الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 406 ـ 420
(406)
أربابا من دون الله » آل عمران ـ 64 ، وقال تعالى : « اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله » التوبة ـ 31 ، وفي الاية دليل على أن الحب يتعلق بالله تعالى حقيقة خلافا لمن قال : أن الحب وهو وصف شهواني ، يتعلق بالاجسام والجسمانيات ، ولا يتعلق به سبحانه حقيقة وأن معنى ما ورد من الحب له الاطاعة بالايتمار بالامر والانتهاء عن النهي تجوزا كقوله تعالى : « قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله » آل عمران ـ 31.
    والاية حجة عليهم فإن قوله تعالى : أشد حبا لله يدل على أن حبه تعالى يقبل الاشتداد ، وهو في المؤمنين أشد منه في المتخذين لله اندادا ، ولو كان المراد بالحب هو الاطاعة مجازا كان المعنى والذين آمنوا أطوع لله ولم يستقم معنى التفضيل لان طاعة غيرهم ليست بطاعة عند الله سبحانه فالمراد بالحب معناه الحقيقي.
    ويدل عليه أيضا قوله تعالى : « قل إن كان آبائكم وابنائكم ـ إلى قوله ـ أحب إليكم من الله ورسوله » التوبة ـ 25 ، فإنه ظاهر في أن الحب المتعلق بالله والحب المتعلق برسوله والحب المتعلق بالآباء والابناء والاموال وغيرها جميعا من سنخ واحد لمكان قوله أحب إليكم ، وأفعل التفضيل يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه في أصل المعنى واختلافهما من حيث الزيادة والنقصان.
    ثم ان الآية ذم المتخذين للانداد بقوله : يحبونهم كحب الله ثم مدح المؤمنين بأنهم أشد حبا لله سبحانه فدل التقابل بين الفريقين على أن ذمهم أنما هو لتوزيعهم المحبة الالهية بين الله وبين الانداد الذين اتخذوهم أندادا. وهذا وإن كان بظاهره يمكن أن يستشعر منه أنهم لو وضعوا له سبحانه سهما أكثر لم يذموا على ذلك لكن ذيل الاية ينفي ذلك فإن قوله : إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا ، وقوله : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأ وا العذاب وتقطعت بهم الاسباب ، وقوله : كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ، يشهد بأن الذم لم يتوجه إلى الحب من حيث أنه حب بل من جهة لازمه الذي هو الاتباع وكان هذا الاتباع منهم لهم لزعمهم ان لهم قوة يتقوون بها لجلب محبوب أو دفع مكروه عن أنفسهم فتركوا بذلك إتباع الحق من أصله أو في بعض الامر ، وليس من اتبع الله في بعض أمره دون بعض بمتبع له وحينئذ يندفع الاستشعار المذكور ، ويظهر أن هذا الحب يجب أن لا يكون لله فيه سهيم وإلا فهو الشرك ، واشتداد هذا الحب ملازم لانحصار التبعية من امر الله ، ولذلك مدح المؤمنين


(407)
بذلك في قوله والذين آمنوا أشد حبا لله.
    وإذ كان هذا المدح والذم متعلقا بالحب من جهة أثره الذي هو الاتباع فلو كان الحب للغير بتعقيب إطاعة الله تعالى في أمره ونهيه لكون الغير يدعو إلى طاعته تعالى ـ ليس له شأن دون ذلك ـ لم يتوجه إليه ذم البته كما قال تعالى : « قل إن كان آبائكم وابناؤكم ـ إلى قوله ـ أحب اليكم من الله ورسوله » التوبة ـ 24 ، فقرر لرسوله حبا كما قرره لنفسه لان حبه ( عليه السلام ) حب الله تعالى فإن أثره وهو الاتباع عين اتباع ، الله تعالى : فإن الله سبحانه هو الداعي إلى اطاعة رسوله والآمر باتباعه ، قال تعالى : « وما أرسلنا من رسول الا ليطاع باذن الله » النساء ـ 64 ، وقال تعالى : « قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله » وكذلك اتباع كل من يهتدي إلى الله باتباعه كعالم يهدي بعلمه أو آية تعين بدلالته وقرآن يقرب بقرائته ونحو ذلك فإنها كلها محبوبة بحب الله واتباعها طاعة تعد مقربة إليه.
    فقد بان بهذا البيان أن من أحب شيئا من دون الله ابتغاء قوة فيه فاتبعه في تسبيبه إلى حاجة ينالها منه أو اتبعه بإطاعته في شئ لم يأمر الله به فقد اتخذ من دون الله اندادا وسيريهم الله اعمالهم حسرات عليهم ، وأن المؤمنين هم الذين لا يحبون إلا الله ولا يبتغون قوة إلا من عند الله ولا يتبعون غير ما هو من أمر الله ونهيه فأولئك هم المخلصون لله دينا.
    وبان ايضا أن حب من حبه من حب الله واتباعه اتباع الله كالنبي وآله والعلماء بالله ، وكتاب الله وسنة نبيه وكل ما يذكر الله بوجه إخلاص لله ليس من الشرك المذموم في شئ ، والتقرب بحبه واتباعه تقرب إلى الله ، وتعظيمه بما يعد تعظيما من تقوى الله ، قال تعالى : « ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب » الحج ـ 32 ، والشعائر هي العلامات الدالة ، ولم يقيد بشئ مثل الصفا والمروة وغير ذلك ، فكل ما هو من شعائر الله وآياته وعلاماته المذكرة له فتعظيمه من تقوى الله ويشمله جميع الآيات الآمرة بالتقوى.
    نعم لا يخفى لذي مسكة أن إعطاء الاستقلال لهذه الشعائر والايات في قبال الله واعتقاد أنها تملك لنفسها أو غيرها نفعا أو ضرا أو موتا أو حيوة أو نشورا إخراج لها


(408)
عن كونها شعائر وآيات وإدخال لها في حظيرة الالوهية وشرك بالله العظيم ، والعياذ بالله تعالى.
    قوله تعالى : ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العقاب ، ظاهر السياق أن قوله : إذ مفعول يرى ، وان قوله :« أن القوة لله إلى آخر » الاية ، بيان للعذاب ، ولو للتمني. والمعنى ليتهم يرون في الدنيا يوما يشاهدون فيه العذاب فيشاهدون أن القوة لله جميعا وقد اخطأوا في إعطاء شئ منه لاندادهم وأن الله شديد في عذابه ، واذاقته عاقبة هذا الخطأ فالمراد بالعذاب في الآية ـ على ما يبينه ما يتلوه ـ مشاهدتهم الخطأ في إتخاذهم اندادا يتوهم قوة فيه ومشاهدة عاقبة هذا الخطأ ويؤيده الآيتان التاليتان : إذ تبرأ الذين إتبعوا من الذين اتبعوا فلم يصل من المتبوعين إلى تابعيهم نفع كانوا يتوقعونه ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب فلم يبق تأثير لشئ دون الله ، وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة ، وهو تمني الرجوع إلى الدنيا فنتبرأ منهم أي من الانداد المتبوعين في الدنيا كما تبرأوا منا في الاخرة ، كذلك يريهم الله أي الذين ظلموا باتخاذ الانداد أعمالهم ، وهي حبهم واتباعهم لهم في الدنيا حالكونها حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار.
    قوله تعالى : وما هم بخارجين من النار ، فيه حجة على القائلين بانقطاع العذاب من طريق الظواهر.
( بحث روائي )
    في الخصال والتوحيد والمعاني عن شريح بن هاني قال : إن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال يا أمير المؤمنين أتقول إن الله واحد ؟ قال فحمل الناس عليه ، فقالوا : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ؟ فقال أمير المؤمنين دعوه فإن الذي يريده الاعرابي هو الذي نريده من القوم ، ثم قال : ( عليه السلام ) يا أعرابي ، إن القول : في أن الله واحد على أربعة أقسام فوجهان منها لا يجوزان على الله تعالى ، ووجهان يثبتان فيه فأما اللذان لا يجوزان عليه ـ فقول القائل واحد يقصد به باب الاعداد فهذا لا يجوز لان ما لا ثاني له لا يدخل في باب الاعداد ، أما ترى أنه كفر من قال انه ثالث ثلثه ؟ وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لانه تشبيه وجل ربنا وتعالى عن ذلك ، وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه


(409)
فقول القائل هو واحد ليس له في الاشياء شبه كذلك ربنا ، وقول القائل إنه عزوجل أحدي المعنى يعني به : أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا.
    اقول : والوجهان اللذان أثبتهما ( عليه السلام ) كما ترى منطبق على ما ذكرناه في بيان قوله تعالى « وإلهكم إله واحد » الآية.
    وقد تكرر في الخطب المروية عن علي ( عليه السلام ) والرضا ( عليه السلام ) وغيرهما من أئمة أهل البيت : قولهم : إنه واحد لا بالعدد الخطبة ، وهو ما مر من معنى صرافة ذاته الآبية عن العدد ، وفي دعاء الصحيفة الكاملة لك وحدانية العدد الدعاء ، ويحمل على الملكية أي أنت تملك وحدانية العدد دون الاتصاف فإن العقل والنقل ناهضان على أن وجوده سبحانه صرف لا يتثنى ولا يتكرر بذاته وحقيقته.
    وفي الكافي والاختصاص وتفسير العياشي عن الباقر ( عليه السلام ) : في قوله : « ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا » الآية ـ في حديث ـ قال : هم والله يا جابر أئمة الظلمة وأشياعهم ، وفي رواية العياشي : والله يا جابر هم أئمة الظلم وأشياعهم.
    أقول : وقد اتضح معناه بما مر من البيان وتعبيره ( عليه السلام ) بأئمة الظلم لمكان قوله تعالى : ولو يرى الذين ظلموا ، فعد التابعين المتخذين للانداد ظلمة فيكون متبوعوهم أئمه الظلمة وأئمة الظلم.
    وفي الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) : في قوله تعالى : « كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم » الآية ، قال : هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلا ثم يموت فيدعه لمن يعمل في طاعة الله أو في معصية الله فإن عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرة ـ وقد كان المال له ـ وإن كان عمل به في معصية الله قواه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله.
    اقول : وروي هذا المعنى العياشي والصدوق والمفيد والطبرسي عن الباقر والصادق عليهما اسلام وهو ناظر إلى التوسعة في معنى الانداد وهو كذلك كما تقدم.

     من المعاني الوجدانية التي عندنا معنى نسميه بالحب كما في موارد حب الغذاء


(410)
والحب النساء وحب المال وحب الجاه وحب العلم ، هذه مصاديق خمسة لا نشك في وجودها فينا ، ولا نشك أنا نستعمل لفظ الحب فيها بمعنى واحد على سبيل الاشتراك المعنوي دون اللفظي ، ولا شك أن المصاديق مختلفة ، فهل هو اختلاف نوعي أو غير ذلك ؟
    إذا دققنا النظر في حب ما هو غذاء كالفاكهة مثلا وجدناه محبوبا عندنا لتعلقه بفعل القوة الغاذية ، ولو لا فعل هذه القوة وما يحوزه الانسان بها من الاستكمال البدني لم يكن محبوبا ولا تحقق حب ، فالحب بحسب الحقيقة بين القوة الغاذية وبين فعلها ، وما تجده عند الفعل من اللذة ، ولسنا نعني باللذة لذة الذائقة فإنها من خوادم الغاذية وليست نفسها ، بل الرضى الخاص الذي تجده القوة بفعلها ، ثم إذا اختبرنا حال حب النساء وجدنا الحب فيها يتعلق بالحقيقة بالوقاع ، وتعلقه بهن ثانيا وبالتبع ، كما كان حب الغذاء متعلقا بنفس الغذاء ثانيا وبالتبع ، والوقاع أثر القوة المودعة في الحيوان ، كما كان التغذي كذلك أثرا لقوة فيه ، ومن هنا يعلم أن هذين الحبين يرجعان إلى مرجع واحد وهو تعلق وجودي بين هاتين القوتين وبين فعلهما أي كمالهما الفعلي.
    ومن المحتمل حينئذ أن يكون الحب هو التعلق الخاص بهذين الموردين ولا يوجد في غير موردهما لكن الاختبار بالآثار يدفع ذلك ، فإن لهذا التعلق المسمى حبا أثرا في المتعلق ( اسم فاعل ) وهو حركة القوة وانجذابها نحو الفعل إذا فقدته وتحرجها عن تركه إذا وجدته ، وهاتان الخاصتان أو الخاصة الواحدة نجدها موجودة في مورد جميع القوى الادراكية التي لنا وأفعالها وإن قوتنا الباصرة والسامعة والحافظة والمتخيلة وغيرها من القوى والحواس الظاهرية والباطنية جميعها ـ سواء كانت فاعلة أو منفعلة ـ على هذه الصفة فجميعها تحب فعلها وتنجذب إليها وليس إلا لكون أفعالها كمالات لها يتم بها نقصها وحاجتها الطبيعية ، وعند ذلك يتضح الامر في حب المال وحب الجاه وحب العلم فإن الانسان يستكمل نوع استكمال بالمال والجاه والعلم.
    ومن هنا يستنتج أن الحب تعلق خاص وانجذاب مخصوص شعوري بين الانسان وبين كماله ، وقد أفاد التجارب الدقيق بالآثار والخواص أنه يوجد في الحيوان غير الانسان ، وقد تبين أن ذلك لكون المحب فاعلا أو منفعلا عما يحبه من الفعل والاثر ومتعلقا بتبعه بكل ما يتعلق به كما مر في حديث الاكل و الفاكهة ، وغير الحيوان أيضا


(411)
كالحيوان إذا كان هناك استكمال أو إفاضة لكمال مع الشعور.
    ومن جهة أخرى لما كان الحب تعلقا وجوديا بين المحب و المحبوب كانت رابطة قائمة بينهما فلو كان المعلول الذي يتعلق به حب علته موجودا ذا شعور وجد حب علته في نفسه لو كان له نفس واستقلال جوهري.
    ويستنتج من جميع ما مر : اولا أن اللحب تعلق وجودي وانجذاب خاص بين العلة المكملة أو ما يشبهها وبين المعلول المستكمل أو ما يشبهه ، ومن هنا كنا نحب أفعالنا لاستكمالنا بها ونحب ما يتعلق به أفعالنا كغذاء نتغذى بها ، أو زوج نتمتع بها ، أو مال نتصرف فيه ، أو جاه نستفيد به ، أو منعم ينعم علينا ، أو معلم يعلمنا ، أو هاد يهدينا أو ناصر ينصرنا ، أو متعلم يتعلم منا ، أو خادم يخدمنا أو أي مطيع يطيعنا وينقاد لنا ، وهذه أقسام من الحب بعضها طبيعي وبعضها خيالي وبعضها عقلي.
    وثانيا : أن الحب ذو مراتب مختلفة من الشدة والضعف فإنه رابطة وجودية ـ والوجود مشكك في مراتبه ـ ومن المعلوم أن التعلق الوجودي بين العلة التامة ومعلولها ليس كالتعلق الكائن بين العلل الناقصة ومعلولاتها ، وأن الكمال الذي يتعلق بواسطته الحب مختلف من حيث كونه ضروريا أو غير ضروري ، ومن حيث كونه ماديا كالتغذي أو غير مادي كالعلم ، وبه يظهر بطلان القول باختصاصه بالماديات حتى ذكر بعضهم : أن أصله حب الغذاء ، وغيره ينحل إليه ، وذكر آخرون : أن الاصل في بابه حب الوقاع ، وغيره راجع إليه.
    وثالثا : أن الله سبحانه أهل للحب بأي جهة فرضت فإنه تعالى في نفسه موجود ذو كمال غير متناه وأي كمال فرض غيره فهو متناه ، والمتناهي متعلق الوجود بغير المتنا هي وهذا حب ذاتي مستحيل الارتفاع ، وهو تعالى خالق لنا منعم علينا بنعم غير متناهية العدة والمدة فنحبه كما نحب كل منعم لانعامه.
    ورابعا : أن الحب لما كانت رابطة وجودية ـ والروابط الوجودية غير خارجة الوجود عن وجود موضوعها ومن تنزلاته ـ أنتج ذلك أن كل شئ فهو يحب ذاته ، وقد مر أنه يحب ما يتعلق بما يحبه فيحب آثار وجوده ، ومن هنا يظهر أن الله سبحانه يحب خلقه لحب ذاته ، ويحب خلقه لقبولهم إنعامه عليهم ، ويحب خلقه لقبولهم هدايته.


(412)
    وخامسا : أن لزوم الشعور والعلم في مورد الحب إنما هو بحسب المصداق وإلا فالتعلق الوجودي الذي هو حقيقة الحب لا يتوقف عليه من حيث هو ، ومن هنا يظهر أن القوى والمبادي الطبيعية غير الشاعرة لها حب بآثارها وأفعالها.
    وسادسا : يستنتج مما مر أن الحب حقيقة سارية في الموجودات.

    مسألة انقطاع العذاب والخلود مما اختلف فيه أنظار الباحثين من حيث النظر العقلي ومن جهة الظواهر اللفظية.
    والذي يمكن أن يقال : أما من جهة الظواهر ، فالكتاب نص في الخلود ، قال تعالى : « وما هم بخارجين من النار » الآية والسنة من طرق أئمة أهل البيت مستفيضة فيه ، وقد ورد من غير طريقهم أخبار في الانقطاع ونفى الخلود ، وهي مطروحة بمخالفة الكتاب.
    وأما من جهة العقل فقد ذكرنا فيما تقدم من البحث في ذيل قوله تعالى : « واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا » البقرة ـ 48 ، أن الاستدلال على خصوصيات ما جاء به الشرع في المعاد بالمقدمات الكلية العقلية غير مقدور لنا لان العقل لا ينال الجزئيات ، والسبيل فيه تصديق ما جاء به النبي الصادق من طريق الوحي للبرهان على صدقه.
    وأما النعمة والعذاب العقليان الطارئان على النفس من جهة تجردها وتخلقها بأخلاق وملكات فاضلة أو ردية أو اكتسائها وتلبسها بأحوال حسنة جميلة أو قبيحة فقد عرفت أن هذه الاحوال والملكات تظهر للنفس بما لها من صورة القبح أو الحسن فتنعم بما هي حسنة منها إن كانت ذاتها سعيدة وتعذب بما هي قبيحة مشوهة منها ، سواء كانت ذاتها سعيدة أو شقية.
    وأن ما كانت من هذه الصور صورا غير راسخة للنفس وغير ملائمة لذاتها فإنها ستزول لان القسر لا يكون دائميا ولا أكثريا ، وهذه النفس هي النفس السعيدة ذاتا وعليها هيآت شقية ردية ممكنة الزوال عنها كالنفس المؤمنة المجرمة ، وهذا كله ظاهر.


(413)
    واما الهيآت الردية التي رسخت في النفس حتى صارت صورا أو كالصور الجديدة تعطي للشئ نوعية جديدة كالانسان البخيل الذي صار البخل صورة لانسانيتة كما صار النطق لحيوانيته الصائرة به نوعا جديدا تحت الحيوان فالانسان البخيل ايضا نوع جديد تحت الانسان ، فمن المعلوم ان هذا النوع نوع مجرد في نفسه دائمي الوجود ، وجميع ما كان يصدر عنه بالقسر حال عدم الرسوخ فيعذب به ويذوق وبال أمره فهي تصدر عن هذا النوع بإذن الله من غير قسر إلا أنها لما كانت صادرة عن نوعيته من غير قسر فهي دائمة من غير زوال بخلاف ما لو كانت حاصلة بالقسر ، ومثل هذا الانسان المعذب بلوازم ملكاته من وجه مثل من إبتلى بمرض الماليخوليا أو الكابوس المستمر فإنه لا يزال يصدر عن قوة تخيله صور هائلة أو مشوهة يعذب بها وهو نفسه هو الذي يوجدها من غير قسر قاسر ولو لم تكن ملائمة لطبعه المريض ما أوجدها فهو وإن لم تكن متألما من حيث إنتهاء الصدور إليه نفسه لكنه معذب بها من حيث أن العذاب ما يفر منه الانسان إذا لم يبتل به بعد ويحب التخلص عنه إذا ابتلى به وهذا الحد يصدق على الامور المشوهة والصور غير الجميلة التي تستقبل الانسان الشقي في دار آخرته ، فقد بان أن العذاب خالد غير منقطع عن الانسان الشقي الذي لذاته شقوة لازمة.
    وقد استشكل هيهنا بإشكالات واضحة السقوط بينة الفساد : مثل أن الله سبحانه ذو رحمة واسعة غير متناهية فكيف يسع رحمته أن يخلق من مصيره إلى عذاب خالد لا يقوم له شئ ؟
    ومثل أن العذاب إنما يكون عذابا إذا لم يلائم الطبع فيكون قسرا ولا معنى للقسر الدائم فكيف يصح وجود عذاب دائم ؟.
    ومثل أن العبد لم يذنب إلا ذنبا منقطع الاخر فكيف يجازى بعذاب دائم ؟
    ومثل أن أهل الشقاء لا يقصر خدمتهم لنظام التكوين عن خدمات أهل السعادة ولولاهم لم تتحقق سعادة لسعيد فما هو الموجب لوقوعهم في عذاب مخلد ؟
    ومثل أن العذاب للمتخلف عن أوامر الله ونواهيه انتقام ولا يكون الانتقام إلا لجبر النقص الذي أورده العاصي الظالم على المنتقم المقتدر ، ولا يجوز ذلك على الله تعالى فهو الغني المطلق فكيف يجوز منه العذاب وخاصة العذاب المخلد ؟.


(414)
    فهذه وأمثالها وجوه من الاشكال اوردوها على خلود العذاب وعدم انقطاعه. وأنت بالاحاطة بما بيناه من معنى خلود العذاب تعرف أنها ساقطة من رأس ، فإن العذاب الخالد أثر وخاصة لصورة الشقاء الذي لزمت الانسان الشقي فتصور ذاته بها بعد تمامية الاستعداد الشديد الذي حصل في ذاته القابلة لها بواسطة الاحوال العارضة لها المنتهية إلى اختياره ، واشتداد الاستعداد التام هو الذي يوجب في جميع الحوادث إفاضة الصورة المناسبة لسنخ الاستعداد ، فكما لا يجوز السؤال عن علة تحقق الافعال الانسانية بعد ورود الصورة الانسانية على المادة لوجود العلة التي هي الصورة الانسانية كذلك لا معنى للسؤال عن لمية ترتب آثار الشقاء اللازم ، ومنها العذاب المخلد بعد تحقق صورة الشقاء اللازم ، المنتهية إلى الاختيار فإنها آثارها وخواصها فبطلت السؤالات جميعا ، فهذا هو الجواب الاجمالي عنها.
    وأما تفصيلا : فالجواب عن الاول : أن الرحمة فيه تعالى ليس بمعنى رقة القلب والاشفاق والتاثر الباطني فإنها تستلزم المادة ـ تعالى عن ذلك ـ ، بل معناها العطية والافاضة لما يناسب الاستعداد التام الحاصل في القابل ، فإن المستعد بالاستعداد التام الشديد يحب ما يستعد له ويطلبه ويسئله بلسان استعداده فيفاض عليه ما يطلبه ويسئله ، والرحمة رحمتان : رحمة عامة ، وهي أعطاء ما يستعد له الشئ ويشتاقه في صراط الوجود والكينونة ، ورحمة خاصة ، وهي إعطاء ما يستعد الشئ في صراط الهداية إلى التوحيد وسعادة القرب وإعطاء صورة الشقاء اللازم الذي أثره العذاب الدائم للانسان المستعد له باستعداده الشديد لا ينافي الرحمة العامة بل هو منها ، وأما الرحمة الخاصة فلا معنى لشمولها لمن هو خارج عن صراطها ، فقول القائل : إن العذاب الدائم ينافي الرحمة إن أراد به الرحمة العامه فليس كذلك بل هو من الرحمة العامة ، وإن إراد به الرحمة الخاصة فليس كذلك لكونه ليس موردا لها ، على أن الاشكال لو تم لجرى في العذاب المنقطع أيضا حتى أنواع العذاب الدنيوي ، وهو ظاهر.
    والجواب عن الثاني : أنه ينبغي أن يحرر معنى عدم ملائمة الطبع فإنه تارة بمعنى عدم السنخية بين الموضوع والاثر الموجود عنده وهو الفعل القسري الذي يصدر


(415)
عن قسر القاسر ويقابله الاثر الملائم الذي يصدر عن طبع الشئ إذا اقترن به آفات ثم رسخت فيه فصارت صورة في الشئ وعاد الشئ يطلبه بهذا الوجود وهو في عين الحال لا يحبه كما مثلنا فيه من مثال الماليخوليائي فهذه الاثار ملائمة لذاته من حيث صدورها عن طبعه الشقي الخبيث والآثار الصادرة عن الطباع ملائمة ، وهي بعينها عذاب لصدق حد العذاب عليها لكون الشئ لا يرتضيها فهي غير مرضية من حيث الذوق والوجدان في عين كونها مرضية من حيث الصدور.
    والجواب عن الثالث : أن العذاب في الحقيقة ترتب أثر غير مرضي على موضوعه الثابت حقيقة ، وهو صورة الشقاء فهذا الاثر معلول الصورة الحاصلة بعد تحقق علل معدة ، وهي المخالفات المحدودة ، وليس معلولا لتلك العلل المعدة المحدودة حتى يلزم تأثير المتناهي أثرا غير متناه وهو محال ونظيره أن عللا معدة ومقربات معدودة محدودة أوجبت أن تتصور المادة بالصورة الانسانية فيصير إنسانا يصدر عنه آثار الانسانية المعلولة للصورة المذكورة ، ولا معنى لان يسئل ويقال : أن الآثار الانسانية الصادرة عن الانسان بعد الموت صدورا دائميا سرمديا لحصول معدات محدودة مقطوعة الامر للمادة فكيف صارت مجموع منقطع الآخر من العلل سببا لصدور الآثار المذكورة وبقائها مع الانسان دائما لان علتها الفاعلة ـ وهي الصورة الانسانية موجودة معها دائما على الفرض ، فكما لا معنى لهذا السؤال لا معنى لذلك أيضا.
    والجواب عن الرابع : أن الخدمة والعبودية أيضا مثل الرحمة على قسمين : عبودية عامة ، وهو الخضوع والانفعال الوجودي عن مبدء الوجود ، وعبودية خاصة وهو الخضوع والانقياد في صراط الهداية إلى التوحيد ، ولكل من القسمين جزاء يناسبه وأثر يترتب عليه ويخصه من الرحمة ، فالعبودية العامة في نظام التكوين جزائه الرحمة العامة ، والنعمة الدائمة والعذاب الدائم كلاهما من الرحمة العامة ، والعبودية الخاصة جزائه الرحمة الخاصة ، وهي النعمة والجنة وهو ظاهر ، على أن هذا الاشكال لو تم لورد في مورد العذاب المنقطع الاخروي بل الدنيوي أيضا.
    والجواب عن الخامس : أن العذاب الدائم مستند إلى صورة الشقاء الذي في الانسان كما عرفت ، وإلى الله سبحانه بالمعنى الذي يقال : في كل موجود : إنه مستند إليه تعالى لا بمعنى الانتقام وتشفي الصدر المستحيل عليه تعالى ، نعم الانتقام بمعنى


(416)
الجزاء الشاق والاثر السيئ الذي يجزي به المولى عبده في مقابل تعديه عن طور العبودية ، وخروجه عن ساحة الانقياد إلى عرصة التمرد والمخالفة مما يصدق فيه تعالى لكن لا يستلزم كون العذاب انتقاما بهذا المعنى إشكالا ألبتة.
    على أن هذا الاشكال أيضا لو تم لورد في مورد العذاب الموقت المنقطع في الآخرة بل في الدنيا أيضا.
( بحث قرآني وروائي متمم للبحث السابق )
    إعلم أن هذا الطريق من الاستدلال على رد الشبهة المذكورة مما استعمل في الكتاب والسنة أيضا ، قال تعالى : « من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصليها مذموما مدحورا ، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا » اسرى ـ 20 ، فالآية كما ترى يجعل العذاب والشكر كليهما من العطية والرحمة وتجعل تحقق كل منهما مرتبطة بارادة العبد وسعيه وهذا بعينه الطريق الذي سلكناه في أصل المسألة ودفع الاشكالات عنها وهناك آيات أخر في هذا المعنى سنتكلم فيها في مواردها ، إنشاء الله تعالى.
    يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ـ 168. إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ـ 169. وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا أو لو كان آبائهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ـ 170. ومثل الذين


(417)
كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء وندآء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ـ 171.
( بيان )
    قوله تعالى : يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا إلى آخر الآيتين ، الحلال مقابل الحرام الممنوع اقتحامه ، والحل مقابل الحرمة ، والحل مقابل حرم ، والحل مقابل العقد ، وهو في جميع موارد استعماله يعطي معنى حرية الشئ في فعله وأثره ، والطيب ـ مقابل الخبيث ـ ما يلائم النفس والشئ ، كالطيب من القول لملائمتة السمع ، والطيب من العطر يلائم الشامة ، والطيب من المكان يلائم حال المتمكن فيه. والخطوات بضمتين جمع خطوة ، وهي ما بين القدمين للماشي ، وقرء خطوات بفتحتين وهي جمع خطوة ، وهي المرة ، وخطوات الشيطان هي الامور التي نسبته إلى غرض الشيطان ـ وهو الاغواء بالشرك ـ نسبة خطوات الماشي إلى مقصده وغرضه ، فهي الامور التي هي مقدمات للشرك والبعد من الله سبحانه ، والامر هو تحميل الآمر إرادة نفسه على المأمور ليأتي ما يريده ، والامر من الشيطان وسوسته وتحميله ما يريده من الانسان عليه باخطاره في قلبه وتزيينه في نظره والسوء ما ينافره الانسان ويستقبحه بنظر الاجتماع فإذا جاوز حده وتعدى طوره كان فحشاء ولذلك سمي الزنا بالفحشاء وهو مصدر كالسراء والضراء.
    وقد عمم تعالى الخطاب لجميع الناس لان الحكم الذي يقرعه سمعهم ويبينه لهم مما يبتلي به الكل ، أما المشركون : فقد كان عندهم امور مما حرموه على أنفسهم افتراء على الله كما روي أن ثقيفا وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج كانوا قد حرموا على أنفسهم أشياء من الحرث والانعام والبحيرة والسائبة والوصيلة ، هذا في العرب ، وفي غيرهم أيضا يوجد أشياء كثيرة من هذا القبيل ، وأما المؤمنون : فربما كان يبقى بعد الاسلام بينهم امور خرافية طبق ناموس توارث الاخلاق والآداب القومية والسنن المنسوخة بنواسخ غير تدريجية كالاديان والقوانين وغيرهما فان كل طريقة جديدة دينية


(418)
أو دنيوية إذا نزلت بدار قوم فانما تتوجه أول ما تتوجه إلى اصول الطريقة القديمة وأعراقها فتقطعه فان دامت على حيوتها وقوتها ـ وذلك بحسن التربية وحسن القبول ـ أماتت الفروع وقطعت الاذناب وإلا فاختلطت بقايا من القديمة بالحديثة والتئمت بها وصارت كالمركب النباتي ، ما هو بهذا ولاذاك.
    فأمر تعالى الناس أن يأكلوا مما في الارض ، والاكل هو البلع عن مضغ وربما يكنى بالاكل عن مطلق التصرف في الاموال لكون الاكل هو الاصل في أفعال الانسان والركن في حيوته كما قال تعالى : « ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض » النساء ـ 29 ، والآية لا تأبى الحمل على هذا المعنى الوسيع لاطلاقها ، والمعنى كلوا وتصرفوا وتمتعوا مما في الارض من النعم الالهية التي هيأته لكم طبيعة الارض باذن الله وتسخيره أكلا حلالا طيبا ، أي لا يمنعكم عن أكله أو التصرف فيه مانع من قبل طبائعكم وطبيعة الارض ، كالذي لا يقبل بطبعه الاكل ، أو الطبع لا يقبل أكله ، ولا تنفر طبائعكم عن أكله مما يقبل الطبع أكله لكن ينافره ويأبى عنه السليقة كالاكل الذي توسل إليه بوسيلة غير جائزة.
    فقوله تعالى : كلوا مما في الارض حلالا طيبا ، يفيد الاباحة العامة من غير تقييد واشتراط فيه إلا أن قوله ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إلخ يفيد : أن هيهنا امورا تسمى خطوات الشيطان ـ متعلقة بهذا الاكل الحلال الطيب ـ إما كف عن الاكل اتباعا للشيطان ، وإما إقدام عليه اتباعا للشيطان ، ثم ذكر ضابط ما يتبع فيه الشيطان بأنه سوء وفحشاء ، وقول ما لا يعلم على الله سبحانه وإذا كان الكف غير جائز إلا برضى من الله تعالى فالفعل أيضا كذلك فليس الاكل مما في األرض حلالا طيبا إلا أن يأذن الله تعالى ويشرعه وقد شرعه بهذه الآية ونظائرها ولا يمنع عنه بنهي أو ردع كما سيأتي من قوله تعالى : « إنما حرم عليكم الميتة والدم » الآية فرجع معنى الآية ـ والله اعلم ـ إلي نحو قولنا كلوا مما في الارض من نعم الله المخلوقة لكم فقد جعله الله لكم حلالا طيبا ولا تتركوا بعضا منها كفا وامتناعا فيكون سوء وفحشاء وقولا بغير علم أي تشريعا ليس لكم ذلك وهو اتباع خطوات الشيطان.
    فالآية تدل أولا : على عموم الحلية في جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل فان لله سبحانه المنع فيما له الاذن فيه.


(419)
    وثانيا : على أن الامتناع مما أحله الله من غير دليل علمي تشريع محرم.
    وثالثا : على أن المراد من اتباع خطوات الشيطان التعبد لله بما لم يأذن في التعبد بذلك فانه لم ينه عن المشي والسلوك لكن عن المشي الذي يضع فيه الانسان قدمه موضع قدم الشيطان فينطبق مشيته على مشيته فيكون متبعا لخطواته ، ومن هنا يعلم أن عموم التعليل ، وهو قوله إنما يأمركم ( الخ ) وإن اقتضى المنع عن الاقتحام في فعل بغير علم كما يقتضي المنع عن الامتناع بغير علم لكنه ليس بمراد في الخطاب فانه ليس من اتباع خطوات الشيطان وإن كان اتباعا للشيطان.
    قوله تعالى : إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ، السوء والفحشاء يكونان في الفعل ، وفي مقابلة القول ، وبذلك يظهر : أن ما يأمر به الشيطان ينحصر في الفعل الذي هو سوء وفحشاء ، والقول الذي هو قول بغير علم.
    قوله تعالى : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا ، الالفاء الوجدان أي وجدنا عليه آبائنا ، والآية تشهد بما استفدناه من الآية السابقة في معنى خطوات الشيطان.
    قوله تعالى : أو لو كان آبائهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ، جواب عن قولهم ، وبيانه أنه قول بغير علم ولا تبين ، وينافيه صريح العقل فان قولهم : بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا قول مطلق أي نتبع آبائنا على أي حال وعلى أي وصف كانوا ، حتى لو لم يعلموا شيئا ولم يهتدوا ونقول ما فعلوه حق ، وهذا هو القول بغير علم ، ويؤدي إلى القول بما لا يقول به عاقل لو تنبه له ولو كانوا اتبعوا آبائهم فيما علموه واهتدوا فيه وهم يعلمون : إنهم علموا واهتدوا فيه لم يكن من قبيل الاهتداء بغير علم.
    ومن هنا يعلم : أن قوله تعالى : لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ، ليس واردا مورد المبالغة نظرا إلى أن سلب مطلق العلم عن آبائهم مع كونهم يعلمون أشياء كثيرة في حيوتهم لا يحتمل إلا المبالغة.
    وذلك أن الكلام مسوق سوق الفرض بإبداء تقدير لا يقول بجواز الا تباع فيه قائل ليبطل به إطلاق قولهم نتبع ما ألفينا عليه آبائنا وهو ظاهر.
    قوله تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ،


(420)
    المثل هو الكلام السائر والمثل هو الوصف كقوله تعالى : « انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا » الفرقان ـ 9 ، والنعيق صوت الراعي لغنمه زجرا يقال : نعق الراعي بالغنم ينعق نعيقا إذا صاح بها زجرا ، والنداء مصدر نادى ينادي مناداه وهو أخص من الدعاء ففيه معنى الجهر بالصوت ونحوه بخلاف الدعاء ، والمعنى ـ والله أعلم ـ ومثلك في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق من البهائم بما لا يسمع من نعيقه إلا دعاء ونداء ما ، فينزجر بمجرد قرع الصوت سمعه من غير أن يعقل شيئا فهم صم لا يسمعون كلاما يفيدهم ، وبكم لا يتكلمون بما يفيد معنى ، وعمى لا يبصرون شيئا فهم لا يعقلون شيئا لان الطرق المؤدية إلى التعقل مسدودة عليهم.
    ومن ذلك يظهر إن في الكلام قلبا أو عناية أخرى يعود إليه فإن المثل بالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء مثل الذي يدعوهم إلى الهدى لا مثل الكافرين المدعوين إلى الهدى إلا أن الاوصاف الثلاثة التي استنتج واستخرج من المثل وذكرت بعده ، وهي قوله : صم بكم عمى فهم لا يعقلون ، لما كانت أو صافا للذين كفروا لا لمن يدعوهم إلى الحق استوجب ذلك أن ينسب المثل إلى الذيكفروا لا إلى رسول الله تعالى فأنتج ما أشبه القلب.
( بحث روائي )
    في تهذيب عن عبد الرحمن ، قال : سئلت أبا عبد الله عن رجل حلف أن ينحر ولده قال : ذلك من خطوات الشيطان.
    وعن منصور بن حازم أيضا قال : قال لي أبو عبد الله ( عليه السلام ) ـ أما سمعت بطارق إن طارقا كان نخاسا بالمدينة فأتى أبا جعفر فقال يا أبا جعفر أني حلفت بالطلاق والعتاق والنذر ؟ فقال له يا طارق إن هذا من خطوات الشيطان.
    وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : كل يمين بغير الله فهو من خطوات الشيطان.
    وفي الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) قال : إذا حلف الرجل على شئ ـ والذي حلف
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس