العلم فيعلم بها و يكون ذلك العلم رؤية له ( أي علماً له ) (1).
و في القولين الآخيرين محاولة لتصحيح الرؤية مع التحفّظ على التنزيه ، ولكنّها غير ناجعة لأنّ الحسّ السادس إذا كان حسّا ، لايتعلّق إلا بالمادّة والمادّيّات ، و اللّه سبحانه فوقها ، و أمّا تحوّل العين إلى القلب و تصحيح الرؤية بالعلم فهو خارج عن البحث ، فإنّ البحث إنّما هو رؤية اللّه بالعيون و الأبصار المتعارفة لابالقلب. فالمعتزلة و الخوارج و طوائف من المرجئة و الإمامية و الزيديّة ينكرونها و أهل الحديث والأشاعرة يثبتونها و لولا ظواهر بعض الاي ات والأحاديث الواردة في المقام ، لالتحقت الأشاعرة بالعدليّة في نفي الرؤية ، ولكنّها صدّتهم عن التنزية في المقام.
ما هي حقيقة الرؤية؟ إنّ في الرؤية قولين معروفين : 1 ـ انعكاس صورة المرئيّ بواسطة الهواء الشفّاف الذي لالون له فلايستر ماورائه إلى الرطوبة الجليدية التي في العين وانطباعها في جزء منها ، و ذلك الجزء الذي تنطبع فيه الصورة ، زاوية رأس مخروط متوّهم ، لاوجود له أصلاً ، قاعدته سطح المرئيّ ، و رأسه عند الباصرة (2). 2 ـ يخرج من العين جسم شعاعيّ على هيئة المخروط المتحقّق ، رأسه على العين و قاعدته تلي المبصر ، و الإدراك التام إنّما يحصل من الموضع الذي هو موضع سهم المخروط. هذان القولان يتعلّقان بالقدماء من الطبيعيين. و الأوّل لمدرسة أرسطو ، و الثاني لغيره ، و قدكشف العلم الحديث عن حقيقة
1 ـ مقالات الإسلاميين : ص 261 ـ 265 و 314. 2 ـ مقالات الإسلاميين : ص 321.
(422)
الرؤية بعد دراسة تركيب العين و أجهنتها ، وحداهم البحث إلى دعم القول الأوّل لكن بصورة أدق ، و على ذلك فالرؤية بالأبصار و العيون المتعارفة لاتتحقّق إلاّ أن يكون المرئيّ في جهة و مكان و مسافة خاصّة بينه و بين الرائي ، و لامحيص في تحقّق الرؤية عن المقابلة ، و في ضوء ذلك نحكم بامتناع وقوع الرؤية على اللّه سبحانه لاستلزامه كونه ذا جهة و مكان خاص حتى تتحقّق الرؤية ، و ما ذكرناه و إن كان كافياً في إبطال الرؤية و لكن تكميلاً للبحث نأتي بأدلّة المنكرين و هو دليل واحد يقرّر بوجوه.
تقرير أدلة المنكرين بوجوه أربعة : « إنّ اللّه تعالى ليس في جهة و لافي مكان بدليل أنّ ما كان في الجهة و المكان مفتقر إليهما و هو محال عليه. و اللّه تعالى ليس بمرئيّ بدليل أنّ كل مرئي لابد أن يكون في جهة (1). و كل من نفى الرؤية يعتمد على ذلك البرهان و حاصله أنّ الرؤية إنّما تصحّ لمن كان مقابلاً أو في حكم المقابل و المقابلة إنّما تكون في حقّ الأجسام ذوات الجهة و اللّه تعالى ليس في جهة فلايكون مرئياً. و يمكن تقرير البرهان بصورة اُخرى و هو أنّ الرؤية إمّا أن تقع على الذات كلّها أو على بعضها ، فعلى الأوّل يلزم أن يكون محدوداً متناهياً محصوراً شاغلاً لناحية من النواحي و خلوّ النواحي الاخرى منه تعالى و ذلك مستحيل ، و إمّا أن تقع على بعض الذات فيلزم أيضا أن يكون مركبّاً متحيّزاً ذا جهة إلى غير ذلك من التوالي الفاسدة الباطلة المرفوضة في حقّه تعالى. هذا و يمكن تقريره بوجه ثالث هو أنّ الرؤية بأجهزة العين نوع إشارة بالحدقة وهو سبحانه منزّه عن الإشارة.
1 ـ مجموعة الرسائل العشر ، المسئلة 16 ـ 17.
(423)
و بتقرير رابع : إنّ الرؤية لاتتحقّق إلاّ بانبعاث أشعّة من المرئيّ إلى أجهزة العين و هو يستلزم أن يكون سبحانه جسماً ذات أبعاد و معرضاً لعوارض و أحكام جسمانيّة و هو المنزّه عن كلّ ذلك (1). و هذه التقارير الأربعة تعمتمد لبّاً على أمر واحد : و هو انّ تجويز الرؤية يستلزم كونه جسماً او جسمانيّاً غير أنّ الطرق مختلفة ، و الأوّل يعتمد على أنّ الرؤية تستلزم أن تكون ذا جهة و تحيّز ، و الثاني يعتمد على كونه سبحانه متناهية إذا وقعت الرؤية على تمام الذات أو مركّبة إذا وقعت على بعضها ، و الثالث يعتمد على أنّها تستلزم الإشارة ، و هو فوق أن يقع في إطارها ، و الرابع يعتمد على أنّها تستلزم أن يكون جسماً و ذا عوارض جسمانيّة. و الحاصل أنّ إثبات الرؤية و الأبصار بغير مقابلة وجهة مع كون الرؤية بالعيون و الأبصار كالجمع بين وجود الشيء و عدمه نظير تصوّر كون المربّع فاقداً لبعض أضلاعه و هو في الوقت نفسه مربّع تام. و ما ربّما يظهر من بعض محقّقي الأشاعرة من الجمع بين الرؤية و عدم الجهة و ما يشابهها محاولة باطلة (2) لاتليق أن تسّطر. و ربّما يتصوّر أنّ كون ما في الآخرة يغاير ما في الدنيا ، فلعلّ الرؤية هناك متحقّقة بلاجهة و اشارة ، و هذا أشبه بالسفسطة ، فإنّ المراد من المغايرة هو كون ما في الآخرة أكمل ممّا في الدنيا ، لاالمغايرة من حيث الماهيّة و الواقعيّة ، و القواعد العقليّة لاتخصّص بل هي سائدة في الدارين.
1 ـ لاحظ أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ص 82 ـ 83 ، و اللوامع الالهية : ص 81 ـ 82 وقواعد المرام في علم الكلام ـ للشيخ ميثم بن على البحراني المتوفّى عام 689 ـ وكشفالمراد : ص 182. 2 ـ لاحظ شرح التجريد للفاضل القوشجي.
(424)
القرآن يتلقى الرؤية أمراً منكراً إنّ الدقّة في الاي ات الواردة حول الرؤية و سؤال بني اسرائيل إيّاها من نبيّهم يقف على أنّ القرآن يقابلها بالاستنكار الشديد فيتلقّاها أمراً منكراً. 1 ـ قال سبحانه : ( وَ اِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللّهَ جَهْرَةً فَاَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَ اَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) ( البقرة/55 ). 2 ـ قال سبحانه : ( يَسْئَلُكَ اَهْلُ الْكِتَابِ اَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى اَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَاَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ... ) ( النساء/153 ). 3 ـ و قال سبحانه : ( وَ اخْتَارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّاىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِىَ اِلّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِى مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنَا وَ اَنْتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ ) ( الأعراف/155 ). 4 ـ و قال سبحانه : ( وَ لَمَّا جَاءَ مُوسى لِمِيقَاتِنَا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِى اَنْظُرْ اِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِى وَ لكِنِ انْظُرْ اِلى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا اَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ اِلَيْكَ وَ اَنَا اَوَّلُ المُؤْمِنِينَ ) ( الأعراف/143 ). و من أمعن في هذه الآيات من دون رأي مسبق يقف على أنّ القرآن يستنكر رؤية اللّه و يقابل من يطلبها ، بالصاعقة و الرجفة و اللّوم ، فمع هذه النصوص كيف يمكن لنا القول بجواز رؤيتها في الدنيا و الآخرة ، أو في خصوص الآخرة؟ فإنّ الأحكام العقليّة لاتقبل التخصيص ، فالجمع بين الضدين أو النقيضين محال في الدارين ، و هكذا القواعد الرياضيّة صادقة فيهما ، فهي لاتتخلّف في ظرف من الظروف و إلاّ صارت قضايا مشكوكة غير منتجة.
(425)
سبحانك أنت القائل : ( لاتدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير ). سبحانك أنت القائل : ( لن ترانى يا موسى ) مقروناً بلن للتأبيد في النفي. سبحانك أنت القائل : ( و ما قدروا اللّه حقّ قدره ). إنّ الذين يتمنّون رؤيته في الدنيا و الآخرة إنّما يتمنّون أمراً محالاً غافلين أنّ العيون لاتدركه بمشاهدة العيان ، و لكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ، فهو قريب من الأشياء ، غير ملابس ، بعيد عنها غير مبائن (1). إنّ المصرّين على جواز الرؤية يتخيّلون أنّها عقيدة إسلامية وردت في الكتاب و السنّة و لكنهم غفلوا عن أنّها طرحت من قبل الأحبار و الرهبان بتدليس خاص ، فهم الأساس لهذه المسائل التي لاتجتمع مع قداسته و تنزيهه سبحانه ، فهذا هو العهد العتيق مليئ بالأخبار عن رؤيته تعالى و إليك مقتطفات منه : 1 ـ « رأيت السيّد جالساً على كرسي عال ... فقلت : ويل لي لأنّ عينيّ قدرأتا الملك ربّ الجنود » ( أشعياء/6 : 1 ـ 6 ). و المقصود من السيّد هو اللّه جلّ ذكره. 2 ـ « قدرأيت الربّ جالساً على كرسيّه و كل جند البحار وقوف لديه » ( الملوك : الاول/22 ). و من أراد التبسّط في ذلك فليرجع إلى سفر التكوين قصة آدم و حواء و قصة يعقوب و إبراهيم ترى فيها أشياء و اُموراً ممّا يندى له الجبين و يخجل القلم عن الإشارة إليه. غير أنّ المغفلين من أهل الحديث أخذوا بالأحاديث الموضوعة على وفق ما جاء في العهدين حقائق راهنة ، فاتخذوا الرؤية عقيدة إسلامية شوّهوا بها المذهب.
1 ـ نهج البلاغة : الخطبة 174.
(426)
أدلة القائلين بالرؤية إنّ القائلين بالرؤية استدلّوا بآيتين : 1 ـ قوله سبحانه : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَاظِرَة ٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة ٌ * وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذ بَاسَرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) ( القيامة/22 ـ 25 ). و قد شغلت هذه الآية بال الأشاعرة و المعتزلة. المثبّتون يصرّون على أنّ النظر في « الناظرة » بمعنى الرؤية ، و النافون يصرّون بأنّه بمعنى الانتظار ، و الفريقان يتصارعان في تفسير الآية مستشهدين ببعض الأشعار و الجمل. غير انّا نضرب على الكلّ صفحاً لأنّ البحث فيهما يستدعي تفصيلاً ، و لكن نلفت نظر المستدلّين بها إلى أمرين و لوتدبّروا فيهما تدبر إنسان حر غير متأثّر بآراء قومه و نحلته ، لعرفوا أنّ الآية لاتدل على مقصودهم بتاتاً. 1 ـ ترى أنّه سبحانه يقول : ( وجوه يومئذ ناضرة * الى ربّها ناظرة ) فينسب النظر إلى الوجوه لاالعيون ، فلو كان المراد أنّ أهل الجنة ينظرون إليه سبحانه و يرونه فلماذا نسب الرؤية إلى الوجوه مع أنّه قائم بالعيون و هذا يدلّ على أنّ « ناظرة » في الآية و إن كانت بمعنى الرؤية لكنها تهدف إلى معنى آخر غير الرؤية الحسّيّة ، و إنّ النظر في المقام كنظر الفقير إلى الغني ، و الخادم إلى مخدومه ، و المرؤوس إلى رئيسه فالكل ينظرون إلى أسيادهم لكن نظراً معنوياً لاحسّياً. 2 ـ إنّ الآيات تشتمل على جمل متقابلة ، فلو كان هناك إجمال في احدى الجمل يصح تفسيره بمقابله و مقارنه الواضح ، و إليك مقارنة هذه الجمل. أ ـ « وجوه يومئذ ناضرة » يقابها قوله : « وجوه يومئذ باسرة » ب ـ « إل ـ ى ربّها ناظرة » يقابلها قوله : « تظن أن يفعل بها فاقرة ». فلو كان هناك إبهام في أحد المتقابلين ، يرفع بالمقابل إبهام المقابل الآخر ،
(427)
فهلم معي نستوضح معنى « إلى ربّها ناظرة ».
فهل المقصود الجدّي هو النظر و الرؤية؟ أو هو التوقّع و الانتظار؟ فيمكن رفع الابهام و امعان النظر في مقابله أعني : « تظن أن يفعل بها فاقرة » فإنّ مفاده أنّ الطائفة العاصية تتوقّع نزول عذاب يكسر فقارها و يقصم ظهرها ، فيكون ذلك قرينة على أنّ المراد من مقابله خلاف ذلك ، و أنّ هؤلاءالمطيعين يتوقّعون خلاف ما تتوقّعه الطائفة الاُخرى يتوقعون فضله و كرمه و رحمته و أين هذا من الرؤية؟ بذلك يظهر أنّ التركيز على الوجوه دون العيون لأجل إفادة هذا المعنى ، أي أنّ وجوها تنتظر العذاب ، و أن وجوهاً متوجهةً إلى الباري تنتظر الرحمة. و هذا نظير قول القائل :
إنّي إليك لما وعدت لناظر
نظر الفقير إلى الغني الموسر
و يقال : أنظر إلى اللّه ثمّ إليك. فإنّ النظر في هذه الموارد و إن كان بمعنى الرؤية ، و لكنّها كناية عن انتظار الرحمة ، فقول التلميذ لاُستاذه ، و الولد لوالده ، و الخادم لسيده : « أنا أنظر إليك » بهذا المعنى. و قال آخر :
وجوه ناظرات يوم بدر
إلى الرحمان يأتي بالفلاح
أي منتظرات لإتيانه تعالى بالنصرة و الفلاح. و قال أيضاً :
كل الخلائق ينظرون سجاله
نظر الحجيج الى طلوع هلال
أي ينتظرون عطاياه انتظار الحجّاج لظهور الهلال و طلوعه.
(428)
حتّى لو كان النظر في الآية بمعنى الانتظار ، أو بمعنى الرؤية ، لاتدلّ على رؤيته سبحانه يوم القيامة ، بل ليست بصدد هذا الأمر أصلاً ، و لافرق بين تفسير الكلمة بالنظر ، أو الانتظار. و ربّما يتصوّره البعض من أنّ « ناظرة » لو كانت بمعنى الرؤية تمّت دلالة الآية ، و لو كانت بمعنى الانتظار لم تتم و لم تدل ، كلام سطحي ينمّ عن عدم تعمّق في السياق الذي جاءت به الآية كما ستعرف. و خلاصة القول : إنّ الآية ـ سواء من النظر فيها بمعنى الانتظار أو الرؤية ـ تهدف أمراً آخر ، لاارتباط له بمسألة الرؤية أصلاً ، و لايعرف هذا إلاّ بمقارنة الآية المذكورة بالآيات المقابلة لها. فإنّ الآية الثانية أي ( إلى ربّها ناظرة ) يبيّن ما هو المتوقّع عند المؤمنين كما أنّ الآية الرابعة أي ( تظن أن يفعل بها فاقرة ) يبين ما هو المتوقع عند العاصين ، فحيث كان المقصود في الآية الرابعة هو توقّع العصاة للعذاب الإلهي كان المقصود في الآية الثانية ( بحكم التقابل ) هو توقّع المطيعين المتّقين الرحمة الإلهية ، و هذا هو هدف الآية الثانية ، فتفسير النظر برؤية جماله و ذاته غريب عن مرمى الآية و هدفها. إذا عرفت هذا فلايتفاوت بأن يفسر « ناظرة » بمعنى الانتظار ، فيكون معناه المطابقي هو انتظار رحمته بدل انتظار عذابه ، أو يفسّر بالرؤية فيكون المراد منه ـ بالمآل ـ انتظار الرحمة ، أنّ الرؤية في هذه الموارد تكون كناية عن انتظار الرحمة ، وتوقع اللطف من الجانب الآخر. يقال : فلان ينظر إلى يدفلان ، و يراد منه أنّه معدم محتاج ، ليس عنده شيء ، وإنّما يتوقع أن يعطيه ذلك الشخص ، فما أعطاه ملكه ، و ما منعه حرم منه. و هذا ممّا درج عليه الناس في محاوراتهم العرفية اليوميّة إذ يقول أحدنا لصديقه الذي يتوقّع منه المعونة و المدد :
(429)
« إنّما ننظر إلى اللّه ثم إليك ». و هذا مؤلّف « أقرب الموارد » عند ما يذكر هذا المثال يفسّره بقوله : « إنّما أتوقع فضل اللّه ثم فضلك ». فالكلام هو عن توقّع الرحمة و وصولها و شمولها و عدم توقّعها و وصولها وشمولها. و لنا في الكتاب العزيز نظير لهذا ، إذ يقول سبحانه : ( و لايكلّمهم اللّه و لاينظر إليهم يوم القيامة و لايزكّيهم ) ، فكل هذا كناية عن طردهم عن ساحته ، و يشعر بذلك قوله في الآية المتقدمة عليها ( بلى من أوفى بعهده و اتقى فانّ اللّه يحبّ المتّقين ). فالآيتان بهذا الشكل من حيث الموضوع و الحكم. من أوفى بعهده و اتقى; يحبّه اللّه. و من اشترى بعهداللّه و إيمانه; لايكلّمهم اللّه و لاينظر إليهم. فبقرينة المقابلة بين الجزئين يعلم أنّ المرا د هو حبّه سبحانه المستلزم للجزاء الحسن ، و عدم حبّه المستلزم للجزاء السيء. فالمراد ب ـ « لاينظر إليهم » ليس هو عدم رؤية اللّه لهم و مشاهدتهم ، فالرؤية و عدم الرؤية ليست أمراً مجدياً أو ضارّاً إنّما ايصال الرحمة و عدم ايصالها للشخص هو النافع أو المضرّ بحاله ، فيكون جملة « لاينظر إليهم » كناية عن عدم اللطف والرحمة. و هذه الآية شغلت ـ مع الأسف ـ بال المعتزلة و الأشاعرة قروناً عديدة فركّزوا البحث في تحديد معنى « ناظرة » و انّها بمعنى الانتظار أو الرؤية ، فكلّ استظهر مايطابق مختاره ، و قدغفلوا عن مفتاح حل المشكلة ، و أنّه يجب ملاحظة الآية من حيث السياق و الهدف و القرائن الحافة بها.
(430)
هذا و يؤيّد ما ذكرناه من أنّ النظر و لو كان بمعنى الرؤية ليس المقصود منه الرؤية البصريّة الحسّيّة بل المراد هو الكناية عن انتظار الرحمة الإلهية ، و تقديم المفعول و هو « إلى ربّها » على العامل و هو « ناظرة » نظير قوله تعالى : ( إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذ المُسْتَقَر ) و نظائرها ، فإنّ تقديم المفعول يدل على معنى الاختصاص لأنّ الإنسان لايتوقّع هنا إلاّ رحمة اللّه و عنايته و لطفه ، و أمّا النظر بمعنى الرؤية ، فلاينحصر باللّه لأنّ الناس ينظرون إلى غير اللّه أيضاً كما تدلّ عليه آيات و روايات. قال الزمخشري : « معلوم أنّهم ينظرون إلى أشياء لايحيط بها الحصر ، ولاتدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلائق كلّهم ، فإنّ المؤمنين نظّارة ذلك اليوم لأنّهم الآمنون الذين لاخوف عليهم و لاهم يحزنون ، فاختصاصه بنظرهم إليه ـ لو كان منظوراً ـ محالٌ فوجب حمله على معنى يصحّ معه الاختصاص ، والذي يصحّ معه أن يكون من قول الناس : أنا إلى فلان ناظر ، ما يصنع بي تريد معنى التوقّع و الرجاء و منه قول القائل :
و إذا نظرت إليك من ملك
و البحر دونك زدتني نعما (1)
نعم أورد عليه صاحب « الإنتصاف » بقوله : « إنّ المتمتّع برؤية جمال وجه اللّه تعالى لايصرف عنه طرفه ، و لايؤثّر عليه غيره و لايعدل به ـ عزّ و على ـ منظوراً سواه ، و حقيق له أن يحصر رؤيته إلى من ليس كمثله شيء ، و نحن نشاهد العاشق في الدنيا إذا أظفرته برؤية محبوبه لم يصرف عنه لحظة ، و لم يؤثر عليه ، فكيف بالمحبّ منه عزّ و جلّ إذا أحظاه للنظر إلى وجهه الكريم » (2). أقول : لو صحّ ما ذكره صاحب « الإنتصاف » و إنّ النظر إنّما هو بمعنى الرؤية البصرية الحسّيّة ، و إنّ المؤمن ينظر إلى اللّه سبحانه ، و إنّ جمال اللّه تعالى يجذبه ،
1 ـ الكشاف : ج 4 ، ص 165. 2 ـ نفس المصدر