مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 431 ـ 440
(431)
لزم قصر النظر يوم القيامة عليه سبحانه لأنّه لايعدل به غيره ، و لزم أن لاينظر إلى سواه لأنّ غيره في مقابله ليس بديعاً و لاجميلاً جاذباً مع انّا نرى أنّ الآيات و الروايات تتحدّث عن نظر الإنسان في ذلك اليوم إلى أشياء غيره تعالى كما هو واضح لمن أمعن النظر في الآيات الواردة حول الجنّة و أهلها و قصورها و حورها و فواكهها و ... فعلى قول صاحب « الانتصاف » يترك كل ذلك سدى و لاينصرف المؤمن من رؤية اللّه إلى غيرها و هو كما ترى.
    2 ـ الآية الثانية :
    قال تعالى : ( فلمّا جاء موسى لميقاتنا و كلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك قال لن ترانِى ... )
    وجه الاستدلال انّه لو كانت الرؤية ممتنعة لكان موسى واقفاً عليه وعندئذ لما أقدم على السؤال و السؤال دليل على الامكان (1).
    و الجواب يتوقّف على بيان اُمور :
     1 ـ هل كان هناك ميقات واحد أو ميقاتان؟
    جاءت قصّة ميقات موسى في آيتين :
    الأولى : قوله سبحانه : ( وَ اخْتَارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمّا اَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ اَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ اِيّاىَ اَتُهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا اِنْ هِىَ اِلّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِى مَنْ تَشاءُ اَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْلَنا وَ ارْحَمْنا وَاَنْتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ ) ( الأعراف/155 ).
    الثانية : ( وَ لَمّا جَاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِى اَنْظُرْ اِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرَانِى وَ لكِنِ انْظُرْ اِلى الْجَبَلِ فَاِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ
1 ـ شرح التجريد للقوشجي : ص 329.

(432)
جَعَلَهُ دَكّاً وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا اَفاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ اِلَيْكَ وَ اَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ ) ( الأعراف/143 ).
    فعندئذ يجب امعان النظر في أنّه هل كان هناك ميقاتان أو ميقات واحد ذوشأن خاص. قال سبحانه : ( وَ وَاعَدنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً و أَتْمَمْنَاهَا بَعَشْر فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قَالَ مُوسَى لاَِخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَ أَصْلِحْ وَ لاَتَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ ) ( الأعراف/142 ).
    و قال سبحانه : ( وَ اِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفُونا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( البقرة/51 ـ 52 ).
    فهاتان الآيتان تعرضان عن ميقات واحد و أنّه كان في بدء الأمر ثلاثين ليلة ثم تمّم بعشر ، و لو كان هناك ميقات آخر مثله أو أزيد أو أقل كان المناسب ذكره والتنويهبه.
     2 ـ هل مات القوم بالصاعقة أو الرجفة؟
    إذا كان هناك ميقات واحد و قدهلك فيها قوم موسى بعذاب اللّه ، فما كان السبب في موتهم هل كان هو الرجفة أو الصاعقة؟ نرى أنّه سبحانه نسب موتهم في بعض الآيات إلى الصاعقة ( البقرة/55 و النساء/153 ) و في البعض الآخر إلى الرجفة ( الأعراف/155 ).
    و الجواب : إنّ المراد بالرجفة رجفة الصاعقة ، لاالرجفة في أبدانهم و له نظير في القرآن الكريم ، مثلاً يقول في قوم صالح : ( فَاَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَاَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) ( الأعراف/78 ).
    و قال فيهم أيضاً : ( فَاَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العَذَابِ الهُوْنِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( فصّلت/17 ).


(433)
    و الصواعق السماوية لاتخلو من صيحة هائلة تقارنها و لاينفك ذلك غالباً عن رجفة الأرض و هي نتيجة الاهتزاز الجوي الشديد ، فالظاهر أنّ عذابهم كان بصاعقة سماوية اقترنت بصيحة هائلة و رجفة في الأرض فأصبحوا في دارهم أي في بلدهم جاثمين ساقطين على وجوههم و ركبهم.
     3 ـ هل كان هناك سؤالان أو سؤال واحد؟
    إنّ الكليم لمّا أخبر قومه بأنّ اللّه كلّمه و قرّبه و ناجاه ، قالوا : لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت ، فاختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه فخرج بهم إلى طور سيناء ، و سأل ربّه أن يكلّمه فلمّا سمعوا كلامه قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة ، و عند ذلك أخذتهم الصاعقة بظلمهم و عتوّهم و استكبارهم.
    و إليه يشير قوله سبحانه : ( وَ إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً ) ( البقرة/55 ).
    وقوله : ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً ) ( النساء/153 ).
    وقوله : ( وَ اخْتَارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُم ... ).
    كل هذه الآيات راجعة إلى هذه الحادثة أي سؤال قوم موسى منه أن يريهم ربّهم ثمّ إنّ الكليم طلب منه سبحانه أن يحييهم حتى يدفع اعتراض قومه عن نفسه إذا رجع إليهم ، فلربّما قالوا : إنَّك لم تك صادقاً في قولك : إنّ اللّه يكلّمك ، ذهبت بهم فقتلتهم ، فعند ذلك أحياهم اللّه و بعثهممعه ، و إلى هذا الطلب يشير قول الكليم في الآية الثالثة :
    ( ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل ... ).
    ثمّ إنّ قومه بعد الإحياء وقفوا على أنّه لايمكنهم رؤيته سبحانه ، فطلبوا منه أن


(434)
يسأل موسى الرؤية لنفسه لالهم حتى تحل رؤيته للّه مكان رؤيتهم فيؤمنوا به بعد إخباره بالرؤية أو يسمعوا كلامه بأنّه لايرى ، و عندئذ أقدم الكليم على السؤال تكبيتاً لهؤلاء و اسكاتاً لهم ، و بما أنّه لم يقدم إلاّ إثر الإصرار من جانبهم لم يوجّه إلى الكليم من جانبه سبحانه أي لوم و عتاب أو مؤاخذة و عذاب بل اكتفى بقوله : « لنترانى و لكن انظر إلى الجبل ... ».
    و بعبارة اُخرى إنّ موسى كان من أعلم الناس باللّه و صفاته و ما يجوز عليه ومالايجوز ، و لكن ما كان طلب الرؤية إلاّ لتكبيت هؤلاء الذين وصفهم بأنّهم سفهاء وتبرّأ من فعلهم ، فبما أنّهم لجّوا و تمادوا و قالوا بأنّهم لايؤمنون به حتى يراه موسى ويخبرهم به أو يسمعوا النص من عنداللّه باستحالة ذلك و هو قوله « لن تراني » فطلب موسى الرؤية ليسمعوا كلامه و يزول ما دخلهم من الشبهة ، و لأجل ذلك قال : ( ربّ أَرني انظر إليك ) و لم يقل ( ربّ أَرهم ينظروا إليك ).
    و يؤيّد تعدّد السؤال مع كون الميقات واحد ، أمران :
    1 ـ إنّ الرجفة عمّت جميع الحاضرين في الميقات إلاّ موسى نفسه فانّه لم يصبه شيء بل شاهد باُمّ عينيه أنّهم ماتوا إثر نزول العذاب.
    قال سبحانه : ( فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّاىَ ... ) فإنّ الظاهر من ترتّب « قال » على قوله « فلمّا أخذتهم » إنّ موسى لم يصبه شيء حتى الاغماء و الغشيان بل قال ما قال بعد موتهم بلافصل.
    و أمّا عندما تصدّى موسى نفسه للسؤال و قال أرني أنظر إليك ، كانت نتيجة ذلك سقوطه صعقاً ثمَّ إفاقته وتوبته وإنابته ، فأصابه شيء لم يصبه عند السؤال الأوّل.
    و حاصل هذا الوجه أنّه يمكن استكشاف تعدّد الواقعة باختلاف الأثر و هو كونه ( عليه السلام ) سالماً غير مصاب بشيء في الواقعة الاُولى و كونه صعقاً في الواقعة الثانية ، و هذا يكشف عن تعدّد السؤال.


(435)
    2 ـ نرى أنّه سبحانه يذكر سؤال القوم مع نزول الصاعقة و الرجفة ، و يذكر السؤال الثاني بتجلّي الرب على الجبل و صيرورته دكّاً و سقوط موسى صعقاً ، ثمّ إفاقته و إنابته من دون ذكر لطروء شيء على قوم موسى ، فالقول بوحدة الواقعيّتين لاينسجم مع ظواهر هذه الآيات.
     ما وجه تقديم سؤال موسى على سؤال قومه؟
    إنّ هذا التقرير يعرب عن أنّ قوم موسى تقدّموا بالسؤال أوّلاً فأخذتهم الصاعقة فبعدما أحياهم سبحانه تقدّم موسى إلى السؤال ثانياً بإلحاح قومه حتى يرى موسى ربّه أو يسمع لهم كلام الرب بأنّه لايمكن رؤيته ، و على هذا كان الأليق تقديم سؤال القوم على سؤال موسى مع أنّ المصحف الكريم حكى سؤال موسى أوّلاً بقوله : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) ( الأعراف/143 ).
    ثمّ حكى سؤال قومه في الآية رقم 155 من تلك السورة أعني قوله : ( و اختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا ... فأخذتهم الرجفة ... ) فما هو السر في تقديم ماحقّه التأخير؟
    و الجواب : إنّ تقطيع القصة الواحدة إلى قصص متعدّدة و الانتقال من حديث إلى آخر لحكمة في ذلك غير عزيز و لاغريب في القرآن الكريم ، و ليس القرآن كتاب قصّة حتى يعاب بالانتقال قبل تمامه ، و إنّما هو كتاب هداية و دلالة وحكمة ، يأخذ من القصص ما يهمّه (1).
    و بعبارة اُخرى : إنّ العود إلى ذلك الجزء في آخر القصة بتفصيل و تبيين لأجل إظهار العناية به من جميع أجزاء القصة ، و اللّه سبحانه ذكره في الأثناء بما أنّه جزء من القصة ، و لأجل حفظ التسلسل و الترابط بين أجزائها ثمّ عاد إليه بعد الانتهاء من بيان
1 ـ الميزان : ج 8 ، ص 285.

(436)
القصة لاستعراضه بنحو مشروح ، و ذلك لأجل إبراز العناية بهذا الجانب من القصة فانّها كانت مسألة هامّة و كبيرة في حياة أكابر بني اسرائيل حيث جرت عليهم ماجرت ، و أنّه لولادعاء موسى لما عادت الحياة إليهم.
    و على هذا فلادلالة في سؤال موسى على امكان الرؤية بعد كونه بسبب إصرار القوم و إلحاحهم ، و كان إقدامه لأجل تكبيتهم و اسكاتهم.
    ثمّ إنّ ما ذكرنا من تعدد السؤال هو الظاهر من الحديث المروي عن علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) قال : إنّ كليم اللّه رجع إلى قومه ، فأخبرهم أنّ اللّه عزّ و جلّ كلّمه و قرّبه و ناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت ، فلمّا جاء بهم إلى الميقات و سمعوا كلامه ، قالوا : لن نؤمن لك بأنّ هذا الذي سمعناه كلام اللّه حتى نرى اللّه جهرة ، فلمّا قالوا هذا القول العظيم بعث اللّه عزّ و جلّ عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا ، ثم أحياهم سبحانه بطلب من موسى ، فقالوا : إنّك لو سألتاللّه أن يريك أن تنظر إليه لأجابك ، و كنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته فقال موسى : يا قوم إنّ اللّه لايرى بالأبصار و لاكيفيّة له ، و إنّما يعرف بآياته ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى تسأله ، فقال موسى يا ربّ إنّك قدسمعت مقالة بني إسرائيل ، فأوحى اللّه إليه يا موسى إسألني ما سألوك و لن اُوآخذك بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى : ربّ أرني أنظر إليك (1).

كلام لصاحب « الكشّاف »
    و هناك كلام ذكره علاّمة المعتزلة « الشيخ محمود الزمخشري » صاحب الكشّاف ، و الجواب عن الاستدلال بالآية مبني على وحدة السؤال هذا نصّه :
    « ما كان طلب الرؤية إلاّ لتكبيت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء و ضلاّلاً و تبرّء من فعلهم و ليلقمهم الحجر ، و ذلك انّهم حينما طلبوا الرؤية أنكر عليهم ، و أعلمهم
1 ـ التوحيد للصدوق ، باب ما جاء في الرؤية ، الحديث 23 ، نقلناه ملخّصاً.

(437)
الخطأ و نبّههم على الحق ، فلجّوا و تمادوا في لجاجهم و قالوا : « لابد و لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة ». فأراد أن يسمعوا النص من عند اللّه باستحالة ذلك و هو قوله : « لن تراني » ليتيقّنوا و ينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة ، فلذلك قال : ( رب أرني انظر إليك ).
    فان قلت : فهلاّ قال « أَرهم ينظروا إليك » ، قلت لأنّ اللّه إنّما كلّم موسى ( عليه السلام ) و هم يسمعون ، فلمّا سمعوا كلام ربّ العزّة أرادوا أن يرَ موسى ذاته فيبصرونه معه كما أسمعه كلامه فسمعوا منه ، إرادة مبنيّة على قياس فاسد (1). فلذلك قال موسى : ( أرني انظر إليك ).
    و لأنّه إذا ضجر عمّا طلب ، و أنكر عليه مع كونه نبيّاً ، و قيل له « لن يكون » ذلك « كان غيره أولى بالإنكار ، و لأنّ الرسول إمام اُمّته فكان ما يخاطب به راجعاً إليهم أيضاً.
    ثمّ إنّ قوله ( انظر إليك ) صريح في التشبيه و التجسيم و جلّ موسى أن يكون مجسّماً أو مشبّهاً و هذا دليل على أنّه ذكر ذلك ترجمة من مقترحهم و حكايةً لقولهم و جَلّ صاحبُ الجمل من أن يجعل اللّه منظوراً إليه ، مقابلاً بحاسّة البصر ، فكيف بمن هو أعرف في معرفة اللّه من المتكلّمين و الفلاسفة؟
    فان قلت : ما معنى « لن » ؟ قلت : « تأكيد النفي الذي تعطيه « لا » ، و ذلك لأنّ « لا » تنفي المستقبل تقول : لاأفعل غداً ، و إذا أكدت نفيها قلت : لن أفعل غداً ، والمعنى أنّه فعله ينافي حالي كقوله : « لن يخلقوا ذباباً و لو اجتمعوا له » فقوله : ( ولاتدركه الأَبصار ) نفي للرؤية فيما يستقبل « و لن ترانى » تأكيد و بيان لأنّ الرؤية منافية لصفاته » (2).
1 ـ و هذا القياس عبارة عن أنّهم كما سمعوا صوته عن طريق موسى ، يمكن لهم رؤية ذاته عن طريق رؤية موسى أيضاً قياساً فاسداً.
2 ـ الكشّاف ـ تفسير سورة الاعراف ـ : ج 1 ، ص 573 ـ 574.


(438)
    و هذا الجواب مبنيّ على وحدة السؤال بشهادة قوله : « فان قلت فهلاّ قال أرهم ينظروا إليك ... » فهذا يعرب عن أنّه لم يتقدّم سؤال من بني اسرائيل حول رؤية اللّه ، إذ لو تقدّم السؤال و ترتب عليه نزول الصاعقة و الرجفة; لما كان هناك مورد للسؤال بقوله : « أَرهم ينظروا إليك » لمّا رأى أنّ طلب الرؤية لهم استعقب نزول العذاب ، ولميبق إلاّ السؤال لنفسه نيابة عنهم حتى يترتب عليه أحد الأمرين أمّا الرؤية أو الردّ ويتمّ الحجة على القوم ، و إن كان القوم لايأملون إلاّ الشقّ الأوّل.
    و على كل تقدير سواء كان هناك سؤالان أم كان سؤال واحد فليس في سؤال موسى دلالة على امكان الرؤية بعد كون سؤاله لأجل قومه و إثر إصرارهم والحاحهم.
    ثمّ إنّ الأشاعرة استدلّت بقوله سبحانه : ( رب أَرني انظر إليك ) من جهة اُخرى قالوا : « إنّه تعالى علّق الرؤية على استقرار الجبل و هو أمر ممكن في نفسه ، والمعلّق على الممكن ممكن ، لأنّ معنى التعليق أنّ المعلّق يقع على تقدير وقوع المعلّق عليه ، و المحال في نفسه لايقع على شيء من التقادير.
    و الجواب : إنّ الاستدلال مبني على أن يكون المراد من قوله : ( فان استقرّ مكانه ) هو امكان الاستقرار و لاشك انّه أمر ممكن ، و المعلّق على الأمر الممكن أيضاً ممكن.
    و لكن الظاهر أنّ المراد هو استقراره بعد التجلّي و المفروض انّه لم يستقر بعد ذلك بدليل قوله سبحانه : ( و جعله دكّا ) و هذا نظير قولك : « أنا أعطيك هذا الكتاب إن صلّيت » فالمراد هو قيام المخاطب بها بالفعل ، لاامكان قيامه.
    و هذا الاستدلال من الأشاعرة من غرائب الاستدلال.


(439)
الرؤية القلبيّة
    ثم إنّ للعلاّمة الطباطبائي نظرية في معنى الرؤية نذكرها هنا ملخّصة :
    يقول العلاّمة : « و الذي يعطيه التدبّر انّ حديث الرؤية و النظر الذي وقع في الآية إذا عرضناه على الفهم العامّي المتعارف حمله على رؤية العين و نظر الأبصار الذي يهيئ للباصر صورة مماثلة لصورة الجسم المبصر في شكله و لونه.
    وبالجملة ، هذا الذي نسمّيه الابصار الطبيعي يحتاج إلى مادة جسمية في المبصر و الباصر جميعاً و هذا لاشك فيه.
    والتعليم القرآني يعطي اعطاءً ضرورياً إنّ اللّه تعالى لايماثله شيء بوجه من الوجوه في خارج و لاذهن البتة.
    وما هذا شأنه لايتعلّق به الابصار بالمعنى الذي نجده من أنفسنا البتة ، ولاتنطبق عليه صورة ذهنية لا في الدنيا و لا في الآخرة ضرورة.
    وقد أطلق اللّه الرؤية و ما يقرب منها في موارد كثيرة من كلامه فتارة أثبتها ، وتارة نفاها.
    فربّما تفسّر الرؤية بحصول العلم الضروري لمبالغة في الظهور و نحوها كماقيل.
    و فيه انّا لانسمّى كل علم ضروري رؤية. مثلاً إنّا نعلم علماً ضروريّاً بوجود « لندن » و لم نرها و لانسمّيه رؤية.
    و أوضح من هذا علمنا الضروري بالبديهيات الأوّلية التي هي بكلتيها غيرمادّيّة و لامحسوسة ، مثل قولنا « الواحد نصف الاثنين » فإنّها علوم ضرورية يصحّ اطلاق العلم عليها ، ولايصحّ اطلاق الرؤية عليها البتة.
    نعم بين معلوماتنا ما لانتوقّف في إطلاق الرؤية عليه و استعمالها فيه ، نقول : وأراني اُريد كذا و أكره كذا واُحبّ كذا.


(440)
    و تسمية هذا القسم من العلم الذي يجد فيه الإنسان نفس المعلوم بواقعيته الخارجية رؤية مطرّدة.
    و اللّه سبحانه في ما أثبت من الرؤية يذكر معها خصوصيّات و يضم إليها ضمائم يدلّنا على أنّ المراد بالرؤية هذا القسم من العلم الذي نسمّيه في ما عندنا أيضاً رؤية كما في قوله : ( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَة مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْء مُحِيطٌ ) ( فصّلت/ 53 و54 ).
    حيث أثبت أوّلاً : إنّه على كل شيء حاضر و مشهود له ، لايختصّ بجهة دون جهة ، و بمكان دون مكان ، و بشيء دون شيء بل شهيد على كل شيء ، محيط بكل شيء ، لو وجده شيء لوجده على ظاهر كل شيء وباطنه و مع نفس وجدانه و على نفسه ، و ثانياً يثبت على هذه السمة لقاؤه ، لو كان هناك لقاء لا على نحو اللقاء الحسّي الذي لايتأتّى البتة إلاّ بمواجهة جسمانية و تعيّن جهة و مكان و زمان.
    و بهذا يشعر ما في قوله : ( مَا كَذَّبَ الفُؤادُ مَا رَأى ) ( النجم/11 ) من نسبة الرؤية إلى الفؤاد الذي لاشبهة في كون المراد به هو النفس الإنسانية الشاعرة دون اللحم الصنوبري المعلّق على يسار الصدر داخلاً.
    و نظير ذلك قوله تعالى : ( كَلّا بَلْ رَانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلّا اِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَمَحْجُوبُونَ ) ( المطفّفين/14و15 ).
    دلّ على أنّ الذي يحجبهم عنه تعالى رين المعاصي و الذنوب التي اكتسبوها فحال بين قلوبهم أي أنفسهم و بين ربّهم فحجبهم عن تشريف المشاهدة ، لولاالمعاصي لرأوه بقلوبهم أي أنفسهم لابأبصارهم و أحداقهم.
    فبهذه الوجوه يظهر أنّه تعالى يثبت في كلامه قسماً من الرؤية و المشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسيّة و هي نوع شعور في الإنسان يشعر بالشيء بنفسه من غير استعمال آلة حسيّة أو فكرية ، و إنّ للإنسان شعوراً بربّه غير ما يعتقد بوجوده من
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس