مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 441 ـ 450
(441)
طريق الفكر و استخدام الدليل ، بل يجده وجداناً من غير أن يحجبه عنه حاجب ، ولايجرّه إلى الغفلة عنه إلاّ اشتغاله بنفسه و بمعاصيه التي اكتسبها ، و هي مع ذلك غفلة عن أمر موجود مشهود لازوال علم بالكلّية و من أصله ، فليس في كلامه تعالى ما يشعر بذلك ألبتة ، بل عبّر عن هذا الجهل بالغفلة و هي زوال « العلم بالعلم » لازوال أصل « العلم ».
    فهذا ما يبيّنه كلامه سبحانه و يؤيّده العقل بساطع براهينه و الذي ينجلي من كلامه تعالى أنّ هذا العلم المسمّى بالرؤية و اللقاء يتم للصالحين من عباداللّه يومالقيامة.
    فهناك موطن التشرّف بهذا التشريف ، و أمّا في هذه الدنيا و الإنسان مشتغل ببدنه ، و منغمر في غمرات حوائجه الطبيعية فهو سالك لطريق اللقاء و العلم الضروري بآيات ربّه كادح إلى ربه كدحاً ليلاقيه ، فهو مازال في طريق هذا العلم لنيتم له حتى يلاقي ربّه.
    فهذا هو العلم الضروري الخاص الذي أثبته اللّه تعالى لنفسه و سمّاه رؤية ولقاء ، و لايهمّنا البحث من أنّها على نحو الحقيقة أو المجاز ، فإنّ القرائن كماعرفت قائمة على إرادة ذلك فان كانت حقيقة كانت قرائن معيّنة ، و إن كانت مجازاً كانت صارفة ، و القرآن الكريم أوّل كاشف عن هذه الحقيقة على هذا الوجه البديع ، فالكتب السماوية السابقة على ما بأيدينا ساكتة عن إثبات هذا النوع من العلم باللّه و تخلو عنه الأبحاث المأثورة عن الفلاسفة الباحثين عن هذه المسائل ، فإنّ العلم الحضوري عندهم كان منحصراً في علم الشيء بنفسه حتى كشف عنه في الإسلام فللقرآن المنّة في تنقيح المعارف الإلهية (1) إنتهى.
    و ما ذكره ( قدس اللّه سره ) متين و قدسبقه إليه العرفاء الشامخون في تفسير
1 ـ الميزان : ج 8 ، ص 249 ـ 253 ، طبعة طهران. و أذكر كلام سيّد الموحدين أميرالمؤمنين حيث قال : تدركه القلوب بحقائق الإيمان نهج البلاغة : الخطبة 174.

(442)
« لقاءاللّه » ، و حاصل هذا الجواب هو تعميم « العلم الحضوري » إلى علم الإنسان بنفسه و علمه بعلّته التي هو قائم بها.
    فالإنسان في ذلك المشهد الاُخروي يجد حضوره عند خالقه و بارئه ، و ذلك لأنّه لاحقيقة للمعلول إلاّ قوامه بعلّته ، و تعلّقه به كتعلّق المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، فالإنسان في ذلك المشهد لأجل كما له يجد ذلك التعلّق ، و يجد نفسه حاضراً عند بارئه حضوراً حقيقياً لا حصولياً ، فكم فرق بين أن يتصوّر الإنسان تعلّقه بعلّته ، أو ينتزع صورة من علّته فيصل إليه ببركة الصورة ، و بين أن يجد تلك الواقعية بوجودها الخارجي ، فذلك الحضور و الشهود شهود بعين القلب ، و حضور بتمام الوجود لايصل إليه إلاّ الأوحديّ في الدنيا ، و كما يصل أكثر المؤمنين في العالم الآخر و ثبوت الرؤية بهذا المعنى لاتضر بالعدلية و لاتنافي مسلكهم ، و إنّما الكلام في الرؤية بالمعنى العرفي.
    و نختم المقال بالمروي عن سيّد الموحّدين في مناجاته المعروفة بالمناجاة الشعبانية يقول : « إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك ، و أنر أبصار قولبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة .... ».


(443)
حرف الميم
المائة و الثامن : « المؤمن »
    و قدورد لفظ « المؤمن » في القرآن 22 مرّة و وقع وصفاً له سبحانه في مورد واحد.
    قال : ( اللّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَلاَمُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ ) ( الحشر/23 ).
    ذكر ابن فارس : إنّ لمادته معنيين متقاربين ، أحدهما الأمانة التي هي ضد الخيانة و معناها سكون القلب ، و الآخر التصديق ، و يظهر من « الراغب » إرجاع المعنيين إلى معنى واحد قال : أصل الأمن طمأنينة النفس و زوال الخوف. و « الأمن » و « الأمانة » و « الأمان » في الأصل مصادر.
    و كأنّه يريد إرجاع المعنى الثاني أي التصديق إلى المعنى الأوّل و هو طمأنينة النفس و زوال الخوف ، و على كل تقدير فقدإستعمل القرآن هذه المادة في المعنيين المذكورين قال حاكياً عن ولد يعقوب : ( وَ مَا أَنْتَ بِمُؤْمِن لَنَا ) أي بمصدّق لنا ، وكما قال : ( وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوف ) أي أعطاهم الأمان الذي هو ضد الاخافة ، و ربّما يقال في إرجاع التصديق إلى المعنى الأوّل أي الأمان هو انّ المتكلم يخاف أن يكذّبه السامع فإذا صدّقه و آمن له ، فقد أزال ذلك الخوف عنه فسمّي التصديق إيماناً.
    و الظاهر أنّ المراد من المؤمن في الآية الذي وقع وصفاً له سبحانه هو « معطي الأمان » لعباده حيث يؤمّنهم عن العذاب في الدنيا و الآخرة ، قال : ( اِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ


(444)
    لَهُمْ مِنّا الحُسْنى اُولئِكَ عَنْها مُبَعَّدُونَ * لاَ يسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ اَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لايَحْزَنُهُمْ الْفَزَعُ الاَْكْبَرُ وَ تَتَلَقّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كنْتُمْ تُوعَدُونَ ) ( الأنبياء/101 ـ 103 ).
    و قال سبحانه : ( اِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ اَلّا تَخَافُوا وَ لاتَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) ( فصّلت/30 ).
    و يمكن أن يقال : إنّ المؤمن بمعنى المصدّق فهو سبحانه يصدّق أوليائه بالمعاجز و الكرامات.
    و أمّا حظ العبد من هذا الإسم فهو أن يؤمّن الخلق كلّهم من جانبه خصوصاً من كان له صلة به ، قال النبي : « المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه » وقدروي أنّه قال : « من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر ، فليؤمّن جاره بوائقه » (1).
    هذا إذا كان مأخوذاً من الأمان بمعنى معطيه ، و أمّا إذا كان من الايمان بمعنى التصديق فحظّه هو الإيمان باللّه و رسله و كتبه و كل ما اُنزل من اللّه سبحانه.

المائة و التاسع : « مالك الملك »
    و قدورد هذا اللفظ في القرآن الكريم مرّة واحدة و وقع وصفاً له سبحانه.
    قال سبحانه : ( قُلِ اَللّهُمَ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ و َتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ اِنَّكَ عَلى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ ) ( آل عمران/26 ).
    أمّا معناه فقدقال ابن فارس : « يدلّ على قوّة في الشيء و صحّة ، يقال : أملك عجينه أي قوّى عجنه و شدّه ، ثم اشتق منه ما يقال ملك الإنسان الشيء يملكه ملكاً
1 ـ نقله الرازي في لوامع البيّنات : ص 91.

(445)
و الاسم الملك ـ بكسر الميم ـ لأنّ يده فيه قويّة صحيحة ، فالملك ـ بكسر الميم ـ ماملك من مال.
    أقول : قداشتق من هذه المادة الألفاظ التالية :
    1 ـ المُلك ـ بضم الميم ـ.
    2 ـ المِلك ـ بكسرها ـ.
    3 ـ الملِك ـ بكسر اللام ـ.
    4 ـ المالك.
    5 ـ المليك.
    6 ـ المَلك ـ بفتح الميم و سكون اللام ـ.
    7 ـ الملكوت.
    و قدورد الكل في الذكر الحكيم غير الملك ـ بكسر الميم ـ و لابأس بتوضيح مفاد الكل من خلال الدقّة في الآيات المشتملة عليها.
    قدعرفت أنّ المعنى الأصلي الجذري لمادة هذه الكلمات هو القوّة و القدرة فاشتقاق هذه الكلمات من ذلك المبدأ بهذا المعنى باعتبار معان طارئة عليها و نسب مضافة إليها.
    أمّا الملك ـ بضم الميم ـ فهي عبارة عن السلطة سواء كان على الناس أم على الأشياء ، لكن السلطة على الناس مبدأ للسياسة و التدبير في ُامورهم و شؤونهم ، والسلطة على الشيء مبدء للتصرف فيه بالبيع و الهبة ، فالجامع بينهما هو السلطة ، ولها في كل مورد أثر خاص ، والمتبادر من الملك ـ بالضم ـ الوارد في القرآن الكريم 42 مرّة هو ذاك و إليك بعض الآيات :
    ( وَ اتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) ( البقرة/102 ).


(446)
    ( قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا ) ( البقرة/247 ).
    ( اَلَمْ تَرَ اِلى الَّذِى حَاجَّ اِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ ) ( البقرة/258 ).
    ( قَوْلُهُ الحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ ) ( الأنعام/73 ).
    ( لِمَن الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْواحِدِ القَهّارِ ) ( غافر/16 ).
    و الآيات تعرب عن معنى الكلمة و هو وجود السلطة و القدرة على التصرّف.
    وأمّا الملك ـ بكسر الميم ـ فيراد منه الشيء المملوك نظير قول القائل : « السكة ضرب الأمير » أي مضروبه ، ولايتّصف الشيء بالمملوكية إلاّ إذا كانت هناك رابطة تكوينيّة أو وضعية بينه و بين الشخص ، أمّا الرابطة التكوينية ككون الإنسان مالكاً لجوارحه و فيء ظلّه له السلطة على القبض و البسط و الاستعمال و الترك ، وإذا كانت الرابطة تكوينيّة واقعيّة حقيقية ، فلاتتغير و لاتنعدم عبر الزمان إلاّ بموت الإنسان وانعدامه ، وأمّا الرابطة الوضعيّة الاعتباريّة ، فكما إذا استولى على شيء من باب الحيازة فيرى نفسه أولى به من غيره ، ولأجله يقوم بهبته و بيعه و تبديله ، وبما أنّ الرابطة وضعيّة اعتباريّة تكون خاضعة للتبدّل و التحوّل ، ولعلّ مبدأ الانتقال إلى الرابطة الوضعية ، هي الرابطة التكوينية الموجودة بين الإنسان وأعضائه ، فاعتبرت بين الإنسان و ما استولى عليه محاكاة للتكوينية من الرابطة.
    أمّا المَلِك ـ بفتح الميم و كسر اللام ـ فهو وصف من المُلك ـ بضم الميم ـ أي القادر الواسع القدرة الذي له السياسة و التدبير ، فبما أنّ له السلطة على شؤون الناس والسياسة يطلق عليه المَلِك فهو المتصرّف بالأمر و النهي في المجتمع ، وهذا هو المتبادر من لفظ الملك في الآيات التي ورد فيها ، قال سبحانه : ( وَ كَانَ وَرآءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَة غَصْباً ) ( الكهف/79 ).
    و قال سبحانه : ( اِذْ قالُوا لِنَبِىّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلُ فِى سَبِيلِ اللّهِ ) ( البقرة/246 ).


(447)
    و لمّا كان أصحاب السلطة عبر القرون غالبا غير ملتزمين بالعدل و الإنصاف ، قال سبحانه حاكياً عن ملكة سبأ : ( إِنَّ الْمُلُوكَ اِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً اَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ اَهْلِها اَذِلَّةًّ وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) ( النمل/34 ).
    وأمّا المالك فهو صيغة الفاعل فهو من بيده « الملك » ـ بالضم ـ أو الملك ـ بالكسر ـ فاللّه سبحانه مالك المُلك ـ بضم الميم ـ كما أنّه مالك الملك ـ بالكسر ـ ومالكيّته للأشياء لاينافي ملكية الناس لها لإختلاف الرابطتين جوهراً و حقيقة ، فاللّه سبحانه مالك للسماء و الأرض وما فيهما مالكية تكوينية بإيجادها و ابداعها لكن مالكية الإنسان لما يحوزه أو يكسبه مالكية اعتبارية اعتبرت مضاهية للرابطة الموجودة بين الإنسان وأعضائه.
    وأمّا المليك فهي صيغة مبالغة من المَلِك ـ بكسر اللام ـ.
    قال تعالى : ( فِى مَقْعَدِ صِدْق عِنْدَ مَلِيك مَقْتَدِر ) ( القمر/55 ).
    وأمّا « الملكوت » فهو المُلك ـ بضم الميم ـ أضيف إليه الواو و التاء للمبالغة كالطاغوت و الجبروت بالنسبة إلى الطغيان و الجبر ، و المتدبّر في الآيات الواردة حول هذا اللفظ يقف على أنّ المراد هو وجود الأشياء من حيث انتسابها إلى اللّه سبحانه و قيامها به و هذا أمر لايقبل الشركة و يختصّ به سبحانه وحده.
    قال سبحانه : ( وَ كَذلِكَ نُرِى اِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمواتِ والأرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ ) ( الأنعام/75 ).
    و قال سبحانه : ( اَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمواتِ وَ الأَرْضِ وَ مَا خَلَقَ اللّهُ مِنْ شَىْء ) ( الأعراف/185 ).
    و المراد منه حسب ما يعطيه التدبّر في الآيات الواردة في قصّة الخليل هو مشاهدة العالم من جهة استنادها إلى اللّه سبحانه استناداً لايقبل الشركة ، ولأجل ذلك افترض الخليل لأجل الإحتجاج على الخصم ، أرباباً نسب إليهم في الظاهر تدبير العالم من كوكب زاهر و قمر بازغ و شمس مضيئة لأجل إفحام المخاطب ، ثم عدل


(448)
عنها لأجل اُفولها وغيبوبتها عن الإنسان المربوب و توجّه إلى الرب الحقيقي و قال : ( إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمواتِ وَ الأَرْضَ حَنِيفاً وَ مَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ( الانعام/79 ).
    وأمّا الملك ـ بفتح الميم وسكون اللام ـ فقد جاء في قوله سبحانه : ( مَا اَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا ) ( طه/87 ) فهو مصدر ملك يملك ، و المراد ما أخلفنا الوعد حسب ما كنا نملك من أمرنا.
    هذا ما يرجع إلى تفسير هذه الأسماء السبعة على وجه الإجمال ، فلنرجع إلى تفسير « مالك الملك » الذي عقدنا البحث لأجل ذلك الاسم وإن اتّضح معناه بالبحث السابق.
    قدعرفت أنّ المُلك ـ بضم الميم ـ هو السلطة و القدرة سواء تعلّق بالناس أو تعلّق بالشيء ، فاللّه سبحانه بما أنّه مبدع للعالم ، موجد للسماء و الأرض وما بينهما يكون الكل ملكاً له سبحانه ملكية تكوينية ، وكونه مالكاً لما خلق يستلزم كونه ذاسلطة وقدرة عليه ، فينتج انّه سبحانه مالك الملك ـ بالضم ـ و له الايتاء لمن شاء والنزع ممّن شاء.
    قال سبحانه : ( أَنْ آتَاهُ اللّهُ المُلْكَ ) ( البقرة/258 ).
    و قال سبحانه : ( و آتيناهم مُلكا عظيما ) ( النساء/54 ).
    و قال سبحانه : ( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّات وَ عُيُون ... وَ اَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ) ( الدخان/25 ـ 28 ).
    فالملك بمعنى السلطة بالذات موهبة إلهية للمجتمع الإنساني ، فلو كان المتقلّد للرئاسة دائناً بدين الحق ، حابساً نفسه على ذات اللّه ، قائماً بالقسط بين الاُمّة تكون راية العدل خفّاقة ، و أبواب العلم منفتحة ، فتعيش الاُمّة في ظلّها في صلاح وفلاح.


(449)
    وأمّا إذا كان ذلك السلاح بيد إنسان سيئ السيرة خبيث النيّة فينزوي الحق وينتشر الباطل و تصبح الحياة رهينة للمصاعب و المآسي ، فاللّه سبحانه يمدح نفسه بأنّه « مالك الملك » فهو بهذا المعنى أي أنّه مالك تلك النعمة الثمينة كسائر النعم التي تقع على وجهين.
    و أمّا قوله سبحانه : ( تُؤتِى الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَنَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ اِنَّكَ عَلى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ ) ( آل عمران/26 ) فلايهدف إلى إنّ كلاًّ من الايتاء و النزع جزافيّ كيف و هو سبحانه حكيم منزّه عن العبث و الجزاف.
    قال سبحانه : ( لَوْ أَرَدْنا اَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَِتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا اِنْ كُنّا فاعِلِينَ ) ( الأنبياء/17 ).
    و قال سبحانه : ( وَ مَا خَلَقْنا السَّماءَ وَ الأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ ) ( ص/27 ).
    بل المراد أنّه سبحانه غير مجبور على أي من الإيتاء و النزع ، فلاينافي أن يكون كل منهما لمصلحة خاصّة عائدة على الامّة ...

المائة و العاشر : « مالك يوم الدين »
    قدورد هذا الاسم في الذكر الحكيم مرّة واحدة و وقع وصفاً له سبحانه.
    قال سبحانه : ( اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ( الفاتحة/2 ـ 4 ).
    قرأ عاصم و الكسائي و خلف و يعقوب الحضرمي بالالف و الباقون « ملك » بغير ألف.
    ثمّ اختلفوا في أنّ أي القرائتين أمدح ، فذكر كل من الطائفتين وجوهاً لترجيح


(450)
قرائته على الآخر نذكر بعضها ، فمن قرأ بالالف قال :
    1 ـ إنّ هذه الصفة أمدح لأنّه لايكون مالكاً للشيء إلاّ و هو يملكه ، و هذا بخلاف ما إذا كان ملكاً للشيء فربّما لايملكه كما يقال « ملك العرب و الروم » وإن كان لايملكهم.
    2 ـ قد يدخل في المالك ما لايصحّ دخوله في الملك ـ بكسر اللام ـ يقال فلان مالك الدراهم و لايقال ملك الدراهم ، فالوصف بالمالك أعمّ من الوصف بالملك.
    3 ـ و اللّه مالك كل شيء و قدوصف نفسه بأنّه مالك الملك يؤتي الملك من يشاء ، فوصفه بالمالك أبلغ في الثناء و المدح من وصفه بالملك.
    احتجّ من قرأ بغير الألف بوجوه :
    1 ـ إنّ هذه الصفة أمدح لأنّه لايكون إلاّ مع التعظيم و الاحتواء على الجمع الكثير.
    2 ـ إنّ الملك الذي يملك الكثير من الأشياء و يشاركه غيره من الناس في ملكه بالحكم عليه ، وعليه كل ملك مالك وليس كل مالك ملكاً ، وإنّما قال تعالى مالك الملك لأنّه تعالى يملك ملوك الدنيا وما ملكوا ، ومعناه أنّه يملك ملك الدينا فيعطي الملك فيها من يشاء.
    و لايخفى أنّ هذه الوجوه قابلة للنقاش و لكل من القراءتين دليل قرآني.
    أمّا الأوّل فقد قال سبحانه : ( وَ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْس شَيْئاً وَ الأَمْرُ يَوْمَئِذ لِلّهِ ) ( الإنفطار/17 ـ 19 ) لأنّ قولك « الأمر له » عبارة اُخرى عن كونه مالك الأمر و بعبارة اُخرى إنّ مقتضى كونه بمنزلة الاستثناء من الآية المتقدّمة أعني ( لاتَمْلِك نَفْس لِنفس ) إنّه سبحانه مالك الأمر في ذلك اليوم.
    كما أنّه يؤيّد القراءة الثانية قوله سبحانه : ( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْوَاحِدِ القَهَّارِ ) ( غافر/16 ).
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس