المكاسب ـ جلد الثاني ::: 11 ـ 20
(11)
[ المسألة ] الثامنة عشر
    [ حرمة الكذب عقلاً وشرعاً ]
    الكذب حرام بضرورة العقول والأديان ، ويدل عليه الأدلة الأربعة ، إلا أن الذي ينبغي الكلام فيه مقامان :
    أحدهما ـ في أنه من الكبائر.
    الثاني (1) ـ في مسوغاته.

[ الكلام في المقام الأول ]
    [ الكذب من الكبائر ]
    أما الأول ـ فالظاهر من غير واحد من الأخبار ـ كالمروي في العيون بسند (2) عن الفضل بن شاذان لا يقصر عن الصحيح (3) ، والمروي عن الأعمش في حديث شرائع الدين (4) ـ عده من الكبائر.
1 ـ في ( خ ) ، ( ع ) ، ( ص ) و ( ش ) : والثاني.
2 ـ في ( ش ) : بسنده.
3 ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 127 ، والوسائل 11 : 261 ، الباب 46 من أبواب جهاد النفس ، الحديث 33.
4 ـ الوسائل 11 : 262 ، الباب 46 من أبواب جهاد النفس ، الحديث 36.


(12)
    وفي الموثقة بعثمان بن عيسى : ( إن الله تعالى جعل للشر أقفالا ، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شر من الشراب ) (1).
    وارسل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ألا اخبركم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقول الزور ) (2) أي الكذب.
    وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : أن ( المؤمن إذا كذب بغير عذر لعنه سبعون ألف ملك ، وخرج من قلبه نتن حتى يبلغ العرش ، وكتب الله عليه بتلك الكذبة سبعين زنية ، أهونها كمن يزني مع امه ) (3).
    ويؤيده ما عن العسكري صلوات الله عليه : ( جعلت الخبائث كلها في بيت واحد ، وجعل مفتاحها الكذب ... الحديث ) (4) ، فإن مفتاح الخبائث كلها كبيرة لا محالة.
    ويمكن الاستدلال على كونه من الكبائر بقوله تعالى : ( إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ) (5) ، فجعل الكاذب غير مؤمن بآيات الله ، كافرا بها.
1 ـ الوسائل 8 : 572 ، الباب 138 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث 3.
2 ـ المحجة البيضاء 5 : 242.
3 ـ البحار 72 : 263 ، الحديث 48 ، ومستدرك الوسائل 9 : 86 ، الباب 120 من أبواب تحريم الكذب ، الحديث 15.
4 ـ البحار 72 : 263 ، الحديث 46.
5 ـ النحل : 105.


(13)
    ولذلك كله أطلق جماعة كالفاضلين (1) والشهيد الثاني (2) ـ في ظاهر كلماتهم ـ كونه من الكبائر ، من غير فرق بين أن يترتب على الخبر الكاذب مفسدة أو لا يترتب عليه شيء أصلا.
    ويؤيده ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وصيته لأبي ذر رضوان الله عليه : ( ويل للذي يحدث فيكذب ، ليضحك القوم ، ويل له ، ويل له ، ويل له (3) ) (4) ، فإن الأكاذيب المضحكة لا يترتب عليها غالبا إيقاع في المفسدة.

    [ هل الكذب كلّه من الكبائر؟ ]
    نعم ، في الأخبار ما يظهر منه عدم كونه على الإطلاق كبيرة ، مثل رواية أبي خديجة ، عن أبي عبد الله عليه السلام : إن ( الكذب على الله تعالى ورسوله من الكبائر ) (5). فإنها ظاهرة في اختصاص (6) الكبيرة بهذا الكذب الخاص ، لكن يمكن حملها على كون هذا (7) الكذب الخاص من الكبائر الشديدة العظيمة ، ولعل هذا أولى من تقييد المطلقات المتقدمة.
    وفي مرسلة سيف بن عميرة ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : ( كان
1 ـ لم نقف عليه في كتب المحقق والعلامة قدس سرهما ، نعم في القواعد ( 2 : 236 ) : أن الكبيرة ما توعد الله فيها بالنار. ومثله التحرير ( 2 : 208 ).
2 ـ الروضة البهية 3 : 129.
3 ـ محل ( ويل له ) الثالث بياض في ( ش ). وفي سائر النسخ : ويل له ، وويل له ، وويل له.
4 ـ الوسائل 8 : 577 ، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة ، ذيل الحديث 4.
5 ـ الوسائل 8 : 575 ، الباب 139 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث 3.
6 ـ كذا في ( ش ) ، وفي سائر النسخ : باختصاص.
7 ـ لم ترد ( هذا ) في ( ف ).


(14)
يقول علي بن الحسين عليهما السلام لولده : اتقوا الكذب ، الصغير منه والكبير ، في كل جد وهزل ، فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير ... الخبر ) (1). ويستفاد منه : أن عظم الكذب باعتبار ما يترتب عليه من المفاسد.

    [ هل الكذب من اللّمم؟ ]
    وفي صحيحة ابن الحجاج : ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام : الكذاب هو الذي يكذب في الشئ؟ قال : لا ، ما من أحد إلا ويكون منه ذلك ، ولكن المطبوع (2) على الكذب ) (3) ، فإن قوله : ( ما من أحد ... الخبر ) يدل على أن الكذب من اللمم الذي يصدر من كل أحد ، لا من الكبائر.
    وعن الحارث الأعور ، عن علي عليه السلام ، قال : لا يصلح من الكذب جد و [ لا ] (4) هزل ، ولا يعدن (5) أحدكم صبيه ثم لا يفي له ، إن الكذب يهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى النار ، وما زال أحدكم يكذب حتى يقال : كذب وفجر ... الخبر (6). وفيه أيضا إشعار بأن مجرد الكذب ليس فجورا.
    وقوله : ( لا يعدن أحدكم صبيه ثم لا يفي له ) ، لا بد أن يراد به
1 ـ الوسائل 8 : 577 ، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث الأول.
2 ـ كذا في ( ص ) ، وفي سائر النسخ : المطوع.
3 ـ الوسائل 8 : 573 ، الباب 138 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث 9.
4 ـ من الوسائل.
5 ـ في الوسائل : ولا أن يعد.
6 ـ الوسائل 8 : 577 ، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث 3.


(15)
    [ حكم الإنشاء المنبئ عن الكذب ]
النهي عن الوعد مع إضمار عدم الوفاء ، وهو المراد ظاهرا بقوله تعالى : ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) (1) ، بل الظاهر عدم كونه كذبا حقيقيا ، وأن إطلاق الكذب عليه في الرواية لكونه في حكمه من حيث الحرمة ، أو لأن الوعد مستلزم للإخبار بوقوع الفعل ، كما أن سائر الإنشاءات كذلك ، ولذا ذكر بعض الأساطين : أن الكذب وإن كان من صفات الخبر ، إلا أن حكمه يجري في الإنشاء المنبئ عنه ، كمدح المذموم ، وذم الممدوح ، وتمني المكاره (2) ، وترجي غير المتوقع ، وإيجاب غير الموجب ، وندب غير النادب ، ووعد غير العازم (3).

    [ خلف الوعد لايدخل في الكذب ]
    [ هل يحرم خلف الوعد؟ ]
    وكيف كان ، فالظاهر عدم دخول خلف الوعد في الكذب ، لعدم كونه من مقولة الكلام ، نعم ، هو كذب للوعد ، بمعنى جعله مخالفا للواقع ، كما أن إنجاز الوعد صدق له ، بمعنى جعله مطابقا للواقع ، فيقال : ( صادق الوعد ) و ( وعد غير مكذوب ). والكذب بهذا المعنى ليس محرما على المشهور وإن كان غير واحد من الأخبار ظاهرا في حرمته (4) ، وفي بعضها الاستشهاد بالآية المتقدمة.

    [ الكذب في الهزل ]
    ثم إن ظاهر الخبرين الأخيرين ـ خصوصا المرسلة ـ حرمة الكذب حتى في الهزل ، ويمكن أن يراد به : الكذب في مقام الهزل ، وأما نفس
1 ـ الصف : 3.
2 ـ في ( ف ) : وتمني ما يكره الكاره.
3 ـ شرح القواعد ( مخطوط ) : الورقة 20.
4 ـ انظر الوسائل 8 : 515 ، الباب 109 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث 2 و 3 ، وأيضا 11 : 270 ، الباب 49 من أبواب جهاد النفس ، الحديث 6 و 11.


(16)
الهزل ـ وهو الكلام الفاقد للقصد إلى تحقق مدلوله ـ فلا يبعد أنه غير محرم مع نصب القرينة على إرادة الهزل كما صرح به بعض (1) ، ولعله (2) لانصراف الكذب إلى الخبر المقصود ، وللسيرة.
    ويمكن حمل الخبرين على مطلق المرجوحية ، ويحتمل غير بعيد حرمته ، لعموم ما تقدم ، خصوصا الخبرين الأخيرين ، والنبوي في وصية أبي ذر رضي الله عنه (3) ، لأن الأكاذيب المضحكة أكثرها من قبيل الهزل.
    وعن الخصال بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أنا زعيم بيت في أعلى الجنة ، وبيت في وسط الجنة ، وبيت في رياض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا ، ولمن ترك الكذب وإن كان هازلا ، ولمن حسن خلقه ) (4).
    وقال أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام : ( لا يجد الرجل طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده ) (5).

    [ هل المبالغة في الإدّعاء من الكذب؟ ]
    ثم إنه لا ينبغي الإشكال في أن المبالغة في الادعاء وإن بلغت ما بلغت ، ليست من الكذب.
1 ـ لم نعثر على من صرح بذلك ، انظر مفتاح الكرامة 4 : 67 ، والجواهر 22 : 72.
2 ـ لم ترد : ( كما صرح به بعض ، ولعله ) في ( ف ).
3 ـ تقدم في الصفحة 13.
4 ـ الخصال 1 : 144 ، الحديث 170 ، والوسائل 8 : 568 ، الباب 135 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث 8.
5 ـ الوسائل 8 : 577 ، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث 2.


(17)
    وربما يدخل فيه إذا كانت في غير محلها ، كما لو مدح إنسانا (1) قبيح المنظر وشبه وجهه بالقمر ، إلا إذا بنى على كونه كذلك في نظر المادح ، فإن الأنظار تختلف في التحسين والتقبيح كالذوائق في المطعومات.

    [ التورية ليست من الكذب ]
    وأما التورية ، وهي (2) : أن يريد بلفظ معنى مطابقا للواقع وقصد من إلقائه أن يفهم المخاطب منه خلاف ذلك ، مما هو ظاهر فيه عند مطلق المخاطب ، أو المخاطب الخاص ـ كما لو قلت في مقام إنكار ما قلته في حق أحد : ( علم الله ما قلته ) ، وأردت بكلمة ( ما ) الموصولة ، وفهم المخاطب النافية ، وكما لو استأذن رجل بالباب فقال الخادم له : ( ما هو ها هنا ) وأشار إلى موضع خال في البيت (3) ، وكما لو قلت : ( اليوم ما أكلت الخبز ) ، تعني بذلك حالة النوم أو حالة الصلاة ، إلى غير ذلك ـ فلا ينبغي الإشكال في عدم كونها من الكذب.
    ولذا صرح الأصحاب فيما سيأتي من وجوب التورية عند الضرورة (4) ، بأنه يوري (5) بما يخرجه من الكذب ، بل اعترض جامع المقاصد على قول العلامة في القواعد ـ في مسألة الوديعة إذا طالبها ظالم ، بأنه ( يجوز الحلف كاذبا ، وتجب التورية على العارف بها ) ـ : بأن
1 ـ في ( ش ) : إنسان.
2 ـ كذا في نسخة بدل ( ص ) ، وفي النسخ : وهو.
3 ـ في ظاهر ( ف ) : في البيت خال.
4 ـ ستأتي تصريحاتهم في الصفحة 22 و 23. (5) في ( ش ) : يؤدي.


(18)
العبارة لا تخلو من (1) مناقشة ، حيث تقتضي ثبوت الكذب مع التورية ، ومعلوم أن لا كذب معها (2) ، انتهى.
    ووجه ذلك : أن الخبر باعتبار معناه ـ وهو المستعمل فيه كلامه ـ ليس مخالفا للواقع ، وإنما فهم المخاطب من كلامه أمرا مخالفا للواقع لم يقصده المتكلم من اللفظ.
    نعم ، لو ترتب عليها مفسدة حرمت من تلك الجهة ، اللهم إلا أن يدعى أن مفسدة الكذب ـ وهي الإغراء ـ موجودة فيها ، وهو ممنوع ، لأن الكذب محرم ، لا لمجرد الإغراء.

    [ المِلاك في اتّصاف الخبر بالكذب عند بعض الأفاضل ]
    وذكر بعض الأفاضل (3) : أن المعتبر في اتصاف الخبر بالصدق والكذب هو ما يفهم من ظاهر الكلام ، لا ما هو المراد منه ، فلو قال : ( رأيت حمارا ) وأراد منه ( البليد ) من دون نصب قرينة ، فهو متصف بالكذب وإن لم يكن المراد مخالفا للواقع ، انتهى موضع الحاجة.
    فإن أراد اتصاف الخبر في الواقع ، فقد تقدم أنه دائر مدار موافقة مراد المخبر ومخالفته للواقع ، لأنه معنى الخبر والمقصود منه ، دون ظاهره الذي لم يقصد.
    وإن أراد اتصافه عند الواصف ، فهو حق مع فرض جهله بإرادة خلاف الظاهر.
    لكن توصيفه ـ حينئذ ـ باعتقاد أن هذا هو مراد المخبر ومقصوده ،
1 ـ في غير ( ش ) : عن.
2 ـ جامع المقاصد 6 : 38.
3 ـ هو المحقق القمي في قوانين الاصول 1 : 419.


(19)
فيرجع الأمر إلى إناطة الاتصاف بمراد المتكلم وإن كان الطريق إليه اعتقاد المخاطب.

    [ ما يدلّ على سلب الكذب عن التورية ]
    ومما يدل على سلب الكذب عن التورية ما روي في الاحتجاج : ( أنه سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل ـ في قصة ابراهيم على نبينا وآله وعليه السلام ـ : ( بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا ينطقون ) (1) ، قال : ما فعله (2) كبيرهم وما كذب ابراهيم ، قيل : وكيف ذلك؟ فقال : إنما قال ابراهيم : ( إن كانوا ينطقون ) ، أي : إن نطقوا فكبيرهم فعل ، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا ، فما نطقوا وما كذب ابراهيم.
    وسئل عليه السلام عن قوله تعالى : ( أيتها العير إنكم لسارقون ) (3). قال : إنهم سرقوا يوسف من أبيه ، ألا ترى أنهم قالوا : ( نفقد صواع الملك ) (4) ولم يقولوا : سرقتم صواع الملك.
    وسئل عن قول الله عز وجل حكاية عن ابراهيم عليه السلام : ( إني سقيم ) (5) قال : ما كان ابراهيم سقيما وما كذب ، إنما عنى سقيما في دينه ، أي : مرتادا (6).
1 ـ الأنبياء : 63.
2 ـ في ( خ ) : ما فعل.
3 ـ يوسف : 70.
4 ـ يوسف : 72.
5 ـ الصافات : 89.
6 ـ الاحتجاج 2 : 105 مع اختلاف يسير ، والمرتاد : الطالب للشئ.


(20)
    وفي مستطرفات السرائر من كتاب ابن بكير ، قال : ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام : الرجل يستأذن عليه ، فيقول (1) للجارية : قولي : ليس هو ها هنا ، فقال : لا بأس ، ليس بكذب ) (2) ، فإن سلب الكذب مبني على أن المشار إليه بقوله : ( ها هنا ) موضع خال من الدار ، إذ لا وجه له سوى ذلك.
    وروي في باب الحيل من كتاب الطلاق للمبسوط : أن واحدا من الصحابة صحب واحدا آخر ، فاعترضهما في الطريق أعداء المصحوب ، فأنكر الصاحب أنه هو ، فأحلفوه ، فحلف لهم أنه أخوه ، فلما أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له : ( صدقت ، المسلم أخو المسلم ) (3).
    إلى غير ذلك مما يظهر منه ذلك (4).
1 ـ كذا في ( ص ) والمصدر ، وفي سائر النسخ : يقول.
2 ـ مستطرفات السرائر ( السرائر ) 3 : 632 ، والوسائل 8 : 580 ، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث 8.
3 ـ المبسوط 5 : 95.
4 ـ راجع الوسائل 8 : 578 ، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة.
المكاسب ـ جلد الثاني ::: فهرس