الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 76 ـ 90
(76)
    وهذا هو الذي ألجأ الباحثين في الآثار الروحية من علماء العصر أن يعللوه بجريان امواج مجهولة الكتريسية مغناطيسية فافترضوا أن الارتياضات الشاقة تعطي للانسان سلطة على تصريف أمواج مرموزة قوية تملكه أو تصاحبه إرادة وشعور وبذلك يقدر على ما يأتي به من حركات وتحريكات وتصرفات عجيبة في المادة خارقة للعادة بطريق القبض والبسط ونحو ذلك.
     وهذه الفرضية لو تمت وأطردت من غير انتقاض لادت إلى تحقق فرضية جديدة وسيعة تعلل جميع الحوادث المتفرقة التي كانت تعللها جميعا أو تعلل بعضها الفرضيات القديمة على محور الحركة والقوة ولساقت جميع الحوادث المادية إلى التعلل والارتباط بعلة واحدة طبيعية.
     فهذا قولهم والحق معهم في الجملة إذ لا معنى لمعلول طبيعي لا علة طبيعية له مع فرض كون الرابطة طبيعية محفوظة ، وبعبارة أخرى إنا لا نعني بالعلة الطبيعية إلا أن تجتمع عدة موجودات طبيعية مع نسب وروابط خاصة فيتكون منها عند ذلك موجود طبيعي جديد حادث متأخر عنها مربوط بها بحيث لو انتقض النظام السابق عليه لم يحدث ولم يتحقق وجوده.
     واما القرآن الكريم فإنه وإن لم يشخص هذه العلة الطبيعية الاخيرة التي تعلل جميع الحوادث المادية العادية والخارقة للعادة ( على ما نحسبه ) بتشخيص إسمه وكيفية تأثيره لخروجه عن غرضه العام إلا انه مع ذلك يثبت لكل حادث مادي سببا ماديا باذن الله تعالى ، وبعبارة اخرى يثبت لكل حادث مادي مستند في وجوده إلى الله سبحانه و ( الكل مستند ) مجرى ماديا وطريقا طبيعيا به يجري فيض الوجود منه تعالى إليه. قال تعالى : « ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا » الطلاق ـ 3 ، فان صدر الآية يحكم بالاطلاق من غير تقييد أن كل من اتقى الله وتوكل عليه وان كانت الاسباب العادية المحسوبة عندنا أسبابا تقضي بخلافه وتحكم بعدمه فإن الله سبحانه حسبه فيه وهو كائن لا محالة ، كما يدل عليه أيضا اطلاق قوله تعالى : « وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان » البقرة ـ 186 ، وقوله تعالى : « ادعوني استجب لكم » المؤمن ـ 60 ، وقوله تعالى : « أليس الله بكاف عبده » الزمر ـ 36.


(77)
ثم الجملة التالية وهي قوله تعالى : « إن الله بالغ أمره » الطلاق ـ 3 ، يعلل إطلاق الصدر ، وهذا المعنى قوله : « والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون » يوسف ـ 21. وهذه جملة مطلقة غير مقيدة بشئ البتة فلله سبحانه سبيل إلى كل حادث تعلقت به مشيته وإرادتة وإن كانت السبل العادية والطرق المألوفة مقطوعة منتفية هناك.
     وهذا يحتمل وجهين : أحدهما أن يتوسل تعالى إليه من غير سبب مادي وعلة طبيعية بل بمجرد الارادة وحدها ، وثانيهما أن يكون هناك سبب طبيعي مستور عن علمنا يحيط به الله سبحانه ويبلغ ما يريده من طريقه الا أن الجملة التالية من الآية المعللة لما قبلها أعني قوله تعالى ، قد جعل الله لكل شئ قدرا ، تدل على ثاني الوجهين فإنها تدل على أن كل شئ من المسببات أعم مما تقتضيه الاسباب العادية أو لا تقتضيه فان له قدرا قدره الله سبحانه عليه ، وإرتباطات مع غيره من الموجودات ، واتصالات وجودية مع ما سواه ، لله سبحانه أيتوسل منها إليه وان كانت الاسباب العادية مقطوعة عنه غير مرتبطة به إلا أن هذه الاتصالات والارتباطات ليست مملوكة للاشياء أنفسها حتى تطيع في حال وتعصى في أخرى بل مجعولة بجعله تعالى مطيعة منقادة له.
     فالآية تدل على أنه تعالى جعل بين الاشياء جميعها إرتباطات واتصالات له ان يبلغ إلى كل ما يريد من أي وجه شاء وليس هذا نفيا للعلية والسببية بين الاشياء بل إثبات أنها بيد الله سبحانه يحولها كيف شاء وأراد ، ففي الوجود علية وارتباط حقيقي بين كل موجود وما تقدمه من الموجودات المنتظمة غير أنها ليست على ما نجده بين ظواهر الموجودات بحسب العادة ( ولذلك نجد لفرضيات العلمية الموجودة قاصرة عن تعليل جميع الحوادث الوجودية ) بل على ما يعلمه الله تعالى وينظمه.
     وهذه الحقيقة هي التي تدل عليها آيات القدر كقوله تعالى : « وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم » الحجر ـ 21 ، وقوله تعالى : « انا كل شئ خلقناه بقدر » القمر ـ 49 ، وقوله تعالى : « وخلق كل شئ فقدره تقديرا » الفرقان ـ 2 ، وقوله تعالى : « الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى » الاعلى ـ 3. وكذا قوله تعالى : « ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن


(78)
نبرأها » الحديد ـ 22 ، وقوله تعالى : « ما أصاب من مصيبة إلا باذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شئ عليم » التغابن ـ 11. فان الآية الاولى وكذا بقية الآيات تدل على أن الاشياء تنزل من ساحة الاطلاق إلى مرحلة التعين والتشخص بتقدير منه تعالى وتحديد يتقدم على الشئ ويصاحبه ، ولا معنى لكون الشئ محدودا مقدرا في وجوده إلا أن يتحدد ويتعين بجميع روابطه التي مع سائر الموجودات والموجود المادي مرتبط بمجموعة من الموجودات المادية الاخرى التي هي كالقالب الذي يقلب به الشئ ويعين وجوده ويحدده ويقدره فما من موجود مادي إلا وهو متقدر مرتبط بجميع الموجودات المادية التي تتقدمه وتصاحبه فهو معلول لآخر مثله لا محالة.
     ويمكن أن يستدل أيضا على ما مر بقوله تعالى : « ذلكم الله ربكم خالق كل شئ » المؤمن ـ 62 ، وقوله تعالى : « ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم » هود ـ 56. فإن الآيتين بانضمام ما مرت الاشارة إليه من أن الآيات القرآنية تصدق قانون العلية العام تنتج المطلوب.
     وذلك أن الآية الاولى تعمم الخلقة لكل شئ فما من شئ إلا وهو مخلوق لله عز شأنه ، والآية الثانية تنطق بكون الخلقة والايجاد على وتيرة واحدة ونسق منتظم من غير إختلاف يؤدي إلى الهرج والجزاف.
     والقرآن كما عرفت يصدق قانون العلية العام في ما بين الموجودات المادية ينتج أن نظام الوجود في الموجودات المادية سواء كانت على جري العادة أو خارقة لها على صراط مستقيم غير متخلف ووتيرة واحدة في إستناد كل حادث فيه إلى العلة المتقدمة عليه الموجبة له.
    ومن هنا يستنتج أن الاسباب العادية التي ربما يقع التخلف بينها وبين مسبباتها ليست بأسباب حقيقية بل هناك اسباب حقيقية مطردة غير متخلفة الاحكام والخواص كما ربما يؤيده التجارب العلمي في جراثيم الحيوة وفي خوارق العادة كما مر.
    3 ـ القرآن يسند ما أسند إلى العلة المادية إلى الله تعالى
    ثم ان القرآن كما يثبت بين الاشياء العلية والمعلولية ويصدق سببية البعض للبعض كذلك


(79)
يسند الامر في الكل إلى الله سبحانه فيستنتج منه أن الاسباب الوجودية غير مستقلة في التأثير والمؤثر الحقيقي بتمام معنى الكلمة ليس إلا الله عز سلطانه. قال تعالى : « ألا له الخلق وألامر » الاعراف ـ 53 ، وقال تعالى « لله ما في السموات وما في الارض » البقرة ـ 284 ، وقال تعالى : « له ملك السموات والارض » الحديد ـ 5 ، وقال تعالى : « قل كل من عند الله » النساء ـ 77. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على أن كل شئ مملوك محض لله لا يشاركه فيه احد ، وله أن يتصرف فيها كيف شاء وأراد وليس لاحد أن يتصرف في شئ منها إلا من بعد أن يأذن الله لمن شاء ويملكه التصرف من غير إستقلال في هذا التمليك أيضا ، بل مجرد إذن لا يستقل به المأذون له دون أن يعتمد على إذن الآذن ، قال تعالى : « قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء » آل عمران ـ 26 ، وقال تعالى : « الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى » طه ـ 50 ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقال تعالى أيضا : « له ما في السموات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه » البقرة ـ 255 ، وقال تعالى : « ثم استوى على العرش يدبر الامر ما من شفيع إلا من بعد إذنه » يونس ـ 3.
     فالاسباب تملكت السببية بتمليكه تعالى ، وهي غير مستقلة في عين أنها مالكة. وهذا المعنى هو الذي يعبر سبحانه عنه بالشفاعة والاذن ، فمن المعلوم أن الاذن إنما يستقيم معناه إذا كان هناك مانع من تصرف المأذون فيه ، والمانع أيضا إنما يتصور فيما كان هناك مقتض موجود يمنع المانع عن تأثيره ويحول بينه وبين تصرفه.
    فقد بان أن في كل السبب مبدئا مؤثرا مقتضيا للتأثير به يؤثر في مسببه ، والامر مع ذلك لله سبحانه.
    4 ـ القرآن يثبت تأثيرا في نفوس الانبياء في الخوارق
     ثم إنه تعالى قال : « وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون » المؤمن ـ 78.
     فأفاد إناطة اتيان أية آية من أي رسول بإذن الله سبحانه فبين أن إتيان الآيات


(80)
المعجزة من الانبياء وصدورها عنهم إنما هو لمبدأ مؤثر موجود في نفوسهم الشريفة متوقف في تأثيره على الاذن كما مر في الفصل السابق.
    قال تعالى : « واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفرسليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من احد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من احد إلا باذن الله » البقرة ـ 102. ولآية كما انها تصدق صحة السحر في الجملة كذلك تدل على ان السحر ايضا كالمعجزة في كونه عن مبدأ نفساني في الساحر لمكان الاذن.
     وبالجملة جميع الامور الخارقة للعادة سواء سميت معجزة أو سحرا أو غير ذلك ككرامات الاولياء وسائر الخصال المكتسبة بالارتياضات والمجاهدات جميعها مستندة إلى مباد نفسانية ومقتضيات إرادية على ما يشير إليه كلامه سبحانه الا ان كلامه ينص على ان المبدأ الموجود عند الانبياء والرسل والمؤمنين هو الفائق الغالب على كل سبب وفي كل حال ، قال تعالى : « ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون » الصافات ـ 173 ، وقال تعالى : « كتب الله لاغلبن أنا ورسلي » المجادلة ـ 21 ، وقال تعالى : « إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحيوة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد » المؤمن ـ 51. والآيات مطلقة غير مقيدة.
    ومن هنا يمكن أن يستنتج أن هذا المبدأ الموجود المنصور أمر وراء الطبيعة وفوق المادة.
    فان الامور المادية مقدرة محدودة مغلوبة لما هو فوقها قدرا وحدا عند التزاحم والمغالبة ، والامور المجردة أيضا وان كانت كذلك إلا أنها لا تزاحم بينها ولا تمانع إلا ان تتعلق بالمادة بعض التعلق ، وهذا المبدأ النفساني المجرد المنصور بإراده الله سبحانه إذا قابل مانعا ماديا إفاض إمدادا على السبب بما لا يقاومه سبب مادي يمنعه فافهم.
    5 ـ القرآن كما يسند الخوارق إلى تأثير النفوس يسندها إلى أمر الله تعالى
    ثم ان الجملة الاخيرة من الاية السابقة في الفصل السابق أعني قوله تعالى : « فإذا


(81)
جاء أمر الله قضي بالحق » الآية ، تدل على ان تأثير هذا المقتضي يتوقف على أمر من الله تعالى يصاحب الاذن الذي كان يتوقف عليه ايضا فتأثير هذا المقتضى يتوقف على مصادفته الامر أو اتحاده معه. وقد فسر الامر في قوله تعالى « انما امره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون » يس ـ 82 ، بكلمة الايجاد وقول : كن. وقال تعالى : « ان هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاؤن إلا انشاء الله » الدهر ـ 29 ، 30 وقال : « ان هو إلا ذكر للعالمين. لمن شاء منكم ان يستقيم. وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين » التكوير ـ 27 ، 28 ، 29 ، دلت الآيات على ان الامر الذي للانسان أن يريده وبيده زمام اختياره لا يتحقق موجودا إلا أن يشاء الله ذلك بان يشاء أن يشاء الانسان ويريد إرادة الانسان فإن الآيات الشريفة في مقام أن أفعال الانسان الارادية وإن كانت بيد الانسان بإرادته لكن الارادة والمشية ليست بيد الانسان بل هي مستندة إلى مشية الله سبحانه ، وليست في مقام بيان أن كل ما يريده الانسان فقد اراده الله فإنه خطأ فاحش ولازمه أن يتخلف الفعل عن إرادة الله سبحانه عند تخلفه عن إرادة الانسان ، تعالى الله عن ذلك. مع أنه خلاف ظواهر الآيات الكثيرة الواردة في هذا المورد كقوله تعالى : « ولو شئنا لآتينا كل نفس هديها » السجدة ـ 13. وقوله تعالى : « ولو شاء ربك لآمن من في الآرض كلهم جميعا » يونس ـ 99 ، إلى غير ذلك فإرادتنا ومشيئتنا إذا تحققت فينا فهي مرادة بإرادة الله ومشيتة لها وكذا افعالنا مرادة له تعالى من طريق إرادتنا ومشيتنا بالواسطة. وهما أعني الارادة والفعل جميعا متوقفان على أمر الله سبحانه وكلمة كن.
     فالامور جميعا سواء كانت عادية أو خارقة للعادة وسواء كان خارق العادة في جانب الخير والسعادة كالمعجزة والكرامة ، أو في جانب الشر كالسحر والكهانة مستندة في تحققها إلى أسباب طبيعية ، وهي مع ذلك متوقفة على ارادة الله ، لا توجد إلا بأمر الله سبحانه أي بأن يصادف السبب أو يتحد مع أمر الله سبحانه.
     وجميع الاشياء وإن كانت من حيث إستناد وجودها إلى الامر الالهي على حد سواء بحيث إذا تحقق الاذن والامر تحققت عن أسبابها ، وإذا لم يتحقق الاذن والامر لم تتحقق ، أي لم تتم السببية إلا أن قسما منها وهو المعجزة من الانبياء أو ما سأله عبد


(82)
ربه بالدعاء لا يخلو عن إرادة موجبة منه تعالى وأمر عزيمة كما يدل عليه قوله : « كتب الله لاغلبن أنا ورسلي ـ الآية » المجادلة ـ 21 ، وقوله تعالى : « أجيب دعوة الداع إذا دعان الآية » البقرة ـ 186 ، وغير ذلك من الآيات المذكورة في الفصل السابق.

    فقد تبين من الفصول السابقة من البحث أن المعجزة كسائر الامور الخارقة للعادة لا تفارق الاسباب العادية في الاحتياج إلى سبب طبيعي وان مع الجميع أسبابا باطنية وأن الفرق بينها أن الامور العادية ملازمة لاسباب ظاهرية تصاحبها الاسباب الحقيقية الطبيعية غالبا أو مع الاغلب ومع تلك الاسباب الحقيقية إرادة الله وأمره ، والامور الخارقة للعادة من الشرور كالسحر والكهانة مستندة إلى أسباب طبيعية مفارقة للعادة مقارنة للسبب الحقيقي بالاذن والارادة كإستجابة الدعاء ونحو ذلك من غير تحد يبتني عليه ظهور حق الدعوة وأن المعجزة مستندة إلى سبب طبيعي حقيقي بإذن الله وأمره إذا كان هناك تحد يبتنى عليه صحة النبوة والرسالة والدعوة إلى الله تعالى وأن القسمين الآخرين يفارقان سائر الاقسام في أن سببهما لا يصير مغلوبا مقهورا قط بخلاف سائر المسببات.
    فان قلت : فعلى هذا لو فرضنا الاحاطة والبلوغ إلى السبب الطبيعي الذي للمعجزة كانت المعجزة ميسورة ممكنة الاتيان لغير النبي أيضا ولم يبق فرق بين المعجزة وغيرها إلا بحسب النسبة والاضافه فقط فيكون حينئذ أمر ما معجزة بالنسبة إلى قوم غير معجزة بالنسبة إلى آخرين ، وهم المطلعون على سببها الطبيعي الحقيقي ، وفي عصر دون عصر ، وهو عصر العلم ، فلو ظفر البحث العلمي على الاسباب الحقيقية الطبيعية القصوى لم يبق مورد للمعجزة ولم تكشف المعجزة عن الحق. ونتيجه هذا البحث أن المعجزة لا حجية فيها إلا على الجاهل بالسبب فليست حجة في نفسها.
     قلت : كلا فليست المعجزة معجزة من حيث أنها مستندة إلى سبب طبيعي مجهول حتى تنسلخ عن إسمها عند إرتفاع الجهل وتسقط عن الحجية ، ولا أنها معجزة من حيث إستنادها إلى سبب مفارق للعادة ، بل هي معجزة من حيث أنها مستندة


(83)
إلى أمر مفارق للعادة غير مغلوب السبب قاهرة العلة البتة ، وذلك كما ان الامر الحادث من جهة إستجابة الدعاء كرامة من حيث إستنادها إلى سبب غير مغلوب كشفاء المريض مع أنه يمكن ان يحدث من غير جهته كجهة العلاج بالدواء غير أنه حينئذ أمر عادي يمكن أن يصير سببه مغلوبا مقهورا بسبب آخر أقوى منه.

    وهيهنا سؤال وهو أنه ما هي الرابطة بين المعجزة وبين حقية دعوى الرسالة مع أن العقل لا يرى تلازما بين صدق الرسول في دعوته إلى الله سبحانه وبين صدور أمر خارق للعادة عن الرسول على أن الظاهر من القرآن الشريف ، تقرير ذلك فيما يحكيه من قصص عدة من الانبياء كهود وصالح وموسى وعيسى ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإنهم على ما يقصه القرآن حينما بثوا دعوتهم سئلوا عن آية تدل على حقية دعوتهم فأجابوهم فيما سئلوا وجاءوا بالآيات.
     وربما أعطوا المعجزة في أول البعثة قبل أن يسألهم أممهم شيئا من ذلك كما قال تعالى في موسى ( عليه السلام ) وهارون « إذهب أنت واخوك بآياتي ولا تنيا في ذكرى » طه ـ 42 ، وقال تعالى في عيسى ( عليه السلام ) : « ورسولا إلى بنى إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا باذن الله وأبرى الاكمه والابرص وأحيى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين » آل عمران ـ 49 ، وكذا إعطاء القرآن معجزة للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبالجملة فالعقل الصريح لا يرى تلازما بين حقية ما أتى به الانبياء والرسل من معارف المبدأ والمعاد وبين صدور أمر يخرق العادة عنهم.
     مضافا إلى أن قيام البراهين الساطعة على هذه الاصول الحقة يغنى العالم البصير بها عن النظر في أمرالاعجاز ، ولذا قيل إن المعجزات لاقناع نفوس العامة لقصور عقولهم عن إدراك الحقائق العقلية وأما الخاصة فإنهم في غنى عن ذلك.
     والجواب عن هذا السؤال أن الانبياء والرسل ( عليهم السلام ) لم يأتوا بالآيات المعجزة لاثبات شئ من معارف المبدأ والمعاد مما يناله العقل كالتوحيد والبعث وأمثالها


(84)
وإنما اكتفوا في ذلك بحجة للعقل والمخاطبة من طريق النظر والاستدلال كقوله تعالى : « قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والارض » : إبراهيم ـ 10 في الاحتجاج على التوحيد قوله تعالى : « ما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار » ص ـ 28 في الاحتجاج على البعث. وانما سئل الرسل المعجزة وأتوابها لاثبات رسالتهم وتحقيق دعويها.
     وذلك أنهم ادعوا الرسالة من الله بالوحى وأنه بتكليم إلهي أو نزول ملك ونحو ذلك وهذا شئ خارق للعادة في نفسه من غير سنخ الادراكات الظاهرة والباطنة التي يعرفها عامة الناس ويجدونها من أنفسهم ، بل إدراك مستور عن عامة النفوس لو صح وجوده لكان تصرفا خاصا من ما وراء الطبيعة في نفوس الانبياء فقط ، مع أن الانبياء كغيرهم من افراد الناس في البشرية وقواها ، ولذلك صادفوا إنكارا شديدا من الناس ومقاومة عنيفة في رده على أحد وجهين :
    فتارة حاول الناس إبطال دعويهم بالحجة كقوله تعالى : « قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آبائنا » إبراهيم ـ 102 ، إستدلوا فيها على بطلان دعويهم الرسالة بأنهم مثل سائر الناس والناس لا يجدون شيئا مما يدعونه من أنفسهم مع وجود المماثلة ، ولو كان لكان في الجميع أو جاز للجميع هذا ، ولهذا اجاب الرسل عن حجتهم بما حكاه الله تعالى عنهم بقوله : « قالت لهم رسلهم ان نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده » إبراهيم ـ 13 ، فردوا عليهم بتسليم المماثلة وان الرسالة من منن الله الخاصة ، والاختصاص ببعض النعم الخاصة لا ينافي المماثلة فللناس إختصاصات ، نعم لو شاء أن يمتن على من يشاء منهم فعل ذلك من غير مانع فالنبوة مختصة بالبعض وإن جاز على الكل.
     ونظير هذا الاحتجاج قولهم في النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على ما حكاه الله تعالى : « أأنزل عليه الذكر من بيننا » ص ـ 8 ، وقولهم كما حكاه الله : « لو لا انزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم » الزخرف ـ 31.
     ونظير هذا الاحتجاج أو قريب منه ما في قول تعالى : « وقالوا ما لهذا الرسول


(85)
يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لو لا انزل عليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها » الفرقان ـ 8 ، ووجه الاستدلال أن دعوى الرسالة توجب أن لا يكون بشرا مثلنا لكونه ذا احوال من الوحي وغيره ليس فينا فلم يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لاكتساب المعيشة ؟ بل يجب أن ينزل معه ملك يشاركه في الانذار أو يلقي إليه كنز فلا يحتاج إلى مشي الاسواق للكسب أو تكون له جنة فيأكل منها لا مما نأكل منه من طعام ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : « انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلو افلا يستطيعون سبيلا » إلى أن قال : « وما ارسلنا قبلك من المرسلين الا انهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا » الفرقان ـ 20 ، ورد تعالى في موضع آخر مطالبتهم مباشرة الملك للانذار بقوله : « ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون » الانعام ـ 9.
     وقريب من ذلك الاحتجاج أيضا ما في قوله تعالى : « وقال الذين لا يرجون لقائنا لو لا انزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد إستكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا » الفرقان ـ 21 ، فأبطلوا بزعمهم دعوى الرسالة بالوحي بمطالبة أن يشهدوا نزول الملك أو رؤية الرب سبحانه لمكان المماثلة مع النبي ، فرد الله تعالى عليهم ذلك بقوله : « يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا » الفرقان ـ 22 ، فذكر أنهم والحال حالهم لا يرون الملائكة إلا مع حال الموت كما ذكره في موضع آخر بقوله تعالى : « وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين » الحجر ـ 8 ، ويشتمل هذه الآيات الاخيرة على زيادة في وجه الاستدلال ، وهو تسليم صدق النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في دعواه إلا أنه مجنون وما يحكيه ويخبر به أمر يسوله له الجنون غير مطابق للواقع كما في موضع آخر من قوله : « وقالوا مجنون وازدجر » القمر ـ 9.
     وبالجملة فأمثال هذه الآيات مسوقة لبيان إقامتهم الحجة على إبطال دعوى النبوة من طريق المماثلة.
     وتارة اخري أقاموا أنفسهم مقام الانكار وسؤال الحجة والبينة على صدق


(86)
الدعوة لاشتمالها على ما تنكره النفوس ولا تعرفه العقول ( على طريقة المنع مع السند بإصطلاح فن المناظرة ) وهذه البينة هي المعجزة ، بيان ذلك أن دعوى النبوة والرسالة من كل نبي ورسول على ما يقصه القرآن إنما كانت بدعوى الوحى والتكليم الالهي بلا واسطة أو بواسطة نزول الملك ، وهذا أمر لا يساعد عليه الحس ولا تؤيده التجربة فيتوجه عليه الاشكال من جهتين : أحديهما من جهة عدم الدليل عليه ، والثانية من جهة الدليل على عدمه ، فإن الوحى والتكليم الالهي وما يتلوه من التشريع والتربية الدينية مما لا يشاهده البشر من أنفسهم ، والعادة الجارية في الاسباب والمسببات تنكرة فهو أمر خارق للعادة ، وقانون العلية العامة لا يجوزه ، فلو كان النبي صادقا في دعواه النبوة والوحى كان لازمه أنه متصل بما وراء الطبيعة ، مؤيد بقوة إلهية تقدر على خرق العادة وأن الله سبحانه يريد بنبوته والوحى إليه خرق العادة ، فلو كان هذا حقا ولا فرق بين خارق وخارق كان من الممكن إن يصدر من النبي خارق آخر للعادة من غير مانع وأن يخرق الله العادة بأمر آخر يصدق النبوة والوحى من غير مانع عنه فإن حكم الامثال واحد فلئن أراد الله هداية الناس بطريق خارق للعادة وهو طريق النبوة والوحى فليؤيدها وليصدقها بخارق آخر وهو المعجزة.
     وهذا هو الذي بعث الامم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوة كلما جائهم رسول من أنفسهم بعثا بالفطرة والغريزة وكان سؤال المعجزة لتأييد الرسالة وتصديقها لا للدلالة على صدق المعارف الحقة التي كان الانبياء يدعون إليها مما يمكن أن يناله البرهان كالتوحيد والمعاد ، ونظير هذا ما لو جاء رجل بالرسالة إلى قوم من قبل سيدهم الحاكم عليهم ومعه أوامر ونواه يدعيها للسيد فإن بيانه لهذه الاحكام وإقامتة البرهان على أن هذه الاحكام مشتملة على مصلحة القوم وهم يعلمون أن سيدهم لا يريد إلا صلاح شأنهم ، إنما يكفي في كون الاحكام التي جاء بها حقة صالحة للعمل ولا تكفى البراهين والادلة المذكورة في صدق رسالتة وأن سيدهم أراد منهم بإرساله إليهم ما جاء به من الاحكام بل يطالبونه ببينة أو علامة تدل على صدقه في دعواه ككتاب بخطه وخاتمه يقرئونه ، أو علامة يعرفونها ، كما قال المشركون للنبي : « حتى تنزل علينا كتابا نقرأه » أسرى ـ 93.
    فقد تبين بما ذكرناه أولا : التلازم بين صدق دعوى الرسالة وبين المعجزة وأنها


(87)
الدليل على صدق دعواها لا يتفاوت في ذلك حال الخاصة والعامة في دلالتها وإثباتها ، وثانيا ان ما يجده الرسول والنبي من الوحي ويدركه منه من غير سنخ ما نجده بحواسنا وعقولنا النظرية الفكرية ، فالوحي غير الفكر الصائب ، وهذا المعنى في كتاب الله تعالى من الوضوح والسطوع بحيث لا يرتاب فيه من له أدنى فهم وأقل إنصاف.
    وقد إنحرف في ذلك جمع من الباحثين من أهل العصر فراموا بناء المعارف الالهية والحقائق الدينية على ما وصفه العلوم الطبيعية من اصالة المادة المتحولة المتكاملة فقد رأوا أن الادراكات الانسانية خواص مادية مترشحة من الدماغ وأن الغايات الوجودية وجميع الكمالات الحقيقية إستكمالات فردية أو إجتماعية مادية.
     فذكروا ان النبوة نوع نبوغ فكري وصفاء ذهني يستحضر به الانسان المسمى نبيا كمال قومه الاجتماعي ويريد به أن يخلصهم من ورطة الوحشية والبربرية إلى ساحة الحضارة والمدنية فيستحضر ما ورثه من العقائد والآراء ويطبقها على مقتضيات عصره ومحيط حياته ، فيقنن لهم اصولا إجتماعية وكليات عملية يستصلح بها أفعالهم الحيوية ثم يتمم ذلك بأحكام وامور عبادية ليستحفظ بها خواصهم الروحية لافتقار الجامعة الصالحة والمدنية الفاضلة إلى ذلك ويتفرع على هذا الافتراض :
    أولا : أن النبي إنسان متفكر نابغ يدعو قومه إلى صلاح محيطهم الاجتماعي.
     وثانيا : أن الوحي هو إنتقاش الافكار الفاضلة في ذهنه.
     وثالثا : أن الكتاب السماوي مجموع هذه الافكار الفاضلة المنزهة عن التهوسات النفسانية والاغراض النفسانية الشخصية.
     ورابعا : أن الملائكة التي أخبر بها النبي قوى طبيعية تدبر امور الطبيعة أو قوى نفسانية تفيض كمالات النفوس عليها ، وأن روح القدس مرتبة من الروح الطبيعية المادية تترشح منها هذه الافكار المقدسة ، وأن الشيطان مرتبة من الروح تترشح منها الافكار الردية وتدعو إلى الاعمال الخبيثة المفسدة للاجتماع ، وعلى هذا الاسلوب فسروا الحقائق التي أخبر بها الانبياء كاللوح والقلم والعرش والكرسي والكتاب والحساب والجنة والنار بما يلائم الاصول المذكورة.


(88)
    وخامسا : أن الاديان تابعة لمقتضيات أعصارها تتحول بتحولها.
     وسادسا : أن المعجزات المنقولة عن الانبياء المنسوبة إليهم خرافات مجعولة أو حوادث محرفة لنفع الدين وحفظ عقائد العامة عن التبدل بتحول الاعصار أو لحفظ مواقع أئمة الدين ورؤساء المذهب عن السقوط والاضمحلال إلى غير ذلك مما أبدعه قوم وتبعهم آخرون.
    هذه جمل ما ذكروه والنبوة بهذا المعنى لان تسمي لعبة سياسية أولى بها من أن تسمى نبوة إلهية والكلام التفصيلي في أطراف ما ذكروه خارج عن البحث المقصود في هذا المقام.
     والذي يمكن أن يقال فيه هيهنا أن الكتب السماوية والبيانات النبوية المأثورة على ما بأيدينا لا توافق هذا التفسير لا تناسبه أدنى مناسبة ، وإنما دعاهم إلى هذا النوع من التفسير إخلادهم إلى الارض وركونهم إلى مباحث المادة فاستلزموا إنكار ما وراء الطبيعة وتفسير الحقائق المتعالية عن المادة بما يسلخها عن شأنها وتعيدها إلى المادة الجامدة.
    وما ذكره هؤلاء هو في الحقيقة تطور جديد فيما كان يذكره آخرون فقد كانوا يفسرون جميع الحقائق المأثورة في الدين بالمادة غير انهم كانوا يثبتون لها وجودات غائبة عن الحس كالعرش والكرسي واللوح والقلم والملائكة ونحوها من غير مساعدة الحس والتجربة على شئ من ذلك ، ثم لما اتسع نطاق العلوم الطبيعية وجرى البحث على أساس الحس والتجربة لزم الباحثين على ذلك الاسلوب أن ينكروا لهذه الحقائق وجوداتها المادية الخارجة عن الحس أو البعيدة عنه وأن يفسروها بما تعيدها إلى الوجود المادي المحسوس ليوافق الدين ما قطع به العلم ويستحفظ بذلك عن السقوط.
     فهاتان الطائفتان بين باغ وعاد ، أما القدماء من المتكلمين فقد فهموا من البيانات ، الدينية مقاصدها حق الفهم من غير مجاز غير أنهم رأوا أن مصاديقها جميعا امور مادية محضة لكنها غائبة عن الحس غير محكومة بحكم المادة أصلا و الواقع خلافه ، وأما المتأخرون من باحثي هذا العصر ففسروا البيانات الدينية بما أخرجوها به عن مقاصدها البينة الواضحة ، وطبقوها على حقائق مادية ينالها الحس وتصدقها التجربة مع أنها


(89)
ليست بمقصودة ، ولا البيانات اللفظية تنطبق على شئ منها.
     والبحث الصحيح يوجب أن تفسر هذه البيانات اللفظة على ما يعطيها اللفظ في العرف واللغة ثم يعتمد في أمر المصداق على ما يفسر به بعض الكلام بعضا ثم ينظر هل الانظار العلمية تنافيها أو تبطلها ؟ فلو ثبت فيها في خلال ذلك شئ خارج عن المادة وحكمها فإنما الطريق إليه إثباتا أو نفيا طور آخر من البحث غير البحث الطبيعي الذي تتكفلة العلوم الطبيعية ، فما للعلم الباحث عن الطبيعة وللامر الخارج عنها ؟ فإن العلم الباحث عن المادة وخواصها ليس من وظيفته أن يتعرض لغير المادة خواصها لا إثباتا ولا نفيا.
    ولو فعل شيئا منه باحث من بحاثه كان ذلك منه شططا من القول ، نظير ما لو أراد الباحث في علم اللغة أن يستظهر من علمه حكم الفلك نفيا أو إثباتا ، ولنرجع إلى بقية الآيات.
     وقوله تعالى : ( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة. سوق الآيات من أول السورة وإن كانت لبيان حال المتقين والكافرين والمنافقين ( الطوائف الثلث ) جميعا لكنه سبحانه حيث جمعهم طرا في قوله : يا أيها الناس أعبدوا ربكم ، ودعاهم إلى عبادته تقسموا لا محالة إلى مؤمن وغيره فإن هذه الدعوة لا تحتمل من حيث إجابتها وعدمها غير القسمين : المؤمن والكافر وأما المنافق فإنما يتحقق بضم الظاهر إلى الباطن ، واللسان إلى القلب فكان هناك من جمع بين اللسان والقلب إيمانا أو كفرا ومن أختلف لسانه وقلبه وهو المنافق ، فلما ذكرنا ( لعله ) أسقط المنافقون من الذكر ، وخص بالمؤمنين والكافرين ووضع الايمان مكان التقوى.
    ثم إن الوقود ما توقد به النار وقد نصت الآية على أنه نفس الانسان ، فالانسان وقود وموقود عليه ، كما في قوله تعالى ايضا : « ثم في النار يسجرون » المؤمن ـ 72. وقوله تعالى : « نار الله الموقدة التي تطلع على الافئدة » اللمزة ـ 7 ، فالانسان معذب بنار توقده نفسه ، وهذه الجملة نظيرة قوله تعالى : « كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها » البقرة ـ 25 ، ظاهرة في أنه ليس للانسان هناك إلا ما هيأه من هيهنا ، كما عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( كما تعيشون تموتون وكما


(90)
تموتون تبعثون ) الحديث. وإن كان بين الفريقين فرق من حيث أن لاهل الجنة مزيدا عند ربهم. قال تعالى : « لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد » ق ـ 35.
     والمراد بالحجارة في قوله : ( وقودها الناس والحجارة الاصنام التي كانوا يعبدونها ، ويشهد به قوله تعالى : « إنكم وما تعبدو من دون الله حصب جهنم الآية » الانبياء ـ 98 ، والحصب هو الوقود.
     وقوله تعالى : لهم فيها أزواج مطهرة ، قرينة الازواج تدل على أن المراد بالطهارة هي الطهارة من أنواع الاقذار والمكاره التي تمنع من تمام الالتيام والالفة والانس من الاقذار والمكاره الخلقية والخلقية.
( بحث روائي )
     روى الصدوق ، قال : سئل الصادق ( عليه السلام ) عن الاية فقال : الازواج المطهرة اللاتي لا يحضن ولا يحدثن.
    أقول : وفي بعض الروايات تعميم الطهارة للبراءة عن جميع العيوب والمكاره.
    إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم و أما الذين كفروا فيقولون ما ذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين ـ 26. الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أؤلئك هم الخاسرون ـ 27.
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس