الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 376 ـ 390
(376)
فقد كان الكلبيون من قدماء اليونان ـ على ما ينقل ـ على هذه المسلك ، وكذا المزدكيون ( وهم أتباع مزدك الذي ظهر بايران على عهد كسرى ودعا إلى الاشتراك ) كان عملهم على ذلك ، ويعهد من بعض القبائل الوحشية بإفريقية وغيرهم.
    وكيف كان فهو مسلك فاسد والحجة التي اقيمت على هذه النظرية فاسدة من حيث البناء والمبنى معا.
    توضيح ذلك : أنا نجد كل موجود من هذه الموجودات العينية الخارجية يصحب شخصية تلازمه ، ويلزمها أن لا يكون الموجود بسببه عين الموجود الآخر ويفارقه في الوجود ، كما أن وجود زيد يصحب شخصية ونوع وحدة لا يمكن معها أن يكون عين عمرو ، فزيد شخص واحد ، وعمرو شخص آخر ، وهما شخصان اثنان ، لا شخص واحد ، فهذه حقيقة لا شك فيها ( وهذا غير ما نقول : إن عالم المادة موجود ذو حقيقة واحدة شخصية فلا ينبغي أن يشتبه الامر.
    وينتج ذلك : أن الوجود الخارجي عين الشخصية ، لكن المفاهيم الذهنية يخالف الموجود الخارجي في هذا الحكم فان المعنى كيف ما كان يجوز العقل أن يصدق على أكثر من مصداق واحد كمفهوم الانسان ومفهوم الانسان الطويل ، ومفهوم هذا الانسان القائم أمامنا ، وأما تقسيم المنطقيين المفهوم إلى الكلي والجزئي ، وكذا تقسيمهم الجزئي إلى الاضافي والحقيقي فإنما هو تقسيم بالاضافة والنسبة ، إما نسبه أحد المفهومين إلى الآخر وإما نسبته إلى الخارج ، وهذا الوصف الذي في المفاهيم ـ وهو جواز الانطباق على أكثر من واحد ـ ربما نسميه بالاطلاق كما نسمي مقابلة بالشخصية أو الوحدة.
    ثم الموجود الخارجي ( ونعني به الموجود المادي خاصة ) لما كان واقعا تحت قانون التغير والحركة العمومية كان لا محالة ذا امتداد منقسما إلى حدود وقطعات ، كل قطعة منها تغاير القطعة الاخرى مما تقدم عليها أو تأخر عنها ، ومع ذلك فهي مرتبطة بها بوجودها ، إذ لو لا ذلك لم يصدق معنى التغير والتبدل لان أحد شيئين إذا عدم من أصله ، والآخر وجد من أصله لم يكن ذلك تبدل هذا من ذاك ، بل التبدل الذي يلازم كل حركة إنما يتحقق بوجود قدر مشترك في الحالين جميعا.
    ومن هنا يظهر أن الحركة أمر واحد بشخصه يتكثر بحسب الاضافة إلى الحدود ،


(377)
    فيتعين بكل نسبة قطعة تغاير القطعه الاخرى ، وأما نفس الحركة فسيلان وجريان واحد شخصي ، ونحن ربما سمينا هذا الوصف في الحركة إطلاقا في مقابل النسب التي لها إلى كل حد حد ، فنقول : الحركة المطلقة بمعنى قطع النظر عن إضافتها إلى الحدود. ومن هنا يظهر أن المطلق بالمعنى الثاني أمر واقعي موجود في الخارج ، بخلاف المطلق بالمعنى الاول فإن الاطلاق بهذا المعنى وصف ذهني لموجود ذهني ، هذا.
    ثم إنا لا نشك ان الانسان موجود طبيعي ذو افراد واحكام وخواص وان الذي توجده الخلقة هو الفرد من أفراد الانسان دون مجموع الافراد أعني الاجتماع الانساني إلا ان الخلقة لما أحست بنقص وجوده ، واحتياجه إلى استكمالات لا تتم له وحده ، جهزه بأدوات وقوى تلائم سعيه للاستكمال في ظرف الاجتماع وضمن الافراد المجتمعين ، فطبيعة الانسان الفرد مقصود للخلقه اولا وبالذات والاجتماع مقصود لها ثانيا وبالتبع.
    وأما حقيقة أمر الانسان مع هذا الاجتماع الذي تقتضية وتتحرك إليه الطبيعة الانسانية ( إن صح إطلاق الاقتضاء والعلية والتحرك في مورد الاجتماع حقيقة فإن الفرد من الانسان موجود شخصي واحد بالمعنى الذي تقدم من شخصيته ووحدته ، وهو مع ذلك واقع في الحركة ، متبدل متحول إلى الكمال ، ومن هنا كان كل قطعة من قطعات وجوده المتبدل مغايرة لغيرها من القطعات ، وهو مع ذلك ذو طبيعة سيالة مطلقة حفوظة في مراحل التغيرات واحدة شخصية ، وهذه الطبيعة الموجودة في الفرد محفوظة بالتوالد والتناسل واشتقاق الفرد من الفرد ـ وهي التي نعبر عنها بالطبيعة النوعية ـ فإنها محفوظة بالافراد وإن تبدلت وعرض لها الفساد والكون ، بمثل البيان الذي مر في خصوص الطبيعة الفردية ، فالطبيعة الشخصية موجوده متوجهة إلى الكمال الفردي ، والطبيعة النوعية موجودة مطلقة متوجهة إلى الكمال.
    وهذا الاستكمال النوعي لا شك في وجوده وتحققه في نظام الطبيعة ، وهو الذي نعتمد عليه في قولنا : إن النوع الانساني مثلا متوجه إلى الكمال ، وإن الانسان اليوم أكمل وجودا من الانسان الاولي ، وكذا ما تحكم به فرضية تحول الانواع ، فلو لا أن هناك طبيعة نوعية خارجية محفوظة في الافراد أو الانواع مثلا لم يكن هذا الكلام إلا كلاما شعريا.


(378)
    والكلام في الاجتماع الشخصي القائم بين أفراد قوم أو في عصر أو في محيط ، ونوع الاجتماع القائم بنوع الانسان المستمر باستمراره والمتحول بتحوله ( لو صح أن الاجتماع كالانسان المجتمع حال خارجي لطبيعة خارجية ! ) نظير القول في طبيعة الانسان الشخصية والنوعية في التقييد والاطلاق.
    فالاجتماع متحرك متبدل بحركة الانسان وتبدله وله وحدة من بادئ الحركة إلى أين توجه بوجود مطلق ـ وهذا الواحد المتغير بواسطة نسبته وإضافته إلى كل حد حد تصير قطعة قطعة ، وكل قطعة شخص واحد من أشخاص الاجتماع ، وأشخاص الاجتماع مستندة في وجودها إلى أشخاص الانسان كما ، أن مطلق الاجتماع بالمعنى الذي تقدم مستند إلى مطلق الطبيعة الانسانية ، فإن حكم الشخص شخص الحكم وفرده ، وحكم المطلق مطلق الحكم ( لا كلي الحكم ، فلسنا نعني الاطلاق المفهومي فلا تغفل ) ونحن لا نشك أن الفرد من الانسان وهو واحد له حكم واحد باق ببقائه ، إلا إنه متبدل بتبدلات جزئية بتبع التبدلات الطارئة على موضوعه الذي هو الانسان فمن أحكام الانسان الطبيعي أنه يتغذى ويفعل بالارادة ويحس ويتفكر ـ وهو موجود مع الانسان وباق ببقائه ـ وإن تبدل طبق تبدله في نفسه ، وكذلك الكلام في أحكام مطلق الانسان الموجود بوجود أفراده.
    ولما كان الاجتماع من أحكام الطبيعة الانسانية وخواصها فمطلق الاجتماع ( نعني به الاجتماع المستمر الذي أوجدته الطبيعة الانسانية المستمرة من حين وجد الانسان الفرد إلى يومنا هذا ) من خواص النوع الانساني المطلق موجود معه باق ببقائه ، وأحكام الاجتماع التي أوجدها واقتضاها هي مع الاجتماع موجودة بوجوده ، باقية ببقائه ، وإن تبدلت بتبدلات جزئية مع انحفاظ الاصل مثل نوعها ، وحينئذ صح لنا أن نقول : إن هناك أحكاما اجتماعية باقية غير متغيرة ، كوجود مطلق الحسن والقبح ، كما أن نفس الاجتماع المطلق كذلك ، بمعنى أن الاجتماع لا ينقلب إلى غير الاجتماع كالانفراد وإن تبدل اجتماع خاص إلى آخر خاص ، والحسن المطلق والخاص كالاجتماع المطلق والخاص بعينه.
    ثم إنا نرى أن الفرد من الانسان يحتاج في وجوده وبقائه إلى كمالات ومنافع يجب


(379)
له أن يجتلبها ويضمها إلى نفسه ، والدليل على هذا الوجوب احتياجه في جهات وجوده وتجهيز الخلقة له بما يقوى به على ذلك ، كجهاز التغذي وجهاز التناسل مثلا ، فعلى الانسان أن يقدم عليه ، وليس له أن لا يقدم قطعا بالتفريط فإنه يناقض دليل الوجوب الذي ذكرناه ، وليس له أن يقدم في باب من أبواب الحاجة بما يزيد على اللازم بالافراط ، مثل أن يأكل حتى يموت ، أو يمرض ، أو يتعطل عن سائر قواة الفعالة ، بل عليه أن يتوسط في جلب كل كمال أو منفعة ، وهذا التوسط هي العفة ، وطرفاه الشره والخمود ، وكذلك نرى الفرد في وجوده وبقائه متوسطا بين نواقص وأضداد ومضار لوجوده يجب عليه أن يدفعها ، والدليل عليه الاحتياج والتجهيز في نفسه فيجب عليه المقاومة والدفاع على ما ينبغي من التوسط ، من غير إفراط يضاد سائر تجهيزاته أو تفريط يضاد الاحتياج والتجهيز المربوطين ، وهذا التوسط هي الشجاعة ، وطرفاها التهور والجبن ونظير الكلام جار في العلم ومقابليه أعني الجربزة والبلادة ، وفي العدالة ومقابليها وهما الظلم والانظلام.
    فهذه أربع ملكات وفضائل يستدعيه الطبيعة الفردية المجهزة ، بأدواتها : العفة والشجاعة ، والحكمة ، والعدالة ـ وهي كلها حسنة ـ لان معنى الحسن الملائمة لغاية الشئ وكماله وسعادته ، وهي جميعا ملائمة مناسبة لسعادة الفرد بالدليل الذي تقدم ذكره ، ومقابلاتها رذائل قبيحة ، وإذا كان الفرد من الانسان بطبيعته وفي نفسه على هذا الوصف فهو في ظرف الاجتماع أيضا على هذا الوصف ، وكيف يمكن أن يبطل الاجتماع ـ وهو من أحكام هذه الطبيعة ـ سائر أحكامها الوجودية ؟ وهل هو إلا تناقض الطبيعة الواحدة ، وليس حقيقة الاجتماع إلا تعاون الافراد في تسهيل الطريق إلى استكمال طبائعهم وبلوغها إلى غاية أمنيتها ؟
    وإذا كان الفرد من الانسان في نفسه وفي ظرف الاجتماع على هذا الوصف ، فنوع الانسان في اجتماعه النوعي أيضا كذلك ، فنوع الانسان في اجتماعه يستكمل بالدفاع بقدر ما لا يفسد الاجتماع وباجتلاب المنافع بقدر ما لا يفسد الاجتماع ، وبالعلم بقدر ما لا يفسد الاجتماع ، وبالعدالة الاجتماعية ـ وهي إعطاء كل ذي حق حقه ، وبلوغه حظه الذي يليق به دون الظلم والانظلام ـ وكل هذه الخصال الاربع فضائل بحكم


(380)
الاجتماع المطلق يقضي الاجتماع الانساني بحسنها المطلق ويعد مقابلاتها رذائل ويقضي بقبحها.
    فقد تبين بهذا البيان : أن في الاجتماع المستمر الانساني حسنا وقبحا لا يخلو عنهما قط وأن أصول الاخلاق الاربعة فضائل حسنة دائما ، ومقابلاتها رذائل قبيحة دائما ، والطبيعة الانسانية الاجتماعية تقضي بذلك ، وإذا كان الامر في الاصول على هذا النحو فالفروع المنتهية بحسب التحليل إليها حكمها في القبول ذلك ، وإن كان ربما يقع اختلاف ما في مصاديقها من جهة الانطباق على ما سنشير إليه.
    إذا عرفت ما ذكرنا ظهر لك وجه سقوط ما نقلنا من قولهم من أمر الاخلاق وهاك بيانه.
    أما قولهم : إن الحسن والقبح المطلقين غير موجودين ، بل الموجود منهما النسبي من الحسن والقبح وهو متغير مختلف باختلاف المناطق والازمنه والاجتماعات ، فهو مغالطة ناشئة من الخلط بين الاطلاق المفهومي بمعنى الكلية والاطلاق الوجودي بمعنى إستمرار الوجود ، فالحسن والقبح المطلقان الكليان غير موجودين في الخارج لوصف الكلية والاطلاق ، لكنهما ليسا هما الموجبين لما نقصده من النتيجة ، وإما الحسن والقبح المطلقان المستمران بمعنى استمرارهما حكمين للاجتماع ما دام الاجتماع مستمرا باستمرار الطبيعة فهما كذلك ، فإن غاية الاجتماع سعادة النوع ، ولا يمكن موافقة جميع الافعال الممكنة والمفروضة للاجتماع كيف ما فرض ، فهناك أفعال موافقة ومخالفة دائما فهناك حسن وقبح دائما.
    وعلى هذا فكيف يمكن أن يفرض اجتماع كيف ما فرض ولا يعتقد أهله أن من الواجب أن يعطي كل ذي حق حقه أو أن جلب المنافع بقدر ما ينبغي واجب أو أن الدفاع عن مصالح الاجتماع بقدر ما ينبغي لازم أو أن العلم الذي يتميز به منافع الانسان من غيرها فضيلة حسنة ؟ وهذه هي العدالة والعفة ، والشجاعة ، والحكمة التي ذكرنا أن الاجتماع الانساني كيف ما فرض لا يحكم إلا بحسنها وكونها فضائل إنسانية ، وكذا كيف يتيسر لاجتماع أن لا يحكم بوجوب الانقباض والانفعال عن التظاهر بالقبيح


(381)
الشنيع ، وهو الحياء من شعب العفة أو لا يحكم بوجوب السخط وتغير النفس في هتك المقدسات وهضم الحقوق ، وهو الغيرة من شعب الشجاعة ، أو لا يحكم بوجوب الاقتصار على ما للانسان من الحقوق الاجتماعية ، وهو القناعة أو لا يحكم بوجوب حفظ النفس في موقعها الاجتماعي من غير دحض الناس وتحقيرهم بالاستكبار والبغي بغير الحق ، وهو التواضع ؟ وهكذا الامر في كل واحد واحد من فروع الفضائل.
    وأما ما يزعمونه من اختلاف الانظار في الاجتماعات المختلفة في خصوص الفضائل وصيرورة الخلق الواحد فضيلة عند قوم رذيلة عند آخرين في أمثلة جزئية فليس من جهة اختلاف النظر في الحكم الاجتماعي بأن يعتقد قوم بوجوب اتباع الفضيلة الحسنة وآخرون بعدم وجوبه بل من جهة الاختلاف في انطباق الحكم على المصداق وعدم انطباقه.
    مثل إن الاجتماعات التي كانت تديرها الحكومات المستبدة كانت تري لعرش الملك الاختيار التام في أن يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وليس ذلك لسوء ظنهم بالعدالة بل لاعتقادهم بأنه من حقوق السلطنة والملك فلم يكن ذلك ظلما من مقام السلطنة بل إيفاء بحقوقه الحقة بزعمهم.
    ومثل أن العلم كان يعير به الملوك في بعض الاجتماعات ، كما يحكى عن ملة فرنسا في القرون الوسطى ، ولم يكن ذلك لتحقيرهم فضيلة العلم ، بل لزعمهم أن العلم بالسياسة وفنون إدارة الحكومة يضاد المشاغل السلطانية.
    ومثل أن عفة النساء بمعنى حفظ البضع من غير الزوج ، وكذا الحياء من النساء وكذا الغيرة من رجالهن ، وكذا عدة من الفضائل كالقناعة والتواضع أخلاق لا يذعن بفضلها في بعض الاجتماعات ، لكن ذلك منهم لان اجتماعهم الخاص لا يعدها مصاديق للعفة والحياء والغيرة والقناعة والتواضع ، لا لان هذه الفضائل ليست فضائل عندهم. والدليل على ذلك وجود أصلها عندهم ، فهم يمدحون عفة الحاكم في ( زكمه والقاضي في قضائه ، ويمدحون الاستحياء من مخالفة القوانين ، ويمدحون الغيرة للدفاع عن الاستقلال والحضارة وعن جميع مقدساتهم ، ويمدحون القناعة بما عينه القانون من الحقوق لهم ، ويمدحون التواضع لائمتهم وهداتهم في الاجتماع.


(382)
    وأما قولهم : بدوران الاخلاق في حسنها مدار موافقتها لغاية المرام الاجتماعي واستنتاجهم ذلك من دوران حسنها مدار موافقة غاية الاجتماع ففيه مغالطة واضحة فإن المراد بالاجتماع الهيئة الحاصلة من عمل مجموع القوانين التي قررتها الطبيعة بين الافراد المجتمعين ولا محالة تكون موصلة إلى سعادتهم لو لا الاخلال بانتظامها وجريها ، ولا محالة لها أحكام : من الحسن والقبح والفضيلة والرذيلة ، والمراد بالمرام مجموع الفرضيات التي وضعت لايجاد اجتماع على هيئت جديدة بتحميلها على الافراد المجتمعين ، أعنى أن الاجتماع والمرام متغايران بالفعلية والقوة ، والتحقق وفرض التحقق ، فكيف يصير حكم أحد هما عين حكم الاخر ، وكيف يكون الحسن والقبح ، والفضيلة والرذيله التى عينها الاجتماع العام باقتضاء من الطبيعة الانسانية متبدلة إلى ما حكم به المرام الذى ليس الا فرضا من فارض ؟
    ولو قيل : أن لا حكم الا جتماع العام الطبيعي من نفسه ، بل الحكم للمرام ، وخاصة إذا كانت فرضية متلائمة لسعادة الافراد عاد الكلام السابق في الحسن والقبح ، والفضيلة والرذيلة ، وأنها تنتهي بالآخرة إلى اقتضاء مستمر من الطبيعة.
    على ان هيهنا محذورا آخر وهو أن الحسن والقبح وسائر الاحكام الاجتماعية ـ وهى التى تعتمد عليها الحجة الاجتماعية وتتألف منها الاستدلالات ـ لو كانت تابعة للمرام ، ومن الممكن بل الواقع تحقق مرامات مختلفة متناقضة متباينة أدى ذلك إلى إرتفاع الحجة المشتركة المقبولة عند عامة الاجتماعات ، ولم يكن التقدم والنجاح حينئذ إلا للقدرة والتحكم ، وكيف يمكن أن يقال ان الطبيعة الانسانية ساقت افرادها إلى حيوة اجتماعية لا تفاهم بين أجزائها ولا حكم يجمعها إلا حكم مبطل لنفس الاجتماع ؟ وهل هذا إلا تناقض شنيع في حكم الطبيعة واقتضائها الوجودى ؟
( بحث روائي آخر )
في متفرقات متعلقة بما تقدم
    عن الباقر ( عليه السلام ) قال : أتى رجل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : إنى راغب نشيط في الجهاد. قال : فجاهد في سبيل الله فإنك إن تقتل كنت حيا عند الله مرزوقا وإن


(383)
مت فقد وقع أجرك على الله الحديث.
    وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وإن مت إلخ إشارة إلى قوله تعالى : « ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله » النساء ـ 100 ، وفيه دلالة على أن الخروج إلى الجهاد مهاجرة إلى الله ورسوله.
    وفي الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) : في إسمعيل النبي الذي سماه الله سبحانه صادق الوعد ، قال ( عليه السلام ) إنما سمي صادق الوعد ، لانه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة ، فسماه الله عزوجل صادق الوعد ، ثم إن الرجل أتاه بعد ذلك الوقت فقال له إسمعيل ما زلت منتظرا لك الحديث.
    اقول : وهذا أمر ربما يحكم العقل العادي بكونه منحرفا عن جادة الاعتدال مع أن الله سبحانه جعله منقبة له ( عليه السلام ) حتى عظم قدره ورفع ذكره بقوله : « واذكر في الكتاب إسمعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلوة والزكوة وكان عند ربه مرضيا » مريم ـ 55 ، فليس ذلك إلا أن الميزان الذي وزن به هذا العمل غير الميزان الذي بيد العقل العادي ، فللعقل العادي تربية بتدبيره ولله سبحانه تربية لاوليائه بتأييده ، وكلمة الله هي العليا ، ونظائر هذه القضية كثيرة مروية منقولة عن النبي والائمة والاولياء.
    فان قلت : كيف يمكن مخالفة الشرع مع العقل في ما للعقل إليه سبيل.
    قلت : أما حكم العقل فيما له إليه سبيل ففي محله ، لكنه يحتاج إلى موضوع يقع عليه حكمه ، وقد عرفت في ما تقدم أن أمثال هذه العلوم في المسلك الثالث الذي ذكرناه لا تبقى للعقل موضوعا يحكم فيه وعليه ، وهذا سبيل المعارف اللاهية والظاهر أن إسمعيل النبي ( عليه السلام ) كان أطلق القول بوعد بأن قال : أنتظرك ههنا حتى تعود إلى ثم التزم على إطلاق قوله صونا لنفسه عن نقض العهد والكذب في الوعد وحفظا لما القى الله في روعه وأجراه على لسانه ، وقد روي نظيره عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنه كان عند المسجد الحرام فوعده بعض أصحابه بالرجوع إليه ووعدة النبي بانتظاره حتى يرجع فذهب في شأنه ولم يرجع ، فانتظره النبي ثلثة أيام في مكانه الذي وعده حتى مر به الرجل بعد الثلثة ، وهو جالس ينتظر والرجل قد نسي الوعد ، الحديث.


(384)
    وفي الخصائص للسيد الرضي ، عن إمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : ـ وقد سمع رجلا يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ـ يا هذا إن قولنا : إنا لله إقرار منا بالملك ، وإنا إليه راجعون اقرار منا بالهلاك.
    اقول : وقد اتضح معناه بما تقدم ورواه في الكافي مفصلا.
    وفي الكافي : عن إسحق بن عمار وعبد الله بن سنان ، عن الصادق ( عليه السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : قال الله عزوجل : إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضا فمن أقرضني فيها قرضا أعطيته بكل واحدة عشرا إلى سبعمأه ضعف ، ومن لم يقرضني قرضا وأخذت منه شيئا قسرا أعطيته ثلث خصال لو أعطيت واحدة منهن ملائكتي لرضوا بها عني ، ثم قال أبو عبد الله : قول الله : الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ، فهذه واحدة من ثلاث خصال ، ورحمة اثنتان ، وأولئك هم المهتدون ثلث ، ثم قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) هذا لمن أخذ الله منه شيئا قسرا.
    اقول : والرواية مروية لطرق أخرى متقاربة.
    وفي المعاني عن الصادق ( عليه السلام ) : الصلوة من الله رحمة ، ومن الملائكة التزكية ، ومن الناس دعاء.
    اقول : وفي معناه عدة روايات أخر ، وبين هذه الرواية وما تقدمها تناف ظاهرا حيث أن الرواية السابقة تعد الصلوة غير الرحمة ، ويساعد عليه ظاهر قوله عليهم صلوات من ربهم ورحمة ، وهذه الرواية تعدها رحمة ويرتفع التنافى بالرجوع إلى ما تقدم من البيان.
    إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ـ 158.


(385)
( بيان )
     الصفا والمروة موضعان بمكة يأتي الحجاج بينهما بعمل السعي ، وهما جبلان مسافة بينهما سبعمأه وستون ذراعا ونصف ذراع على ما قيل ، وأصل الصفا في اللغة الحجر الصلب الاملس ، وأصل المروة الحجر الصلب ، والشعائر جمع شعيرة ، وهي العلامة ، ومنه المشعر ، ومنه قولنا : أشعر الهدى ، أي أعلمه ، والحج هو القصد بعد القصد ، أي القصد المكرر وهو في اصطلاح الشرع العمل المعهود بين المسلمين ، والاعتمار الزيارة وأصله العمارة لان الديار تعمر بالزيارة ، وهو في اصطلاح الشرع زيارة ، البيت بالطريق المعهود ، والجناح الميل عن الحق والعدل ، ويراد به الاثم ، فيؤل نفي الجناح إلى التجويز ، والتطوف من الطواف ، وهو الدوران حول الشئ ، وهو السير الذي ينتهي آخره إلى أوله ، ومنه يعلم أن ليس من اللازم كونه حول شئ وإنما ذلك من مصاديقه الظاهرة وعلى هذا المعنى أطلق التطوف في الآية فإن المراد به السعي وهو قطع ما بين الصفا والمروة من المسافة سبع مرات متوالية ، والتطوع من الطوع بمعنى الطاعه ، وقيل : إن التطوع يفارق الاطاعة في أنه يستعمل في المندوب خاصة ، بخلاف الاطاعة ولعل ذلك ـ لو صح هذا القول ـ بعناية أن العمل الواجب لكونه إلزاميا كأنه ليس بمأتي به طوعا ، بخلاف المأتي من المندوب فإنه على الطوع من غير شائبة ، وهذا تلطف عنائي وإلا فأصل الطوع يقابل الكره ولا ينافي الامر الالزامي. قال تعالى : « قال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها » فصلت ـ 11 ، وأصل باب التفعل الاخذ لنفسه ، كقولنا : تميز أي أخذ ، يميز وتعلم الشئ أي أخذ يعلمه ، وتطوع خيرا أي أخذ يأتي بالخير بطوعه ، فلا دليل من جهة اللغة على اختصاص التطوع بالامتثال الندبي إلا أن توجبه العناية العرفية المذكورة.
    فقوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله إلى قوله : يطوف بهما يشير إلى كون المكانين معلمين بعلامة الله سبحانه ، يدلان بذلك عليه ، ويذكر انه تعالى واختصاصهما بكونهما من الشعائر دون بقية الاشياء جميعا يدل على أن المراد بالشعائر ليست الشعائر التكوينية بل هما شعيرتان بجعله تعالى إياهما معبدين يعبد فيهما ، فهما يذكر ان الله سبحانه ، فكونهما شعيرتين يدل على أنه تعالى قد شرع فيهما عبادة


(386)
متعلقة بهما ، وتفريع قوله : فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) إنما هو للايذان بأصل تشريع السعي بين الصفا والمروة ، لا لافادة الندب ، ولو كان المراد إفادة الندب كان الانسب بسياق الكلام أن يمدح التطوف لا أن ينفي ذمه ، فإن حاصل المعنى أنه لما كان الصفا والمروة معبدين ومنسكين من معابد الله فلا يضركم أن تعبدوه فيهما ، وهذا لسان التشريع ، ولو كان المراد إفادة الندب كان الانسب أن يفاد أن الصفا والمروة ، لما كانا من شعائر الله فإن الله يحب السعي بينهما ـ وهو ظاهر ـ والتعبير بأمثال هذا القول الذي لا يفيد وحده الالزام في مقام التشريع شائع في القرآن ، وكقوله تعالى في الجهاد : « ذلكم خير لكم » الصف ـ 11 ، وفي الصوم « وأن تصوموا خير لكم » البقرة ـ 184 ، وفي القصر « فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة » النساء ـ 101.
    قوله تعالى :« ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم » ، إن كان معطوفا على مدخول فاء التفريع في قوله تعالى : فمن حج البيت أو اعتمر ، كان كالتعليل لتشريع التطوف بمعنى آخر أعم من العلة الخاصة التي تبين بقوله : إن الصفا والمروة ، وكان المراد بالتطوع مطلق الاطاعة لا الاطاعة المندوبة ، وإن كان استينافا بالعطف إلى اول الآية كان مسوقا لافادة محبوبية التطوف في نفسه ان كان المراد بتطوع الخير هو التطوف أو مسوقا لافادة محبوبية الحج والعمرة ان كان هما المراد بتطوع الخير هذا.
    والشاكر والعليم اسمان من اسماء الله الحسنى ، والشكر هو مقابلة من احسن إليه إحسان المحسن بإظهاره لسانا أو عملا كمن ينعم إليه المنعم بالمال فيجازيه بالثناء الجميل الدال على نعمته أو باستعمال المال في ما يرتضيه ، ويكشف عن إنعامه ، والله سبحانه وإن كان محسنا قديم الاحسان ومنه كل الاحسان لا يد لاحد عنده حتى يستوجبه الشكر إلا أنه جل ثنائه عد الاعمال الصالحة التي هي في الحقيقة إحسانه إلى عباده إحسانا من العبد إليه ، فجازاه بالشكر والاحسان وهو إحسان على إحسان قال تعالى : « هل جزاء الاحسان إلا الاحسان » الرحمن ـ 60 ، وقال تعالى : « إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا » الدهر ـ 22 ، فإطلاق الشاكر عليه تعالى على حقيقة معنى الكلمة من غير مجاز.
( بحث روائي )
     في تفسير العياشي : عن بعض أصحابنا عن الصادق ( عليه السلام ) : سالتة : عن السعي


(387)
بين صفا والمروة فريضة هي أم سنة ؟ قال : فريضة ، قلت : إليس الله يقول : فلا جناح عليه أن يطوف بهما ؟ قال كان ذلك في عمرة القضاء ، وذلك أن رسول الله كان شرط عليهم أن يرفعوا الاصنام فتشاغل رجل من أصحابه حتى أعيدت الاصنام. قال : فأنزل الله ، إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ، أي والاصنام عليها.
    أقول : وعن الكافي ما يقرب منه.
    وفي الكافي أيضا عن الصادق ( عليه السلام ) : في حديث حج النبي ( عليه السلام ) : بعد ما طاف بالبيت وصلى ركعتية قال : ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إن الصفا والمروة من شعائر الله فابدا بما بدا الله عزوجل ، وإن المسلمين كانويظنون أن السعي بين الصفا والمروة شئ صنعه المشركون فأنزل الله إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما.
    أقول : ولا تنافي بين الروايتين في شأن النزول ، وهو ظاهر ، وقوله ( عليه السلام ) في الرواية فأبدا بما بدا الله ملاك التشريع ، وقد مضى في حديث هاجر وسعيها سبع مرات بين الصفا والمروة أن السنة جرت بذلك.
    وفي الدر المنثور : عن عامر الشعبي قال : كان وثن بالصفا يدعى إساف ، ووثن بالمروة يدعى نائلة فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما ويمسحون الوثنين فلما قدم رسول الله ( عليه السلام ) قالوا : يا رسول الله إن الصفا والمروة انما كان يطاف بهما من أجل الوثنين ، وليس الطواف بهما من الشعائر ، فأنزل الله : إن الصفا والمروة الآية فذكر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه ، وأثبت المروة من جهة الصنم الذي كان عليه موثبا.
    أقول : وقد روى الفريقان في المعاني السابقة روايات كثيرة.
    ومقتضى جميع هذه الروايات أن الاية نزلت في تشريع السعي في سنة حج فيها المسلمون ، وسورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة ، ومن هنا يستنتج أن الآية غير متحدة السياق مع ما قبلها من آيات القبلة فانها نزلت في السنة الثانية من الهجرة


(388)
كما تقدم ، ومع الآيات التى في مفتتح السورة ، فانها نزلت في السنة الاولى من الهجرة فللايات سياقات متعددة كثيرة ، لا سياق واحد.
    إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ـ 159. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ـ 160. إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ـ 161. خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ـ 162.
( بيان )
    قوله تعالى : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ، الظاهر ـ والله أعلم ـ أن المراد بالهدى ما تضمنه الدين الالهي من المعارف والاحكام الذي يهدي تابعيه إلى السعادة ، وبالبينات الآيات والحجج التي هي بينات وأدلة وشواهد على الحق الذي هو الهدى ، فالبينات في كلامه تعالى وصف خاص بالآيات النازلة ، وعلى هذا يكون المراد بالكتمان ـ وهو الاخفاء ـ أعم من كتمان أصل الآية ، وعدم إظهاره للناس ، أو كتمان دلالته بألتاويل أو صرف الدلالة بالتوجيه ، كما كانت اليهود تصنع ببشارات النبوة ذلك فما يجهله الناس لا يظهرونه لهم ، وما يعلم به الناس يؤولونه بصرفه عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    قوله تعالى : من بعد ما بيناه للناس ، أفاد أن كتمانهم إنما هو بعد البيان والتبين للناس ، لا لهم فقط ، وذلك أن التبين لكل شخص شخص من أشخاص الناس أمر


(389)
لا يحتمله النظام الموجود المعهود في هذا العالم ، لا في الوحي فقط ، بل في كل إعلام عمومي وتبيين مطلق ، بل إنما يكون باتصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة وإلى بعض آخرين بواسطتهم ، بتبليغ الحاضر الغائب والعالم الجاهل ، فالعالم يعد من وسائط البلوغ وأدواته ، كاللسان والكلام : فإذا بين الخبر للعالم المأخوذ عليه الميثاق بعلمه مع غيره من المشافهين فقد بين الناس ، فكتمان العالم علمه هذا كتمان العلم عن الناس بعد البيان لهم وهو السبب الوحيد الذي عده الله سبحانه سببا لاختلاف الناس في الدين وتفرقهم في سبل الهداية والضلالة ، وإلا فالدين فطري تقبله الفطرة وتخضع له القوة المميزة بعد ما بين لها ، قال تعالى : « فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون » الروم ـ 30 ، فالدين فطري على الخلقة لا يدفعه الفطرة أبدا لو ظهر لها ظهورا ما بالصفاء من القلب ، كما في الانبياء ، أو ببيان قولي ، ولا محالة ينتهي هذا الثاني إلى ذلك الاول فافهم ذلك.
    ولذلك جمع في الآية بين كون الدين فطريا على الخلقة وبين عدم العلم به فقال : فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وقال : لكن أكثر الناس لا يعلمون ، وقال تعالى : « وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم » البقرة ـ 213 ، فأفاد أن الاختلاف فيما يشتمل عليه الكتاب إنما هو ناش عن بغي العلماء الحاملين له ، فالاختلافات الدينية والانحراف عن جادة الصواب معلول بغى العلماء بالاخفاء والتأويل والتحريف ، وظلمهم ، حتى أن الله عرف الظلم بذلك يوم القيمة كما قال : « فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا » الاعراف ـ 44 ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
    فقد تبين أن الآية مبتنية على الآية أعني ، أن قوله تعالى : « إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب » الآية ، مبتنية على قوله تعالى : « كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جائتهم البينات بغيا بينهم » الآية ، ومشيرة إلى جزاء هذا البغي بذيلها وهو قوله : أولئك يلعنهم الله إلخ.


(390)
    قوله تعالى : أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ، بيان لجزاء بغي الكاتمين لما أنزله الله من الآيات والهدى ، وهو اللعن من الله ، واللعن من كل لاعن ، وقد كرر اللعن لان اللعن مختلف فإنه من الله التبعيد من الرحمة والسعادة ومن اللاعنين سؤاله من الله ، وقد أطلق اللعن منه ومن اللاعنين وأطلق اللاعنين ، وهو يدل على توجيه كل اللعن من كل لاعن إليهم والاعتبار يساعد عليه فإن الذي يقصده لاعن بلعنه هو البعد عن السعادة ، ولا سعادة بحسب الحقيقة ، إلا السعادة الحقيقية الدينية وهذه السعادة لما كانت مبينة من جانب الله ، مقبولة عند الفطرة ، فلا يحرم عنها محروم إلا بالرد والجحود ، وكل هذا الحرمان إنما هو لمن علم بها وجحدها عن علم دون من لا يعلم بها ولم تبين له ، وقد أخذ الميثاق على العلماء أن يبثوا علمهم وينشروا ما عندهم من الآيات والهدى ، فإذا كتموه وكفوا عن بثه فقد جحدوه فأولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ، ويشهد لما ذكرنا الآية الآتية : « إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار إلى قوله أجمعين » الآية فإن الظاهر أن قوله : « ان للتعليل أو لتأكيد مضمون هذه » الآية ، بتكرار ما هو في مضمونها ومعناها وهو قوله : الذين كفروا وماتوا وهم كفار.
    قوله تعالى : إلا الذين تابوا وبينوا الآية ، استثناء من الآية السابقة ، والمراد بتقييد توبتهم بالتبين أن يتبين أمرهم ويتظاهروا بالتوبة ، ولازم ذلك أن يبينوا ما كتموه للناس وأنهم كانوا كاتمين والا فلم يتوبوا بعد لانهم كاتمون بعد بكتمان أنهم كانوا كاتمين.
    قوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار ، كناية عن إصرارهم على كفرهم وعنادهم وتعنتهم في قبول الحق فإن من لا يدين بدين الحق لا لعناد واستكبار بل لعدم تبينه له ليس بكافر بحسب الحقيقة ، بل مستضعف ، أمره إلى الله ، ويشهد بذلك تقييد كفر الكافرين في غالب الآيات والتكذيب وخاصة في آيات هبوط آدم المشتملة على أول تشريع شرع لنوع الانسان ، قال تعالى : « قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى » ـ إلى قوله ـ « والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون » البقرة ـ 39 ، فالمراد بالذين كفروا في الآية هم المكذبون المعاندون ـ وهم الكاتمون لما أنزل الله ـ وجازاهم الله تعالى بقوله : أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، وهذا حكم من الله سبحانه أن يلحق بهم كل لعن لعن به ملك من الملائكة أو أحد من الناس جميعا من غير استثناء ، فهؤلاء سبيلهم سبيل الشيطان ،
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس