كتاب بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثامن ::: 101 ـ 110
(101)
وأهلُه الذين قد كانوا معه لمّا مضى كلّهم لصلبه قد دخلوا في جملة الرعية و كلهم له دعاة تسري يعرفهم في كل عصر وزمن والاهم ، وكلُّ أوليائهم ولم يكن يمنعني من ذكرهم و ليس لي بأن أقول جهراً وهم على الجملة كانوا استتروا بل دخلوا في جملة السواد حتى إذا انتهى الكتاب أجله بمنّه مفتاحَ قفل الدين فقام بالاَمر ، وقاموا أربعة مستترين بعده بحسبه لشدة المحنة والرزية ودعوة في الناس كانت تجري وكل حين وأوان ، كلُّ مَن يعلم ما علم من أسمائهم إلاّ احتفاظي بمصون سرهم (1) ما كان قد أَُُدّي إليّ سرّاً و لم يكونوا إذ تولّوا ظهروا لخوفهم من سطوة الاَعادي وصار أمر اللّه فيمن جعله أيّده بالنصر والتمكين (2)
    و ممّا ينبغي إلفات القارىَ إليه انّ القاضي في كتابه « الاَُرجوزة المختارة » وإن ذكر في المقام استتار الاَئمة بعد رحيل الاِمام الصادق وهو يوافق عقيدة الاِسماعيلية ، لكنّه في مقام الرد والنقد ، رد على جميع الفرق الشيعية ماعدا الاِمامية الاثني عشرية ، فقد رد على مقالات الحريرية ، الراوندية ، الحصينية ، الزيدية ، الجارودية ، البترية ، المغيرية ، الكيسانية ، الكربية ، البيانية ، المختارية ، الحارثية ،
    1 ـ لوصحّ ما ذكره يجب على سائر الدعاة سلوك مسلكه وعدم التنويه بأسمائهم ، لكن المشهور خلافه ، ولعلّ الاختلاف في أسمائهم وسائر خصوصياتهم دفعه إلى هذا الاعتذار.
    2 ـ القاضي النعمان : الاَرجوزة المختارة : 191 ـ 192 ، والاَُرجوزة تبحث عن قضية الاِمامة منذ وفاة الرسول ، إلى عصره ، والظاهر أنّه ألّفها في عهد الخليفة الفاطمي الثاني القائم بأمر اللّه وكان حكمه من سنة 322 إلى 334 كما استظهر محقّق الكتاب.


(102)
العباسية ، الرزامية. و لم يردّ على الاِمامية بشيء فلو لم يكن المذهب الاثنا عشري مرضيّاً عنده لما فاته التعرض عليه ، كيف وهو من أعظم فرق الشيعة؟!
    وهذا يدل على أنّ الموَلف كان إمامياً اثني عشرياً ـ حسب رأي المحدّث النوري ـ ، ويعيش في حال التقية في عصر الخليفة الفاطمي المعزّ بدين اللّه في القاهرة ويجاريه ، وقد ألف دعائم الاِسلام ، الذي اعتمدت عليه الاِسماعيلية والاثنا عشرية ، وإنّما المهم هو كتاب « تأويل الدعائم » الذي انفرد المذهب الاِسماعيلي في الاعتماد عليه.ولعلّه كان هناك مبرر لتأليف هذا الكتاب وما ماثله واللّه العالم.
    و مع ذلك سيوافيك ما يخالف هذا الرأي في الفصل الثالث عشر ضمن ترجمة أبي حنيفة النعمان.
    إلى هنا تمت ترجمة سيرة الاَئمّة المستورين ، فلوجعلنا إسماعيل بن جعفر أوّل الاَئمّة ، فالاَئمّة المستورون خمسة وهم :
    1 ـ إسماعيل بن جعفر ، وقد عرفت أنّه لم تكن له أيّة دعوة ، وإنّما ذكرناه في هذه القائمة مجاراة للقوم.
    2 ـ محمد بن إسماعيل ، ولم تثبت عندنا له دعوة ، بل كان يتعاطى مع هارون الرشيد على ما عرفت.
    3 ـ عبد اللّه بن إسماعيل ، المعروف بالوفي.
    4 ـ الاِمام أحمد بن عبد اللّه ، المعروف بالتقي.
    5 ـ الحسين بن أحمد ، المعروف بالرضي.
    وعلى هذا فالاِمام السادس أعني عبيد اللّه المهدي ـ الذي خرج عن كهف الاستتار ، وأسّس دولة إسماعيلية بإفريقية ـ هو ابن الاِمام السابق ، أعني : الحسين بن أحمد ، وعلى ذلك جرى موَرخو الاِسماعيلية فيذكرونه ابناً للاِمام السابق ، ومع


(103)
ذلك ففي نسبه خلاف كما سيوافيك تفصيله.
    تتمة
    الموجود في كتب أنساب الطالبيين أنّ محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق لم يعقّب إلاّ من رجلين ، ولم يتعرّضوا لعبد اللّه بن محمد ، فضلاً عن أحمد بن عبد اللّه وولده الحسين.
    قال الرازي : ولمحمد بن إسماعيل هذا من الاَولاد المعقبين اثنان : إسماعيل الثاني ، وجعفر الاَكبر السلامي. (1)
    وقال أبو طالب الاَزوَرقاني : وعقّب محمد من رجلين : جعفر الاَكبر السلامي ، وإسماعيل الثاني. (2)
    وقال ابن عنبة : وأعقب محمد بن إسماعيل من رجلين : إسماعيل الثاني ، وجعفر الشاعر « السلامي ». (3)
    نعم ذكر الشهرستاني : انّ ثلاثة من أولاد محمد بن إسماعيل بقوا مستورين لا وقوف لاَحد عليهم : الرضي ، والوفي ، والتقي « قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيل » (4) ثمّ ظهر المهدي بالمغرب وبنى المهدية. (5)
    ولكن ما ذكره الشهرستاني رأي تفرّد به.
    ولذلك نرى أنّ بعض علماء الاَنساب جعل أئمّة الاِسماعيلية على الترتيب التالي :
    1 ـ الرازي : الشجرة المباركة : 101.
    2 ـ أبو طالب الاَزورقاني : الفخري في انساب الطالبيين : 23.
    3 ـ ابن عنبة : عمدة الطالب : 234.
    4 ـ الكهف : 22.
    5 ـ الرازي : الشجرة المباركة : 103.


(104)
    1 ـ إسماعيل بن الاِمام جعفر الصادق.
    2 ـ محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ، المعروف بالمكتوم.
    3 ـ ابنه : جعفر بن محمد السلامي ، المعروف بالمصدق.
    4 ـ ابنه : محمد بن جعفر ، المعروف بالحبيب. (1)
    5 ـ ابنه : عبيد اللّه المهدي ابن محمد الحبيب ، وعليه يكون المهدي الاِمام الخامس.
    وفي بعض الروايات انّه ابن جعفر بن الحسن بن الحسن ، بن محمد بن جعفر الشاعر السلامي بن محمد بن إسماعيل. (2)
    1 ـ ابن عنبة : عمدة الطالب : 235 ـ 236.
    2 ـ أُنظر تراجم محمد المكتوم ، جعفر المصدق ، محمد الحبيب في الاَعلام : 6/34 ، 2/126 ، 6/70 نقلاً عن اتعاظ الحنفاء بأخبار الاَئمة الفاطميين الخلفاء.


(105)
الفصل السادس
في
الاَئمة الظاهرين


(106)

(107)
الاِمام السادس
عبيد اللّه المهدي
(260 ـ 322 هـ)
    الاِمام عبيد اللّه الملقب بالمهدي ، هو موَسس الدولة الاِسماعيلية في المغرب.
    ولد بسلمية التي هي بلدة بالشام من اعمال حمص عام 260 ـ 259 ودعي له بالخلافة على منابر : رقادة ، والقيروان ، يوم الجمعة لتسع بقين من شهر ربيع الآخر سنة 289 هـ ، فخرجت بلاد المغرب عن ولاية بني العباس ، وبنى البلدة المعروفة بـ « المهدية » وتوفي بها عام 322 هـ .
    إذا سبرنا التاريخ نجد أنّ الموَرخين ، وأصحاب المعاجم ، لا يمسّون إسماعيل ولا الاَئمّة الذين تلوه بكلمة مشينة ، وإنّما يذكرونهم كسائر الفرق فلهم مالهم وعليهم ما عليهم ، فلما وصل الاَمر إلى عبيد اللّه الذي أسس دولة شيعية في المغرب و تعاقب على حكمها خلفاء تمكنوا من إرساء دعائمها وتقوية مرتكزاتها ، ثارت ثائرة السنّة المعاندين ، وأخذوا يصبّون عليهم قوارع الكلم ، ويرمونهم بأفظع النسب والتهم ، ممّا يندى لها الجبين ، والذي دعاهم لذلك أمران :
    الاَوّل : عداوَهم السياسي ، فهوَلاء الخلفاء أخرجوا المغرب ومصر والشامات من قبضة الخليفة ببغداد ، مما حرض البلاط العباسي ووعاظ الخلفاء على سبّهم والطعن في نسبهم ، وانّ نسب عبد اللّه المهدي لا يصل إلى آل علي ، بل إلى مجوسي أو يهودي.


(108)
    الثاني : بغضهم للشيعة ، فلقد قام الخلفاء الفاطميون بتأسيس دولة إسلامية شيعية ، لاَوّل مرة في أقصاع كبيرة من الاَرض وأشاعوا فيها التشيع ، وحب أهل البيت ، وأمروا بإدخال « حي على خير العمل » في الاَذان ، وترك بعض البدع ، كإقامة صلاة التراويح جماعة وغيرها ، ممّا حدا بالمتعصبين من أهل السنّة كالذهبي ، ومن لف لف هـ الذي كان لا يقيم للاَشاعرة من أهل العقائد ولا لغير الحنابلة من أهل الفقه وزناً ولا قيمة ، فكيف للشيعة المنزهة للّه سبحانه عن الجسم ولوازم هـ أن يسبّهم ويتّهمهم بتهم رخيصة ، وانّهم من عناصر يهودية قلبوا الاِسلام ظهراً لبطن.
    فما نرى في كتب التاريخ والمعاجم حول نسب عبيد اللّه المهدي ، ك ـ « وفيات الاَعيان » لابن خلكان ، وسير أعلام النبلاء للذهبي وغيرهما لا يمكن الاعتماد عليها والوثوق بها ، لاَنّها وليدة أجواء العداء السياسي ، والاختلاف المذهبي ، اللّذين يعميان ويصمان.
    نعم هناك من رد تلك التهم المشينة من الموَرخين برحابة صدر كابن خلدون في مقدمته ، والمقريزي في خططه.
    يقول ابن خلدون : أوّلهم عبيد اللّه المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر الصادق (1) بن محمد المكتوم بن (2) جعفر الصادق ، ولا عبرة بمن أنكر هذا النسب من أهل القيروان وغيرهم وبالمحضر الذي ثبت ببغداد أيام القادر بالطعن في نسبهم ، وشهد فيه أعلام الاَئمّة ، وقد مرّ ذكرهم. فإنّ كتاب المعتضد
    1 ـ هو جعفر الاَكبر السلامي ، ولد محمد بن إسماعيل ابن الاِمام الصادق (عليه السّلام) و ربما يعبر عنه بالمصدق ليتميز عن جدّه الاِمام الصادق (عليه السّلام).
    2 ـ سقط عن الطبع : ابن إسماعيل بن جعفر الصادق ، أُنظر عمدة الطالب : 235 ، وقد ذكر ابن خلدون نفسه في مكان آخر نسبه وقال : لما توفّي محمد الحبيب بن جعفر بن محمد بن إسماعيل الاِمام عهد إلى ابنه عبيد اللّه وقال : أنت المهدي ... التاريخ 4/44.


(109)
إلى ابن الاَغلب بالقيروان وابن مدرار بسجلماسة يغريهم بالقبض عليه ، لمّا سار إلى المغرب ، شاهد بصحة نسبه ، وشعر الشريف الرضي مسجل بذلك. والذين شهدوا في المحضر فشهادتهم على السماع وهي ما علمت ، و قد كان نسبهم ببغداد منكراً عند أعدائهم شيعة بني العباس منذ مائة سنة ، فتلون الناس بمذهب أهل الدولة وجاءت شهادة عليه مع أنّها شهادة على النفي ، مع أنّ طبيعة الوجود في الانقياد إليهم ، وظهور كلمتهم حتى في مكة والمدينة أدل شيء على صحّة نسبهم.
    وأمّا من يجعل نسبهم في اليهودية والنصرانية ليعمونَ القدح وغيره ، فكفاه ذلك إثماً و سفسفة. (1)
    ثمّ إنّ تقي الدين المقريزي بعد ما نقل أقوال المخالفين في حقّ عبيد اللّه المهدي ـ حيث إنّهم وصفوه تارة بأنّه ابن مجوسي ، وأُخرى أنّه ابن يهودي ـ أخذ بالقضاء العادل وقال :
    وهذه أقوال إن أنصفت تبيّن لك أنّها موضوعة ، فإنّبني علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عن هـ قد كانوا إذ ذاك على غاية من وفور العدد وجلالة القدر عند الشيعة ، فما الحامل لشيعتهم على الاِعراض عنهم والدعاء لابن مجوسيّ أو لابن يهودي؟! فهذا ممّا لا يفعله أحد ولو بلغ الغاية في الجهل والسخف ، وإنّما جاء ذلك من قبل ضَعَفة خلفاء بني العباس عندما غصوا بمكان الفاطميّين ، فإنّهم كانوا قد اتصلت دولتهم نحواً من مائتين وسبعين سنة ، وملِكوا من بني العباس بلاد المغرب ومصر والشام وديارَ بكر والحرمين واليمن ، وخطب لهم ببغداد نحو أربعين خطبة وعجزت عساكر بني العباس عن مقاومتهم.
    فلاذت حينئذٍ بتنفير الكافة عنهم بإشاعة الطعن في نسبهم ، وبث ذلك عنهم خلفاوَهم وأعجب به أولياوَهم وأُمراء دولتهم الذين كانوا يحاربون عساكر الفاطميين كي يدفعوا بذلك عن أنفسهم وسلطانهم معرّة العجز عن مقاومتهم ،
    1 ـ ابن خلدون : التاريخ : 4/40.

(110)
و دفعهم عمّا غُلِبُوا عليه من ديار مصر ، والشام والحرمين حتى اشتهر ذلك ببغداد ، وأسجل القضاة بنفيهم من نسب العلويين ، وشهد بذلك من أعلام الناس جماعة منهم الشريفان الرضي والمرتضى (1) وأبو حامد الاسفرائيني والقدوري في عدّة وافرة عندما جمعوا لذلك في سنة اثنتين وأربعمائة أيام القادر.
    وكانت شهادة القوم في ذلك على السماع لما اشتهر ، وعرف بين الناس ببغداد وأهلها من شيعة بني العباس ، الطاعنون في هذا النسب ، والمتطيّرون من بني علي ابن أبي طالب ، الفاعلون فيهم منذ ابتداء دولتهم الاَفاعيل القبيحة ، فنقل الاَخباريون وأهل التاريخ ذلك كما سمعوه ، ورووه حسب ما تلقوه من غير تدبّر ، والحقّ من وراء هذا.
    وكفاك بكتاب المعتضد من خلائف بني العباس حجة ، فإنّه كتب في شأن عبيد اللّه إلى ابن الاَغلب بالقيروان وابن مدرار بسجلماسة (2) بالقبض على عبيد اللّه ، فتفطّن ـ أعزك اللّ هـ لصحّة هذا الشاهد ، فإنّ المعتضد لولا صحّة نسب عبيد اللّه عنده ما كتب لمن ذكرنا بالقبض عليه ، إذ القوم حينئذٍ لا يَدْعون لِدعيّ البتة ولا يذعنون له بوجه ، وإنّما ينقادون لمن كان علوّياً ، فخاف ممّا وقع ، ولو كان عنده من الاَدعياء ، لما مرّ له بفكر ولا خافه على ضيعة من ضياع الاَرض.
    وإنّما كان القوم ، أعني : بني علي بن أبي طالب ، تحتَ ترقّب الخوف من بني العباس لتطلّبهم لهم في كلّ وقت ، وقصدهم إيّاهم دائماً بأنواع من العقاب ، فصاروا ما بين طريد شريد ، وبين خائف يترقّب ، ومع ذلك فإنّ لشيعتهم الكثيرة المنتشرة في أقطارهم من المحبة لهم ، والاِقبال عليهم مالا مزيد عليه ، وتكرّر قيام
    1 ـ سيوافيك كلام الرضي الذي نقله ابن أبي الحديد في شرحه.
    2 ـ سجلماسة مدينة انشئت سنة 140 هـ ، وتقع في محلة تافيلات اليوم في طرف صحراء المغرب على بعد حوالي 325 كلم إلى الجنوب الشرقي لمدينة فاس ، عمرها بربر مكناسة ، ولمّا تولاّها اليسع بن سمغون المكناسي أحاطها بسور وبنى بها عدّة مصانع و قصور ، وقد استمر عمران هذه المدينة إلى القرن العاشر الهجري. (دولة التشيع في بلاد المغرب : 109).
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثامن ::: فهرس