصور فيها بل لكون وجود المثل للّه محالاً بذاته كما أوضحناه في
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس