الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 61 ـ 75
(61)
    وهل يجتري عاقل على أن يأتي بكتاب يدعيه هدى للعالمين ثم يودعه أخبارا في الغيب مما مضى ويستقبل وفيمن خلت من الامم وفيمن سيقدم منهم لا بالواحد والاثنين في أبواب مختلفة من القصص والملاحم والمغيبات المستقبلة ثم لا يتخلف شئ منها عن صراط الصدق ؟.
    وهل يتمكن إنسان وهو أحد أجزاء نشأة الطبيعة المادية ، والدار دار التحول والتكامل ، أن يداخل في كل شأن من شئون العالم الانساني ويلقي إلى الدنيا معارف وعلوما وقوانين وحكما ومواعظ وأمثالا وقصصا في كل ما دق وجل ثم لا يختلف حاله في شئ منها في الكمال والنقص وهي متدرجة الوجود متفرقة الالقاء وفيها ما ظهر ثم تكرر وفيها فروع متفرعة على أصولها ؟ هذا مع ما نراه أن كل إنسان لا يبقى من حيث كمال العمل ونقصه على حال واحدة.
     فالانسان اللبيب القادر على تعقل هذه المعاني لا يشك في أن هذه المزايا الكلية وغيرها مما يشتمل عليه القرآن الشريف كلها فوق القوة البشرية ووراء الوسائل الطبيعية المادية وان لم يقدر على ذلك فلم يضل في انسانيته ولم ينس ما يحكم به وجدانه الفطري أن يراجع فيما لا يحسن إختباره ويجهل مأخذه إلى أهل الخبرة به.
    فان قلت : ما الفائدة في توسعة التحدي إلى العامة والتعدي عن حومه الخاصة فان العامة سريعة الانفعال للدعوة والاجابة لكل صنيعة وقد خضعوا لامثال الباب والبهاء والقادياني والمسيلمة على أن ما أتوا به واستدلوا عليه أشبه بالهجر والهذيان منه بالكلام.
     قلت : هذا هو السبيل في عموم الاعجاز والطريق الممكن في تمييز الكمال والتقدم في أمر يقع فيه التفاضل والسباق ، فان أفهام الناس مختلفة اختلافا ضروريا والكمالات كذلك ، والنتيجة الضرورية لهاتين المقدمتين أن يدرك صاحب الفهم العالي والنظر الصائب ويرجع من هو دون ذلك فهما ونظرا إلى صاحبه ، و الفطرة حاكمة والغريزة قاضية.
    ولا يقبل شئ مما يناله الانسان بقواه المدركة ويبلغه فهمه العموم والشمول لكل فرد في كل زمان ومكان بالوصول والبلوغ والبقاء إلا ما هو من سنخ العلم والمعرفة


(62)
على الطريقة المذكورة ، فان كل ما فرض آية معجزة غير العلم والمعرفة فانما هو موجود طبيعي أو حادث حسي محكوم بقوانين المادة محدود بالزمان والمكان فليس بمشهود إلا لبعض أفراد الانسان دون بعض ولو فرض محالا أو كالمحال عمومه لكل فرد منه فإنما يمكن في مكان دون جميع الامكنة ، ولو فرض اتساعه لكل مكان لم يمكن اتساعه لجميع الازمنة والاوقات.
     فهذا ما تحدى به القرآن تحديا عاما لكل فرد في كل مكان في كل زمان.

    وقد تحدى بالعلم والمعرفة خاصة بقوله تعالى : « ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ » النحل ـ 89 ، وقوله « ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين » الانعام ـ 59 ، إلى غير ذلك من الآيات ، فإن الاسلام كما يعلمه ويعرفه كل من سار في متن تعليماته من كلياته التي أعطاها القرآن وجزئياته التي أرجعها إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، بنحو قوله : « ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا » الحشر ـ 7 ، وقوله تعالى : « لتحكم بين الناس بما أريك الله » النساء ـ 104 ، وغير ذلك متعرض للجليل والدقيق من المعارف الالهية ( الفلسفية ) والاخلاق الفاضلة والقوانين الدينية الفرعية من عبادات ومعاملات وسياسات واجتماعيات وكل ما يمسه فعل الانسان وعمله ، كل ذلك على أساس الفطرة وأصل التوحيد بحيث ترجع التفاصيل إلى اصل التوحيد بالتحليل ، ويرجع الاصل إلى التفاصيل بالتركيب.
    وقد بين بقائها جميعا وانطباقها على صلاح الانسان بمرور الدهور وكرورها بقوله تعالى : « وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد » حم سجدة ـ 42. وقوله تعالى : « إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون » الحجر ـ 9 ، فهو كتاب لا يحكم عليه حاكم النسخ ولا يقضي عليه قانون التحول والتكامل.
    فان قلت : قد استقرت أنظار الباحثين عن الاجتماع وعلماء التقنين اليوم على


(63)
وجوب تحول القوانين الوضعية الاجتماعية بتحول الاجتماع واختلافها باختلاف الازمنة والاوقات وتقدم المدنية والحضارة.
     قلت : سيجئ البحث عن هذا الشأن والجواب عن الشبهة في تفسير قوله تعالى « كان الناس امة واحدة. الآية » البقرة ـ 213.
     وجملة القول وملخصه أن القرآن يبني أساس التشريع على التوحيد الفطري والاخلاق الفاضلة الغريزية ويدعي ان التشريع يجب أن ينمو من بذر التكوين والوجود. وهؤلاء الباحثون يبنون نظرهم على تحول الاجتماع مع الغاء المعنويات من معارف التوحيد وفضائل الاخلاق ، فكلمتهم جامدة على سير التكامل الاجتماعي المادي العادم لفضيلة الروح ، وكلمة الله هي العليا.

    وقد تحدى بالنبي الامي الذي جاء بالقرآن المعجز في لفظه ومعناه ، ولم يتعلم عند معلم ولم يترب عند مرب بقوله تعالى : « قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدريكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون » يونس ـ 16 ، فقد كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بينهم وهو أحدهم لا يتسامى في فضل ولا ينطق بعلم حتى لم يأت بشئ من شعر أو نثر نحوا من أربعين سنة وهو ثلثا عمره لا يحوز تقدما ولا يرد عظيمة من عظائم المعالي ثم أتى بما اتى به دفعة فأتى بما عجزت عنه فحولهم وكلت دونه ألسنة بلغائم ، ثم بثه في أقطار الارض فلم يجترئ على معارضته معارض من عالم أو فاضل أو ذي لب وفطانة.
     وغاية ما أخذوه عليه : انه سافر إلى الشام للتجارة فتعلم هذه القصص ممن هناك من الرهبان ولم يكن أسفاره إلى الشام إلا مع عمه أبي طالب قبل بلوغه وإلا مع ميسرة مولى خديجة وسنه يومئذ خمسة وعشرون وهو مع من يلازمه في ليله ونهاره ، ولو فرض محالا ذلك فما هذه المعارف والعلوم ؟ ومن أين هذه الحكم والحقائق ؟ وممن هذه البلاغة في البيان الذي خضعت له الرقاب وكلت دونه الالسن الفصاح ؟
    وما أخذوه عليه انه كان يقف على قين بمكة من أهل الروم كان يعمل السيوف


(64)
ويبيعها فأنزل الله سبحانه : « ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين » النحل ـ 103.
    وما قالوا عليه أنه يتعلم بعض ما يتعلم من سلمان الفارسي وهو من علماء الفرس عالم بالمذاهب والاديان مع ان سلمان إنما آمن به في المدينة وقد نزل أكثر القرآن بمكة وفيها من جميع المعارف الكلية والقصص ما نزلت منها بمدينة بل أزيد ، فما الذي زاده ايمان سلمان وصحابته ؟
    على أن من قرأ العهدين وتأمل ما فيهما ثم رجع إلى ما قصه القرآن من تواريخ الانبياء السالفين واممهم رأى أن التاريخ غير التاريخ والقصة غير القصة ففيهما عثرات وخطايا لانبياء الله الصالحين تنبو الفطرة وتتنفر من أن تنسبها إلى المتعارف من صلحاء الناس وعقلائهم ، والقرآن يبرئهم منها وفيها أمور أخرى لا يتعلق بها معرفة حقيقية ولا فضيلة خلقية ولم يذكر القرآن منها إلا ما ينفع الناس في معارفهم وأخلاقهم وترك الباقي وهو الاكثر.

    وقد تحدى بالاخبار عن الغيب بآيات كثيرة ، منها إخباره بقصص الانبياء السالفين وأممهم كقوله تعالى : « تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا الآية » هود ـ 49 ، وقوله تعالى بعد قصة يوسف : « ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون » يوسف ـ 102 وقوله تعالي في قصة مريم : « ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم ايهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون » آل عمران ـ 44 وقوله تعالى : « ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون » مريم ـ 34 إلى غير ذلك من الآيات.
     ومنها الاخبار عن الحوادث المستقبلة كقوله تعالى : « غلبت الروم في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين » الروم ـ 2 ـ 3 ، وقوله تعالى في رجوع النبي إلى مكة بعد الهجرة : « إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى المعاد » القصص ـ


(65)
85 ، وقوله تعالى « لتدخلن المسجد الحرام انشاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون الآية » الفتح ـ 27 ، وقوله تعالى : « سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم » الفتح ـ 15 ، وقوله تعالى : « والله يعصمك من الناس » المائدة ـ 70 ، وقوله تعالى : « إنا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون » الحجر ـ 9 ، وآيات أخر كثيرة في وعد المؤمنين وعيد كفار مكة ومشركيها.
    ومن هذا الباب آيات أخر في الملاحم نظير قوله تعالى : « وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون حتى إذا فتحت ياجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين » الانبياء ـ 95 ، 97 ، وقوله تعالى : « وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض » النور ـ 55 ، وقوله تعالى « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم » الانعام ـ 65 ، ومن هذا الباب قوله تعالى : « وارسلنا الرياح لواقح » الحجر ـ 22 ، وقوله تعالى « وأنبتنا فيها من كل شئ موزون » الحجر ـ 19 ، وقوله تعالى : « والجبال أوتادا » النباء ـ 7 ، مما يبتني حقيقة القول فيها على حقائق علمية مجهولة عند النزول حتى اكتشف الغطاء عن وجهها بالابحاث العلمية التي وفق الانسان لها في هذه الاعصار.
    ومن هذا الباب « وهو من مختصات هذا التفسير الباحث عن آيات القرآن باستنطاق بعضها ببعض واستشهاد بعضها على بعض » ما في سورة المائدة من قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ، الآية » المائدة ـ 54. وما في سورة يونس من قوله تعالى : « ولكل امة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط إلى آخر الآيات » يونس ـ 47 ، وما في سورة الروم من قوله تعالى : « فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها الآية» الروم ـ 30 ، إلى غير ذلك من الآيات التي تنبئ عن الحوادث العظيمة التي تستقبل الامة الاسلامية أو الدنيا عامة بعد عهد نزول القرآن ، وسنورد انشاء الله تعالى طرفا منها في البحث عن سورة الاسراء.


(66)
    وقد تحدى أيضا بعدم وجود الاختلاف فيه ، قال تعالى : « أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافا كثيرا » النساء ـ 82 ، فإن من الضروري أن النشة نشأة المادة والقانون الحاكم فيها قانون التحول والتكامل فما من موجود من الموجودات التي هي أجزاء هذا العالم الا وهو متدرج الوجود متوجه من الضعف إلى القوة ومن النقص إلى الكمال في ذاته وجميع توابع ذاته ولواحقه من الافعال والآثار ومن جملتها الانسان الذي لا يزال يتحول ويتكامل في وجوده وأفعاله وآثاره التي منها آثاره التي يتوسل إليها بالفكر والادراك ، فما من واحد منا إلا وهو يرى نفسه كل يوم أكمل من أمس ولا يزال يعثر في الحين الثاني على سقطات في أفعاله وعثرات في اقواله الصادرة منه في الحين الاول ، هذا أمر لا ينكره من نفسه إنسان ذو شعور.
     وهذا الكتاب جاء به النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نجوما وقرأه على الناس قطعا قطعا في مدة ثلاث وعشرين سنة في أحوال مختلفة وشرائط متفاوتة في مكة والمدينة في الليل والنهار والحضر والسفر والحرب والسلم في يوم العسرة وفي يوم الغلبة ويوم الامن ويوم الخوف ، ولالقاء المعارف الالهية وتعليم الاخلاق الفاضلة وتقنين الاحكام الدينية في جميع أبواب الحاجة ، ولا يوجد فيه أدنى إختلاف في النظم المتشابه ، كتابا متشابها مثانى ولم يقع في المعارف التي ألقاها والاصول التي أعطاها إختلاف يتناقض بعضها مع بعض وتنافي شئ منها مع آخر ، فالآية تفسر الآية والبعض يبين البعض ، والجملة تصدق الجملة كما قال علي ( عليه السلام ) : ( ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض ) ( نهج البلاغة ). ولو كان من عند غير الله لاختلف النظم في الحسن والبهاء والقول في الشداقة والبلاغة والمعنى من حيث الفساد والصحة ومن حيث الاتقان والمتانة.
    فان قلت : هذه مجرد دعوى لا تتكي على دليل وقد أخذ على القرآن مناقضات واشكالات جمة ربماألف فيه التأليفات ، وهى اشكالات لفظية ترجع إلى قصوره في جهات البلاغة ومناقضات معنوية تعود إلى خطأه في آرائه وأنظاره وتعليماته ، وقد


(67)
أجاب عنها المسلمون بما لا يرجع في الحقيقة إلا إلى التأويلات التي يحترزها الكلام الجاري على سنن الاستقامة وإرتضاء الفطرة السليمة.
     قلت : ما أشير إليه من المناقضات والاشكالات موجودة في كتب التفسير وغيرها مع أجوبتها ومنها هذا الكتاب ، فالاشكال أقرب إلى الدعوى الخالية عن البيان.
    ولا تكاد تجد في هذه المؤلفات التي ذكرها المستشكل شبهة أوردوها أو مناقضة أخذوها الا وهي مذكور في مسفورات المفسرين مع اجوبتها فأخذوا الاشكالات وجمعوها ورتبوها وتركوا الاجوبة وأهملوها ، ونعم ما قيل : لو كانت عين الحب متهمة فعين البغض أولى بالتهمة.
    فان قلت : فما تقول في النسخ الواقع في القرآن وقد نص عليه القرآن نفسه في قوله : « ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها » البقرة ـ 106 وقوله : « وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل » النحل ـ 101 ، وهل النسخ إلا اختلاف في النظر لو سلمنا أنه ليس من قبيل المناقضة في القول ؟.
     قلت : النسخ كما أنه ليس من المناقضة في القول وهو ظاهر كذلك ليس من قبيل الاختلاف في النظر والحكم وانما هو ناش من الاختلاف في المصداق من حيث قبوله إنطباق الحكم يوما لوجود مصلحته فيه وعدم قبوله الانطباق يوما آخر لتبدل المصلحة من مصلحة اخرى توجب حكما آخر ، ومن أوضع الشهود على هذا أن الآيات المنسوخة الاحكام في القرآن مقترنة بقرائن لفظية تومي إلى أن الحكم المذكور في الآية سينسخ كقوله تعالى : « واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن اربعة منكم فان شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفيهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا » النساء ـ 14 ، ( انظر إلى التلويح الذي تعطيه الجملة الاخيرة ) ، وكقوله تعالى : « ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا » إلى أن قال « فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره » البقرة ـ 109 ، حيث تمم الكلام بما يشعر بأن الحكم مؤجل.


(68)
    وقد تحدى القرآن بالبلاغة كقوله تعالى : « أم يقولون افتريه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما إنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون » هود ـ 13 ، 14. والآية مكية ، وقوله تعالى : « أم يقولون افتريه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من إستظعتم دون الله ان كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله »يونس ـ 38 ، 39. والآية ايضا مكية وفيها التحدي بالنظم والبلاغة فإن ذلك هو الشأن الظاهر من شؤون العرب المخاطبين بالآيات يومئذ ، فالتاريخ لا يرتاب أن العرب العرباء بلغت من البلاغة في الكلام مبلغا لم يذكره التاريخ لواحدة من الامم المتقدمة عليهم والمتأخرة عنهم ووطئوا موطئا لم تطأه أقدام غيرهم في كمال البيان وجزالة النظم ووفاء اللفظ ورعاية المقام وسهولة المنطق. وقد تحدى عليهم القرآن بكل تحد ممكن مما يثير الحمية ويوقد نار الانفة والعصبية. وحالهم في الغرور ببضاعتهم والاستكبار عن الخضوع للغير في صناعتهم مما لا يرتاب فيه ، وقد طالت مدة التحدي وتمادى زمان الاستنهاض فلم يجيبوه إلا بالتجافي ولم يزدهم إلا العجز ولم يكن منهم إلا الاستخفاء والفرار ، كما قال تعالى : « الا انهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه الاحين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون » هود ـ 5.
    وقد مضى من القرون والاحقاب ما يبلغ أربعة عشر قرنا ولم يأت بما يناظره آت ولم يعارضه أحد بشئ إلا أخزى نفسه وافتضح في أمره.
    وقد ضبط النقل بعض هذه المعارضات والمناقشات ، فهذا مسيلمة عارض سورة الفيل بقوله : ( الفيل ما الفيل وما أدريك ما الفيل له ذنب وبيل وخرطوم طويل ) وفي كلام له في الوحي يخاطب السجاح النبية ( فنولجه فيكن إيلاجا ، ونخرجه منكن إخراجا ) فانظر إلى هذه الهذيانات واعتبر ، وهذه سورة عارض بها الفاتحة بعض النصارى ( الحمد للرحمن. رب الاكوان الملك الديان. لك العبادة وبك المستعان اهدنا صراط الايمان ) إلى غير ذلك من التقولات.


(69)
    فان قلت : ما معنى كون التأليف الكلامي بالغا إلى مرتبة معجزة للانسان ووضع الكلام مما سمحت به قريحة الانسان ؟ فكيف يمكن ان يترشح من القريحة ما لا تحيط به والفاعل اقوى من فعله ومنشأ الاثر محيط بأثره ؟ وبتقريب آخر الانسان هو الذي جعل اللفظ علامة دالة على المعنى لضرورة الحاجة الاجتماعية إلى تفهيم الانسان ما في ضميره لغيره فخاصة الكشف عن المعنى في اللفظ خاصة وضعية اعتبارية مجعولة للانسان ، ومن المحال أن يتجاوز هذه الخاصة المترشحة عن قريحة الانسان حد قريحته فتبلغ مبلغا لا تسعه طاقة القريحة ، فمن المحال حينئذ أن يتحقق في اللفظ نوع من الكشف لا تحيط به القريحة والا كانت غير الدلالة الوضعية الاعتبارية ، مضافا إلى أن التراكيب الكلامية لو فرض ان بينها تركيبا بالغا حد الاعجاز كان معناه أن كل معنى من المعاني المقصودة ذو تراكيب كلامية مختلفة في النقص والكمال والبلاغة وغيرها ، وبين تلك التراكيب تركيب هو أرقاها وابلغها لا تسعها طاقة البشر ، وهو التركيب المعجز ، ولازمه أن يكون في كل معنى مطلوب تركيب واحد إعجازي ، مع ان القرآن كثيرا ما يورد في المعنى الواحد بيانات مختلفة وتراكيب متفرقة ، وهو في القصص واضح لا ينكر ، ولو كانت تراكيبه معجزة لم يوجد منها في كل معنى مقصود الا واحد لا غير.
     قلت : هاتان الشبهتان وما شاكلهما هي الموجبة لجمع من الباحثين في أعجاز القرآن في بلاغته أن يقولوا بالصرف ، ومعنى الصرف أن الاتيان بمثل القرآن أو سور أو سورة واحدة منه محال على البشر لمكان آيات التحدي وظهور العجز من أعداء القرآن منذ قرون ، ولكن لا لكون التأليفات الكلامية التي فيها في نفسها خارجة عن طاقة الانسان وفائقة على القوة البشرية ، مع كون التأليفات جميعا أمثالا لنوع النظم الممكن للانسان ، بل لان الله سبحانه يصرف الانسان عن معارضتها والاتيان بمثلها بالارادة الالهية الحاكمة على إرادة الانسان حفظا لآية النبوة ووقاية لحمى الرسالة.
     وهذا قول فاسد لا ينطبق على ما يدل عليه آيات التحدي بظاهرها كقوله « قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين ، فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله الآية » هود ـ 13 و 14 ، فان الجملة الاخيرة ظاهرة في ان الاستدلال بالتحدي إنما هو على كون القرآن نازلا لا كلاما تقوله رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وان نزوله انما هو بعلم الله لا بإنزال الشياطين


(70)
كما قال تعالى « أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين » الطور ـ 34 ، وقوله تعالى : « وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون » الشعراء ـ 212 ، والصرف الذي يقولون به إنما يدل على صدق الرسالة بوجود آية هي الصرف ، لا على كون القرآن كلاما لله نازلا من عنده ، ونظير هذه الآية الآية الاخرى ، وهي قوله : « قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله الآية » يونس ـ 39 ، فإنها ظاهرة في ان الذي يوجب إستحالة إتيان البشر بمثل القرآن وضعف قواهم وقوى كل من يعينهم على ذلك من تحمل هذا الشأن هو ان للقرآن تأويلا لم يحيطوا بعلمه فكذبوه ، ولا يحيط به علما إلا الله فهو الذي يمنع المعارض عن أن يعارضه ، لا أن الله سبحانه يصرفهم عن ذلك مع تمكنهم منه لو لا الصرف بإرادة من الله تعالى.
     وكذا قوله تعالى : « أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافا كثيرا الآية » النساء ـ 82 ، فانه ظاهر في أن الذي يعجز الناس عن الاتيان بمثل القرآن إنما هو كونه في نفسه على صفة عدم الاختلاف لفظا ومعنى ولا يسع لمخلوق أن يأتي بكلام غير مشتمل على الاختلاف ، لا أن الله صرفهم عن مناقضته بإظهار الاختلاف الذي فيه هذا ، فما ذكروه من أن إعجاز القرآن بالصرف كلام لا ينبغي الركون إليه.
     وأما الاشكال باستلزام الاعجاز من حيث البلاغة المحال ، بتقريب أن البلاغه من صفات الكلام الموضوع ووضع الكلام من آثار القريحة الانسانية فلا يمكن أن يبلغ من الكمال حدا لا تسعه طاقة القريحة وهو مع ذلك معلول لها لا لغيرها ، فالجواب عنه أن الذي يستند من الكلام إلى قريحة الانسان إنما هو كشف اللفظ المفرد عن معناه ، وأما سرد الكلام ونضد الجمل بحيث يحاكي جمال المعنى المؤلف وهيئته على ما هو عليه في الذهن بطبعه حكاية تامة أو ناقصة وإرائة واضحة أو خفية ، وكذا تنظيم الصورة العلمية في الذهن بحيث يوافق الواقع في جميع روابطه ومقدماته ومقارناته ولواحقه أو في كثير منها أو في بعضها دون بعض فانما هو امر لا يرجع إلى وضع الالفاظ بل إلى نوع مهارة في صناعة البيان وفن البلاغة تسمح به القريحة في سرد الالفاظ ونظم


(71)
الادوات اللفظية ونوع لطف في الذهن يحيط به القوة الذاهنة على الواقعة المحكية باطرافها ولوازمها ومتعلقاتها.
     فهيهنا جهات ثلث يمكن أن تجتمع في الوجود أو تفترق فربما أحاط إنسان بلغة من اللغات فلا يشذ عن علمه لفظ لكنه لا يقدر على التهجي والتكلم ، وربما تمهر الانسان في البيان وسرد الكلام لكن لا علم له بالمعارف والمطالب فيعجز عن التكلم فيها بكلام حافظ لجهات المعنى حاك لجمال صورته التي هو عليها في نفسه ، وربما تبحر الانسان في سلسلة من المعارف والمعلومات ولطفت قريحته ورقت فطرته لكن لا يقدر على الافصاح عن ما في ضميره ، وعى عن حكاية ما يشاهده من جمال المعنى ومنظره البهيج.
     فهذه امور ثلاثة : أولها راجع إلى وضع الانسان بقريحته الاجتماعية ، والثانى والثالث راجعان إلى نوع من لطف القوة المدركة ، ومن البين أن إدراك القوى المدركة منا محدودة مقدرة لا نقدر على الاحاطه بتفاصيل الحوادث الخارجية والامور الواقعية بجميع روابطها ، فلسنا على أمن من الخطأ قط في وقت من الاوقات ، ومع ذلك فالاستكمال التدريجي الذي في وجودنا أيضا يوجب الاختلاف التدريجي في معلوماتنا أخذا من النقص إلى الكمال ، فأي خطيب اشدق واي شاعر مفلق فرضته لم يكن ما يأتيه في أول أمره موازنا لما تسمح به قريحته في أواخر أمره ؟ فلو فرضنا كلاما إنسانيا أي كلام فرضناه لم يكن في مأمن من الخطأ لفرض عدم إطلاع متكلمه بجميع أجزاء الواقع وشرائطه ( أولا ) ولم يكن على حد كلامه السابق ولا على زنة كلامه اللاحق بل ولا أوله يساوي آخره وإن لم نشعر بذلك لدقة الامر ، لكن حكم التحول والتكامل عام ( ثانيا ) ، وعلي هذا فلو عثرنا على كلام فصل لا هزل فيه ( وجد الهزل هو القول بغير علم محيط ) ولا إختلاف يعتريه لم يكن كلاما بشريا ، وهو الذي يفيده القرآن بقوله : « أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافا كثيرا الآية » النساء ـ 82 ، وقوله تعالى : « والسماء ذات الرجع والارض ذات الصدع إنه لقول فصل وما هو بالهزل » الطارق ـ 14. انظر إلى موضع القسم بالسماء والارض المتغيرتين والمعنى المقسم به في عدم تغيره واتكائه على حقيقة ثابتة هي تأويله ( وسيأتي ما يراد في القرآن من لفظ التأويل ) ، وقوله تعالى : « بل هو قرآن مجيد في لوح


(72)
محفوظ » البروج ـ 22 ، وقوله تعالى : « والكتاب المبين ، إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ، وإنه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم » الزخرف ـ 4. وقوله تعالى : « فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون » الواقعة ـ 79 ، فهذه الآيات ونظائرها تحكى عن إتكاء القرآن في معانيه على حقائق ثابتة غير متغيرة ولا متغير ما يتكي عليها.
    إذا عرفت ما مر علمت أن إستناد وضع اللغة إلى الانسان لا يقتضي أن لا يوجد تأليف كلامي فوق ما يقدر عليه الانسان الواضع له ، وليس ذلك إلا كالقول بان القين الصانع للسيوف يجب أن يكون أشجع من يستعملها وواضع النرد والشطرنج يجب أن يكون امهر من يلعب بهما ومخترع العود يجب أن يكون أقوى من يضرب بها.
    فقد تبين من ذلك كله أن البلاغة التامة معتمدة على نوع من العلم المطابق للواقع من جهة مطابقة اللفظ للمعني ومن جهة مطابقة المعنى المعقول للخارج الذي يحكيه الصورة الذهنية.
    أما اللفظ فان يكون الترتيب الذي بين أجزاء اللفظ بحسب الوضع مطابقا للترتيب الذي بين أجزاء المعنى المعبر عنه باللفظ بحسب الطبع فيطابق الوضع الطبع كما قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في دلائل الاعجاز.
     وأما المعنى فان يكون في صحته وصدقه معتمدا على الخارج الواقع بحيث لا يزول عما هو عليه من الحقيقة ، وهذه المرتبة هي التي يتكى عليها المرتبة السابقة ، فكم من هزل بليغ في هزليته لكنه لا يقاوم الجد ، وكم من كلام بليغ مبنى على الجهالة لكنه لا يعارض ولا يسعه أن يعارض الحكمة ، والكلام الجامع بين عذوبة اللفظ وجزالة الاسلوب وبلاغة المعنى وحقيقة الواقع هو ارقى الكلام.
     وإذا كان الكلام قائما على أساس الحقيقة ومنطبق المعنى عليها تمام الانطباق لم يكذب الحقائق الاخر ولم تكذبه فإن الحق مؤتلف الاجزاء ومتحد الاركان ، لا يبطل حق حقا ، ولا يكذب صدق صدقا ، والباطل هو الذي ينافي الباطل وينافي الحق ، انظر إلى مغزى قوله سبحانه وتعالى : « فما ذا بعد الحق إلا الضلال » يونس ـ 32 ، فقد جعل الحق واحدا لا تفرق فيه ولا تشتت. وانظر إلى قوله تعالى : « ولا


(73)
تتبعوا السبل فتفرق بكم » الانعام ـ 153. فقد جعل الباطل متشتتا ومشتتا ومتفرقا و مفرقا.
     وإذا كان الامر كذلك فلا يقع بين اجزاء الحق اختلاف بل نهاية الايتلاف ، يجر بعضه إلى بعض ، وينتج بعضه البعض كما يشهد بعضه على بعض ويحكي بعضه البعض.
     وهذا من عجيب أمر القرآن فإن الآية من آياته لا تكاد تصمت عن الدلالة ولا تعقم عن الانتاج ، كلما ضمت آية إلى آية مناسبة أنتجت حقيقة من أبكار الحقائق ثم الآية الثالثة تصدقها وتشهد بها ، هذا شأنه وخاصته ، وستري في خلال البيانات في هذا الكتاب نبذا من ذلك ، على ان الطريق متروك غير مسلوك ولو أن المفسرين ساروا هذا المسير لظهر لنا إلى اليوم ينابيع من بحاره العذبة وخزائن من أثقاله النفيسة.
    فقد اتضح بطلان الاشكال من الجهتين جميعا فإن أمر البلاغة المعجزة لا يدور مدار اللفظ حتى يقال ان الانسان هو الواضع للكلام فكيف لا يقدر على ابلغ الكلام وأفصحه وهو واضح أو يقال ان ابلغ التركيبات المتصورة تركيب واحد من بينها فكيف يمكن التعبير عن معنى واحد بتركيبات متعددة مختلفة السياق والجميع فائقة قدرة البشر بالغة حد الاعجاز بل المدار هو المعنى المحافظ لجميع جهات الذهن والخارج.

    ولا شبهة في دلالة القرآن على ثبوت الآية المعجزة وتحققها بمعنى الامر الخارق للعادة الدال على تصرف ما وراء الطبيعة في عالم الطبيعة ونشأة المادة لا بمعنى الامر المبطل لضرورة العقل.
    وما تمحله بعض المنتسبين إلى العلم من تأويل الآيات الدالة على ذلك توفيقا بينها وبين ما يترائى من ظواهر الابحاث الطبيعية ( العلمية ) اليوم تكلف مردود إليه.
     والذي يفيده القرآن الشريف في معنى خارق العادة وإعطاء حقيقتة نذكره في


(74)
فصول من الكلام.

    إن القرآن يثبت للحوادث الطبيعية أسبابا ويصدق قانون العلية العامة كما يثبته ضرورة العقل وتعتمد عليه الابحاث العلمية والانظار الاستدلالية ، فإن الانسان مفطور على ان يعتقد لكل حادث مادي علة موجبة من غير تردد وإرتياب. وكذلك العلوم الطبيعية وساير الابحاث العلمية تعلل الحوادث والامور المربوطة بما تجده من أمور أخرى صالحة للتعليل ، ولا نعني بالعلة إلا ان يكون هناك أمر واحد أو مجموع أمور إذا تحققت في الطبيعة مثلا تحقق عندها أمر آخر نسميه المعلول بحكم التجارب كدلالة التجربة على انه كلما تحقق احتراق لزم ان يتحقق هناك قبله علة موجبة له من نار أو حركة أو اصطكاك أو نحو ذلك ، ومن هنا كانت الكلية وعدم التخلف من أحكام العلية والمعلولية ولوازمهما.
     وتصديق هذا المعنى ظاهر من القرآن فيما جرى عليه وتكلم فيه من موت وحيوة ورزق وحوادث أخرى علوية سماوية أو سفلية أرضية على أظهر وجه ، وان كان يسندها جميعا بالاخرة إلى الله سبحانه لفرض التوحيد.
     فالقرآن يحكم بصحة قانون العلية العامة بمعنى أن سببا من الاسباب إذا تحقق مع ما يلزمه ويكتنف به من شرائط التأثير من غير مانع لزمه وجود مسببه مترتبا عليه بإذن الله سبحانه وإذا وجد المسبب كشف ذلك عن تحقق سببه لا محالة.

    ثم ان القرآن يقتص ويخبر عن جملة من الحوادث والوقائع لا يساعد عليه جريان العادة المشهودة في عالم الطبيعة على نظام العلة والمعلول الموجود ، وهذه الحوادث الخارقة للعادة هي الآيات المعجزة التي ينسبها إلى عدة من الانبياء الكرام كمعجزات نوح وهود وصالح وابراهيم ولوط وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإنها امور خارقة للعادة المستمرة في نظام الطبيعة.


(75)
    لكن يجب أن يعلم أن هذه الامور والحوادث وأن انكرتها العادة واستبعدتها الا أنها ليست امورا مستحيلة بالذات بحيث يبطلها العقل الضروري كما يبطل قولنا لايجاب والسلب يجتمعان معا ويرتفعان معا من كل جهة وقولنا الشئ يمكن أن يسلب عن نفسه وقولنا : لواحد ليس نصف الاثنين وأمثال ذلك من الامور الممتنعة بالذات كيف ؟ وعقول جم غفير من المليين منذ أعصار قديمة تقبل ذلك وترتضيه من غير انكار ورد ولو كانت المعجزات ممتنعه بالذات لم يقبلها عقل عاقل ولم يستدل بها على شئ ولم ينسبها أحد إلى احد.
    على أن أصل هذه الامور أعني المعجزات ليس مما تنكره عادة الطبيعة بل هي مما يتعاوره نظام المادة كل حين بتبديل الحى إلى ميت والميت إلى الحى وتحويل صورة إلى صورة وحادثة إلى حادثة ورخاء إلى بلاء وبلاء إلى رخاء ، وإنما الفرق بين صنع العادة وبين المعجزة الخارقة هو أن الاسباب المادية المشهودة التي بين أيدينا إنما تؤثر أثرها مع روابط مخصوصة وشرائط زمانية ومكانية خاصة تقضي بالتدريج في التأثير ، مثلا العصا وإن أمكن أن تصير حية تسعى والجسد البالى وإن أمكن أن يصير إنسانا حيا لكن ذلك إنما يتحقق في العادة بعلل خاصة وشرائط زمانية ومكانية مخصوصة تنتقل بها المادة من حال إلى حال وتكتسي صورة بعد صورة حتى تستقر وتحل بها الصورة الاخيرة المفروضة على ما تصدقه المشاهدة والتجربة لا مع أي شرط إتفق أو من غير علة أو بإرادة مريد كما هو الظاهر من حال المعجزات والخوارق التي يقصها القرآن.
     وكما ان الحس والتجربة الساذجين لا يساعدان على تصديق هذه الخوارق للعادة كذلك النظر العلمي الطبيعي ، لكونه معتمدا على السطح المشهود من نظام العلة والمعلول الطبيعيين ، اعني به السطح الذى يستقر عليه التجارب العلمي اليوم والفرضيات المعللة للحوادث المادية.
    إلا أن حدوث الحوادث الخارقة للعادة إجمالا ليس في وسع العلم إنكاره والستر عليه ، فكم من أمر عجيب خارق للعادة يأتي به أرباب المجاهدة وأهل الارتياض كل يوم تمتلي به العيون وتنشره النشريات ويضبطه الصحف والمسفورات بحيث لا يبقى لذي لب في وقوعها شك ولا في تحققها ريب.
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس