الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 106 ـ 120
(106)
من طريق الآثار والافاعيل ، بأن شاهدنا من طرق الحواس أفاعيل متنوعة وآثارا مختلفة من غير أن تنال الحواس في إحساسها امرا وراء الآثار العرضية ، ثم أثبتنا من طريق القياس والبرهان علة فاعلة لها وموضوعا يقومها ثم حكمنا باختلاف هذه الموضوعات أعني الانواع لاختلاف الآثار والافاعيل المشهودة لنا ، فالاختلاف المشهود في آثار الانسان وساير الانواع الحيوانية مثلا هو الموجب للحكم بأن هناك انواعا مختلفة تسمى بكذا وكذا ولها آثار وأفاعيل كذا وكذا ، وكذا ، الاختلافات بين الاعراض والافاعيل إنما نثبتها ونحكم بها من ناحية موضوعاتها أو خواصها.
     وكيف كان فالافاعيل بالنسبة إلى موضوعاتها تنقسم بانقسام أولى إلى قسمين : الاول : الفعل الصادر عن الطبيعة من غير دخل للعلم في صدوره كأفعال النشوء والنمو والتغذي للنبات والحركات للاجسام ، ومن هذا القبيل الصحة والمرض وأمثال ذلك فإنها وأن كانت معلومة لنا وقائمة بنا الا أن تعلق العلم بها لا يؤثر في وجودها وصدورها شيئا وانما هي مستندة تمام الاستناد إلى فاعلها الطبيعي ، والثاني : الفعل الصادر عن الفاعل من حيث أنه معلوم تعلق به العلم كما في الافعال الارادية للانسان وساير ذوات الشعور من الحيوان ، فهذا القسم من الفعل انما يفعله فاعله من حيث تعلق العلم به وتشخيصه وتمييزه ، فالعلم فيه انما يفيد تعيينه وتمييزه من غيره ، وهذا التمييز والتعيين انما يتحقق من جهة انطباق مفهوم يكون كمالا للفاعل انطباقا بواسطة العلم ، فإن الفاعل أي فاعل كان إنما يفعل من الفعل ما يكون مقتضى كماله وتمام وجوده فالفعل الصادر عن العلم إنما يحتاج إلى العلم من جهة أن يتميز عند الفاعل ما هو كمال له عن ما ليس بكمال له.
    ومن هنا ما نرى أن الافعال الصادرة عن الملكات كصدور أصوات الحروف منظمة عن الانسان المتكلم ، وكذا الافعال الصادرة عنها مع اقتضاء ما ومداخلة من الطبيعة كصدور التنفس عن الانسان ، وكذا الافعال الصادرة عن الانسان بغلبة الحزن أو الخوف أو غير ذلك كل ذلك لا يحتاج إلى ترو من الفاعل ، إذ ليس هناك إلا صورة علمية واحدة منطبقة على الفعل والفاعل لاحالة منتظرة لفعلة ، فيفعل البتة ، واما الافعال التي لها صور علمية متعددة تكون هي من جهة بعضها مصداق


(107)
كمال الانسان حقيقة أو تخيلا ، ومن جهة بعضها غير مصداق لكماله الحقيقي أو التخيلي كما أن الخبز بالنسبة إلى زيد الجائع كذلك فإنه مشبع رافع لجوعه ويمكن أن يكون مال الغير ويمكن أن يكون مسموما ويمكن ان يكون قذرا يتنفر عنه الطبع ، وهكذا والانسان انما يتروى فيما يتروى لترجيح أحد هذه العناوين في انطباقه على الخبز مثلا ، فإذا تعين أحد العناوين وسقطت بقيتها وصار مصداقا كمال الفاعل لم يلبث الفاعل في فعله أصلا ، والقسم الاول : نسميه فعلا إضطراريا كالتأثيرات الطبيعية. والقسم الثاني : نسميه فعلا إراديا كالمشي والتكلم.
     والفعل الارادي : الصادر عن علم وارادة ينقسم ثانيا إلى قسمين : فإن ترجيح احد جانبي الفعل والترك إما مستند إلى نفس الفاعل من غير أن يتأثر عن آخر كالجائع الذي يتروى في أكل خبز موجود عنده حتى رجح أن يبقيه ولا يأكله لانه كان مال الغير من غير إذن منه في التصرف فانتخب الحفظ واختاره أو رجح الاكل فأكله إختيارا ، وإما أن يكون الترجيح والتعيين مستندا إلى تأثير الغير كمن يجبره جبار على فعل بتهديده بقتل أو نحوه ففعله إجبارا من غير أن يكون متعينا بانتخابه واختياره والقسم الاول. يسمى فعلا اختياريا ، والثاني فعلا اجباريا هذا ، وانت تجد بجودة التأمل أن الفعل الاجباري وإن أسندناه إلى إجبار المجبر وأنه هو الذي يجعل أحد الطرفين محالا وممتنعا بواسطة الاجبار فلا يبقى للفاعل إلا طرف واحد ، لكن الفعل الاجباري أيضا كالاختياري لا يقع إلا بعد ترجيح الفاعل المجبور جانب الفعل على الترك وإن كان الذي يجبره هو المتسبب إلى الفعل بوجه ، لكن الفعل ما لم يترجح بنظر الفاعل وإن كان نظره مستندا بوجه إلى اجبار المجبر وتهديده لم يقع ، والوجدان الصحيح شاهد على ذلك ، ومن هنا يظهر أن تقسيم الافعال الارادية إلى إختيارية وجبرية ليس تقسيما حقيقيا ينوع المقسم إلى نوعين مختلفين بحسب الذات والآثار ، فإن الفعل الارادي انما يحتاج إلى تعيين وترجيح علمي يعين للفاعل مجرى فعله ، وهو في الفعل الاختياري والجبري على حد سواء ، وأما أن ترجيح الفاعل في أحدهما مستند إلى رسله وفي آخر إلى آخر فلا يوجب إختلافا نوعيا يؤدي إلى اختلاف الآثار. ألا ترى أن المستظل تحت حائط إذا شاهد أن الحائط يريد أن ينقض ، فخرج خائفا عد فعله هذا إختياريا ؟ وأما إذا هدده جبار بأنه لو لم يقم لهدم الحائط عليه ، فخرج خائفا عد فعله هذا اجباريا من غير فرق


(108)
بين الفعلين والترجيحين أصلا غير أن أحد الترجيحين مستند إلى ارادة الجبار.
    فان قلت : كفى فرقا بين الفعلين أن الفعل الاختياري يوافق في صدوره مصلحة عند الفاعل وهو فعل يترتب عليه المدح والذم ويتبعه الثواب والعقاب إلى غير ذلك من الآثار ، وهذا بخلاف الفعل الاجباري فانه لا يترتب عليه شئ من ذلك.
     قلت : الامر على ما ذكر ، غير أن هذه الآثار انما هي بحسب اعتبار العقلاء على ما يوافق الكمال الاخير الاجتماعي ، فهي آثار اعتبارية غير حقيقية ، فليس البحث عن الجبر والاختيار بحثا فلسفيا لان البحث الفلسفي انما ينال الموجودات الخارجية وآثارها العينية ، وأما الامور المنتهية إلى أنحاء الاعتبارات العقلائية ، فلا ينالها بحث فلسفي ولا يشملها برهان البتة ، وان كانت معتبرة في بابها ، مؤثرة أثرها ، فالواجب ، أن نرد البحث المزبور من طريق آخر ، فنقول : لا شك أن كل ممكن حادث مفتقر إلى علة ، والحكم ثابت من طريق البرهان ، ولا شك ايضا أن الشئ ما لم يجب لم يوجد إذ الشئ ما لم يتعين طرف وجوده بمعين كانسبته إلى الوجود والعدم بالسوية ، ولو وجد الشئ وهو كذلك لم يكن مفتقرا إلى علة وهف ، فإذا فرض وجود الشئ كان متصفا بالضرورة ما دام موجودا ، وهذه الضرورة انما إكتسبها من ناحية العلة ، فإذا أخذنا دار الوجود بأجمعها كانت كسلسلة مؤلفة من حلقات مترتبة متوالية كلها واجبة الوجود ، ولا موقع لامر ممكن الوجود في هذه السلسلة.
    ثم نقول : هذه النسبة الوجوبية انما تنشأ عن نسبة المعلول إلى علتها التامة البسيطة أو المركبة من امور كثيرة كالعلل الاربع والشرائط والمعدات وأما إذا نسب المعلول المذكور إلى بعض أجزاء العلة أو إلى شئ آخر لو فرض كانت النسبة نسبة الامكان بالضرورة ، بداهة أنه لو كانت بالضرورة كانت العلة التامة وجودها مستغنى عنه وهي علة تامة هف ، ففي عالمنا الطبيعي نظامان : نظام الضرورة ونظام الامكان ، فنظام الضرورة منبسط على العلل التامة ومعلولاتها ولا يوجد بين أجزاء هذا النظام أمر إمكاني البتة لا ذات ولا فعل ذات ونظام الامكان منبسط على المادة والصور التي في قوة المادة التلبس بها والآثار التي يمكنها أن تقبلها ، فإذا فرضت فعلا من أفعال الانسان الاختيارية ونسبتها إلى تمام علتها ، وهي الانسان والعلم والارادة


(109)
ووجود المادة القابلة وتحقق الشرائط المكانية والزمانية وإرتفاع الموانع ، وبالجملة كل ما يحتاج إليه الفعل في وجوده كان الفعل واجبا ضروريا ، وإذا نسب إلى الانسان فقط ، ومن المعلوم أنه جزء من أجزاء العلة التامة كانت النسبة بالامكان.
    ثم نقول : سبب الاحتياج والفقر إلى العلة كما بين في محله كون الوجود ( وهو مناط الجعل ) وجودا إمكانيا ، أي رابطا بحسب الحقيقة غير مستقل بنفسه ، فما لم ينته سلسلة الربط إلى مستقل بالذات لم ينقطع سلسلة الفقر والفاقة.
    ومن هنا يستنتج اولا : أن المعلول لا ينقطع بواسطة استناده إلى علته عن الاحتياج إلى العلة الواجبة التي إليها تنتهي سلسلة الامكان.
     وثانيا : ان هذا الاحتياج حيث كان من حيث الوجود كان الاحتياج في الوجود مع حفظ جميع خصوصياته الوجودية وارتباطاته بعلله وشرائطه الزمانية والمكانية إلى غير ذلك.
    فقد تبين بهذا أمران الأول : أن الانسان كما أنه مستند الوجود إلى الارادة الالهية على حد سائر الذوات الطبيعية وأفعالها الطبيعية فكذلك أفعال الانسان مستنده الوجود إلى الارادة الالهية على حد سائر الذوات الطبيعية وأفعالها الطبيعية فكذالك أفعال الانسان مستندة الوجود إلى الارادة الالهية ، فما ذكره المعتزلة من كون الافعال الانسانية غير مرتبطة الوجود بالله سبحانه وإنكار القدر ساقط من اصله ، وهذا الاستناد حيث أنه إستناد وجودي فالخصوصيات الوجودية الموجودة في المعلول دخيلة فيه ، فكل معلول مستند إلى علته بحده الوجودي الذي له ، فكما أن الفرد من الانسان إنما يستند إلى العلة الاولى بجميع حدوده الوجودية من أب وأم وزمان ومكان وشكل وكم وكيف وعوامل أخر مادية ، فكذلك فعل الانسان إنما يستند إلى العلة الاولى مأخوذا بجميع خصوصياته الوجودية ، فهذا الفعل إذا إنتسب إلى العلة الاولى والارادة الواجبة مثلا لا يخرجه ذلك عما هو عليه ولا يوجب بطلان الارادة الانسانية مثلا في التأثير ، فإن الارادة الواجبية إنما تعلقت بالفعل الصادر من الانسان عن إرادة وإختيار ، فلو كان هذا الفعل حين التحقق غير إرادي وغير إختياري لزم تخلف إرادته تعالى عن مراده وهو محال ، فما ذهب إليه المجبرة من الاشاعرة من أن تعلق الارادة الالهية بالافعال الارادية يوجب بطلان تأثير الارادة والاختيار فاسد جدا ، فالحق الحقيق بالتصديق


(110)
أن الافعال الانسانية لها نسبة إلى الفاعل ونسبة إلى الواجب ، وإحدى النسبتين لا توجب بطلان الاخرى لكونهما طوليتين لا عرضيتين.
     الثاني : أن الافعال كما أن لها إستنادا إلى عللها التامة ( وقد عرفت أن هذه النسبة ضرورية وجوبية كسائر الموجودات المنسوبة إلى عللها التامة بالوجوب ) كذلك لها إستنادا إلى بعض اجزاء عللها التامة كالانسان مثلا ، وقد عرفت أن هذه النسبة بالامكان فكون فعل من الافعال ضروري الوجود بملاحظة علته التامة الضرورية لا يوجب عدم كون هذا الفعل ممكنا بنظر آخر ، إذ النسبتان ثابتتان وهما غير متنافيتين كما مر فما ذكره جمع من الماديين من فلاسفة العصر الحاضر من شمول الجبر لنظام الطبيعة وإنكار الاختيار باطل جدا بل الحق أن الحوادث بالنسبة إلى عللها التامة واجبة الوجود بالنسبة إلى موادها وأجزاء عللها ممكنة الوجود ، وهذا هو الملاك في أعمال الانسان وأفعاله فبنائه في جميع مواقف عمله على أساس الرجاء والتربية والتعليم ونحو ذلك ، ولا معنى لابتناء الواجبات والضروريات على التربية والتعليم ، ولا الركون إلى الرجاء فيها وهو ظاهر.
    كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فاحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ـ 28. هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى إلى السماء فسويهن سبع سموات وهو بكل شئ عليم ـ 29.
( بيان )
    رجوع ثان إلى ما في بدء الكلام فإنه تعالى بعد ما بين في أول السورة ما بين أوضحة بنحو التلخيص بقوله : يا أيها الناس أعبدوا ربكم إلى بضع آيات ، ثم رجع


(111)
إليه ثانيا وأوضحه بنحو البسطو التفصيل بقوله : كيف تكفرون إلى إثنتي عشرة آية ، ببيان حقيقة الانسان وما أودعه الله تعالى فيه من ذخائر الكمال وما تسعه دائرة وجوده وما يقطعه هذا الموجود في مسير وجوده من منازل موت وحيوة ثم موت ثم حيوة ثم رجوع إلى الله سبحانه وإن إلى ربك المنتهي وفيه ذكر جمل ما خص الله تعالى به الانسان من مواهب التكوين والتشريع ، أنه كان ميتا فأحياة ثم لا يزال يميته ويحييه حتى يرجعه إليه ، وقد خلق له ما في الارض وسخر له السموات وجعله خليفته في الارض وأسجد له ملائكته وأسكن أباه الجنة وفتح له باب التوبة وأكرمه بعبادته وهدايته ، وهذا هو المناسب لسياق قوله : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم الخ ، فإن السياق سياق العتبى والامتنان.
     قوله تعالى : « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا ». الآية قريبة السياق من قوله تعالى : « قالوا ربنا أمتنا إثنتين وأحييتنا إثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل » المؤمن ـ 11 ، وهذه من الآيات التي يستدل بها على وجود البرزخ بين الدنيا والآخرة ، فإنها تشتمل على إماتتين ، فلو كان إحديهما الموت الناقل من الدنيا لم يكن بد في تصوير الاماتة الثانية من فرض حيوة بين الموتين وهو البرزخ ، وهو إستدلال تام اعتني به في بعض الروايات ايضا ، وربما ذكر بعض المنكرين للبرزخ أن الآيتين أعني قوله : كيف تكفرون الآية ، وقوله : قالوا ربنا الآية ، متحدتا السياق ، وقد اشتملتا على موتين وحيوتين ، فمدلولهما واحد ، والآية الاولى ظاهرة في أن الموت الاول هو حال الانسان قبل ولوج الروح في الحيوة الدنيا ، فالموت والحيوة الاوليان هما الموت قبل الحيوة الدنيا والحيوة الدنيا والموت والحيوة الثانيتان هما الموت عن الدنيا والحيوة يوم البعث ، والمراد بالمراتب في الآية الثانية هو ما في الآية الاولى ، فلا معنى لدلالتها على البرزخ ، وهو خطأ فان الآيتين مختلفتان سياقا إذا المأخوذ في الاية الاولى ، موت واحد وإماتة واحدة وإحيائان ، وفي الآية الثانية إماتتان وإحيائان ، ومن المعلوم أن الاماتة لا يتحقق لها مصداق من دون سابقة حيوة بخلاف الموت ، فالموت الاول في الآية الاولى غير الاماتة الاولى في الآية الثانية ، فلامح في قوله تعالى. أمتنا إثنتين وأحييتنا إثنتين ، الاماتة الاولى هي التي بعد الدنيا والاحياء الاول بعدها للبرزخ والاماتة والاحياء الثانيتان للاخرة يوم البعث ، وفي قوله تعالى : وكنتم أمواتا فأحياكم


(112)
إنما يريد الموت قبل الحيوة وهو موت وليس بإماتة والحيوة هي الحيوة الدنيا ، وفي قوله تعالى : ثم إليه ترجعون حيث فصل بين الاحياء والرجوع بلفظ ثم تأييد لما ذكرنا هذا.
     قوله تعالى : وكنتم أمواتا ، بيان حقيقة الانسان من حيث وجوده فهو وجود متحول متكامل يسير في مسير وجوده المتبدل المتغير تدريجا ويقطعه مرحلة مرحلة ، فقد كان الانسان قبل نشأته في الحيوة الدنيا ميتا ثم حيي بإحياء الله ثم يتحول بإماتة وإحياء وهكذا وقد قال سبحانه : « وبدأ خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه » السجدة ـ 9 ، وقال تعالى : « ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين » المؤمنون ـ 14 ، وقال تعالى : « وقالوا أإذا ضللنا في الارض أئنا لفي خلق جديد ، بل هم بلقاء ربهم كافرون. قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم » السجدة ـ 11 ، وقال تعالى : « منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى » طه ـ 55. والآيات كما ترى ( وسنزيدها توضيحا في محالها ) تدل على أن الانسان جزء من الارض غير مفارقها ولا مباين معها ، إنفصل منها ثم شرع في التطور بأطواره حتى بلغ مرحلة أنشئ فيها خلقا آخر ، فهو المتحول خلقا آخر والمتكامل بهذا الكمال الجديد الحديث ، ثم يأخذ ملك الموت هذا الانسان من البدن نوع أخذ يستوفيه ثم يرجع إلى الله سبحانه ، فهذا صراط وجود الانسان.
    ثم إن الانسان صاغه التقدير صوغا يرتبط به مع سائر الموجودات الارضية والسماوية من بسائط العناصر وقواها المنبجسة منها ومركباتها من حيوان ونبات ومعدن وغير ذلك من ماء أو هواء وما يشاكلها ، وكل موجود من الموجودات الطبيعية كذلك ، أي إنه مفطور على الارتباط مع غيره ليفعل وينفعل ويستبقي به موهبة وجوده غير أن نطاق عمل الانسان ومجال سعية أوسع ، كيف ؟ وهذا الموجود الاعزل على أنه يخالط الموجودات الاخر الطبيعية بالقرب والبعد والاجتماع والافتراق بالتصرفات البسيطة لغاية مقاصده البسيطة في حيوته ، فهو من جهة تجهيزة بالادراك والفكر يختص بتصرفات خارجة عن طوق سائر الموجودات بالتفصيل والتركيب والافساد والاصلاح ، فما من موجود إلا وهو في تصرف الانسان ، فزمانا يحاكي


(113)
الطبيعة بالصناعة فيما لا يناله من الطبيعة وزمانا يقاوم الطبيعة بالطبيعة ، وبالجملة فهو مستفيد لكل غرض من كل شئ ، ولا يزال مرور الدهور على هذا النوع العجيب يؤيده في تكثير تصرفاته وتعميق أنظاره ليحق الله الحق بكلماته ، وليصدق قوله : « سخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه » الجاثية ـ 13 ، وقوله : « ثم استوى إلى السماء » البقرة ـ 29 ، وكون الكلام واقعا موقع بيان النعم لتمام الامتنان يعطي أن يكون الاستواء إلى السماء لاجل الانسان فيكون تسويتها سبعا أيضا لاجله ، وعليك بزيادة التدبر فيه.
     فذاك الذي ذكرناه من صراط الانسان في مسير وجوده ، وهذا الذي ذكرناه من شعاع عمله في تصرفاته في عالم الكون هو الذي يذكره سبحانه من العالم الانساني ومن أين يبتدي وإلى أين ينتهي.
    غير أن القرآن كما يعد مبدأ حيوته الدنيوية آخذة في الشروع من الطبيعة الكونية ومرتبطة بها ( أحيانا ) كذلك يربطها بالرب تعالى وتقدس ، فقال تعالى : « وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا » مريم ـ 8 ، وقال تعالى : « إنه هو يبدئ ويعيد » البروج ـ 13 ، فالانسان وهو مخلوق مربى في مهد التكوين مرتضع من ثدي الصنع والايجاد متطور بأطوار الوجود يرتبط سلوكه بالطبيعة الميتة ، كما انه من جهة الفطر والابداع مرتبط متعلق بأمر الله وملكوته ، قال تعالى : « انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون » يس ـ 82 ، وقال تعالى : « انما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون » النحل ـ 40 ، فهذا من جهة البدء وأما من جهة العود والرجوع فيعد صراط الانسان متشعبا إلى طريقين طريق السعادة وطريق الشقاوة ، فاما طريق السعادة فهو أقرب الطرق يأخذ في الانتهاء إلى الرفيع الاعلى ولا يزال يصعد الانسان ويرفعه حتى ينتهي به إلى ربه ، وأما طريق الشقاوة فهو طريق بعيد يأخذ في الانتهاء إلى اسفل السافلين حتى ينتهي إلى رب العالمين ، والله من ورائهم محيط ، وقد مر بيان ذلك في ذيل قوله تعالى : اهدنا الصراط المستقيم من سورة الفاتحة.
     فهذا اجمال القول في صراط الانسان ، واما تفصيل القول في حيوته قبل الدنيا


(114)
وفيها وبعد الدنيا فسيأتي كل في محله ، غير ان كلامه تعالى انما يتعرض لذلك من جهة ارتباطه بالهداية والضلال والسعادة والشقاء ، ويطوي البحث عما دون ذلك الا بمقدار يماس غرض القرآن المذكور.
     وقوله تعالى : فسويهن سبع سموات ، سيأتي الكلام في السماء في سورة حم السجدة انشاء الله تعالى.
    وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ قال : إني أعلم ما لا تعلمون ـ 30. وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ـ 31. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ـ 32. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ـ 33.
( بيان )
    الآت تنبئ عن غرض انزال الانسان إلى الدنيا وحقيقة جعل الخلاقة في الارض وما هو آثارها وخواصها ، وهي على خلاف سائر قصصه لم يقع في القرآن الا في محل واحد وهو هذا المحل.


(115)
    قوله تعالى : واذ قال ربك الخ ، سيأتي الكلام في معنى القول منه تعالى وكذا القول من الملائكة والشيطان انشاء الله.
     قوله تعالى : قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، إلى قوله : ونقدس لك. مشعر بأنهم انما فهموا وقوع الافساد وسفك الدماء من قوله سبحانه : اني جاعل في الارض خليفة ، حيث أن الموجود الارضي بما انه مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية ، والدار دار التزاحم ، محدودة الجهات ، وافرة المزاحمات ، مركباتها في معرض الانحلال ، وانتظاماتها واصلاحاتها في مظنة الفساد ومصب البطلان ، لا تتم الحيوة فيها الا بالحيوة النوعية ، ولا يكمل البقاء فيها الا بالاجتماع والتعاون ، فلا تخلو من الفساد وسفك الدماء ، ففهموا من هناك أن الخلافة المرادة لا تقع في الارض الا بكثرة من الافراد ونظام اجتماعي بينهم يفضي بالاخرة إلى الفساد والسفك و ، الخلافة وهي قيام شئ مقام آخر لا تتم إلا بكون الخليفة حاكيا للمستخلف في جميع شؤنه الوجودية وآثاره وأحكامه وتدابيره بما هو مستخلف ، والله سبحانه في وجوده مسمى بالاسماء الحسنى متصف بالصفات العليا ، من اوصاف الجمال والجلال ، منزه في نفسه عن النقص ومقدس في فعله عن الشر والفساد جلت عظمته ، والخليفة الارضي بما هو كذلك لا يليق بالاستخلاف ولا يحكي بوجوده المشوب بكل نقص وشين الوجود الالهي المقدس المنزه عن جميع النقائص وكل الاعدام ، فأين التراب ورب الارباب ، وهذا الكلام من الملائكة في مقام تعرف ما جهلوه واستيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخليفة ، وليس من الاعتراض والخصومة في شئ والدليل على ذلك قولهم فيما حكاه الله تعالى عنهم : انك أنت العليم الحكيم حيث صدر الجملة بأن التعليلية المشعرة بتسلم مدخولها فافهم ، فملخص قولهم يعود إلى ان جعل الخلافة انما هو لاجل ان يحكي الخليفة مستخلفه بتسبيحه بحمده وتقديسه له بوجوده ، والارضية لا تدعه يفعل ذلك بل تجره إلى الفساد والشر ، والغاية من هذا الجعل وهي التسبيح والتقديس بالمعنى الذي مر من الحكاية حاصلة بتسبيحنا بحمدك وتقديسنا لك ، فنحن خلفائك أو فاجعلنا خلفاء لك ، فما فائدة جعل هذه الخلافة الارضية لك ؟ فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله : أني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها.
     وهذا السياق : يشعر اولا : بأن الخلافة المذكورة انما كانت خلافة الله تعالى ،


(116)
لا خلافة نوع من الموجود الارضي كانوا في الارض قبل الانسان وانقروضوا ثم أراد الله تعالى أن يخلفهم بالانسان كما إحتمله بعض المفسرين ، وذلك لان الجواب الذي اجاب سبحانه به عنهم وهو تعليم آدم الاسماء لا يناسب ذلك ، وعلى هذا فالخلافة غير مقصورة على شخص آدم ( عليه السلام ) بل بنوه يشاركونه فيها من غير إختصاص ، ويكون معنى تعليم الاسماء إيداع هذا العلم في الانسان بحيث يظهر منه آثاره تدريجا دائما ولو اهتدى إلى السبيل أمكنه أن يخرجه من القوة إلى الفعل ، ويؤيد عموم الخلافة قوله تعالى « إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح » الاعراف ـ 69 ، وقوله تعالى « ثم جعلناكم خلائف في الارض » يونس ـ 14 ، وقوله تعالى « ويجعلكم خلفاء الارض » النحل ـ 62.
     وثانيا : إنه سبحانه لم ينف عن خليفة الارض الفساد وسفك الدماء ، ولا كذب الملائكة في دعويهم التسبيح والتقديس ، وقررهم على ما ادعوا ، بل انما أبدا شيئا آخر وهو أن هناك أمرا لا يقدر الملائكة على حمله ولا تتحمله ويتحمله هذا الخليفة الارضي فانه يحكي عن الله سبحانه أمرا ويتحمل منه سرا ليس في وسع الملائكة ، ولا محالة يتدارك بذلك أمر الفساد وسفك الدماء ، وقد بدل سبحانه قوله : قال إنى أعلم مالا تعلمون ثانيا بقوله : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض ، والمراد بهذا الغيب هو الاسماء لا علم آدم بها فإن الملائكة ما كانت تعلم أن هناك أسماء لايعلمونها ، لا أنهم كانوا يعلمون وجود أسماء كذلك ويجهلون من آدم أنه يعلمها ، وإلا لما كان لسؤاله تعالى إياهم عن الاسماء وجه وهو ظاهر بل كان حالمقام أن يقتصر بقوله : قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم حتى يتبين لهم أن آدم يعلمها لا أن يسئل الملائكة عن ذلك ، فإن هذا السياق يعطي أنهم ادعوا الخلافة وأذعنوا بإنتفائها عن آدم وكان اللازم أن يعلم الخليفة بالاسماء فسئلهم عن الاسماء فجهلوها وعلمها آدم ، فثبت بذلك لياقته لها وإنتفائها عنهم ، وقد ذيل سبحانه السؤال بقوله : إن كنتم صادقين ، وهو مشعر بأنهم كانوا إدعوا شيئا كان لازمه العلم بالاسماء.
     وقوله تعالى : وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم ، مشعر بأن هذه الاسماء أو أن مسمياتها كانوا موجودات أحياء عقلاء ، محجوبين تحت حجاب الغيب وأن العلم بأسمائهم كان غير نحو العلم الذي عندنا بأسماء الاشياء ، وإلا كانت الملائكة بانباء آدم إياهم بها


(117)
عالمين وصائرين مثل آدم مساوين معه ، ولم يكن في ذلك اكرام لآدم ولا كرامة حيث علمه الله سبحانه أسماء ولم يعلمهم ، ولو عملهم إياها كانوا مثل آدم أو أشرف منه ، ولم يكن في ذلك ما يقنعهم أو يبطل حجتهم ، وأي حجة تتم في أن يعلم الله تعالى رجلا علم اللغة ثم يباهي به ويتم الحجة على ملائكة مكرمين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون بأن هذا خليفتي وقابل لكرامتي دونكم ؟ ويقول تعالى أنبئوني باللغات التي سوف يضعها الآدميون بينهم للافهام والتفهيم إن كنتم صادقين في دعويكم أو مسئلتكم خلافتي ، على أن كمال اللغة هو المعرفة بمقاصد القلوب والملائكة لا تحتاج فيها إلى التكلم ، وانما تتلقى المقاصد من غير واسطة ، فلهم كمال فوق كمال التكلم ، وبالجملة فما حصل لملائكة من العلم بواسطة انباء آدم لهم بالاسماء هو غير ما حصل لآدم من حقيقة العلم بالاسماء بتعليم الله تعالى فأحد الامرين كان ممكنا في حق الملائكة وفي مقدرتهم دون الآخر ، وآدم انما استحق الخلافة الالهية بالعلم بالاسماء دون انبائها إذ الملائكة انما قالوا في مقام الجواب : سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا ، فنفوا العلم.
    فقد ظهر مما مر ان العلم بأسماء هؤلاء المسميات يجب أن يكون بحيث يكشف عن حقائقهم وأعيان وجوداتهم ، دون مجرد ما يتكفله الوضع اللغوي من اعطاء المفهوم فهؤلاء المسميات المعلومة حقائق خارجية ، ووجودات عينية وهى مع ذلك مستورة تحت ستر الغيب غيب السموات والارض ، والعلم بها على ما هي عليها كان اولا ميسورا ممكنا لموجود أرضي لا ملك سماوي ، وثانيا : دخيلا في الخلافة الالهية.
     والاسماء في قوله تعالى : وعلم آدم الاسماء كلها ، جمع محلى باللام وهو يفيد العموم على ما صرحوا به مضافا إلى انه مؤكد بقوله : كلها ، فالمراد بها كل اسم يقع لمسمى ولا تقييد ولا عهد ، ثم قوله : عرضهم ، دال على كون كل اسم أي مسماه ذا حيوة وعلم وهو مع ذلك تحت حجاب الغيب ، غيب السموات والارض. واضافة الغيب إلى السموات والارض وان امكن أن يكون في بعض الموارد اضافة من ، فيفيد التبعيض لكن المورد وهو مقام اظهار تمام قدرته تعالى واحاطته وعجز الملائكة ونقصهم يوجب كون اضافة الغيب إلى السموات والارض اضافة اللام ، فيفيد أن الاسماء امور غائبة عن العالم السماوي والارضي ، خارج محيط الكون ، و إذا تأملت هذه الجهات


(118)
اعني عموم الاسماء وكون مسمياتها أولي حيوة وعلم وكونها غيب السموات والارض قضيت بإنطباقها بالضرورة على ما اشير إليه في قوله تعالى : « وان من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم » الحجر ـ 21 ، حيث أخبر سبحانه بأنه كل ما يقع عليه اسم شئ فله عنده تعالى خزائن مخزونة باقية عنده غير نافده ، ولا مقدرة بقدر ، ولا محدودة بحد ، وأن القدر والحد في مرتبة الانزال والخلق ، وأن الكثرة التي في هذه الخزائن ليست من جنس الكثرة العددية الملازمة للتقدير والتحديد بل تعدد المراتب والدرجات ، وسيجئ بعض الكلام فيها في سورة الحجر انشاء الله تعالى.
     فتحصل ان هؤلاء الذين عرضهم الله تعالى على الملائكة موجودات عالية محفوظة عند الله تعالى ، محجوبة بحجب الغيب ، أنزل الله سبحانه كل اسم في العالم بخيرها وبركتها واشتق كل ما في السموات والارض من نورها وبهائها ، وأنهم على كثرتهم وتعددهم لا يتعددون تعدد الافراد ، ولا يتفاوتون تفاوت الاشخاص ، وانما يدور الامر هناك مدار المراتب و الدرجات ونزول الاسم من عند هؤلاء انما هو بهذا القسم من النزول.
     وقوله تعالى : وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وكان هذان القسمان من الغيب النسبي الذي هو بعض السموات والارض ، ولذلك قوبل به قوله : أعلم غيب السموات والارض ، ليشمل قسمي الغيب أعني الخارج عن العالم الارضى والسماوي وغير الخارج عنه.
     وقوله تعالى : كنتم تكتمون ، تقييد الكتمان بقوله : كنتم ، مشعر بأن هناك امرا مكتوما في خصوص آدم وجعل خلافته ، ويمكن أن يستظهر ذلك من قوله تعالى في الآية التالية : « فسجدوا الا ابليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ».
     فيظهر أن ابليس كان كافرا قبل ذلك الحين ، وأن إبائه عن السجدة كان مرتبطا بذلك فقد كان أضمره هذا.
     ويظهر بذلك أن سجدة الملائكة وإباء إبليس عنها كانت واقعة بين قوله تعالى : قال اني أعلم ما لا تعلمون وبين قوله : اعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ، ويظهر السر أيضا في تبديل قوله : اني أعلم ما لا تعلمون ثانيا بقوله : اني أعلم غيب السموات والارض.


(119)
( بحث روائي )
    في تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) ، قال : ما علم الملائكة بقولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، لو لا انهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء
    اقول : يمكن أن يشير بها إلى دورة في الارض سابقة على دورة بني آدم هذه كما وردت فيه الاخبار ولا ينافي ذلك ما مر أن الملائكة فهمت ذلك من قوله تعالى : إني جاعل في الارض خليفة ، بل لا يتم الخبر بدون ذلك ، والا كان هذا القول قياسا من الملائكة مذموما كقياس ابليس.
    وفي تفسير العياشي أيضا عنه ( عليه السلام ) قال زرارة : دخلت على أبي جعفر عليه لسلام فقال : أي شئ عندك من احاديث الشيعة فقلت : ان عندي منها شيئا كثيرا فقد هممت أن اوقد لها نارا فأحرقها فقال ( عليه السلام ) : وارها تنس ما أنكرت منها فخطر على بالي الآدميون فقال : ما كان علم الملائكة حيث قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ قال : وكان يقول أبو عبد الله ( عليه السلام ) إذا حدث بهذا الحديث هو كسر على القدرية ، ثم قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ان آدم ( عليه السلام ) كان له في السماء خليل من الملائكة ، فلما هبط آدم من السماء إلى الارض استوحش الملك وشكى إلى الله تعالى وسأله أن يأذن له ، فأذن له فهبط عليه فوجده قاعدا في قفرة من الارض ، فلما رآه آدم وضع يده على رأسه وصاح صيحة ، قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : يروون انه أسمع عامة الخلق فقال له الملك : يا آدم ما أراك الا وقد عصيت ربك وحملت على نفسك ما لا تطيق ، اتدري ما قال لنا الله فيك فرددنا عليه ؟ قال : لا ، قال : قال : اني جاعل في الأرض خليفة ، قلنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ فهو خلقك أن تكون في الارض أيستقيم أن تكون في السماء ؟ قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) والله عزى بها آدم ثلثا.
     أقول : ويستفاد من الرواية ان جنة آدم كانت في السماء وسيجئ فيه روايات أخر أيضا.
    وفي تفسير العياشي ايضا عن أبي العباس عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، قال : سألته


(120)
عن قول الله : وعلم آدم الاسماء كلها ، ما ذا علمه ؟ قال : الارضين والجبال والشعاب والاودية ، ثم نظر إلى بساط تحته ، فقال وهذا البساط مما علمه.
    وفي التفسير ايضا عن الفضيل بن العباس عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : سألته عن قول الله : وعلم آدم الاسماء كلها ، ما هي ؟ قال : أسماء الاودية والنبات والشجر والجبال من الارض.
    وفي التفسير أيضا عن داود بن سرحان العطار ، قال : كنت عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) فدعا بالخوان فتغذينا ثم دعا بالطست والدست سنانه فقلت : جعلت فداك ، قوله : وعلم آدم الاسماء كلها ، الطست والدست سنانه منه ، فقال ( عليه السلام ) : الفجاج والاودية وأهوى بيده كذا وكذا.
    وفي المعاني عن الصادق ( عليه السلام ) : إن الله عزوجل علم آدم أسماء حججه كلها ثم عرضهم وهم أرواح على الملائكة فقال : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين بأنكم أحق بالخلافة في الارض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم فقالوا : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال الله تبارك وتعالى : « يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبئهم بأسمائهم وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله عز ذكره ، فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته » ، ثم غيبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم ، وقال لهم : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون.
     أقول : وبالرجوع إلى ما مر من البيان تعرف معنى هذه الروايات وان لا منافاة بين هذه وما تقدمها ، إذ قد تقدم أن قوله تعالى : وإن من شئ إلا عندنا خزائنه تعطي أنه مامن شئ إلا وله في خزائن الغيب وجود ، وإن هذه الاشياء التي قبلنا إنما وجدت بالنزول من هناك ، وكل اسم وضع بحيال مسمى من هذه المسميات فهى اسم لما في خزائن الغيب ، فسواء قيل : إن الله علم آدم ما في خزائن غيبه من الاشياء وهي غيب السموات والارض ، أو قيل : إنه علم آدم أسماء كل شئ وهي غيب السموات والارض كان المؤدي والنتيجة واحدا وهو ظاهر.
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس