المكاسب ـ جلد الثاني ::: 91 ـ 100
(91)
قوامها ، ومالها الذي بها قيامها (1) ، وجاهها الذي به تمسكها (2) ، وتصون من عرف بذلك من أوليائنا وإخوانك (3) ، فإن ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك ، وتنقطع به عن عملك في الدين (4) وصلاح إخوانك المؤمنين.
    وإياك ثم إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها ، فإنك شائط بدمك ودماء إخوانك ، معرض بنعمتك ونعمهم (5) للزوال ، مذل لهم في أيدي أعداء دين الله ، وقد أمرك الله (6) بإعزازهم ، فإنك إن خالفت وصيتي كان ضررك على إخوانك ونفسك (7) أشد من ضرر الناصب لنا ، الكافر بنا ... الحديث ) (8).
    لكن لا يخفى أنه لا يباح بهذا النحو من التقية الإضرار بالغير ، لعدم شمول أدلة الإكراه لهذا ، لما عرفت من عدم تحققه مع عدم لحوق ضرر بالمكره ولا بمن يتعلق به ، وعدم جريان أدلة نفي الحرج ، إذ لاحرج على المأمور ، لأن المفروض تساوي من امر بالإضرار به ومن
1 ـ كذا في ( ص ) والمصدر ، وفي سائر النسخ : نظامها.
2 ـ في المصدر : تماسكها.
3 ـ في المصدر ونسخة بدل ( ص ) : إخواننا.
4 ـ في المصدر : عمل الدين.
5 ـ كذا في ( ن ) والمصدر ، وفي سائر النسخ : نعمتهم.
6 ـ لفظة الجلالة من ( ص ) والمصدر.
7 ـ في ( ص ) والمصدر : نفسك وإخوانك.
8 ـ الاحتجاج 1 : 355 ، ضمن حديث طويل ، وعنه الوسائل 11 : 479 ، الباب 29 من أبواب الأمر والنهي ، الحديث 11.


(92)
يتضرر بترك هذا الأمر ، من حيث النسبة إلى المأمور (1) ، مثلا لو امر الشخص بنهب مال مؤمن ، ولا يترتب على مخالفة المأمور به إلا نهب مال مؤمن آخر ، فلا حرج حينئذ في تحريم نهب مال الأول ، بل تسويغه لدفع النهب عن الثاني قبيح ، بملاحظة ما علم من الرواية المتقدمة من الغرض في التقية ، خصوصا مع كون المال المنهوب للأول أعظم بمراتب ، فإنه يشبه بمن فر من المطر إلى الميزاب ، بل اللازم في هذا المقام عدم جواز الإضرار بمؤمن ولو لدفع الضرر الأعظم عن (2) غيره. نعم ، إلا لدفع ضرر النفس في وجه ، مع ضمان ذلك الضرر.

    [ المناقشة في إطلاق تسويغ ما عدا إراقة الدم بالإكراه ]
    وبما ذكرنا ظهر : أن إطلاق جماعة (3) لتسويغ ما عدا الدم من المحرمات بترتب ضرر مخالفة المكره عليه على نفس المكره وعلى أهله أو على الأجانب من المؤمنين ، لا يخلو من (4) بحث ، إلا أن يريدوا الخوف على خصوص نفس بعض المؤمنين ، فلا إشكال في تسويغه لماعدا الدم من المحرمات ، إذ لا يعادل (5) نفس المؤمن شيء ، فتأمل.
    قال في القواعد : وتحرم الولاية من الجائر إلا مع (6) التمكن من
1 ـ في ( ف ) : المأمور به.
2 ـ في غير ( ف ) : من.
3 ـ راجع التحرير 1 : 163 ، والشرائع 2 : 12 ، والدروس 3 : 174 ، والرياض 1 : 510.
4 ـ في ( ف ) : عن.
5 ـ في النسخ : تعادل.
6 ـ في ( خ ) ، ( ع ) ، ( ص ) و ( ش ) زيادة : عدم.


(93)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو مع الإكراه بالخوف على النفس أو المال أو الأهل ، أو على بعض المؤمنين ، فيجوز (1) ائتمار (2) ما يأمره إلاالقتل (3) ، انتهى.
    ولو أراد ب‍ ( الخوف على بعض المؤمنين ) الخوف على أنفسهم دون أموالهم وأعراضهم ، لم يخالف ما ذكرنا ، وقد شرح العبارة بذلك بعض الأساطين ، فقال : إلا مع الإكراه بالخوف على النفس من تلف أو ضرر في البدن ، أو المال المضر بالحال من تلف أو حجب ، أو العرض من جهة النفس أو الأهل ، أو الخوف فيما عدا الوسط على بعض المؤمنين ، فيجوز حينئذ ائتمار ما يأمره (4) ، انتهى.
    ومراده ب‍ ( ما عدا الوسط ) الخوف على نفس بعض المؤمنين وأهله.

    [ الفرق بين الإكراه ودفع الضرر المخوف ]
    وكيف كان ، فهنا عنوانان : الإكراه ، ودفع الضرر المخوف عن نفسه وعن غيره من المؤمنين من دون إكراه.
    والأول يباح به كل محرم (5).
    والثاني إن كان متعلقا بالنفس جاز له كل محرم حتى الإضرار المالي بالغير ، لكن الأقوى استقرار (6) الضمان عليه إذا تحقق سببه ، لعدم
1 ـ لم ترد ( فيجوز ) في ( ف ).
2 ـ في ( ف ) والمصدر : اعتماد.
3 ـ القواعد 1 : 122.
4 ـ شرح القواعد ( مخطوط ) : الورقة 36.
5 ـ في ( ن ) زيادة : إلا القتل.
6 ـ لم ترد ( استقرار ) في ( ف ).


(94)
الإكراه المانع عن الضمان ، أو استقراره. وأما الإضرار بالعرض بالزنا ونحوه ، ففيه تأمل ، ولا يبعد ترجيح النفس عليه.
    وإن كان متعلقا بالمال ، فلا يسوغ معه الإضرار بالغير أصلا حتى في اليسير من المال ، فإذا توقف دفع السبع عن فرسه بتعريض حمار غيره للافتراس لم يجز.
    وإن كان متعلقا بالعرض ، ففي جواز الإضرار بالمال مع الضمان أو العرض الأخف من العرض المدفوع عنه ، تأمل.
    وأما الإضرار بالنفس ، أو العرض الأعظم ، فلا يجوز بلا إشكال. هذا ، وقد وقع في كلام بعض تفسير الإكراه بما يعم لحوق الضرر. قال في المسالك : ضابط الإكراه المسوغ للولاية : الخوف على النفس أو المال أو العرض عليه ، أو على بعض المؤمنين (1) ، انتهى.
    ويمكن أن يريد بالإكراه مطلق المسوغ للولاية ، لكن صار هذا التعبير منه رحمه الله منشأ لتخيل غير واحد (2) أن الإكراه المجوز لجميع المحرمات هو بهذا المعنى.
1 ـ المسالك 3 : 139.
2 ـ انظر الرياض 1 : 510 ، والمستند 2 : 351 ، والجواهر 22 : 168 وغيرها.


(95)
الثالث
    [ هل يعتبر العجز عن التفصّي من المكره عليه؟ ]
    أنه قد ذكر بعض مشايخنا المعاصرين (1) : أنه يظهر من الأصحاب أن (2) في اعتبار عدم القدرة على التفصي من المكره عليه وعدمه ، أقوالا ، ثالثها : التفصيل بين الإكراه على نفس الولاية المحرمة فلا يعتبر ، وبين غيرها من المحرمات فيعتبر فيه العجز عن التفصي.

    [ اعتبار العجز عن التفصّي إذا لم يكن حرجياً ولم يتوقّف على ضررٍ ]
    والذي يظهر من ملاحظة كلماتهم في باب الإكراه : عدم الخلاف في اعتبار العجز عن التفصي إذا لم يكن حرجا ولم يتوقف على ضرر ، كما إذا اكره على أخذ المال من مؤمن ، فيظهر أنه أخذ المال وجعله في بيت المال ، مع عدم أخذه واقعا ، أو أخذه جهرا ثم رده إليه سرا كما كان يفعله ابن يقطين ، وكما إذا أمره بحبس مؤمن فيدخله في دار واسعة من دون قيد ، ويحسن ضيافته ويظهر أنه حبسه وشدد عليه.
    وكذا لا خلاف في أنه لا يعتبر العجز عن التفصي إذا كان فيه ضرر كثير ، وكأن منشأ زعم الخلاف ما ذكره في المسالك في شرح عبارة الشرائع مستظهرا منه خلاف ما اعتمد عليه (3).
1 ـ لعل المراد به السيد المجاهد ، لكنه لم يسند الأقوال الثلاثة إلى ظاهر الأصحاب ، بل قال ـ بعد طرح المسألة ـ : ( فيه أقوال ـ إلى أن قال : ـ الثاني : ما استظهره في المصابيح من كلام بعض الأصحاب من التفرقة بين التولية وفعل المحرم ... ) انظر المناهل : 318 ، وانظر المصابيح ( مخطوط ) : 53.
2 ـ لم ترد ( أن ) في ( ف ) ، ( ن ) ، ( خ ) ، ( م ) و ( ع ).
3 ـ راجع المسالك 3 : 139.


(96)
    قال في الشرائع ـ بعد الحكم بجواز الدخول في الولاية ، دفعا للضرر اليسير مع الكراهة والكثير بدونها ـ : إذا أكرهه الجائر على الولاية جاز له الدخول والعمل بما يأمره (1) مع عدم القدرة على التفصي منه (2) (3) ، انتهى.
    قال في المسالك ما ملخصه : إن المصنف قدس سره ذكر في هذه المسألة شرطين : الإكراه ، والعجز عن التفصي ، وهما متغايران ، والثاني أخص. والظاهر أن مشروطهما (4) مختلف ، فالأول شرط لأصل قبول الولاية ، والثاني شرط للعمل بما يأمره.
    ثم فرع عليه : أن الولاية إن اخذت مجردة عن الأمر بالمحرم فلا يشترط في جوازه الإكراه ، وأما العمل بما يأمره من المحرمات فمشروط بالإكراه خاصة (5) ، ولا يشترط فيه الإلجاء إليه (6) بحيث لا يقدر على خلافه ، وقد صرح به الأصحاب في كتبهم ، فاشتراط (7) العجز عن التفصي غير واضح ، إلا أن يريد به أصل الاكراه ـ إلى أن قال : ـ إن
1 ـ كذا في ( ش ) والمصدر ومصححة ( م ) ، وفي ( ف ) ، ( ن ) ، ( خ ) ، ( م ) و ( ع ) : واعتماد ما يأمره ، وفي ( ص ) : وائتمار ما يأمره.
2 ـ في ( ش ) زيادة ما يلي : إلا في الدماء المحرمة ، فإنه لا تقية فيها.
3 ـ الشرائع 2 : 12.
4 ـ في ( ع ) و ( ص ) وظاهر ( م ) : شروطهما.
5 ـ في ( ف ) ومصححة ( م ) ونسخة بدل ( ع ) : بإكراه صاحبه.
6 ـ في ( ف ) ، ( خ ) ، ( م ) ، ( ع ) و ( ص ) : فيه.
7 ـ في ( ف ) ، ( م ) ، ( ع ) و ( ص ) : واشتراط.


(97)
الإكراه مسوغ لامتثال ما يؤمر به وإن قدر على المخالفة مع خوف الضرر (1) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه.
    أقول : لا يخفى على المتأمل أن المحقق رحمه الله لم يعتبر شرطا زائدا على الإكراه ، إلا أن الجائر إذا أمر الوالي بأعمال محرمة في ولايته ـ كما هو الغالب ـ وأمكن في بعضها المخالفة واقعا ودعوى الامتثال ظاهرا كما مثلنا لك سابقا (2) ، قيد امتثال ما يؤمر به بصورة العجز عن التفصي.
    وكيف كان ، فعبارة الشرائع واقعة على طبق المتعارف من تولية الولاة وأمرهم في ولايتهم بأوامر كثيرة يمكنهم التفصي عن بعضها ، وليس المراد بالتفصي المخالفة مع تحمل الضرر ، كما لا يخفى.
    ومما ذكرنا يظهر فساد ما ذكره (3) من نسبة الخلاف (4) المتقدم إلى الأصحاب من أنه على القول باعتبار العجز عن التفصي لو توقف المخالفة على بذل مال كثير لزم على هذا القول ، ثم قال : وهو أحوط ، بل وأقرب (5).
1 ـ راجع المسالك 3 : 139 ـ 140.
2 ـ في الصفحة 95.
3 ـ أي صاحب المناهل في أول هذا التنبيه ، فإنه وإن لم يصرح بوجود الخلاف ، لكن مجرد ذكر أقوال ثلاثة في المسألة دال عليه.
4 ـ في ( ش ) : من نسب عدم الخلاف.
5 ـ المناهل : 318.


(98)
الرابع
    [ جواز تحمّل الضرر المالي للفرار من الولاية ]
    أن قبول الولاية مع الضرر المالي الذي لا يضر بالحال رخصة ، لا عزيمة ، فيجوز تحمل الضرر المذكور ، لأن الناس مسلطون على أموالهم ، بل ربما يستحب تحمل ذلك الضرر للفرار عن تقوية شوكتهم.

الخامس
    [ الإكراه لا يبيح قتل المؤمن مطلقاً ]
    لا يباح بالإكراه قتل المؤمن ولو توعد على تركه بالقتل إجماعا ، على الظاهر المصرح به في بعض الكتب (1) ، وإن كان مقتضى عموم نفي الإكراه والحرج الجواز ، إلا أنه قد صح عن (2) الصادقين صلوات الله عليهما أنه : ( إنما شرعت التقية ليحقن بها الدم ، فإذا بلغت الدم فلا تقية ) (3).
    ومقتضى العموم أنه (4) لا فرق بين أفراد المؤمنين من حيث الصغر والكبر ، والذكورة والانوثة ، والعلم والجهل ، والحر والعبد وغير ذلك.

    [ الاكراه على قتل المؤمن المستحقّ للقتل ]
    ولو كان المؤمن مستحقا للقتل لحد ففي العموم وجهان : من إطلاق قولهم : ( لا تقية في الدماء ) ، ومن أن المستفاد من قوله عليه السلام : ( ليحقن بها الدم (5) فإذا بلغ الدم فلا تقية ) أن المراد الدم المحقون دون
1 ـ صرح به في : الرياض 1 : 510 ، والجواهر 22 : 169.
2 ـ كذا في ( ف ) ، وفي سائر النسخ : من.
3 ـ الوسائل 11 : 483 ، الباب 31 من أبواب الأمر والنهي ، الحديث 1 و 2.
4 ـ في غير ( ش ) : أن.
5 ـ في غير ( ش ) : به الدماء.


(99)
المأمور بإهراقه ، وظاهر المشهور الأول.
    وأما المستحق للقتل قصاصا فهو محقون الدم بالنسبة إلى غير ولي الدم.

    [ الاكراه على قتل غير المؤمن ]
    ومما ذكرنا يظهر سكوت الروايتين عن حكم دماء أهل الخلاف ، لأن التقية إنما شرعت لحقن دماء الشيعة ، فحدها بلوغ دمهم ، لا دم غيرهم.
    وبعبارة اخرى : محصل (1) الرواية لزوم نقض الغرض من تشريع التقية في إهراق الدماء ، لأنها شرعت لحقنها فلا يشرع لأجلها إهراقها. ومن المعلوم أنه إذا اكره المؤمن على قتل مخالف فلا يلزم من شرعية التقية في قتله إهراق ما شرع التقية لحقنه.
    هذا كله في غير الناصب ، وأما الناصب فليس محقون الدم ، وإنما منع منه حدوث الفتنة ، فلا إشكال في مشروعية قتله للتقية.
    ومما ذكرنا يعلم حكم دم الذمي وشرعية التقية في إهراقه.
    وبالجملة ، فكل دم غير محترم (2) بالذات عند الشارع خارج عن مورد الروايتين ، فحكم إهراقه حكم سائر المحرمات التي شرعت التقية فيها.

    [ هل يشتمل الدم الجرح وقطع العضو؟ ]
    بقي الكلام في أن الدم يشمل (3) الجرح وقطع الأعضاء ، أو يختص
1 ـ كذا في ( ف ) ، ( خ ) ، ( ص ) ، ( ش ) ونسخة بدل ( ع ) و ( ن ) ومصححة ( م ) ، وفي ( ن ) ، ( م ) و ( ع ) ونسخة بدل ( خ ) : محل.
2 ـ في ( ن ) ، ( خ ) و ( ع ) وظاهر ( ف ) : محرم.
3 ـ في ( ف ) : يشتمل.


(100)
بالقتل؟ وجهان :
    من إطلاق الدم ، وهو المحكي عن الشيخ (1).
    ومن عمومات التقية ونفي الحرج والإكراه ، وظهور الدم المتصف بالحقن في الدم المبقي للروح ، وهو المحكي (2) عن الروضة (3) والمصابيح (4) والرياض (5) ، ولا يخلو عن قوة.
1 ـ حكاه الشهيد الثاني في المسالك 3 : 141 ، فقال : ( وبه صرح الشيخ رحمه الله في الكلام ) ، انظر كتاب الاقتصاد : 240.
2 ـ حكاه السيد المجاهد في المناهل : 317.
3 ـ الروضة البهية 2 : 420.
4 ـ المصابيح ( مخطوط ) : 52.
5 ـ الرياض 1 : 510.
المكاسب ـ جلد الثاني ::: فهرس