كتاب بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثامن ::: 81 ـ 90
(81)
التي اعتبرتها الدولة العباسية منافية لقوانينها. والمعروف انّه توجه إلى « سلَمية » ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة ، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستراً بقية حياته.
    مات في البصرة سنة 143 هـ ـ ، وكان أخوه موسى بن جعفر « الكاظم » حجاباً عليه ، أمّا ولي عهده محمد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (1)
    وعلى ما ذكره القائل ـ خلافاً لاَكثر الاِسماعيلية ـ فقد مات في حياة أبيه ، فكيف يكون إماماً بعد أبيه وهو رهين التراب؟!

اسطورة حياته بعد رحيل أبيه
    غير أنّ بعضهم يجازفون في القول ، ويدعون أمراً خارقاً للعادة ، ويقولون : والاَمر الهام في قضية إسماعيل وإمامته ، هو أنّه عاش بعد أبيه ، وأثبت هذا الخبر كثيرون من الموَلفين المعاصرين له مما يدل على أنّ إسماعيل بقى بعد أبيه اثنتي عشرة سنة.
    ولقد حكى أنّ إسماعيل حين ترك المدينة سرّاً ، رُئي ثانية في البصرة ، حيث بلغ رفعة ، بما أظهر من مقدرة نادرة بشفاء المرضى والمعلولين ، وخشية من اكتشاف الاَمر ، ترك البصرة ورحل إلى سوريا واستقر فيها ، ولكن ليس بطمأنينة تامّة حيث حالما سمع الخليفة « المنصور » الذي كان يحكم الجزيرة العربية ، بوجود إسماعيل ، أمر واليه في دمشق بإرساله إسماعيل تحت الحراسة إلى بلاطه ، ولكنَّ الوالي لم يكن يحترم الاِمام إسماعيل فحسب ، بل كان من أتباعه ، وبناء عليه ولينقذ الوالي سيده الروحي ، نصح الاِمام أن يترك سوريا لعدّة أيّام ، وما أن ابتعد
    1 ـ عارف تامر : الاِمامة في الاِسلام : 180.

(82)
الاِمام عن سوريا ، حتى أعلن الوالي التفتيش الدقيق عنه ، وكتب للخليفة أنّه لم يجد لاِسماعيل أثراً في أيّ مكان. (1)
    أقول : ما ذكره انّ كثيراً من الموَلفين المعاصرين لاِسماعيل أثبتوا حياته بعد وفاة أبيه ، شيء لم يدعمه بالدليل ، فَمَنْ هوَلاء الموَلّفون المعاصرون الذين أثبتوا حياته بعد الاِمام الصادق ، وما هي كتبهم؟! نعم أوعز الكاتب في الهامش إلى عمدة الطالب ، وتقدم نصُّهُ (2) وليس فيه أيُّ إشارة إلى ذلك ، فضلاً عن إشارته إلى كثيرٍ من الموَلفين المعاصرين للاِمام إسماعيل ، هكذا تحرّف الحقائق بيد العابثين اللاعبين بتاريخ أُمتنا المجيدة ، أو بيد سماسرة الاَهواء فيبيحون الكذب لدعم المذهب.
    وقد اعترف بهذه الحقيقة الكاتب الاِسماعيلي عامر تامر حيث قال : هناك أقوال كثيرة لموَرخين يوَكدون فيها أنّه مات في عهد والده ، وأنّ قصة ظهوره في البصرة أُسطورة لا تقوم على حقيقة ، ومهما يكن من أمر فالاِسماعيليون اشتهروا بالتخفّي والاستتار ، والمحافظة على أئمّتهم. لذلك ليس بعيداً أن تكون الرواية الاَُولى صحيحة. (3)
    إنّ تفسير قصة وفاة إسماعيل بالتمويه والتغطية فكره ورثها الجُدُد من الاِسماعيلين عن أسلافهم ، قال مصطفى غالب : « ولكن أغلب موَرّخي الاِسماعيلية يقولون : إنّ قصة وفاة إسماعيل في حياة أبيه كانت قصة أرادَ بها الاِمام جعفر الصادق التمويه والتغطية على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور ، الذي كان يُطارد أئمة الشيعة في كلّمكان ، وتحت كلّ شمس ، فخاف جعفر الصادق على ابنه وخليفته إسماعيل ، فادّعى موته وأتى بشهود كتبوا المحضر إلى الخليفة
    1 ـ أ.س. بيكلي : مدخل إلى تاريخ الاِسماعيلية : 20.
    2 ـ مرّ نصّه ص 72.
    3 ـ عارف تامر : الاِمامة في الاِسلام : 180 ـ 181.


(83)
العباسي ، الذي أظهر سروراً وارتياحاً لوفاة إسماعيل الذي كان إليه أمر إمامة الشيعة ، ثمّ شُوهِد إسماعيل بعد ذلك في البصرة ، وفي بعض البلدان الفارسية. وعلى هذا الاَساس لم تسقط الاِمامة عن إسماعيل بالموت قبل أبيه لاَنّه مات بعد أبيه. (1)
    ويقول في موضع آخر : ورأينا الاَخير في هذا الموضوع بعد أن اطّلعنا على جميع ما كتب حول إمامة إسماعيل ، نقول : بأنّالاِمام جعفر الصادق قد شعر بالاَخطار التي تهدِّد حياة ابنه الاِمام إسماعيل ، بعد أن نصّ عليه ، وأصبح وليّاً للعهد ، فأمره أن يستتر وكان ذلك عام 145 هـ ، خشية نقمة الخلفاء العباسيين وتدبّر الاَمر بأن كتب محضراً بوفاته ، وشهد عليه عامل المنصور ، الذي كان بدوره من الاِسماعيلين.
    و فوراً توجه إسماعيل إلى سلمية ، ومنها إلى دمشق ، وعلم المنصور بذلك ، فكتب إلى عامله أن يلقي القبض على الاِمام إسماعيل ، ولكن عامله المذكور كان قد اعتنق المذهب الاِسماعيلي ، فعرض الكتاب على الاِمام إسماعيل ، الذي ترك البلاد نحو العراق حيث شوهد بالبصرة عام 151 هـ ، وقد مرّ على مقعد فشفاه بإذن اللّه ، ولبث الاِمام إسماعيل عدّة سنوات يتنقل سرّاً بين أتباعه ، حتى توفي بالبصرة عام 158 هـ .
    ويوَكد كتاب دستور المنجمين أنّ إسماعيل هو أوّل إمام مستور وكان بدء ستره سنة 145 هـ ولم يمت إلاّ بعد سبع (2) سنين ». (3)
    ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال ، ولم يكن الاِمام الصادق (عليه السّلام) ولا
    1 ـ مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الاِسماعيلية : 16 ترى أنّالموَرخ الاَوّل الاِسماعيلي يذكر موته في حياة أبيه وهذا يوَكد على موته بعده ، فما هو الحق؟ وما هو المتوقع من مذهب حجر أساسه الريب والشك؟!!
    2 ـ فيكون وفاته على هذا عام 151 ، لا عام 158 كما ذكره قبل سطر.
    3 ـ مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الاِسماعيلية : 142 ـ 143.


(84)
أصحابه الاَجلاّء ، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السرية ، حتى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس ، وهوبعدُ حيّ يُرزق ، ولم يكن عامل الخليفة بالمدينة المنورة بليداً ، يكتفي بالتنويه ، حتى يتسلَّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العباسية.
    والعجب أنّ الكاتب يذكر في كلامه الثاني أنّعامل الخليفة في المدينة كان بدوره من الاِسماعيليين ، مع أنّه لم يكن في ذلك اليوم أثر للاِسماعيلية : « وكانت الاِمامة لاَبيه الاِمام الصادق (عليه السّلام) فكيف يكون في حياة الصادق (عليه السّلام) من الاِسماعيلية؟! وأعجب منه أنّه يعتمد في إثبات معتقده بدستور المنجمين ، ثمّ يذكر له مصدراً في التعليقة بالشكل التالي « بلوشيه 57 ـ 58 دى خويه 203 ».
    إنّ عقيدة إسلامية مبنيّة على تنبّوَ المنجمين ـ وما أكثر أخطائهم ـ عقيدةٌمنهارةٌ وفاشلة.
    و لو أنّ هوَلاء التجأوا في تصحيح إمامة ابنه ، محمد بن إسماعيل إلى القول بعدم بطلان إمامة إسماعيل بموته في حياة والده ، ولمّا توفي الاِمام الصادق تسلّم عبد اللّه بن إسماعيل الاِمامة من والده ، لكان أرجح من اللجوء إلى بعض الاَساطير التي لا قيمة علمية لها في مجالات البحوث التاريخية والعقائدية المبتنية على أُسس علمية دقيقة.
    والحقّ أنّه توفي أيام حياة أبيه ، بشهادة الاَخبار المتضافرة التي تعرفت عليها ، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمالها؟! وستر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يعلن بها موته فانّه منهج وأُسلوب السياسيين المخادعين ، المعروفين بالتخطيط والموَامرة ، ومن يريد تفسير فعلَ الاِمام عن هذا الطريق فهو من هوَلاء الجماعة « وكلّ إناء بالذي فيه ينضح ». وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه؟!


(85)
    والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لاِسماعيل ولا لولده الاِمام الثاني ، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولده ، بشهادة أنّ المهدي العباسي الذي تسلم عرش الخلافة بعد المنص ـ ور العباسي 158 ـ 169 هـ كان متشدداً على أصحاب الاَهواء والفرق ، وكتب له ابن المفضل صنوف الفرق صنفاً صنفاً ، ثمّ قرأ الكتاب على الناس ، فقال يونس : قد سمعت الكتاب يقرأ على الناس على باب الذهب بالمدينة ، ومرّة أُخرى بمدينة الوضاح ، فقال : إنّ ابن المفضل صنف لهم صنوف الفرق فرقة فرقة حتى قال في كتابه : وفرقة يقال لهم الزرارية ، وفرقة يقال لهم العمارية أصحاب عمار الساباطي ، وفرقة يقال لهم اليعفورية ، ومنهم فرقة أصحاب سليمان الاَقطع ، وفرقة يقال لهم الجواليقية. قال يونس : ولم يذكر يومئذ هشام بن الحكم ولا أصحابه. (1)
    ترى انّه يذكر جميع الفرق المزعومة للشيعة ، حتى يذكر العمارية المنسوبة إلى عمار الساباطي الذي لم يكن له يوم ذاك أيّ تابع إلاّ كونه فطحياً موَمناً بإمامة عبد اللّه الاَفطح ، ولا يذكر الاِسماعيلية ؟! فلو كانت لاِسماعيل دعوة سرية أيّام المنصور ، ثمّ لابنه محمد ، حيث كانا ينتقلان من بلد إلى بلد ، كان من المحتّم مجيء اسمه في قائمة أصحاب الاَهواء. كلّ ذلك يدلّ على أنّ المذهب قد نشأ بعد لاَي من الدهر.
    إلى هنا تمّ البحث في الاِمام الاَوّل ، وكانت حصيلته هي :
    أنّ الرجل كان رجلاً ثقة ، محبوباً للوالد ، وتُوفي في حياة والده وهو عنه راض ، ولم تكن له أيُّ دعوةٍ للاِمامة ، ولم تظْهر أيَّ دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العباسي الذي تُوفي عام 169 هـ ، وقد مضى على وفاة الاِمام الصادق (عليه السّلام) إحدى وعشرون سنة.
    1 ـ الكشي : الرجال : 227.

(86)
الاِمام الثاني
محمد بن إسماعيل
(132 ـ 193 هـ)
    محمد بن إسماعيل ، هو الاِمام الثاني للاِسماعيلية ، قال ابن عنبة : أعقب إسماعيل من محمد وعلي ابني إسماعيل ، أمّا محمد بن إسماعيل فقال شيخ الشرف العبيدلي : هو إمام الميمونية وقبره ببغداد.
    ويصفه الكاتب الاِسماعيلي أنّه ولد سنة 141 في المدينة عندما توفي والده الاِمام إسماعيل ، اضطر لترك المدينة خوفاً من مراقبة الرشيد العباسي ، الذي استطاع بنشاطه من إخماد كافة الثورات والدعوات الاِمامية ، فذهب إلى الكوفة ، ومنها إلى فرغانة ، ثمّ إلى نيسابور ، عمل على نشر دعوته بنشاط في الجزيرة العربية ، وفي كافة البلدان الاِسلامية ، وقد استطاع التموية على الخلفاء العباسيين والاِفلات من قبضتهم ، وهم المهدي والهادي والرشيد.
    إزداد تستراً بعد أن أعطى الرشيدُ أمراً بالقبض عليه ، ثمّ إنّه رَحَل إلى الريّ ومنها إلى نهاوند ، وفيها عقد زواجه على ابنة أميرها أبي المنصور بن جوشن ، وبعد ذلك توجه إلى « تدْمُر » في سوريا حيث جعلها مركزاً لاِقامته ونشر دعوته ، وجّه الرشيد جيشاً لاِلقاء القبض عليه عندما كان في نهاوند ، ولكن أتباعه تمكنوا من الانتصار على الجيش المذكور وردّوه خائباً.
    يقال أنّه هو الذي أرسل الداعيين : الحلواني وأبا سفيان إلى المغرب ، تُوفِي


(87)
في مدينة « تَدْمر » و دفن في جبل واقع إلى الشمال الغربي منها ، ويعرف حتى الآن بضريح محمد بن علي ، وفاته سنة 193 هـ .
    يقال إنّ حجته هو ميمون القداح ، والحقيقة أنّ الاِمام محمد بن إسماعيل هو نفسه كان يحمل لقبي ميمون والقداح.
    ترك عدداً من الاَولاد ومنهم عبد اللّه الذي كان وليّاً للعهد. (1)
    أقول : للقارىَ الكريم أن ينظر إلى كلمات ذلك الكاتب بنظر الشك والريبة ، ويتفحّص عن مآخذ كلامه ومصادر نقله ، فإنّ ما وقفنا عليه في السير والآثار لا يدعم كلامه ، وذلك للاَسباب التالية :
    1 ـ إنّ شيخ الشرف العبيدلي قال : إنّه توفي ببغداد ، وقبره هناك ، والكاتب يذكر أنّه توفي بـ « تدمر » بسوريا ، وقبره هناك ، وله ضريح معروف بضريح « محمد بن علي » ولكن من أينَ علم انّه ضريح محمد بن إسماعيل؟! وأنّه حُرِّفَ اسم والده.
    2 ـ الروايات المتضافرة من الفريقين تشهد على أنّه كانت بينه وبين الرشيد صلة وكان موقفه منه ، موقف العين ، وقد أخبره بما يجري في أوساط العلويين ، من جمع الاَموال للثورة ، والدعوة إلى الاِمامة.و من هذه الروايات التي وقفنا عليها :
    روى ابن عنبة ، عن أبي القاسم بن إسماعيل نسابة المصريين ، أنّ موسى الكاظم (عليه السّلام) كان يخاف ابن أخيه محمد بن إسماعيل ، ويبرّه ، وهو لا يترك السعي به إلى السلطان من بني العباس.
    وقال أبو نصر البخاري : كان محمد بن إسماعيل بن الصادق (عليه السّلام) مع موسى الكاظم (عليه السّلام) يكتب له السر إلى شيعته في الآفاق. فلما ورد الرشيد الحجاز ، سعى (2)
    محمد بن إسماعيل بعمه إلى الرشيد. فقال : أعلمتَ أنّفي الاَرض خليفتين
    1 ـ عارف تامر : الاِمامة في الاِسلام : 181.
    2 ـ ذكر الشيخ المفيد أنّ الساعي بعمه الكاظم (عليه السّلام) إلى الرشيد هو علي بن إسماعيل لا أخوه محمد. وذكر قصة السعاية أُنظر (الاِرشاد) باب ذكر السبب في وفاته (عليه السّلام).


(88)
يجبى إليهما الخراج؟ فقال الرشيد : ويلك أنا ومن؟ قال : موسى بن جعفر. وأظهر أسرارَه فقبض الرشيد على موسى الكاظم (عليه السّلام) و حبسه ، وكان سبب هلاكه ، وحظى محمد بن إسماعيل عند الرشيد ، وخرج معه إلى العراق ، ومات ببغداد ، ودعا عليه موسى بن جعفر عليمها السّلام بدعاء استجابه اللّه تعالى فيه وفي أولاده ، ولمّا لِيْمَ (1) موسى بن جعفر عليمها السّلام في صلة محمد بن إسماعيل والاتصال مع سعيه به. قال : إنّي حدثني أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، الرحم إذا قُطِعتَ فوَصَلْتَ ثمّ قُطِعَتْ فَوصلت ثمّ قُطِعْتَ فوصلتَ ثمُ قُطِعَت قطعها اللّه تعالى ، وإنّما أردتُ أن يقطع اللّه رحمه من رحمي. (2)
    هذا ما رواه ابن عنبة من طرق أهل السنّة ، كما رواه محدّثوا الشيعة ونأتي بنصّ أفضلهم وأوسعهم اطلاعاً ، أعني : الشيخ الكليني المتوفى عام 329 هـ في الكافي.
    روى الكليني بسند صحيح (3) عن علي بن جعفر قال : جاءني محمد بن إسماعيل وقد اعتمرنا عمرة رجب ، ونحن يومئذ بمكة ، فقال : يا عمُّ إنّي أُريد بغداد ، وقد أحببتُ أن أُودِّعَ عمي أبا الحسن ـ يعني موسى بن جعفر (عليه السّلام) ـ وأحببت أن تذهبَمعي إليه ، فخرجتُ معه نحو أخي ، وهو في داره التي بالحوبة ، وذلك بعد المغرب بقليل ، فضربت البابَ فأجابني أخي ، فقال : مَنْ هذا؟ فقلت : علي ، فقال : هو ذا أُخرِجُ ـ وكان بطيء الوضوء ـ فقلت : العجل ، قال : واعجل فخرج وعليه ازار ممشّق (4) قد عقده في عنقه حتى قعد تحت عتبة الباب ، فقال عليّ بن جعفر : فانكببتُ عليه فقبّلتُ رأسه ، وقلت : قد جئتك في أمر إن تره صواباً
    1 ـ فعل ماضي مجهول من اللوم.
    2 ـ ابن عنبة : عمدة الطالب : 233.
    3 ـ رواه عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى العبيدي ، عن موسى بن القاسم البجلي و هو نجل معاوية بن وهب البجلي ، عن علي بن جعفر ، والرواة ثقات والرواية صحيحة.
    4 ـ أي مصبوغ بالمشق وهو الطين الاَحمر.


(89)
فاللّه وفق له ، وإن يكن غير ذلك ، فما أكثر ما نخطىَ ، قال : وما هو؟ قلتُ : هذا ابن أخيك يريد أن يودعك ويخرجَ إلى بغداد ، فقال لي : أُدعه ، فدعوتُه وكان متنحيّاً ، فدنا منه فقبّل رأسه.
    وقال : جعلت فداك أوصني فقال : أُوصيك أن تتقي اللّه في دمي ، فقال مجيباًله : من أرادك بسوء فعل اللّه به ، وجعل يدعو على من يريده بسوء ، ثمّ عاد فقبّل رأسه ، فقال : يا عمُّ أوصني ، فقال : أُوصيك أن تتقي اللّه في دمي ، فقال : من أرادك بسوء فَعَلَ اللّه به وفعل ، ثمّ عاد فقبّل رأسه ، ثمّ قال : يا عم أوصني ، فقال : أُوصيك أن تتقي اللّه في دمي ، فدعا على من أراده بسوء ، ثمّتنحّى عنه ، ومضيت معه ، فقال لي أخي : يا عليّ مكانَك فقمتُ مكاني فدخل منزله ، ثمّدعاني فدخلتُ إليه ، فتناول صرّة فيها مائة دينار فأعطانيها. وقال : قل لابن أخيك يستعين بها على سفره ، قال عليّ : فأخذتها فأدرجتها في حاشية ردائي ، ثمّ ناولني مائة أُخرى وقال : أعطه أيضاً ، ثمّناولني صرة أُخرى وقال : أعطه أيضاً.
    فقلت : جعلت فداك ، إذا كنتَتخاف منه مثلَ الذي ذكرتَ ، فلِمَ تعينه على نفسك؟ فقال : إذا وصلتُه وقطعني قطع اللّه أجله ، ثمّتناول مخدَّه أدم ، فيها ثلاثة آلاف درهم وضح (1) وقال : أعطه هذه أيضاً قال : فخرجت إليه فأعطيته المائة الاَُولى ففرح بها فرحاً شديداً ودعا لعمِّه ، ثمّ أعطيته الثانية والثالثة ففرح بها حتى ظننت انّه سيرجع ولا يخرج ، ثمّ أعطيته الثلاثة آلاف درهم فمضى على وجهه حتى دخل على هارون فسلّم عليه بالخلافة ، وقال : ما ظننتُ أنّفي الاَرض خليفتين ، حتى رأيت عمي موسى بن جعفر يُسلَّم عليه بالخلافة ، فأرسل هارون إليه بمائة ألف درهم فرماه اللّه بالذبحة (2) فما نظر منها إلى درهم ولا مسّه. (3)
    1 ـ الوضح : الدرهم الصحيح. لسان العرب : 2/635 ، مادة « وضح ».
    2 ـ الذبحة : وجع في الحلق ، أو دم يخنق فيقتل. لسان العرب : 2/438 ، مادة « ذبح ».
    3 ـ الكليني : الكافي : 1/485 ـ 486.


(90)
    روى الكشي في رجاله ، عن أبي جعفر محمد بن قولويه القمي ، قال : حدثني بعض المشايخ ، عن علي بن جعفر بن محمد عليمها السّلام ، قال : جاءني محمد بن إسماعيل ابن جعفر يسألني أن أسأل أبا لحسن موسى (عليه السّلام) ، أن يأذن له في الخروج إلى العراق ، وأن يرضى عنه ويوصيه بوصيّة ، قال : فتجنّبت حتى دخل المتوضّى ... فلمّا خرج قلت له : إنّابن أخيك محمد بن إسماعيل ، يسألك أن تأذن له في الخروج إلى العراق ، وأن توصيه. فأذن له (عليه السّلام) ، فلمّا رجع إلى مجلسه قام محمد بن إسماعيل ، وقال : يا عم أحبَّ أن توصيني. فقال : « أُوصيك أن تتقي اللّه في دمي ». فقال : لعن اللّه من يسعى في دمك. ثمّ قال : يا عم أوصني ، فقال : « أُوصيك أن تتقي اللّه في دمي ». قال : ثمّ ناوله أبو الحسن (عليه السّلام) صرة فيها مائة وخمسون ديناراً ، فقبضها محمد ، ثمّ ناوله أُخرى فيها مائة وخمسون ديناراً ، فقبضها ، ثمّ أعطاه صرة أُخرى فيها مائة وخمسون ديناراً ، فقبضها ثمّ أمر له بألف وخمسمائة درهم كانت عنده. فقلتُ له في ذلك : استكثرته؟ فقال : « هذا ليكون أوكد لحجّتي إذا قطعني ووصلتُه ». قال : فخرج إلى العراق ، فلمّا ورد حضرة هارون أتى باب هارون بثياب طريقه قبل أن ينزل ، واستأذن على هارون وقال للحاجب : قل لاَمير الموَمنين إنّ محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بالباب. فقال الحاجب : انزل أوّلاً وغيّر ثياب طريقك وَ عُدْ لاَُدخلك إليه بغير إذن فقد نام أمير الموَمنين في هذا الوقت. فقال : أعلم أمير الموَمنين انّي حضرتُ ولم تأذن لي ، فدخل الحاجب وأعلم هارون قول محمد بن إسماعيل ، فأمر بدخوله ، فدخل قال : يا أمير الموَمنين خليفتان في الاَرض موسى بن جعفر بالمدينة يجبى له الخراج وأنت بالعراق يجبى لك الخراج. فقال : واللّه؟! فقال : واللّه. فقال : واللّه؟! قال : فأمر له بمائة ألف درهم ، فلمّا قبضها وحمل إلى منزله أخذته الريحة في جوف ليلته ، فمات ، وحول من الغد المال الذي حمل إليه. (1)
    1 ـ الكشي : الرجال : 226 ، في ترجمة هشام بن الحكم.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثامن ::: فهرس