الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 91 ـ 105
(91)
( بيان )
    قوله تعالى : إن الله لا يستحيي أن يضرب ، البعوضة الحيوان المعروف وهو من أصغر الحيوانات المحسوسة وهذه الآية والتي بعدها نظيرة ما في سورة الرعد « أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمي إنما يتذكر أولوا الالباب. الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق. والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل » الرعد ـ 19 ، 20 ، 21. وكيف كان فالآية تشهد على أن من الضلال والعمى ما يلحق الانسان عقيب أعماله السيئة غير الضلال والعمى الذي له في نفسه ومن نفسه حيث يقول تعالى : وما يضل به إلا الفاسقين ، فقد جعل إضلاله في تلو الفسق لا متقدما عليه هذا.
    ثم إن الهداية والاضلال كلمتان جامعتان لجميع أنواع الكرامة والخذلان التي ترد منه تعالى على عباده السعداء والاشقياء ، فإن الله تعالى وصف في كلامه حال السعداء من عبادة بأنه يحييهم حيوة طيبة ، ويؤيدهم بروح الايمان ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويجعل لهم نورا يمشون به ، وهو وليهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وهو معهم يستجيب لهم إذا دعوه ويذكرهم إذا ذكروه ، والملائكة تنزل عليهم بالبشرى والسلام إلى غير ذلك.
     ووصف حال الاشقياء من عباده بأنه يضلهم ويخرجهم من النور إلى الظلمات ويختم على قلوبهم ، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ، ويطمس وجوههم على أدبارهم ويجعل في أعناقهم أغلالا فهي إلى الاقان فهم مقمحون ، ويجعل من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فيغشيهم فهم لا يبصرون ، ويقيض لهم شياطين قرناء يضلونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون ، ويزينون لهم أعمالهم ، وهم أوليائهم ، ويستدرجهم الله من حيث لا يشعرون ، ويملي لهم أن كيده متين ، ويمكربهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون.
     فهذه نبذة مما ذكره سبحانه من حال الفريقين وظاهرها أن للانسان في الدنيا وراء الحيوة التي يعيش بها فيها حيوة اخرى سعيدة أو شقية ذات اصول وأعراق يعيش بها فيها ، وسيطلع ويقف عليها عند إنقطاع الاسباب وإرتفاع الحجاب ، ويظهر


(92)
من كلامه تعالى أيضا أن للانسان حيوة اخرى سابقة على حيوته الدنيا يحذوها فيها كما يحذو حذو حيوته الدنيا فيما يتلوها. وبعبارة اخرى إن للانسان حيوة قبل هذه الحيوة الدنيا وحيوة بعدها ، والحيوة الثالثة تتبع حكم الثانية والثانية حكم الاولى ، فالانسان وهو في الدنيا واقع بين حيوتين : سابقة ولاحقة ، فهذا هو الذي يقضي به ظاهر القرآن.
    لكن الجمهور من المفسرين حملوا القسم الاول من الايات وهي الواصفة للحيوة السابقة على ضرب من لسان الحال وإقتضاء الاستعداد ، والقسم الثاني منها وهي الواصفة للحيوة اللاحقة على ضروب المجاز والاستعارة هذا ، إلا أن ظواهر كثير من الآيات يدفع ذلك. أما القسم الاول وهي آيات الذر والميثاق فستأتي في مواردها ، وأما القسم الثاني فكثير من الآيات دالة على أن الجزاء يوم الجزاء بنفس الاعمال وعينها كقوله تعالى : « لا تعتذروا اليوم أنما تجزون ما كنتم تعملون » التحريم ـ 7 ، وقوله تعالى : « ثم توفى كل نفس ما كسبت الآية » البقرة ـ 281 ، وقوله تعالى : « فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة » البقرة ـ 23. وقوله تعالى : « فليدع ناديه سندع الزبانية » العلق ـ 18 ، وقوله تعالى : « يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء » آل عمران ـ 28 ، وقوله تعالى : « ما يأكلون في بطونهم إلا النار » البقرة ـ 179 ، وقوله : « إنما يأكلون في بطونهم نارا » النساء ـ 10 ، إلى غير ذلك من الآيات.
     ولعمري لو لم يكن في كتاب الله تعالى ـ إلا قوله : « لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد » ق ـ 22 ، لكان فيه كفاية إذ الغفلة لا تكون إلا عن معلوم حاضر ، وكشف الغطاء لا يستقيم إلا عن مغطى موجود فلو لم يكن ما يشاهده الانسان يوم القيامة موجودا حاضرا من قبل لما كان يصح أن يقال للانسان أن هذه أمور كانت مغفولة لك ، مستورة عنك فهي اليوم مكشوف عنها الغطاء ، مزالة منها الغفلة.
     ولعمري أنك لو سئلت نفسك أن تهديك إلى بيان يفي بهذه المعاني حقيقة من غير مجاز لما أجابتك إلا بنفس هذه البيانات والاوصاف التي نزل بها القرآن الكريم.
     ومحصل الكلام أن كلامه تعالى موضوع على وجهين :


(93)
    أحدهما : وجه المجازاة بالثواب والعقاب ، وعليه عدد جم من الآيات ، تفيد : أن ما سيستقبل الانسان من خير أو شر كجنة أو نار أنما هو جزاء لما عمله في الدنيا من العمل.
     وثانيهما : وجه تجسم الاعمال وعليه عدة اخرى من الآيات ، وهي تدل على أن الاعمال تهيئ بأنفسها أو باستلزامها وتأثيرها أمورا مطلوبة أو غير مطلوبة أي خيرا أو شرا هي التي سيطلع عليه الانسان يوم يكشف عن ساق.
     وإياك أن تتوهم أن الوجهين متنافيان فإن الحقائق إنما تقرب إلى الافهام بالامثال المضروبة كما ينص على ذلك القرآن.
     وقوله تعالى : إلا الفاسقين ، الفسق كما قيل من الالفاظ التي أبدع القرآن إستعمالها في معناها المعروف ، مأخوذ من فسقت التمرة إذا خرجت عن قشرها وجلدها ولذلك فسر بعده بقوله تعالى : « الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه » الآية ، والنقض إنما يكون عن إبرام ، ولذلك أيضا وصف الفاسقين في آخر الآية بالخاسرين والانسان إنما يخسر فيما ملكه بوجه ، قال تعالى : « إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة » الشورى ـ 45 ، وإياك أن تتلقى هذه الصفات التي أثبتها سبحانه في كتابه للسعداء من عباده أو الاشقياء مثل المقربين والمخلصين والمخبتين والصالحين والمطهرين وغيرهم ، ومثل الظالمين والفاسقين والخاسرين والغاوين والضالين وأمثالها أوصافا مبتذلة أو مأخوذة لمجرد تزيين اللفظ ، فتضطرب بذلك قريحتك في فهم كلامه تعالى فتعطف الجميع على واد واحد ، وتأخذها هجائا عاميا وحديثا ساذجا سوقيا بل هي أوصاف كاشفة عن حقائق روحية ومقامات معنوية في صراطي السعادة والشقاوة ، كل واحد منها في نفسة مبدأ لآثار خاصة ومنشأ لاحكام مخصوصة معينة ، كما أن مراتب السن وخصوصيات القوى وأوضاع الخلقة في الانسان كل منها منشأ لاحكام وآثار مخصوصة لا يمكننا أن نطلب واحدا منها من غير منشأه ومحتده ، ولئن تدبرت في مواردها من كلامه تعالى وأمعنت فيها وجدت صدق ما ادعيناه.

    وإعلم : أن بيانه تعالى أن الاضلال إنما يتعلق بالفاسقين يشرح كيفية تأثيره


(94)
تعالى في أعمال العباد ونتائجها ( وهو الذي يراد حله في بحث الجبر والتفويض ).
     بيان ذلك : أنه تعالى قال : « لله ما في السموات وما في الارض » البقرة ـ 284 ، وقال : « له ملك السموات والارض » الحديد ـ 5 ، وقال : « له الملك وله الحمد » التغابن ـ 1 ، فأثبت فيها وفي نظائرها من الآيات الملك لنفسه على العالم بمعنى أنه تعالى مالك على الاطلاق ليس بحيث يملك على بعض الوجوه ولا يملك على بعض الوجوه ، كما أن الفرد من الانسان يملك عبدا أو شيئا آخر فيما يوافق تصرفاته أنظار العقلاء ، وأما التصرفات السفهية فلا يملكها ، وكذا العالم مملوك لله تعالى مملوكية على الاطلاق ، لا مثل مملوكية بعض أجزاء العالم لنا حيث أن ملكنا ناقص إنما يصحح بعض التصرفات لا جميعها ، فان الانسان المالك لحمار مثلا إنما يملك منه أن يتصرف فيه بالحمل والركوب مثلا وإما أن يقتلة عطشا أو جوعا أو يحرقه بالنار من غير سبب موجب فالعقلاء لا يرون له ذلك ، أي كل مالكية في هذا الاجتماع الانساني مالكية ضعيفة إنما تصحح بعض التصرفات المتصورة في العين المملوكة لا كل تصرف ممكن ، وهذا بخلاف ملكه تعالى للاشياء فإنها ليس لها من دون الله تعالى من رب يملكها وهي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حيوة ولا نشورا فكل تصرف متصور فيها فهو له تعالى ، فأي تصرف تصرف به في عباده وخلقه فله ذلك من غير أن يستتبع قبحا ولا ذما ولا لوما في ذلك ، إذ التصرف من بين التصرفات انما يستقبح ويذم عليه فيما لا يملك المتصرف ذلك لان العقلاء لا يرون له ذلك ، فملك هذا المتصرف محدود مصروف إلى التصرفات الجائزة عند العقل ، وأما هو تعالى فكل تصرف تصرف به فهو تصرف من مالك وتصرف في مملوك فلا قبح ولا ذم ولا غير ذلك وقد أيد هذه الحقيقة بمنع الغير عن أي تصرف في ملكه إلا ما يشائه أو يأذن فيه وهو السائل المحاسب دون المسؤل المأخوذ ، فقال تعالى : « من ذاالذي يشفع عنده إلا بإذنه » البقرة ـ 255 ، وقال تعالى : « ما من شفيع إلا من بعد إذنه » يونس ـ 3 ، وقال تعالى : « ولو شاء الله لهدى الناس جميعا » الرعد ـ 33 ، وقال : « يضل من يشاء ويهدي من يشاء » النحل ـ 93 ، وقال تعالى : « وما تشاؤن إلا أن يشاء الله » الدهر ـ 30 ، وقال تعالى « لا يسأل عما يفعل وهم يسألون » الانبياء ـ 23 ، فالله هو المتصرف


(95)
الفاعل في ملكه وليس لشئ غيره شئ من ذلك إلا بإذنه ومشيته ، فهذا ما يقتضيه ربوبيته.
    ثم انا نرى أنه تعالى نصب نفسه في مقام التشريع وجرى في ذلك على ما يجري عليه العقلاء في المجتمع الانساني ، من إستحسان الحسن والمدح والشكر عليه وإستقباح القبيح والذم عليه كما قال تعالى : « إن تبدوا الصدقات فنعما هي » البقرة ـ 271 ، وقال : « بئس الاسم الفسوق » الحجرات ـ 11 ، وذكر أن تشريعاته منظور فيها إلى مصالح الانسان ومفاسده مرعي فيها أصلح ما يعالج به نقص الانسان فقال تعالى : « إذا دعاكم لما يحييكم » الانفال ـ 24 ، وقال تعالى : « ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون » الصف ـ 11 ، وقال تعالى : « إن الله يأمر بالعدل والاحسان ( إلى أن قال ) وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغى » النحل ـ 90 ، وقال تعالى : « إن الله لا يأمر بالفحشاء » الاعراف ـ 28 ، والآيات في ذلك كثيرة ، وفي ذلك إمضاء لطريقة العقلاء في المجتمع ، بمعني أن هذه المعاني الدائرة عند العقلاء من حسن وقبح ومصلحة ومفسدة وأمر ونهي وثواب وعقاب أو مدح وذم وغير ذلك والاحكام المتعلقة بها كقولهم : الخير يجب أن يؤثر والحسن يجب أن يفعل ، والقبيح يجب أن يجتنب عنه إلى غير ذلك ، كما انها هي الاساس للاحكام العامة العقلائية كذلك الاحكام الشرعية التي شرعها الله تعالى لعباده مرعى فيها ذلك ، فمن طريقة العقلاء أن أفعالهم يلزم أن تكون معللة بأغراض ومصالح عقلائية ومن جملة أفعالهم تشريعاتهم وجعلهم للاحكام والقوانين ، ومنها جعل الجزاء ومجازاة الاحسان بالاحسان والاساءة بالاساءة أن شاؤا فهذه كلها معللة بالمصالح والاغراض الصالحة ، فلو لم يكن في مورد أمر أو نهي من الاوامر العقلائية ما فيه صلاح الاجتماع بنحو ينطبق على المورد لم يقدم العقلاء على مثله ، وكل المجازاة إنما تكون بالمسانخة بين الجزاء وأصل العمل في الخيرية والشرية وبمقدار يناسب وكيف يناسب ، ومن احكامهم أن الامر والنهي وكل حكم تشريعي لا يتوجه إلا إلى المختار دون المضطر والمجبر على الفعل وأيضا إن الجزاء الحسن أو السئ أعنى الثواب والعقاب لا يتعلقان إلا بالفعل الاختياري اللهم إلا فيما كان الخروج عن الاختيار والوقوع في الاضطرار مستندا إلى سوء الاختيار كمن أوقع نفسه في اضطرار المخالفة فإن العقلاء لا يرون عقابه قبيحا ، ولا يبالون بقصة إضطراره.


(96)
    فلو أنه سبحانه أجبر عباده على الطاعات أو المعاصي لم يكن جزا المطيع بالجنة والعاصي بالنار الا جزافا في مورد المطيع ، وظلما في مورد العاصي ، والجزاف والظلم قبيحان عند العقلاء ولزم الترجيح من غير مرجح وهو قبيح عندهم ايضا ولا حجة في قبيح وقد قال تعالى : « لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل » النساء ـ 165 ، وقال تعالى : « ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة » الانفال ـ 42 ، فقد اتضح بالبيان السابق أمور :
    أحدهما : أن التشريع ليس مبنيا على أساس الاجبار في الافعال ، فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم أولا ، وهي متوجهة إلى العباد من حيث أنهم مختارون في الفعل والترك ثانيا ، والمكلفون انما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير أو شر اختيارا.
     ثانيها : أن ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الاضلال والخدعة والمكر والامداد في الطغيان وتسليط الشيطان وتوليته على الانسان وتقييض القرين ونظائر ذلك جميعها منسوبة إليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه ونزاهته تعالى عن ألواث النقص والقبح والمنكر ، فإن جميع هذه المعاني راجعة بالآخرة إلى الاضلال وشعبه وأنواعه ، وليس كل إضلال حتى الاضلال البدوي وعلى سبيل الاغفال بمنسوب إليه ولا لائق بجنابه ، بل الثابت له الاضلال مجازاة وخذلانا لمن يستقبل بسوء إختياره ذلك كما قال تعالى : « يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الاية » البقرة ـ 26 ، وقال : « فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم » الصف ـ 5 ، وقال تعالى : « كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب » المؤمن ـ 34.
     ثالثها : أن القضاء غير متعلق بأفعال العباد من حيث أنها منسوبة إلى الفاعلين بالانتساب الفعلي دون الانتساب الوجودي وسيجئ لهذا القول زيادة توضيح في التذييل الآتي وفي الكلام على القضاء والقدر إن شاء الله تعالى.
     رابعها : أن التشريع كما لا يلائم الجبر كذلك لا يلائم التفويض ، إذ لا معنى للامر والنهي المولويين فيما لا يملك المولى منه شيئا ، مضافا إلى أن التفويض لا يتم الا مع سلب اطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه.


(97)
    إستفاضت الروايات عن أئمة أهل البيت ( عليه السلام ) أنهم قالوا : ( لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين الحديث ).
    وفي العيون بعدة طرق لما إنصرف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) من صفين قام إليه شيخ ممن شهد الواقعة معه فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا من مسيرنا هذا أبقضاء من الله وقدر ، فقال له أمير المؤمنين ( أجل يا شيخ فو الله ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد الا بقضاء من الله وقدر ) ، فقال الشيخ عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال : ( مهلا يا شيخ لعلك تظن قضاء حتما وقدرا لازما ، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والامر والنهي والزجر ، ولسقط معنى الوعد والوعيد ، ولم تكن على مسئ لائمة ولا لمحسن محمدة ، ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب والمذنب أولى بالاحسان من المحسن ، تلك مقالة عبدة الاوثان وخصماء الرحمن وقدرية هذه الامة ومجوسها. يا شيخ إن الله كلف تخييرا ونهى تحذيرا ، وأعطى على القليل كثيرا ولم يعص مغلوبا ، ولم يطع مكروها ولم يخلق السموات والارض وما بينهما باطلا. ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار الحديث ).
     أقول : قوله : بقضاء من الله وقدر إلى قوله : عند الله أحتسب عنائي. ليعلم أن من أقدم المباحث التي وقعت في الاسلام موردا للنقض والابرام ، وتشاغبت فيه الانظار مسألة الكلام ومسألة القضاء والقدر وإذ صوروا معنى القضاء والقدر وإستنتجوا نتيجتة فإذا هي أن الارادة الالهية الازلية تعلقت بكل شئ من العالم فلا شئ من العالم موجودا على وصف الامكان ، بل إن كان موجودا فبالضرورة ، لتعلق الارادة بها واستحالة تخلف مرادة تعالى عن إرادتة ، وان كان معدوما فبالامتناع لعدم تعلق الارادة بها وإلا لكانت موجودة ، وإذا اطردت هذه القاعدة في الموجودات وقع الاشكال في الافعال الاختيارية الصادرة منا فانا نرى في بادي النظر أن نسبة هذه الافعال وجودا وعدما الينا متساوية ، وإنما يتعين واحد من الجانبين بتعلق الارادة به


(98)
بعد إختيار ذلك الجانب فأفعالنا إختيارية ، والارادة مؤثرة في تحققه سبب في إيجاده ، ولكن ، فرض تعلق الارادة الالهية الازلية المستحيلة التخلف بالفعل يبطل إختيارية الفعل أولا ، وتأثير إرادتنا في وجود الفعل ثانيا وحينئذ لم يكن معنى للقدرة قبل الفعل على الفعل ، ولا معنى للتكليف لعدم القدرة قبل الفعل وخاصة في صورة الخلاف والتمرد فيكون تكليفا بما لا يطاق ، ولا معنى لاثابة المطيع بالجبر لانه جزاف قبيح ، ولا معنى لعقاب العاصي بالجبر لانه ظلم قبيح إلى غير ذلك من اللوازم ، وقد إلتزم الجميع هؤلاء الباحثون فقالوا القدرة غير موجودة قبل الفعل ، والحسن والقبح أمران غير واقعيين لا يلزم تقيد أفعاله تعالى بهما بل كل ما يفعله فهو حسن ولا يتصف فعله تعالى بالقبح ، فلا مانع هناك من الترجيح بلا مرجح ، ولا من الارادة الجزافية ، ولا من التكليف بما لا يطاق ، ولا من عقاب العاصي وإن لم يكن النقصان من قبله إلى غير ذلك من التوالي تعالى عن ذلك.
     وبالجملة كان القول بالقضاء والقدر في الصدر الاول مساوقا لارتفاع الحسن والقبح والجزاء بالاستحقاق ولذلك لما سمع الشيخ منه ( عليه السلام ) كون المسير بقضاء وقدر قال وهو في مقام التأثر واليأس : عند الله أحتسب عنائي أي إن مسيري وإرادتي فاقدة الجدوى من حيث تعلق الارادة الالهية بها فلم يبق لي إلا العناء والتعب من الفعل فأحتسبه عند ربي فهو الذي أتعبني بذلك فأجاب عنه الامام ( عليه السلام ) بقوله : لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب الخ ، وهو أخذ بالاصول العقلائية التي أساس التشريع مبني عليها واستدل في آخر كلامه ( عليه السلام ) بقوله : ولم يخلق السموات والارض وما بينهما باطلا الخ ، وذلك لان صحة الارادة الجزافية التي هي من لوازم ارتفاع الاختيار يوجب إمكان تحقق الفعل من غير غاية وغرض وهو يوجب امكان إرتفاع الغاية عن الخلقة والايجاد ، وهذا الامكان يساوق الوجوب ، فلا غاية على هذا التقدير للخلقة والايجاد ، وذلك خلق السموات والارض وما بينهما باطلا ، وفيه بطلان المعاد وفيه كل محذور ، وقوله ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكروها كان المراد لم يعص والحال أن عاصيه مغلوب بالجبر ولم يطع والحال أن طوعه مكروه للمطيع.
    وفي التوحيد والعيون عن الرضا ( عليه السلام ) قال : ذكر عنده الجبر والتفويض فقال :


(99)
ألا أعلمكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلا كسرتموه ؟ قلنا إن رأيت ذلك ، فقال إن الله عزوجل لم يطع بإكراه ، ولم يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكة ، هو المالك لما ملكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه فان إئتمر العباد بطاعته لم يكن الله منها صادا ، ولا منها مانعا وان إئتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وان لم يحل فعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ثم قال ( عليه السلام ) من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.
     اقول : قد عرفت أن الذي ألزم المجبرة أن قالوا بما قالوا هو البحث في القضاء والقدر وإستنتاج الحتم واللزوم فيهما وهذا البحث صحيح وكذلك النتيجة أيضا نتيجة صحيحة غير أنهم اخطأوا في تطبيقها ، واشتبه عليهم أمر الحقائق والاعتباريات ، واختلط عليهم الوجوب والامكان ، توضيح ذلك أن القضاء والقدر على تقدير ثبوتهما ينتجان أن الاشياء في نظام الايجاد والخلقة على صفة الوجوب واللزوم فكل موجود من الموجودات وكل حال من أحوال الموجود مقدرة محدودة عند الله سبحانه ، معين له جميع ما هو معه من الوجود وأطواره واحواله لا يتخلف عنه ولا يختلف ، ومن الواضح أن الضرورة والوجوب من شؤون العلة فإن العلخ التامة هي التي إذا قيس إليها الشئ صار متصفا بصفة الوجوب وإذا قيس إلى غيرها أي شئ كان لم يصر إلا متصفا بالامكان ، فانبساط القدر والقضاء في العالم هو سريان العلية التامة والمعلولية في العالم بتمامه وجميعه ، وذلك لا ينافي سريان حكم القوة والامكان في العام من جهة أخرى وبنظر آخر فالفعل الاختياري الصادر عن الانسان بإرادته إذا فرض منسوبا إلى جميع ما يحتاج إليه في وجوده من علم وإرادة وأدوات صحيحة ومادة يتعلق بها الفعل وسائر الشرائط الزمانية والمكانية كان ضروري الوجود ، وهو الذي تعلقت به الارادة الالهية الازلية لكن كون الفعل ضروريا بالقياس إلى جميع أجزاء علته التامة ومن جهتها لا يوجب كونه ضروريا إذا قيس إلى بعض أجزاء علته التامة كما إذا قيس الفعل إلى الفاعل دون بقية أجزاء علته التامة فإنه لا يتجاوز حد الامكان ، ولا يبلغ البتة حد الوجوب فلا معنى لما زعموه أن عموم القضاء وتعلق الارادة الالهية بالفعل يوجب زوال القدرة وارتفاع الاختيار ، بل الارادة الالهية إنما تعلقت بالفعل بجميع شؤونه وخصوصيانه الوجودية ومنها إرتباطاته بعلله وشرائط وجوده ، وبعبارة أخرى تعلقت الارادة


(100)
الالهية بالفعل الصادر من زيد مثلا لا مطلقا بل من حيث أنه فعل إختياري صادر من فاعل كذا في زمان كذا ومكان كذا فإذن تأثير الارادة الالهية في الفعل يوجب كون لفعل إختياريا وإلا تخلف متعلق الارادة الالهية عنها فإذن تأثير الارادة الالهية في صيرورة الفعل ضروريا يوجب كون الفعل إختياريا أي كون الفعل ضروريا بالنسبة إلى الارادة الالهية ممكنا إختياريا بالنسبة إلى الرادة الانسانية الفاعلية ، فالارادة في طول الارادة وليست في عرضها حتى تتزاحما ، ويلزم من تأثير الارادة الالهية بطلان تأثير الارادة الانسانية فظهر أن ملاك خطأ المجبرة فيما أخطأوا فيه عدم تمييزهم كيفية تعلق الارادة الالهية بالفعل ، وعدم فرقهم بين الارادتين الطوليتين وبين الارادتين العرضيتين وحكمهم ببطلان تأثير إراد العبد في الفعل لتعلق إرادة الله تعالى به.
     والمعتزلة وإن خالفت المجبرة في إختيارية افعال العبد وسائر اللوازم إلا إنهم سلكوا في أثباته مسلكا لا يقصر من قول المجبرة فسادا ، وهو أنهم سلموا للمجبرة أن تعلق ارادة الله بالفعل يوجب بطلان الاختيار ، ومن جهة أخرى أصروا على اختيارية الافعال الاختيارية فنفوا بالاخرة تعلق الارادة الالهية بالافعال فلزمهم إثبات خالق آخر للافعال وهو الانسان ، كما أن خالق غيرها هو الله سبحانه فلزمهم محذور الثنوية ، ثم وقعوا في محاذير اخرى أشد مما وقعت فيه المجبرة ، كما قال ( عليه السلام ) : مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه الحديث.
    فمثل هذا مثل المولى من الموالي العرفية يختار عبدا من عبيده ويزوجه إحدى فتياته ثم يقطع له قطيعة ويخصه بدار وأثاث وغير ذلك مما يحتاج إليه الانسان في حيوته إلى حين محدود وأجل مسمى ، فإن قلنا إن المولى وإن اعطى لعبده ما أعطى وملكه ما ملك فإنه لا يملك وأين العبد من الملك كان ذلك قول المجبرة ، وان قلنا أن للمولى باعطائه المال لعبده وتمليكه جعله مالكا وإنعزل هو عن المالكية وكان المالك هو العبد كان ذلك قول المعتزلة ، ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين وقلنا : أن المولى مقامه في المولوية وللعبد مقامه في الرقية وإن العبد إنما يملك في ملك المولى ، فالمولى مالك في عين أن العبد مالك فهنا ملك على ملك كان ذلك القول الحق الذى رآه أئمة أهل البيت ( عليه السلام ) ، وقام عليه البرهان هذا


(101)
    وفي الاحتجاج فيما سأله عباية بن ربعي الاسدي عن أمير المؤمنين على ( عليه السلام ) في معنى الاستطاعة ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : تملكها من دون الله أو مع الله ؟ فسكت عباية بن ربعي فقال له قل يا عباية ، قال : وما أقول يا امير المؤمنين ؟ قال : تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك فإن ملككها كان ذلك من عطائه وإن سلبكها كان ذلك من بلائه وهو المالك لما ملكك والقادر على ما عليه أقدرك الحديث.
     أقول : ومعنى الرواية واضح مما بيناه آنفا.
    وفي شرح العقائد للمفيد قال : وقد روى عن أبي الحسن الثالث ( عليه السلام ) إنه سئل عن أفعال العباد أهي مخلوقة لله تعالى ؟ فقال ( عليه السلام ) : لو كان خالقا لها لما تبرا منها وقد قال سبحانه : إن الله برئ من المشركين ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنما تبرا من شركهم وقبائحهم.
     اقول للافعال جهتان : جهة ثبوت ووجود ، وجهة الانتساب إلى الفاعل ، وهذه الجهة الثانية هي التي تتصف بها الافعال باأنها طاعة أو معصية أو حسنه أو سيئة فإن النكاح والزنا لا فرق بينهما من جهة الثبوت والتحقق ، وإنما الفرق الفارق هو أن النكاح موافق لامر الله تعالى ، والزنا فاقد للموافقة المذكورة ، وكذا قتل النفس بالنفس وقتل النفس بغير نفس ، وضرب اليتيم تأديبا وضربه ظلما ، فالمعاصي فاقدة لجهة من جهات الصلاح أو لموافقة الامر أو الغاية الاجتماعية بخلاف غيرها ، وقد قال تعالى : « الله خالق كل شئ » الزمر ـ 62 ، والفعل شئ بثبوته ووجوده ، وقد قال ( عليه السلام ) : ( كل ما وقع عليه اسم شئ فهو مخلوق ما خلا الله الحديث ) ثم قال تعالى : « الذي أحسن كل شئ خلقه » السجدة ـ 7 ، فتبين أن كل شئ كما أنه مخلوق فهو في أنه مخلوق حسن ، فالخلقة والحسن متلازمان متصاحبان لا ينفك أحدهما عن الآخر أصلا ، ثم إنه تعالى سمى بعض الافعال سيئة فقال : « من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها » الانعام ـ 160 ، وهي المعاصي التي يفعلها الانسان بدليل المجازاة ، وعلمنا بذلك أنها من حيث أنها معاص عدمية غير مخلوقة وإلا كانت حسنة ، وقال تعالى : « ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها » الحديد ـ 22 ، وقال : « ما أصاب من مصيبة


(102)
إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه » التغابن ـ 11 ، وقال : « ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير » الشورى ـ 30 ، وقال : « ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك » النساء ـ 79 ، وقال : « وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ، قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا » النساء ـ 78 ، علمنا بذلك أن هذه المصائب إنما هي سيئات نسبية بمعنى أن الانسان المنعم بنعمة من نعم الله كالامن والسلامة والصحة والغنى يعد واجدا فإذا فقدها لنزول نازلة وإصابة مصيبة كانت النازلة بالنسبة إليه سيئة لانها مقارنة لفقد ما وعدم ما ، فكل نازلة فهى من الله وليست من هذه الجهة سيئة وإنما هي سيئة نسبية بالنسبة إلى الانسان وهو واجد ، فكل سيئة فهي أمر عدمي غير منسوب من هذه الجهة إلى الله سبحانه البتة وإن كانت من جهة أخرى منسوبة إليه تعالى بالاذن فيه ونحو ذلك.
    وفي قرب الاسناد عن البزنطي ، قال : قلت : للرضا ( عليه السلام ) إن أصحابنا بعضهم يقول : بالجبر ، وبعضهم بالاستطاعة فقال لي : ( أكتب ، قال الله تبارك وتعالى يا بن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوتي أديت إلي فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا ، ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، وذلك اني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني ، وذلك أني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون ، فقد نظمت لك كل شئ تريد الحديث ) وهو أو ما يقربه مروي بطرق عامية وخاصية اخرى وبالجملة فالذي لا تنسب إلى الله سبحانه من الافعال هي المعاصي من جهة أنها معاص خاصة ، وبذلك يعلم معنى قوله ( عليه السلام ) في الرواية السابقة ، لو كان خالقا لها لما تبرأ منها إلى قوله وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم الحديث.
    وفي التوحيد : عن أبي جعفر وأبي عبد الله ( عليه السلام ) ( قالا : إن الله عزوجل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها ، والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون ) قال : فسئلا ( عليها السلام ) هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة ؟ قالا نعم أوسع مما بين السماء والارض


(103)
    وفي التوحيد عن محمد بن عجلان ، قال : قلت لابي عبد الله ( عليه السلام ) فوض الله الامر إلى العباد ؟ قال : ( الله أكرم من أن يفوض إليهم ) قلت : فأجبر الله العباد على أفعالهم فقال : ( الله أعدل من أن يجبر عبدا على فعل ثم يعذبه عليه ).
    وفي التوحيد أيضا عن مهزم ، قال قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) أخبرني عما اختلف فيه من خلفك من موالينا ، قال : قلت : في الجبر والتفويض ؟ قال : فاسألني قلت : أجبر الله العباد على المعاصي ؟ قال : ( الله أقهر لهم من ذلك ) قلت : ففوض إليهم ؟ قال الله أقدر عليهم من ذلك ، قال قلت فأي شئ هذا ، أصلحك الله ؟ قال : فقلب يده مرتين أو ثلاثا ثم قال : ( لو أجبتك فيه لكفرت ).
     اقول : قوله ( عليه السلام ) : الله أقهر لهم من ذلك ، معناه أن الجبر إنما هو لقهر من المجبر يبطل به مقاومة القوة الفاعلة ، وأقهر منه وأقوى أن يريد المريد وقوع الفعل الاختياري من فاعله من مجرى إختياره فيأتي به من غير أن يبطل إرادته وإختياره إو ينازع إرادة الفاعل إرادة الآمر.
    وفي التوحيد أيضا عن الصادق ( عليه السلام ) قال : قال : ( رسول الله : من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشية الله فقد أخرج الله من سلطانه )
    وفي الطرائف : روي أن الحجاج بن يوسف كتب إلى الحسن البصري وإلى عمرو بن عبيد وإلى واصل بن عطاء وإلى عامر الشعبي أن يذكروا ما عندهم وما وصل إليهم في القضاء والقدر ، فكتب إليه الحسن البصري أن احسن ما انتهى إلي ما سمعت أمير المؤمنين علي بن ابى طالب ( عليه السلام ) ، إنه قال : أتظن ان الذي نهاك دهاك ؟ وإنما دهاك أسفلك وأعلاك ، والله برئ من ذاك ). وكتب إليه عمرو بن عبيد أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ( لو كان الزور في الاصل محتوما لكان المزور في القصاص مظلوما ). وكتب إليه واصل بن عطاء أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ( أيدلك على الطريق ويأخذ عليك المضيق ؟ وكتب إليه الشعبي أحسن ما سمعت في القضاء والقدر


(104)
قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ( كلما استغفرت الله منه فهو منك ، وكلما حمدت الله عليه فهو منه ) فلما وصلت كتبهم إلى الحجاج ووقف عليها قال : لقد أخذوها من عين صافية.
    وفي الطرائف أيضا روى أن رجلا سأل جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) عن القضاء والقدر فقال : ( ما أستطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه ، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله ) يقول الله للعبد : لم عصيت ، لم فسقت ، لم شربت الخمر ، لم زنيت ؟ فهذا فعل العبد ، ولا يقول له لم مرضت ، لم قصرت ، لم إبيضضت ، لم إسوددت ؟ لانه من فعل الله تعالى.
    وفي النهج سئل ( عليه السلام ) عن التوحيد والعدل فقال : ( التوحيد أن لا تتو همه ، والعدل أن لا تتهمه ).
     اقول : والاخبار فيما مر متكاثرة جدا غير أن الذي نقلناه حاو لمعاني ما تركناه ولئن تدبرت فيما تقدم من الاخبار وجدتها مشتملة على طرق خاصة عديدة من الاستدلال.
     منها : الاستدلال بنفس الامر والنهي والعقاب و الثواب وأمثالها على تحقق الاختيار من غير جبر ولا تفويض ، كما في الخبر المنقول عن امير المؤمنين علي ( عليه السلام ) فيما أجاب به الشيخ ، وهو قريب المأخذ مما استفدناه من كلامه تعالى.
     ومنها : الاستدلال بوقوع امور في القرآن لاتصدق لو صدق جبر أو تفويض ، كقوله تعالى : « لله ملك السموات والارض » وقوله : « وما ربك بظلام للعبيد » ، وقوله تعالى : ( قل ان الله لا يأمر بالفحشاء الآية ، ويمكن أن يناقش فيه بأن الفعل إنما هو فاحشة أو ظلم بالنسبة إلينا وأما إذا نسب إليه تعالى فلا يسمى فاحشة ولا ظلما فلا يقع منه تعالى فاحشة ولا ظلم ، ولكن صدر الآية بمدلولها الخاص يدفعها فإنه تعالى يقول : « وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليه آبائنا والله أمرنا بهذا قل إن الله لا يأمر بالفحشاء » الآية ، فالاشارة بقوله بهذا يوجب أن يكون النفي اللاحق متوجها إليه سواء سمي فحشاء أو لم يسم.


(105)
    ومنها : الاستدلال من جهة الصفات وهو أن الله تسمى بأسماء حسنى وإتصف بصفات عليا لا تصدق ولا تصح ثبوتها على تقدير جبر أو تفويض فانه تعالى قهار قادر كريم رحيم ، وهذه صفات لا تستقر معانيها إلا عند ما يكون وجود كل شئ منه تعالى ونقص كل شئ وفساده غير راجع إلى ساحة قدسه كما في الروايات التي نقلناها عن التوحيد.
     ومنها : الاستدلال بمثل الاستغفار وعروض اللوم فان الذنب لو لم يكن من العبد لم يكن معنى لاستغفاره ولو كان الفعل كله من الله لم يكن فرق بين فعل وفعل في عروض اللوم على بعضها وعدم عروضه على بعض آخر.
     وهيهنا روايات أخر مروية فيما ينسب إليه سبحانه من معنى الاضلال والطبع والاغواء وغير ذلك.
    ففى العيون عن الرضا ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ( وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) قال ( عليه السلام ) ( إن الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه لكنه متى علم إنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة و اللطف وخلى بينهم وبين اختيارهم ).
    وفي العيون ايضا عنه ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ختم الله على قلوبهم ، قال : الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم ، كما قال الله تعالى : بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا.
    وفي المجمع عن الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالى : إن الله لا يستحي الآية ، هذا القول من الله رد على من زعم إن الله تبارك وتعالى يضل العباد ثم يعذبهم على ضلالتهم الحديث ، أقول : قد مر بيان معناها.

    لا ريب ان الامور التي نسميها أنواعا في الخارج هي التي تفعل الافاعيل النوعية ، وهي موضوعاتها ، فإنا انما أثبتنا وجود هذه الانواع ونوعيتها الممتازة عن غيرها
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس