الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 391 ـ 405
(391)
إذ قال الله سبحانه فيه : « وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين » الحجر ـ 35 ، فجعل جميع اللعن عليه فهؤلاء ـ وهم العلماء الكاتمون لعلمهم ـ شركاء الشيطان في اللعن العام المطلق ونظرائه فيه ، فما أشد لحن هذه الآية وأعظم أمرها ! وسيجئ في الكلام على قوله تعالى : « ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم » الانفال ـ 37 ، ما يتعلق بهذا المقام إنشاء الله العزيز.
    قوله تعالى : خالدين فيها ، أي في اللعنة ، وقوله : لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ، في تبديل السياق بوضع العذاب موضع اللعنة دلالة على أن اللعنة تتبدل عليهم عذابا.
    واعلم أن في هذه الآيات موارد من الالتفات ، فقد التفت في الآية الاولى من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله : أولئك يلعنهم الله ، لان المقام مقام تشديد السخط ، والسخط يشتد إذا عظم اسم من ينسب إليه أو وصفه ـ ولا أعظم من الله سبحانه ـ فنسب إليه اللعن ليبلغ في الشدة كل مبلغ ، ثم التفت في الآية الثانية من الغيبة إلى التكلم وحده بقوله : فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ، للدلالة على كمال الرحمة والرإفة ، بإلقاء كل نعت وطرح كل صفة وتصدى الامر بنفسه تعالى وتقدس ، فليست الرأفة والحنان المستفادة من هذه الجملة كالتي يستفاد من قولنا مثلا : فأولئك يتوب الله عليهم أو يتوب ربهم عليهم ، ثم التفت في الآية الثالثة من التكلم وحده إلى الغيبة بقوله : أولئك عليهم لعنة الله ، والوجه فيه نظير ما ذكرناه في اللتفات الواقع في الآية الاولى.
( بحث روائي )
    في تفسير العياشي عن بعض أصحابنا عن الصادق ( عليه السلام ) قال : قلت له : أخبرني عن قول الله عزوجل :« إن الذين يكتمون » الآية ، قال : نحن نعني بها ـ والله المستعان ـ إن الواحد منا إذا صارت إليه لم يكن له أو لم يسعه إلا أن يبين للناس من يكون بعده.
    وعن الباقر ( عليه السلام ) : في الآية ، قال : يعني بذلك نحن ، والله المستعان.


(392)
    وعن محمد بن مسلم قال ( عليه السلام ) : هم أهل الكتاب.
    اقول : كل ذلك من قبيل الجري والانطباق ، وإلا فالآية مطلقة.
    وفي بعض الروايات عن علي ( عليه السلام ) : تفسيره بالعلماء إذا فسدوا.
    وفي المجمع عن النبي في الاية ، قال : من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيمة بلجام من نار ، وهو قوله : أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون.
    أقول : والخبران يؤيدان ما قدمناه.
    وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) : في قوله تعالى : ويلعنهم اللاعنون ، قال : نحن هم ، وقد قالوا : هوام الارض.
    أقول : هو إشارة إلى ما يفيده قوله تعالى : « ويقول الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين » هود ـ 18 ، فإنهم الاشهاد الماذونون في الكلام يوم القيمة ، والقائلون صوابا ، وقوله : وقالوا : هوام الارض ، هو منقول عن المفسرين كمجاهد وعكرمة وغيرهما ، وربما نسب في بعض الروايات إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السام : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدي ، في علي.
    أقول : وهو من قبيل الجري والانطباق.
    وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ـ 163. إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف


(393)
الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون ـ 164. ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ـ 165. إذ تبرا الذين اتبعوا من الذين اتبعوا وراووا العذاب وتقطعت بهم الاسباب ـ 166. وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرء منهم كما تبرئوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ـ 167.
( بيان )
     الآيات متحدة متسقة ذات نظم واحد ـ وهي تذكر التوحيد ـ وتقيم عليه البرهان وتذكر الشرك وما ينتهي إليه أمره.
    قوله تعالى : وإلهكم إله واحد ، قد مر معنى الاله في الكلام على البسملة من سورة الحمد في أول الكتاب ، وأما الوحدة فمفهومها من المفاهيم البديهية التي لا نحتاج في تصورها إلى معرف يدلنا عليها ، والشئ ربما يتصف بالوحدة من حيث وصف من أوصافه ، كرجل واحد ، وعالم واحد ، وشاعر واحد ، فيدل به على أن الصفة التي فيه لا تقبل الشركة ولا تعرضها الكثرة ، فان الرجولية التي في زيد مثلا ـ وهو رجل واحد ليست منقسمة بينه وبين غيره ، بخلاف ما في زيد وعمرو مثلا ـ وهما رجلان ـ فانه منقسم بين اثنين كثير بهما ، فزيد من جهة هذه الصفة ـ وهي الرجولية ـ واحد لا يقبل الكثرة ، وإن كان من جهة هذه الصفة وغيرها من الصفات كعلمه ، وقدرته ، وحيوته ، ونحوها ليس بواحد بل كثير حقيقة ، والله سبحانه واحد ، من جهة أن


(394)
الصفة التي لا يشاركه فيها غيره ، كالالوهية فهو واحد في الالوهية ، لا يشاركه فيها غيره تعالى ، والعلم و القدرة والحيوة ، فله علم لا كالعلوم وقدرة وحيوة لا كقدرة غيره وحيوته ، وواحد من جهة أن الصفات التي له لا تتكثر ولا تتعدد إلا مفهوما فقط ، فعلمه وقدرته وحيوته جميعها شئ واحد هو ذاته ، ليس شئ منها غير الآخر بل هو تعالى يعلم بقدرته ويقدر بحيوته وحي بعلمه ، لا كمثل غيره في تعدد الصفات عينا ومفهوما ، وربما يتصف الشئ بالوحدة من جهة ذاته ، وهو عدم التكثر والتجزي في الذات بذاته ، فلا تتجزى إلى جزء وجزء ، وإلى ذات واسم وهكذا ، وهذه الوحدة هي المسماة بأحديه الذات ، ويدل على هذا المعنى بلفظ أحد ، الذي لا يقع في الكلام من غير تقييد بالاضافة إلا إذا وقع في حيز النفي أو النهي أو ما في معناهما كقولنا ما جائني أحد ، فيرتفع بذلك أصل الذات سواء كان واحدا أو كثيرا ، لان الوحدة مإخوذه في أصل الذات لا في وصف من أوصافه بخلاف قولنا : ما جائني واحد فان هذا القول لا يكذب بمجئ اثنين أو أزيد لان الوحدة مأخوذة في صفة الجائى وهو الرجولية في رجل واحد مثلا فاحتفظ بهذا الاجمال حتى نشرحه تمام الشرح في قوله تعالى : « قل هو الله أحد » الاخلاص ـ 1 ، إنشاء الله تعالى.
    وبالجملة فقوله : وإلهكم إله واحد ، تفيد بجملته اختصاص الالوهية بالله عزاسمه ، ووحدته فيها وحدة تليق بساحة قدسه تبارك وتعالى ، وذلك أن لفظ الواحد بحسب المتفاهم عند هؤلاء المخاطبين لا يدل على أزيد من مفهوم الوحدة العامة التي تقبل الانطباق على أنواع مختلفة لا يليق بالله سبحانه إلا بعضها فهناك وحدة عددية ووحدة نوعيه ووحدة جنسية وغير ذلك ، فيذهب وهم كل من المخاطبين إلى ما يعتقده ويراه من المعنى ، ولو كان قيل : والله إله واحد ، لم يكن فيه توحيد لان أرباب الشرك يرون أنه تعالى إله واحد ، كما أن كل واحد من آلهتهم إله واحد ، ولو كان قيل : وإلهكم واحد لم يكن فيه نص على التوحيد ، لامكان أن يذهب الوهم إلى أنه واحد في النوع ، وهو لالوهية ، نظير ما يقال في تعداد أنواع الحيوان : الفرس واحد ، والبغل واحد ، مع كون كل منهما متعددا في العدد ، لكن لما قيل : وإلهكم إله واحد فأثبت معنى إله واحد ـ وهو في مقابل الهين إثنين وآلهة كثيرة ـ على قوله : إلهكم كان نصا في التوحيد بقصر أصل الالوهية على واحد من الالهي التى اعتقدوا بها.


(395)
    قوله تعالى : لا إله إلا هو ، جئ به لتأكيد نصوصية الجملة السابقة في التوحيد ونفي كل توهم أو تأويل يمكن أن يتعلق بها ، والنفي فيه نفي الجنس ، والمراد بالاله ما يصدق عليه الاله حقيقة وواقعا ، وحينئذ فيصح أن يكون الخبر المحذوف هو موجود أو كائن ، أو نحوهما ، والتقدير لا إله بالحقيقة والحق بموجود ، وحيث كان لفظة الجلالة مرفوعا لا منصوبا فلفظ إلا ليس للاستثناء ، بل وصف بمعنى غير ، والمعنى لا إله غير الله بموجود.
    فقد تبين أن الجملة أعني قوله : لا أله إلا هو ، مسوقة لنفي غير الله من الآلهة الموهومة المتخيلة لا لنفي غير الله وإثبات وجود الله سبحانه ، كما توهمه كثيرون ، ويشهد بذلك أن المقام إنما يحتاج إلى النفي فقط ، ليكون تثبيتا لوحدته في الالوهية لا الاثبات والنفي معا ، على أن القرآن الشريف يعد أصل وجوده تبارك وتعالى بديهيا لا يتوقف في التصديق العقلي به ، وإنما يعني عنايته بإثبات الصفات ، كالوحدة ، والفاطرية ، والعلم ، والقدرة ، وغير ذلك.
    وربما يستشكل تقدير الخبر لفظ الموجود أو ما بمعناه أنه يثبت نفي وجود إله غير الله لا نفي إمكانه ، فيجاب عنه بأنه لا معنى لفرض موجود ممكن مساوى الوجود والعدم ينتهي إليه وجود جميع الموجودات بالفعل وجميع شئونها ، وربما يجاب عنه بتقدير حق ، والمعنى لا معبود حق إلا هو.
    قوله تعالى : الرحمن الرحيم ، قد مر الكلام في معناهما في تفسير البسملة من سورة الفاتحة وبذكر الاسمين يتم معنى الربوبية ، فإليه ، تعالى ينتهي كل عطية عامة ، بمقتضى رحمانيته ، وكل عطية خاصة واقعة في طريق الهداية والسعادة الاخروية بمقتضى رحيميته.
    قوله تعالى : أن في خلق السموات والارض إلى آخر الآية ، السياق كما مر في أول البيان يدل على أن الآية مسوقة للدلالة والبرهنة على ما تضمنته الآية السابقة أعني قوله تعالى : « وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم » الآية ، فإن الآية تنحل بحسب المعنى إلى أن لكل شئ من هذه الاشياء إلها ، وأن إله الجميع واحد وأن هذا الاله الواحد هو إلهكم ، وأنه رحمن مفيض للرحمة العامة ، وأنه رحيم يسوق إلى سعادة


(396)
الغاية ـ وهي سعادة الآخرة ـ فهذه حقائق حقة ، وفي خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار إلى آخر ما ذكر في الآية آيات دالة عليها عند قوم يعقلون.
    ولو كان المراد إقامة الحجة على وجود إله الانسان أو أن اله الانسان واحد لما كان الجميع إلا آية واحدة دالة على ذلك من طريق اتصال التدبير ، ولكان حق الكلام في الآية السابقة أن يقال : وإلهكم واحد لا إله إلا هو ، فالآية مسوق للدلالة على الحجة على وجود الاله وعلى وحدته بمعنى أن إله غير الانسان من النظام الكبير واحد وأن ذلك بعينه إله الانسان.
    وإجمال الدلالة أن هذه السموات التي قد علتنا وأظلتنا على ما فيها من بدائع الخلقة ، والارض التي قد أقلمنا وحملنا مع عجيب أمرها وسائر ما فيها من غرائب بالتحولات والتقلبات كاختلاف الليل والنهار ، والفلك الجارية ، والامطار النازلة ، والرياح المرفة ، والسحب المسخرة امور مفتقرة في نفسها إلى صانع موجد ، فلكل منها إله موجد ( وهذا هو الحجة الاولى ).
    ثم إن هذه الاجرام الجوية المختلفة بالصغر والكبر واللبعد والقرب ( وقد وجد الواحد في الصغر على ما بلغة الفحص العلمي ما يعادل :
    33....ر. من سانتيمتر مكعب والواحد في الكبر ما يعادل الملابين من حجم الارض وهو كرة يعادل قطرها 9000 ميلا تقريبا ، واكتشف من المسافة بين جرمين علويين ما يقرب من ثلاثة ملايين سنة نورية ، والسنة النورية من المسافة تعدل 365 * 24 * 60 * 60 * 300000 كيلومتر تقريبا ) ، فانظر إلى هذه الارقام التي تدهش اللب وتبهت الفكر واقبض ما أنت قاض في غرابة الامر وبداعتة تفعل البعض منها في البعض ، وتيفعل البعض منها عن البعض أينما كانت وكيفما كانت بالجاذبة العامة ، وإفاضة النور والجرارة وتحيي بذلك سنة الحركة العامة والزمان العمومي ، وهذا نظام عام دائم تحت قانون ثابت ، حتى أن النسبتة العمومية القاصية بالتغير في قونانين الحركة في العالم الجسماني لا تتجافى عن الاعتراف بأن التغيير العمومي أيضا محكوم قانون آخر ثابت في التغير والتحول ، ثم إن هذه الحركة والتحول العمومي تتصور في كل جزء من أجزاء العالم بصورة خاصة كما بين الشمس التي


(397)
لعالمنا مع منظومتها ثم تزيدضيقا في الدائرة كما في أرضنا مع ما يختص بها من الحوادث والاجرام ، كالقمر والليل والنهار ، والرياح والسحب والامطار ، ثم تتضيق الدائرة ، كما في المكونات الارضية : من المعادن والنبات والحيوان وساير التراكيب ، ثم في كل نوع من أنواعها ، ثم تتضيق الدائرة حتى تصل النوبة إلى العناصر ، ثم إلى الذرات ، ثم إلى أجزاء الذرات حتى تصل إلى آخر ما انتهى الفحص العلمي الميسور للانسان إلى هذا اليوم ، وهي الالكترون ، والبروتون ، ويوجد هناك نظير المنظومات الشمسية جرم مركزي وأشياء يدور حولها دوران الكواكب على مداراتها التي حول شمسها وسبحها في أفلاكها.
    ففي أي موقف من هذه المواقف وقف الانسان شاهد نظاما عجيبا ذا تحولات وتغيرات ، يحفظ بها أصل عالمه ، وتحيى بها سنة إلهية لا تنفد عجائبه ، ولا تنتهي غرائبه ، لا استثناء في جريها وإن كان واحدا ، ولا اتفاق في طيها وإن كان نادرا شاردا ، لا يدرك ساحلها ولا يقطع مراحلها ، وكلما ركبت عدة منها أخذا من الدقيق إلى الجليل وجدتها لا تزيد على عالم واحد ذا نظام واحد ، وتدبير متصل حتى ينتهي الامر إلى ما انتهى إليه توسع العلم إلى اليوم بالحس المسلح والارصاد الدقيقة ، وكلما حللتها وجزيتها راجعا من الكل إلى الجزء حتى تنتهي إلى مثل المليكول وجدته لا تفقد من العالم الواحد شيئا ذا نظام واحد وتدبير متصل ، على أن كل اثنين من هذه الموجودات متغاير الواحدين ذاتا وحكما شخصا.
    فالعالم شئ واحد والتدبير متصل ، وجميع الاجزاء مسخرة تحت نظام واحد وإن كثرت واختلفت أحكامها ، وعنت الوجوه للحي القيوم ، فإله العالم الموجد له والمدبر لامره واحد ( وهذا هو البرهان الثاني ).
    ثم إن الانسان الذي هو موجود أرضي يحيى في الارض ويعيش في الارض ثم يموت ويرجع إلى الارض لا يفتقر في شئ من وجوده وبقائه إلى أزيد من هذا النظام الكلي الذي لمجموع هذا العالم المتصل تدبيره ، الواحد نظامه ، فهذه الاجرام العلوية في إنارتها وتسخينها ، وهذه الارض في اختلاف ليلها ونهارها ورياحها وسحبها وأمطارها ومنافعها التي تجري من قطر إلى قطر من رزق ومتاع هي التي يحتاج إليها الانسان في


(398)
حاجته المادية وتدبير وجوده وبقائه ـ والله من ورائهم محيط ـ فإلهها الموجد لها المدبر لامرها هو إله الانسان الموجد له والمدبر لامره ( وهذا هو البرهان الثالث ).
    ثم ان هذا الاله هو الذي يعطي كلا ما يحتاج إليه في سعادته الوجودية وما يحتاج إليه في سعادته في غايته وآخرته لو كان له سعادة اخروية غائية فإن الآخرة عقبى هذه الدار ، وكيف يمكن أن يدبر عاقبة الامر غير الذي يدبر نفس الامر ؟ ( وهذا هو البرهان على الاسمين الرحمن الرحيم ).
    وعند هذا تم تعليل الآية الاولى بالثانية وفي تصدير الآية بلفظة ، إن ، الدالة على التعليل إشارة إلى ذلك ـ والله العالم ـ.
    فقوله تعالى : إن في خلق السموات والارض ، اشارة إلى ذوات الاجرام العلوية والارض بما تشتمل عليه تراكيبها من بدائع الخلق وعجائب الصنع ، من صور تقوم بها أسماؤها ، ومواد تتألف منها ذواتها ، وتحول بعضها إلى بعض ، ونقص أو زيادة تطرئها وتركب أو تحلل يعرضها ، كما قال : « أو لم يروا أنا نأتي الارض ننقصها من أطرافها » الرعد ـ 41 ، وقال : « أو لم ير الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي » الانبياء ـ 30.
    قوله تعالى : واختلاف الليل والنهار ، وهو النقيصة والزيادة والطول والقصر العارضان لهما من جهة اجتماع عاملين من العوامل الطبيعية ، وهي الحركة اليومية التي للارض على مركزها وهي ترسم الليل والنهار بمواجهة نصف الكرة وأزيد بقليل دائما مع الشمس فتكتسب النور وتمص الحرارة ، ويسمى النهار ، واستتار الشمس عن النصف الآخر وأنقص بقليل فيدخل تحت الظل المخروطي وتبقى مظلما وتسمى الليل ، ولا يزالان يدوران حول الارض ، والعامل الآخر ميل سطح الدائرة الاستوائية أو المعدل عن سطح المدار الارضي في الحركة الانتقالية إلى الشمال والجنوب ، وهو الذي يوجب ميل الشمس من المعدل إلى الشمال أو الجنوب الراسم للفصول ، وهذا يوجب استواء الليل والنهار في منطقة خط الاستواء وفي القطبين ، أما القطبان فلهما في كل سنة شمسية تامة يوم وليلة واحدة كل منهما يعدل نصف السنة ، و الليل في قطب الشمال نهار في قطب الجنوب وبالعكس ، وأما النقطة الاستوائية فلها في كل سنة شمسية ثلاثمائة وخمس وستون ليلا ونهارا تقريبا ، والنهار والليل فيها متساويان ، وأما بقية المناطق


(399)
فيختلف النهار والليل فيها عددا وفي الطول والقصر بحسب القرب من النقطة الاستوائية ومن القطبين ، وهذا كله مشروح مبين في العلوم المربوطة بها.
    وهذا الاختلاف هو الموجب لاختلاف ورود الضوء والحرارة ، وهو الموجب لاختلاف العوامل الموجبة لاختلاف حدوث التراكيب الارضية والتحولات في كينونتها مما ينتفع باختلافها الانسان انتفاعات مختلفة.
    قوله تعالى : والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ، والفلك هو السفينة يطلق على الواحد والجمع ، والفلك والفلكة كالتمر والتمرة والمراد بما ينفع الناس المتاع والرزق تنقلها من ساحل إلى ساحل ومن قطر من أقطار الارض إلى قطر آخر.
    وفي عد الفلك في طي الموجودات والحوادث الطبيعية التي لا دخل لاختيار الانسان فيها كالسماء والارض واختلاف الليل والنهار دلالة على أنها أيضا تنتهي مثلها إلى صنع الله سبحانه في الطبيعة فان نسبة الفعل إلى الانسان بحسب الدقة لا تزيد على نسبة الفعل إلى سبب من الاسباب الطبيعية ، والاختيار الذي يتبجح به الانسان لا يجعله سببا تاما مستقلا غير مفتقر إلى إرادة الله سبحانه ولا يجعله أقل احتياجا إليه تعالى بالنسبة إلى سائر الاسباب الطبيعية ، فلا فرق من حيث الاحتياج إلى إرادة الله سبحانه بين أن يفعل قوة طبيعية في مادة فتوجد بالفعل و الانفعال والتحريك والتركيب والتحليل صورة من الصور كصورة الحجارة مثلا ، وبين أن يفعل الانسان بالتحريك والتقريب والتبعيد في المادة صورة من الصور كصورة السفينة مثلا في أن الجميع تنتهي إلى صنع الله وايجاده لا يستقل شئ مستغنيا عنه تعالى في ذاته وفعله.
    فالفلك أيضا مثل سائر الموجودات الطبيعية تفتقر إلى الاله في وجودها وتفتقر إلى إلاله في تدبير أمرها من غير فرق ، وقد أشار تعالى إلى هذه الحقيقة بقوله : « والله خلقكم وما تعملون » الصافات ـ 96 ، حيث حكاه من إبراهيم فيما قاله لقومه في خصوص الاصنام التي اتخذوها آلهة فان من المعلوم أن الصنم ليس إلا موجودا صناعيا كالفلك التي تجري في البحر ، وقال تعالى : « وله الجوار المنشآت في البحر كالاعلام » الرحمن ـ 24 ، فعدها ملكا لنفسه ، وقال تعالى : « وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره » إبراهيم ـ 32 ، فعد تدبير أمرها راجعا إليه.


(400)
     فما أغفل هؤلاء الذين يعدون الصناعيات من الاشياء التي يعملها الانسان مصنوعة مخلوقة للانسان مقطوعة النسبة عن إله العالم عز اسمه مستندين إلى أنها مخلوقة لارادة الانسان واختياره.
    فطائفة منهم ـ وهم أصحاب المادة من المنكرين لوجود الصانع ـ زعموا أن حجة الملليين في إثبات الصانع : أنهم وجدوا في الطبيعة حوادث وموجودات جهلوا عللها المادية ولزمهم من جهة القول بعموم قانون العلية والمعلولية في الاشياء والحوادث أن يحكموا بوجود عللها ـ وهي مجهولة لهم بعد ـ فأنتج ذلك القول بأن لهذه الحوادث المجهولة العلة علة مجهولة الكنه هي وراء عالم الطبيعة ، وهو الله سبحانه ، فالقول بأن الصانع موجود فرضية أوجب افتراضها ما وجده الانسان الاولى من الحوادث المادية المجهولة العلل كالحوادث الجوية وكثير من الحوادث الارضية المجهولة العلل ، وما وجده من الحوادث والخواص الروحية التي لم يكشف العلوم عن عللها الماديي حتى اليوم.
    قالوا : وقد وفق العلوم في تقدمها الحديث لحل المشكل في الحوادث المادية وكشفت عن عللها فأبطلت من هذه الفرضية أحد ركنيها وهو احتياج الحوادث المادية المجهولة العلل إلى علل ورائها ، وبقي الركن الآخر وهو احتياج الحوادث الروحية إلى عللها ، وانتهائها إلى علة مجردة ، وتقدم البحث في الكيمياء الالي جديدا يعدنا وعدا حسنا أن سيطلع الانسان على علل الروح ويقدر على صنعة الجراثيم الحيوية وتركيب أي موجود روحي وإيجاد أي خاصة روحية ، وعند ذلك ينهدم أساس الفرضية المذكورة ويخلق الانسان في الطبيعة أي موجود شاء من الروحيات كما يخلق اليوم أي شئ شاء من الطبيعيات ، وقد كان قبل اليوم لا يرضى أن ينسب الخلق إلا إلى علة مفروضة فيما وراء الطبيعة ، حمله على افتراضها الجهل بعلل الحوادث ، هذا ما ذكروه.
    وهؤلاء المساكين لو أفاقوا قليلا من سكرة الغفلة والغرور لرأوا أن الالهيين من أول ما أذعنوا بوجود إله للعالم ـ ولن يوجد له أول ـ أثبتوا هذه العلة الموجدة لجميع العالم ، وبين اجزائه حوادث معلومة العلل ـ وفيها حوادث مجهولة العلل ـ


(401)
والمجموع من حيث المجموع مفتقر عندهم إلى علة خارجة ، فما يثبته أولئك غير ما ينفيه هؤلاء.
    فالمثبتون ـ ولم يقدر البحث والتاريخ على تعيين مبدء لظهورهم في تاريخ حيوة النوع الانساني ـ أثبتوا لجميع العالم صانعا واحدا أو كثيرا ( وان كان القرآن يثبت تقدم دين التوحيد على الوثنية ، وقد بين ذلك الدكتور ماكس موللر الالماني المستشرق صاحب التقدم في حل الرموز السنسكريتية ) وهم حتى الانسان الاولى منهم يشاهدون العلل في بعض الحوادث المادية ، فإثباتهم ، إلها صانعا لجميع العالم استنادا إلى قانون العلية العام ليس لاجل أن يستريحوا في مورد الحوادث المجهولة العلل حتى ينتج ذلك القول باحتياج بعض العالم إلى الاله واستغناء البعض الآخر عنه ، بل لاذعانهم بأن هذا العالم المؤلف من سلسلة علل ومعلولات طبيعية بمجموعها ووحدانيتها لا يستغني عن الحاجة إلى علة فوق العلل تتكي عليها جميع التأثيرات والتأثرات الجارية بين اجزائه ، فإثبات هذه العلة العالية لا يبطل قانون العلية العام الجاري بين اجزاء العالم أنفسها ، ولا وجود العلل المادية في موارد المعلولات المادية تغني عن استنادها الجميع إلى علة عالية خارجة من سلسلتها ، وليس معنى الخروج وقوف العلة في رأس السلسلة ، بل إحاطتها بها من كل جهة مفروضة.
    ومن عجيب المناقضة في كلام هؤلاء أنهم قائلون في الحوادث ـ ومن جملتها الافعال الانسانية ـ بالجبر المطلق فما من فعل ولا حادث غيره إلا وهو معلول جبري لعلل عندهم ، وهم مع ذلك يزعمون أن الانسان لو خلق إنسانا آخر كان غير منته إلى علة العالم لو فرض له علة.
    وهذا المعنى الذي قلنا ـ على لطفة ودقته وإن لم يقدر على تقريره الفهم العامي الساذج لكنه موجود على الاجمال في أذهانهم حيث قالوا باستناد جميع العالم بأجمعه إلى الاله الصانع ـ وفيه العلل والمعلولات فهذا ـ أولا.
    ثم إن البراهين العقلية التي أقامتها الالهيون من الحكماء الباحثين أقاموها بعد إثبات عموم العلية وبنوا فيها على وجوب انتهاء العلل الممكنة إلى علة واجبة الوجود ، واستمروا على هذا السلك من البحث منذ الوف من السنين من أقدم عهود الفلسفة إلى


(402)
يومنا هذا ، ولم يرتابوا في استناد المعلولات التي معها عللها الطبيعية الممكنة إلى علة واجبة ، فليس استنادهم إلى العلة الواجبة لاجل الجهل بالعلة الطبيعية ، وفي المعلولات المجهولة العلل كما يتوهمه هؤلاء ، وهذا ثانيا.
    ثم إن القرآن المثبت لتوحيد الاله إنما يثبته مع تقرير جريان قانون العلية العام بين أجزاء العالم ، وتسليم استناد كل حادث إلى علة خاصة به ، وتصديق ما يحكم به العقل السليم في ذلك ، فإنه يسند الافعال الطبيعية إلى موضوعاتها وفواعلها الطبيعية وينسب إلى الانسان أفعاله الاختيارية في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها ، ثم ينسب الجميع إلى الله سبحانه من غير استثناء ، قال تعالى : « الله خالق كل شئ » الزمر ـ 62 ، وقال تعالى : « ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو » المؤمن ـ 62 ، وقال تعالى : « ألا له الخلق والامر » الاعراف ـ 54 ، وقال تعالى : « له ما في السموات وما في الارض » طه ـ 5 ، فكل ما صدق عليه اسم شئ فهو مخلوق لله منسوب إليه على ما يليق بساحة قدسه وكماله ، وقد جمع في آيات أخر بين الاثباتين جميعا فنسب الفعل إلى فاعله وإلى الله سبحانه معا كقوله تعالى : « والله خلقكم وما تعملون » الصافات ـ 96 ، فنسب أعمال الناس إليهم ونسب خلق أنفسهم وأعمالهم إليه تعالى ، وقال تعالى : « وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى » الانفال ـ 17 ، فنسب الرمي إلى رسول الله ونفاه عنه ونسبه إلى الله تعالى إلى غير ذلك.
    ومن هذا الباب آيات أخر تجمع بين الاثباتين بطريق عام كقوله تعالى : « وخلق كل شئ فقدره تقديرا » الفرقان ـ 2 ، وقال تعالى : « إنا كل شئ خلقناه بقدر ـ إلى أن قال ـ وكل صغير وكبير مستطر » القمر ـ 53 ، وقال تعالى : « قد جعل الله لكل شئ قدرا » الطلاق ـ 3 ، وقال تعالى : « وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم » الحجر ـ 21 ، فإن تقدير كل شئ هو جعله محدودا بحدود العلل المادية والشرائط الزمانية والمكانية.
    وبالجملة فكون إثبات وجود الاله الواحد في القرآن على أساس إثبات العلية والمعلولية بين جميع أجزاء العالم ، ثم استناد الجميع إلى الاله الفاطر الصانع للكل مما لا يعتريه شك ولا ريب لا كما يزعمه هؤلاء من إسناد البعض إلى الله وإسناد الآخر إلى علله المادية المعلومة ، وهذا ثالثا.


(403)
    نعم حملهم على هذا الزعم ما تلقوة : من جمع من أرباب النحل الباحثين عن هذه المسألة وأمثالها في فلسفة عامية كانت تنشرها الكنيسة في القرون الوسطى.
    أو يعتمد عليها الضعفاء من متكلمي الاديان الاخرى وكانت مؤلفة من مسائل محرفة ما هي بالمسائل ، واحتجاجات واستدلالات واهية فاقدة لاستقامة النظر. فهؤلاء لما أرادوا بيان دعويهم الحق ( الذي يقضي بصحته إجمالا عقولهم ) ونقله من الاجمال إلى التفصيل دفعهم ضعف التعقل والفكر إلى غير الطريق فعمموا الدعوى ، وتوسعوا في الدليل ، فحكموا باستناد كل معلول مجهول العلة إلى الله سبحانه من غير واسطة ، ونفوا حاجة الافعال الاختيارية إلى علة موجبه ، أو احتياج الانسان في صدور فعله الاختياري إلى الاله تعالى ، واستقلاله في فعله ، وقد مر البحث عن قولهم في الكلام على قوله تعالى : « وما يضل به إلا الفاسقين » البقرة ـ 26 ، ونورد هيهنا بعض ما فيه من الكلام.
    وطائفة منهم ـ وهم بعض المحدثين والمتكلمين من ظاهريي المسلمين وجمع من غيرهم ـ لم يقدروا أن يتعقلوا معنى صحيحا لاسناد أفعال الانسان الاختيارية إلى الله سبحانه على ما يليق بالمقام الربوبي فنفوا استناد مصنوعات الانسان إليه سبحانه ، وبالخصوص فيما وضعه للمعصية خاصة كالخمر وآلات اللهوو القمار وغير ذلك ، وقد قال تعالى : « إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه » المائدة ـ 90 ، ومعلوم أن ما عده الله سبحانه عملا للشيطان لا يجوز أن ينسب إليه.
    وقد مر فيما تقدم ما يظهر به بطلان هذا التوهم نقلا وعقلا ، فالافعال الاختيارية كما أن لها انتسابا إلى الله سبحانه على ما يليق به تعالى كذلك نتائجها وهي الامور الصناعية التي يصنعها الانسان لداعي رفع الحوائج الحيوية.
    على أن النصاب الواقعة في الآية السابقة هي الاصنام والتماثيل المنصوبة المعبودة التي ذكر الله سبحانه أنها مخلوقة له في قوله : « والله خلقكم وما تعملون » الآية ، ومن هيهنا يظهر أن فيها جهات مختلفة من النسب ينسب من بعضها إلى الله سبحانه وهي طبيعة وجودها مع قطع النظر عن وصف المعصية المتعلق بها ، فإن الصنم ليس بحسب الحقيقة إلا حجرا أو فلزا عليه شكل خاص وليس فيه ما يوجب نفي انتسابه إلى موجد كل شئ ، واما أنه صنم معبود دون الله سبحانه فهذه هي الجهة التي يجب


(404)
نفيها عنه تعالى ونسبتها إلى عمل غيره من شيطان أو إنسان ، وكذا حكم غيره من حيث انتسابه إليه تعالى وإلى غيره.
    فقد تبين من جميع ما مر أن الامور الصناعية منتسبة إلى الخلقة كاستناد الأمور الطبيعية من غير فرق ، نعم يدور الامر في الانتساب إلى الخلقة مدار حظ الشئ من الوجود فافهم ذلك.
    قوله تعالى : وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيى به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة ، فان حقيقته عناصر مختلفة يحملها ماء البحار وغيره ثم يتكاثف بخارا متصاعدا حاملا للحرارة حتى ينتهي إلى زمهرير الهواء فيتبدل ماء متقاطرا على صورة المطر أو يجمد ثانيا فيصير ثلجا أو بردا فينزل لثقله إلى الارض فتشربه وتحيي به أو تحزنه فيخرج على صورة ينابيع في الارض بها حيوة كل شئ فالماء النازل من السماء حادث من الحوادث الوجودية جار على نظام متقن غاية الاتقان من غير انتقاض واستثناء ويستند إليه انتشاء النبات وتكون الحيوان من كل نوع.
    وهو من جهة تحدده بما يحفه من حوادث العالم طولا وعرضا تصير معها جميعا شيئا واحدا لا يستغني عن موجد يوجده وعلة تظهره فله إله واحد ومن جهة أنه مما يستند إليه وجود الانسان حدوثا وبقاء يدل على كون إلهه هو إله الانسان.
    قوله تعالى : وتصريف الرياح ، وهو توجيهها من جانب إلى جانب بعوامل طبيعية مختلفة ، والاغلب فيها أن الاشعة النورية الواقعة على الهواء من الشمس تتبدل حرارة فيه فيعرضه اللطافة والخفة لان الحرارة من عواملها فلا يقدر على حمل ما يعلوه أو يجاوره من الهواء البارد الثقيل فينحدر عليه فيدفعه بشدة فيجري الهواء اللطيف إلى خلاف سمت الدفع وهو الريح ، ومن منافعه تلقيح النبات ودفع الكثافات البخارية والعفونات المتصاعدة ، وسوق السحب الماطرة وغيرها ، ففيه حيوة النبات والحيوان والانسان.
    وهو في وجوده يدل على الاله وفي التيامه مع سائر الموجودات واتحاده معها كما مر يدل على إله واحد للعالم ، وفي وقوعه طريقا إلى وجود الانسان وبقائه يدل على أن


(405)
إله الانسان وغيره واحد.
    قوله تعالى : والسحاب المسخر بين السماء والارض ، السحاب البخار المتكاثف الذي منه الامطار وهو ضباب بالفتح ما لم ينفصل من الارض فإذا انفصل وعلا سمي سحابا وغيما وغماما وغير ذلك ، والتسخير قهر الشئ وتذليله في عمله ، والسحاب مسخر مقهور في سيره وإمطاره بالريح والبرودة وغيرهما المسلطة عليه بإذن الله ، والكلام في كون السحاب آية نظير الكلام في غيره مما عد معه.
    واعلم : أن اختلاف الليل والنهار والماء النازل من السماء والرياح المصرفة والسحاب المسخر جمل الحوادث العامة التي منها يتألف نظام التكوين في الارضيات من المركبات النباتية والحيوانية وغيرهما فهذه الآية كالتفصيل بوجه لاجمال قوله تعالى : « وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين » فصلت ـ 10.
    قوله تعالى : لآيات لقوم يعقلون ، العقل ـ وهو مصدر عقل يعقل ـ إدراك الشئ وفهمه التام ، ومنه العقل اسم لما يميز به الانسان بين الصلاح والفساد وبين الحق و الباطل والصدق والكذب وهو نفس الانسان المدرك وليس بقوة من قواة التى هي كالفروع للنفس كالقوة الحافظة و الباصرة وغيرهما.
    قوله تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا ، الند كالمثل وزنا ومعنى ، ولم يقل من يتخذ لله أندادا كما عبر بذلك في سائر الموارد كقوله تعالى : « فلا تجعلوا لله أندادا » البقرة ـ 22 ، وقوله تعالى : « وجعلوا لله أندادا » إبراهيم ـ 30 ، وغير ذلك لان المقام مسبوق بالحصر في قوله :« وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو » الآية ، فكان من اتخذ لله أندادا قد نقض الحصر من غير مجوز واتخذ من يعلم أنه ليس بأله إلها اتباعا للهوى وتهوينا لحكم عقله ولذلك نكره تحقيرا لشأنه ، فقال ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا.
    قوله تعالى : يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ، وفي التعبير بلفظ يحبونهم دلالة على أن المراد بالانداد ليس هو الاصنام فقط بل يشمل الملائكه ، وأفرادا من الانسان الذين اتخذوهم أربابا من دون الله تعالى بل يعم كل مطاع من دون الله من غير أن يأذن الله في إطاعته كما يشهد به ما في ذيل الآيات من قوله : « إذ تبرا الذين اتبعوا من الذين اتبعوا » البقرة ـ 166 ، وكما قال تعالى : « ولا يتخذ بعضنا بعضا
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس