الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 121 ـ 135
(121)
    ويناسب المقام عدة من أخبار الطينة كما رواه في البحار عن جابر بن عبد الله قال : قلت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أول شئ خلق الله ما هو ؟ فقال نور نبيك يا جابر خلقه الله ثم خلق منه كل خير ، ثم أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله ، ثم جعله أقساما ، فخلق العرش من قسم ، والكرسي من قسم ، وحملة العرش وسكنة الكرسي من قسم ، وأقام القسم الرابع في مقام الحب ما شاء الله ، ثم جعله أقساما ، فخلق القلم من قسم ، واللوح من قسم ، والجنة من قسم ، وأقام القسم الرابع في مقام الخوف ما شاء الله ، ثم جعله أجزاء فخلق الملائكة من جزء ، والشمس من جزء والقمر من جزء ، وأقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء الله ، ثم جعله أجزاء ، فخلق العقل من جزء والعلم والحلم من جزء ، والعصمة والتوفيق من جزء ، وأقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء الله ، ثم نظر إليه بعين الهيبة فرشح ذلك النور وقطرت منه مائة ألف واربعة وعشرون ألف قطرة ، فخلق الله من كل قطرة روح نبي ورسول ، ثم تنفست أرواح الانبياء فخلق الله من أنفاسها أرواح الاولياء والشهداء والصالحين.
     أقول : والاخبار في هذه المعاني كثيرة ، متظافرة وأنت إذا أجلت نظرة التأمل والامعان فيها وجدتها شواهد على ما قدمناه ، وسيجئ شطر من الكلام في بعضها. وإياك أن ترمي أمثال هذه الاحاديث الشريفة المأثورة عن معادن العلم ومنابع الحكمة بأنها من اختلاقات المتصوفة وأوهامهم فللخلقة أسرار ، وهو ذا العلماء من طبقات أقوام الانسان لا يألون جهدا في البحث عن أسرار الطبيعة ، منذ أخذ البشر في الانتشار ، وكلما لاح لهم معلوم واحد بان لهم مجاهيل كثيرة ، وهي عالم الطبيعة أضيق العوالم وأخسها فما ظنك بما ورائها ، وهي عوالم النور والسعة.
    وإذ قلنا للملائكة أسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ـ 34.


(122)
( بيان )
    قد عرفت أن قوله تعالى : وما كنتم تكتمون ، فيه دلالة على وقوع أمر مكتوم ظاهر بعد أن كان مكتوما ، ولا يخلو ذلك عن مناسبة مع قوله : أبى واستكبر وكان من الكافرين حيث لم يعبر أبي واستكبر وكفر ، وعرفت أيضا أن قصه السجدة كالواقعة أو هي واقعة بين قوله تعالى : إني اعلم ما لا تعلمون ، وقوله : واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ، فقوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، كالجملة المستخرجة من بين الجمل ليتخلص بها إلى قصة الجنة ، فإن هذه الآيات كما عرفت إنما سيقت لبيان كيفية خلافة الانسان وموقعه وكيفية نزوله إلى الدنيا وما يؤول إليه أمره من سعادة وشقاء ، فلا يهم من قصة السجدة هيهنا إلا إجمالها المؤدي إلى قصة الجنة وهبوط آدم هذا ، فهذا هو الوجه في الاضراب عن الاطناب إلى الايجاز ، ولعل هذا هو السر أيضا في الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا ، بعد قوله : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل. وعلى ما مر فنسبة الكتمان إلى الملائكة وهو فعل إبليس بناء على الجري على الدأب الكلامي من نسبة فعل الواحد إلى الجماعة إذا اختلط بهم ولم يتميز منهم ، ويمكن أن يكون له وجه آخر ، وهو أن يكون ظاهر قوله تعالى : إني جاعل في الارض خليفة ، إطلاق الخلافة حتى على الملائكة كما يؤيده ايضا أمرهم ثانيا بالسجود ، ويوجب ذلك خطورا في قلوب الملائكة ، حيث أنها ما كانت تظن أن موجودا أرضيا يمكن ان يسود على كل شئ حتى عليهم ، ويدل على هذا المعنى بعض الروايات كما سيأتي.
     وقوله تعالى : أسجدوا لآدم ، يستفاد منه جواز السجود لغير الله في الجملة إذا كان تحية وتكرمة للغير وفيه خضوع لله تعالى بموافقة أمره ، ونظيره قوله تعالى في قصة يوسف ( عليه السلام ) « ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا قال : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا » يوسف ـ 100 ، وملخص القول في ذلك أنك قد عرفت في سورة الفاتحة أن العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام العبودية وإتيان ما يثبت ويستثبت به ذلك فالفعل العبادي يجب أن يكون فيه صلاحية إظهار مولوية المولى أو عبدية العبد كالسجود والركوع والقيام أمامه حينما يقعد ، والمشي خلفه حينما يمشي


(123)
وغير ذلك ، وكلما زادت الصلاحية المزبورة إزدادت العبادة تعينا للعبودية ، وأوضح الافعال في الدلالة على عز المولوية وذل العبودية السجدة ، لما فيها من الخرور على الارض ، ووضع الجبهة عليها ، واما ما ربما ظنه بعض : من أن السجدة عبادة ذاتية ، فليس بشئ ، فإن الذاتي لا يختلف ولا يتخلف. وهذا الفعل يمكن أن يصدر بعينه من فاعله بداع غير داع التعظيم والعبادة كالسخرية والاستهزاء فلا يكون عبادة مع اشتماله على جميع ما يشتمل عليه وهو عبادة نعم معنى العبادة أوضح في السجدة من غيرها ، وإذا لم يكن عبادة ذاتية لم يكن لذاته مختصا بالله سبحانه ، بناء على أن المعبود منحصر فيه تعالى ، فلو كان هناك مانع لكان من جهة النهي الشرعي أو العقلي والممنوع شرعا أو عقلا ليس إلا إعطاء الربوبية لغيره تعالى ، وأما تحية الغير أو تكرمته من غير إعطاء الربوبية بل لمجرد التعارف والتحية فحسب ، فلا دليل على المنع من ذلك ، لكن الذوق الديني المتخذ من الاستيناس بظواهره يقضي باختصاص هذا الفعل به تعالى ، والمنع عن استعماله في غير مورده تعالى ، وان لم يقصد به إلا التحية والتكرمة فقط ، وأما المنع عن كل ما فيه إظهار الاخلاص لله ، بإبراز المحبة لصالحي عباده أو لقبور أوليائه أو آثارهم فمما لم يقم عليه دليل عقلي أو نقلي أصلا ، وسنعود إلى البحث عن هذا الموضوع في محل يناسبه إن شاء الله تعالى.
( بحث روائي )
    في تفسير العياشي عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : لما أن خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له فقالت الملائكة في انفسها : ما كنا نظن أن الله خلق خلقا أكرم عليه منا فنحن جيرانه ونحن أقرب الخلق إليه ، فقال الله : ألم أقل لكم إني أعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ، فيما أبدوا من أمر بني الجان وكتموا ما في أنفسهم ، فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش
    وفي التفسير أيضا عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) : ما في معناه وفيه : فلما عرفت الملائكة أنها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش ، وأنها كانت عصابة من الملائكه وهم الذين كانوا حول العرش ، لم يكن جميع الملائكة إلى أن قال : فهم يلوذون حول العرش إلى يوم القيامة.


(124)
    اقول : يمكن أن يستفاد مضمون الروايتين من قوله حكاية عن الملائكة : ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك إلى قوله : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
     وسيجئ أن العرش هو العلم ، وبذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) فافهم ذلك ، وعلى هذا كان المراد من قوله تعالى : وكان من الكافرين ، قوم إبليس من الجان المخلوقين قبل الانسان. قال تعالى : « ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حماء مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم » الحجر ـ 27 ، وعلى هذه الرواية فنسبة الكتمان إلى جميع الملائكة لا تحتاج إلى عناية زائدة ، بل هي على حقيقتة ، فإن المعنى المكتوم خطر على قلوب جميع الملائكة ، ولا منافاة بين هذه الرواية وما تفيد أن المكتوم هو ما كان يكتمه إبليس من الاباء عن الخضوع لآدم ، والاستكبار لو دعي إلى السجود ، لجواز استفادة الجميع كما هو كذلك.
    وفي قصص الانبياء عن أبي بصير ، قال : قلت لابي عبد الله ( عليه السلام ) : سجدت الملائكة ووضعوا أجباههم على الارض ؟ قال : نعم تكرمة من الله تعالى
    وفي تحف العقول قال : إن السجود من الملائكة لآدم إنما كان ذلك طاعة لله ومحبة منهم لادم.
    وفي الاحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه : إن يهوديا سأل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن معجزات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مقابلة معجزات الانبياء ، فقال : هذا آدم أسجد الله له ملائكته ، فهل فعل بمحمد شيئا من هذا ؟ فقال علي : لقد كان ذلك ، ولكن أسجد الله لآدم ملائكتة ، فإن سجودهم لم يكن سجود طاعة انهم عبدوا آدم من دون الله عزوجل ، ولكن اعترافا لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعطي ما هو أفضل من هذا ، إن الله جل وعلا صلى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها ، وتعبد المؤمنون بالصلوة عليه فهذه زيادة له يا يهودي.
    وفي تفسير القمي : خلق الله آدم فبقي أربعين سنة مصورا ، وكان يمر به إبليس اللعين فيقول : لامر ما خلقت ؟ فقال : العالم ، فقال إبليس : ( لئن أمرني الله


(125)
بالسجود لهذا لعصيته ) إلى أن قال : ثم قال الله تعالى للملائكة : أسجدوا لآدم فسجدوا فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد.
     وفي البحار عن قصص الانبياء عن الصادق ( عليه السلام ) قال : أمر إبليس بالسجود لآدم فقال : يا رب وعزتك إن أعفيتني من السجود لادم لاعبدنك عبادة ما عبدك أحد قط مثلها ، قال الله جل جلاله : إني احب أن اطاع من حيث اريد وقال : إن إبليس رن أربع رنات : أولهن يوم لعن ، ويوم أهبط إلى الارض ، ويوم بعث محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على فترة من الرسل ، وحين أنزلت أم الكتاب ، ونخر نخرتين : حين أكل آدم من الشجرة ، وحين أهبط من الجنة ، وقال في قوله تعالى : فبدت لهما سوآتهما ، وكانت سوآتهما لا ترى فصارت ترى بارزة ، وقال الشجرة التي نهى عنها آدم هي السنبلة.
     اقول : وفي الروايات ـ وهي كثيرة ـ تأييد ما ذكرناه في السجدة.
     وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ـ 35. فأزلهما الشيطان عنها فاخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين ـ 36. فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ـ 37. قلنا إهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ـ 38. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ـ 39.


(126)
( بيان )
    قوله تعالى : « قلنا يا آدم اسكن ، على أن قصة سجود الملائكة لآدم تكررت في عدة مواضع من القرآن الكريم ». لم يقع قصة الجنة إلا في ثلث مواضع :
    احدهما : هيهنا من سورة البقرة.
     الثاني : في سورة الاعراف. قال الله تعالى : « ويا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ورى عنهما وقال : ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين. فدليهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناديهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. قالا : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. قال : إهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين. قال : فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون » الآيات 19 ، 25.
     والثالث : في سورة طه. قال الله تعالى : ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما. وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى. فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقي. إن لك ألاتجوع فيها ولا تعرى ، وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى. فوسوس إليه الشيطان فقال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى. فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصي آدم ربه فغوى. ثم إجتباه ربه فتاب عليه وهدى : قال : اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فاما ياتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال : رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال : كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ). الآيات. وسياق الآيات وخاصة قوله تعالى في صدر القصة : إني جاعل في الارض خليفة يعطي أن آدم ( عليه السلام ) إنما خلق ليحيى في الارض ويموت


(127)
فيها وإنما أسكنهما الله الجنة لاختبارهما ولتبدو لهما سوآتهما حتى يهبطا إلى الارض ، وكذا سياق قوله تعالى في سورة طه : فقلنا يا آدم ، وفي سورة الاعراف : ويا آدم أسكن حيث سبك قصة الجنة مع قصة إسجاد الملائكة كلتيهما كقصة واحدة متواصلة ، وبالجملة فهو ( عليه السلام ) كان مخلوقا ليسكن الارض ، وكان الطريق إلى الاستقرار في الارض هذا الطريق ، وهو تفضيله على الملائكة لاثبات خلافته ، ثم أمرهم بالسجدة ، ثم إسكان الجنة. والنهي عن قرب الشجرة المنهية حتى يأكلا منها فيبدو لهما سوآتهما فيهبطا إلى الارض ، فأخر العوامل للاستقرار في الارض ، وانتخاب الحيوة الدنيوية ظهور السوأة ، وهي العورة بقرينة قوله تعالى : وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة فهو التمايل الحيواني ويستلزم التغذي والنمو ايضا فما كان لابليس هم إلا ابداء سوآتهما ، وآدم وزوجته وإن كانا قد سواهما الله تعالى تسوية أرضية بشرية ثم أدخلهما الجنة لم يمكثا بعد التسوية ، ولم يمهلا كثيرا ، ليتم في الدنيا إدراكهما لسوآتهما ولا لغيرها من لوازم الحيوة الدنيا واحتياجاتها حتى أدخلهما الله الجنة ، وانه إنما أدخلهما الله الجنة حين أدخلهما ولما ينفصلا ولما ينقطع إدراكهما عن عالم الروح والملائكة ، والدليل على ذلك قوله تعالى : ليبدي لهما ما ووري عنهما ولم يقل ما كان ووري عنهما ، وهو مشعر بأن مواراة السوآة ما كانت ممكنة في الحيوة الدنيا إستدامة وإنما تمشت دفعة ما واستعقب ذلك ، إسكان الجنة فظهور السوآة كان مقضيا محتوما في الحيوة الارضية ومع أكل الشجرة ، ولذلك قال تعالى : فلا يخرجنكما من الجنة فتشقي ، وقال تعالى : وأخرجهما مما كانا فيه وأيضا هو تعالى غفر خطيئتهما بعد ما تابا ولم يرجعهما إلى الجنة بل أهبطهما إلى الدنيا ليحييا فيها ولو لم تكن الحيوة الارضية مع أكل الشجرة وظهور السوآة حتما مقضيا ، والرجوع إلى الجنة مع ذلك محالا ، لرجعا إليها بعد حط الخطيئة ، فالعامل في خروجهما من الجنة وهبوطهما هو الاكل من الشجرة وظهور السوآة ، وكان ذلك بوسوسة الشيطان اللعين ، وقد قال تعالى في سورة طه في صدر القصة : « ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما ». ثم ساق تعالى القصة. فهل هذا العهد هو قوله تعالى : لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ؟ أو أنه قوله تعالى : ان هذا عدو لك ولزوجك أو أنه العهد بمعني الميثاق العمومي المأخوذ من جميع الانسان ، ومن الانبياء خاصة بوجه آكد وأغلظ.


(128)
    والاحتمال الاول غير صحيح لقوله تعالى : « فوسوس لهما الشيطان وقال ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة الا ان تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما اني لكما لمن الناصحين » الآيتان فهما قد كانا حين اقتراف الخطيئة واقتراب الشجرة على ذكر من النهي ، وقد قال تعالى : « فنسي ولم نجد له عزما » فالعهد المذكور ليس هو النهى عن قرب الشجرة وأما الاحتمال الثاني « وهو ان يكون العهد المذكور هو التحذير عن اتباع ابليس فهو وان لم يكن بالبعيد كل البعيد » ، لكن ظواهر الآيات لا تساعد عليه فإن العهد مخصوص بآدم ( عليه السلام ) كما هو ظاهر الآية.
    مع ان التحذير عن ابليس كان لهما معا ، وأيضا ذيل الآيات وهو على طبق صدرها في سورة طه يناسب العهد بمعنى الميثاق الكلي ، لا العهد بمعنى التحذير عن ابليس ، قال تعالى : « فاما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى » الآيات فبحسب التطبيق ينطبق قوله تعالى : « ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا » على نسيان العهد وهو كما ترى مع العهد بمعنى الميثاق على الربوبية والعبودية أنسب منه مع التحذير من ابليس ، إذ لا كثير مناسبة بحسب المفهوم بين الاعراض عن الذكر واتباع ابليس ، واما الميثاق على الربوبية فهو له انسب ، فان الميثاق على الربوبية هو ان لا ينسى الانسان كونه تعالى ربا له أي مالكا مدبرا أي لا ينسى الانسان أبدا ولا في حال أنه مملوك طلق لا يملك لنفسه شيئا لا نفعا وضرا ولا موتا ولا حيوة ولا نشورا ، أي لا ذاتا ولا وصفا ولا فعلا.
     والخطيئة التي تقابله هو إعراض الانسان عن ذكر مقام ربه والغفلة عنه بالالتفات إلى نفسه أو ما يعود ويرجع إلى نفسه من زخارف الحيوة الدنيا الفانية البالية هذا.
     لكنك إذا امعنت النظر في الحيوة الدنيا على اختلاف جهاتها وتشتت أطرافها وانحائها ووحدتها واشتراكها بين المؤمن والكافر وجدتها بحسب الحقيقة والباطن مختلفة في الموردين بحسب ذوق العلم بالله تعالى والجهل به فالعارف بمقام ربه إذا نظر إلى نفسه وكذلك إلى الحيوة الدنيا الجامعه لاقسام الكدورات وانواع الآلام وضروب المكاره من موت وحياة ، وصحة وسقم ، وسعة واقتار ، وراحة وتعب ، ووجدان وفقدان.


(129)
على ان الجميع ( أعم مما في نفس الانسان أو في غيره ) مملوكة لربه ، لا استقلال لشئ منها وفيها ، بل الكل ممن ليس عنده الا الحسن والبهاء والجمال والخير على ما يليق بعزتة وجلاله ، ولا يترشح من لدنه الا الجميل والخير ، فإذا نظر إليها وهي هكذا لم ير مكروها يكرهه ولا مخوفا يخافه ، ولا مهيبا يهابه ، ولا محذورا يحذره ، بل يرى كل ما يراه حسنا محبوبا الا ما يأمره ربه أن يكرهه ويبغضه ، وهو مع ذلك يكرهه لامره ، ويحب ما يحب ويلتذ ويبتهج بأمره ، لا شغل له إلا بربه ، كل ذلك لما يرى الجميع ملكا طلقا لربه لا نصيب ولا حظ لشئ غيره في شئ منها ، فما له ولمالك الامر وما يتصرف به في ملكه ؟ من احياء واماتة ، ونفع وضر وغيرها ، فهذه هي الحيوة الطيبة التي لا شقاء فيها البتة وهي نور لا ظلمة معه ، وسرور لا غم معه ، ووجدان لا فقد معه ، وغنى لا فقر معه كل ذلك بالله سبحانه ، وفي مقابل هذه الحيوة حيوة الجاهل بمقام ربه ، إذ هذا المسكين بانقطاعه عن ربه لا يقع بصره على موجود من نفسه وغيره الا رآه مستقلا بنفسه ضارا أو نافعا خيرا أو شرا فهو يتقلب في حيوته بين الخوف عما يخاف فوته ، والحذر عما يحذر وقوعه ، والحزن لما يفوته ، والحسرة لما يضيع عنه من جاه أو مال أو بنين أو اعوان وساير ما يحبه ويتكل ويعتمد عليه ويؤثره.
     كلما نضج جلده بالاعتياد بمكروه والسكون إلى مرارة بدل جلدا غيره ، ليذوق العذاب بفؤاد مضطرب قلق ، وحشى ذائب محترق ، وصدر ضيق حرج ، كأنما يصعد في السماء ، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.
    إذا عرفت هذا علمت : أن مرجع الامرين أعني نسيان الميثاق وشقاء الحيوة الدنيا واحد ، وان الشقاء الدنيوي من فروع نسيان الميثاق.
     وهذا هو الذي يشعر به كلامه سبحانه حيث أتى بالتكليف الجامع لاهل الدنيا في سورة طه فقال تعالى : « فاما يأتينكم مني هدى فمن إتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ».
     وبدل ذلك في هذه السورة بقوله : ( فمن إتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ).


(130)
    ومن هنا تحدس إن كنت ذا فطانة أن الشجرة كانت شجرة في اقترابها تعب الحيوة الدنيا وشقائها ، وهو أن يعيش الانسان في الدنيا ناسيا لربه ، غافلا عن مقامه ، وأن آدم ( عليه السلام ) كأنه أراد أن يجمع بينها وبين الميثاق المأخوذ عليه ، فلم يتمكن فنسي الميثاق ووقع في تعب الحيوة الدنيا ، ثم تدورك له ذلك بالتوبة.
     قوله تعالى : ( وكلا منها رغدا ) الرغد الهناء وطيب العيش وأرغد القوم مواشيهم تركوها ترعى كيف شاءت ، وقوم رغد ، ونساء رغد ، أي ذووا عيش رغيد.
     وقوله تعالى : « ولا تقربا هذه الشجرة » وكأن النهي انما كان عن أكل الثمرة وانما تعلق بالقرب من الشجرة ايذانا بشدة النهى ومبالغة في التأكيد ويشهد بذلك قوله تعالى « فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما » الاعراف ـ 22.
     وقوله تعالى : « فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما » طه ـ 121 ، فكانت المخالفة بالاكل فهو المنهى عنه بقوله : ولا تقربا.
     قوله تعالى : فتكونا من الظالمين ، من الظلم لا من الظلمة على ما إحتمله بعضهم وقد إعترفا بظلمهما حيث قالا على ما حكاه الله تعالى عنهما : ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا.
    إلا أنه تعالى بدل في سورة طه هذه الكلمة أعني قوله : ( فتكونا من الظالمين من قوله : ( فتشقى والشقاء هو التعب ثم فسر التعب وفصله ، فقال ، « ان لك الا تجوع فيها ولا تعرى وإنك لا تظمأ فيها و لاتضحى » الآيات.
    ومن هنا يظهر أن وبال هذا الظلم انما كان هو الوقوع في تعب حيوة هذه الدنيا من جوع وعطش وعراء وعناء وعلى هذا فالظلم منهما انما هو ظلمهما لانفسهما ، لا بمعنى المعصية المصطلحة والظلم على الله سبحانه. ومن هنا يظهر أيضا أن هذا النهى اعني قوله : ولا تقربا ، إنما كان نهيا تنزيهيا إرشاديا يرشد به إلى ما فيه خير المكلف وصلاحه في مقام النصح لا نهيا مولويا.
     فهما انما ظلما أنفسهما في ترك الجنة على ان جزاء المخالفة للنهى المولوي التكليفي


(131)
يتبدل بالتوبة إذا قبلت ولم يتبدل في موردهما ، فانهما تابا وقبلت توبتهما ولم يرجعا إلى ما كانا فيه من الجنة ولو لا أن التكليف إرشادى ليس له الا التبعة التكوينية دون التشريعية لاستلزام قبول التوبة رجوعهما إلى ما كانا فيه من مقام القرب وسيأتي لهذا الكلام بقية فيما سيأتي ان شاء الله.
     قوله سبحانه : فأزلهما الشيطان ، الظاهر من هذه الجملة كنظائرها وإن لم يكن أزيد من وسوسة الشيطان لهما مثل ما يوسوس لنا ( بني آدم ) على نحو القاء الوسوسة في القلب من غير رؤية الشخص.
    لكن الظاهر من أمثال قوله تعالى في سورة طه : « فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك » يدل على أنه تعالى أراهما الشيطان وعرفهما إياه بالشخص والعين دون الوصف وكذا قوله تعالى حكاية عن الشيطان : « يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد الآية » حيث أتى بالكلام في صورة حكاية الخطاب ، ويدل ذلك على متكلم مشعور به.
     وكذا قوله تعالى في سورة الاعراف : « وقاسمهما اني لكما لمن الناصحين » والقسم إنما يكون من مقاسم مشعور به.
     وكذا قوله تعالى : « وناديهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما أن الشيطان لكما عدو مبين » ، كل ذلك يدل على أنه كان يترآى لهما وكانا يشاهدانه. ولو كان حالهما ( عليهما السلام ) مثل حالنا من عدم المشاهدة حين الوسوسة لجاز لهما أن يقولا : ( ربنا اننا لم نشعر وخلناأن هذه الوساوس هي من أفكارنا من غير استشعار بحضوره ، ولا قصد لمخالفة ما وصيتنا به من التحذير من وسوسته.
     وبالجملة فهما كانا يشاهدانه ويعرفانه ، والانبياء وهم المعصومون بعصمة الله كذلك يعرفونه ويشاهدونه حين تعرضه بهم لو تعرض على ما وردت به الروايات في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ويحيى وايوب واسماعيل ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم هذا.
     وكذا ظاهر هذه الآيات كظاهر قوله تعالى : « ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة »


(132)
حيث ينبئ عن كونهما معه لعنه الله بحيال الشجرة في الجنة ، فقد كان دخل الجنة وصاحبهما وغرهما بوسوسته ، ولا محذور فيه إذ لم تكن الجنة جنة الخلد حتى لا يدخلها الشيطان ، والدليل على ذلك خروجهم جميعا من هذه الجنه.
     وأما قوله تعالى خطابا لابليس : « فاهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فاخرج منها » الاعراف ـ 13 ، فيمكن أن يكون المراد به الخروج من الملائكة ، أو الخروج من السماء من جهة كونها مقام قرب وتشريف.
     قوله تعالى : « وقلنا إهبطوا بعضكم لبعض عدو » الآية ، ظاهر السياق أنه خطاب آدم وزوجته وإبليس وقد خص إبليس وحده بالخطاب في سورة الاعراف حيث قال : « فأهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها » الاية ، فقوله تعالى : إهبطوا كالجمع بين الخطابين وحكاية عن قضاء قضى الله به العداوة بين إبليس لعنه الله وبين آدم وزوجته وذريتهما ، وكذلك قضى به حيوتهم في الارض وموتهم فيها وبعثهم منها.
     وذرية آدم مع آدم في الحكم كما ربما يستشعر من ظاهر قوله : « فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون الآية » وكما سيأتي في قوله تعالى : « ولقد خلقناكم ثم صور ناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم الآية » ، من سورة الاعراف.
    إن إسجاد الملائكة لآدم ( عليه السلام ) إنما كان من جهة أنه خليفة أرضي ، فكان المسجود له آدم ( عليه السلام ) وحكم السجدة لجميع البشر ، فكان إقامة آدم ( عليه السلام ) مقام المسجود له معنونا بعنوان الانموذج والنائب.
     وبالجملة يشبه أن تكون هذه القصة التي قصها الله تعالى من إسكان آدم وزوجته الجنة ، ثم إهباطهما لاكل الشجرة كالمثل يمثل به ما كان الانسان فيه قبل نزوله إلى الدنيا من السعادة والكرامة بسكونة حظيره القدس ، ومنزل الرفعة والقرب ، ودار نعمة وسرور ، وانس ونور ، ورفقاء طاهرين ، وإخلاء روحانيين ، وجوار رب العالمين.
    ثم إنه يختار مكانه كل تعب وعناء ومكروه وألم بالميل إلى حيوة فانية ، وجيفة


(133)
منتنة دانية ، ثم إنه لو رجع بعد ذلك إلى ربه لاعاده إلى دار كرامته وسعادته ولو لم يرجع إليه وأخلد إلى الارض واتبع هواه فقد بدل نعمه الله كفرا واحل بنفسه دار البوار ، جهنم يصليها وبئس القرار.
     قوله تعالى : ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ) ، التلقي هو التلقن ، وهو أخذ الكلام مع فهم وفقه وهذا التلقى كان هو الطريق المسهل لآدم ( عليه السلام ) توبته.
    ومن ذلك يظهر أن التوبة توبتان : توبه من الله تعالى وهي الرجوع إلى العبد بالرحمة ، وتوبة من العبد وهي الرجوع إلى الله بالاستغفار والانقلاع من المعصية.
     وتوبة العبد ، محفوفة بتوبتين : من الله تعالى ، فان العبد لا يستغني عن ربه في حال من الاحوال ، فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى وإعانته ورحمته حتى يتحقق منه التوبة ، ثم تمس الحاجة إلى قبوله تعالى وعنايته ورحمته ، فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من الله كما يدل عليه قوله تعالى : « ثم تاب عليهم ليتوبوا » التوبة ـ 119.
     وقراءة نصب آدم ورفع كلمات تناسب هذه النكتة ، وإن كانت القراءة الاخرى ( وهي قراءة رفع آدم ونصب كلمات ) لا تنافيه ايضا.
     وأما أن هذه الكلمات ما هي ؟ فربما يحتمل انها هي ما يحكيه الله تعالى عنهما في سورة الاعراف بقوله : « قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين » الاعراف ـ 23 ، إلا أن وقوع هذه الكلمات أعني قوله : « قالا ربنا ظلمنا » الآية قبل قوله : ( قلنا إهبطوا ) في سورة الاعراف ووقوع قوله ( فتلقى آدم ) الآية بعد قوله : قلنا اهبطوا ، في هذه السورة لا يساعد عليه.
    لكن هيهنا شئ : وهو أنك عرفت في صدر القصة أن الله تعالى حيث قال : « إني جاعل في الارض خليفة » ، قالت الملائكة : « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك » الآية وهو تعالى لم يرد عليهم دعويهم على الخليفة الارضي بما رموه به ولم يجب عنه بشئ إلا أنه علم آدم الاسماء كلها.
    ولو لا أنه كان فيما صنعه تعالى من تعليم الاسماء ما يسد باب إعتراضهم ذلك لم


(134)
     ينقطع كلامهم ولا تمت الحجة عليهم قطعا. ففي جملة ما علمه الله تعالى آدم من الاسماء أمر ينفع العاصي إذا عصى والمذنب إذا أذنب ، فلعل تلقيه من ربه كان متعلقا بشئ من تلك الاسماء فافهم ذلك.
     وإعلم أن آدم ( عليه السلام ) وإن ظلم نفسه في القائها إلى شفا جرف الهلكة ومنشعب طريقي السعادة والشقاوة أعني الدنيا ، فلو وقف في مهبطة فقد هلك ، ولو رجع إلى سعادتة الاولى فقد أتعب نفسه وظلمها ، فهو ( عليه السلام ) ظالم لنفسه على كل تقدير ، إلا أنه ( عليه السلام ) هيأ لنفسه بنزوله درجة من السعادة ومنزلة من الكمال ما كان ينالها لو لم ينزل وكذلك ماكان ينالها لو نزل من غير خطيئة.
     فمتى كان يمكنه أن يشاهد ما لنفسه من الفقر والمذلة والمسكنة والحاجة والقصور وله في كل ما يصيبه من التعب والعناء والكد روح وراحة في حظيرة القدس وجوار رب العالمين ، فلله تعالى صفات من عفو ومغفرة وتوبة وستر وفضل ورأفة ورحمة لا ينالها إلا المذنبون ، وله في أيام الدهر نفحات يرتاح بها إلا المتعرضون.
     فهذه التوبة هي التي إستدعت تشريع الطريق الذي يتوقع سلوكه وتنظيف المنزل الذي يرجى سكونة ، فورائها تشريع الدين وتقويم الملة.
     ويدل على ذلك ما تراه أن الله تعالى يكرر في كلامه تقدم التوبة على الايمان. قال تعالى : « فإستقم كما امرت ومن تاب معك » هود ـ 112 ، وقال : « وإني لغفار لمن تاب وآمن » طه ـ 82 ، إلى غير ذلك من الآيات.
     قوله تعالى : قلنا إهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى. وهذا أول ما شرع من الدين لآدم ( عليه السلام ) وذريته ، أوجز الدين كله في جملتين لا يزاد عليه شئ إلى يوم القيامة.
     وأنت إذا تدبرت هذه القصة ( قصة الجنة ) وخاصة ما وقع في سورة طه وجدت أن المستفاد منها أن جريان القصة أوجب قضائين منه تعالى في آدم وذريته ، فأكل الشجرة أوجب حكمه تعالى وقضائه بالهبوط والاستقرار في الارض والحيوة


(135)
فيها تلك الحيوة الشقية التي حذرا منها حين نهيا عن إقتراب الشجرة هذا.
    وأن التوبة ثانيا : تعقب قضاء وحكما ثانيا منه تعالى بإكرام آدم وذريته بالهداية إلى العبودية فالمقضي أولا كان نفس الحيوة الارضية ، ثم بالتوبة طيب الله تلك الحيوة بأن ركب عليها الهداية إلى العبودية ، فتألفت الحيوة من حيوة أرضية ، وحيوة سماوية.
     وهذا هو المستفاد من تكرار الامر بالهبوط في هذه السورة حيث قال تعالى : « وقلنا إهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين » الآية وقال تعالى : « قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى » الآية.
     وتوسيط التوبة بين الامرين بالهبوط مشعر بأن التوبة وقعت ولما ينفصلا من الجنة وإن لم يكونا أيضا فيها كاستقرار هما فيها قبل ذلك.
     يشعر بذلك أيضا قوله تعالى : « وناديهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة » الآية بعد ما قال لهما : لا تقربا هذه الشجرة فأتى بلفظة تلكما وهي إشارة إلى البعيد بعد ما أتى بلفظة هذه وهي إشارة إلى القريب وعبر بلفظة نادى وهي للبعيد بعد ما أتى بلفظة قال وهي للقريب فافهم.
     واعلم أن ظاهر قوله تعالى : « وقلنا إهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين » الآية وقوله تعالى : « قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون » الآية أن نحوه هذه الحيوة بعد الهبوط تغاير نحوها في الجنة قبل الهبوط ، وان هذه حيوة ممتزجة حقيقتها بحقيقة الارض ذات عناء وشقاء يلزمها أن يتكون الانسان في الارض ثم يعاد بالموت إليها ثم يخرج بالبعث منها.
     فالحيوة الارضية تغاير حيوة الجنة فحيوتها حيوة سماوية غير أرضية.
    ومن هنا يمكن أن يجزم أن جنة آدم كانت في السماء ، وإن لم تكن جنة الآخرة جنة الخلد التي لا يخرج منها من دخل فيها.
     نعم : يبقي الكلام في معنى السماء ولعلنا سنوفق لاستيفاء البحث منه ، إنشاء الله تعالى.
    بقى هنا شئ وهو القول في خطيئة آدم فنقول ظاهر الآيات في بادي النظر
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس